في أواسط العشرين من عمري انتقلت إلى وظيفة جديدة وعملت في الدائرة القريبة من مدير تلك الإدارة. ومنحني المدير مكتبًا بجوار مكتبه وكنت سعيدًا بالخصوصية التي لم أعهدها من قبل.
بعد ذلك بمدة جيء معي بموظف بمرتبة صغيرة، ولما كان المبنى ضيقًا ونحتاج فيه لموظف للمراسلة والقيام ببعض المهام للمدير، فلم يكن بد من مشاركتي معه نفس الغرفة.
تضايقت وانزعجت من الموظف الجديد الذي لا ذنب له، وظهر ضجري منه في معاملتي له وحديثي إليه، يبدو ذلك أمرًا معتادًا يقع في بيئات مشابهة على امتداد هذا العالم، ومخاشنة النفوس جزء من طبيعتها كما قال المتنبي.
إنما أنفس الأنيس سباع
يتفارسن جهرة واغتيالًا
المشكلة لم تكن هنا.
كنت حينذاك أشارك في أنشطة دعوية وخطب ودروس ومحاضرات، وأعيش حالة من المجاهدة للارتقاء للوضع الاستثنائي الذي أعيشه فوق المنابر وكراسي الدرس في المساجد، موجهًا ومزكيًا للنفوس، وصارخًا بالأخلاق والقيم، مناديًا بالتواضع والإيثار والسماحة، وتطهير الذات من التعالي، وأوهام التفوق والامتياز.
وفي عودتي إلى البيت بعد يوم من هذه المشاعر المصطرعة في داخلي. وفي لحظة انكشاف وعري روحي بدت لي نفسي قبيحة أكثر مما كنت أتوهم، وشعرت بحالة من الخزي والاشمئزاز والعار، أعقبها نوبة من الكآبة والعجز
واليأس. والافتضاح أمام النفس.
ومواعيدي مستمرة ضاغطة بين درس ومحاضرة وخطبة.
لم يكن هذا الموقف سوى عينة من إخفاقات كثيرة، وعثرات كشفت حجم الفجوة بين الواقع والمثال، بين المنبر والحقيقة، بين الدرس والحياة، ربما أدخلتني في حالة من العداء والخصام والصراع، وفقدان السلام في داخلي، واتهامات بالتناقض والكذب والنفاق، تظل تطيف بي وأرى معها من الأدلة ما يقوي التهمة .
أفكر كل مرة، بل وأتخذ خطوة عملية في ترك المنبر والدروس، وأتوهم أنني سأعيش الانسجام الروحي لو فعلت.
وفي ذلك الحين كنت أحضر وأستمع لعالم جليل كأنما هو قادم من القرون المفضلة، انتزعني إلى مثالية عالية فوق قدرة روحي على الطيران، كان كثيرًا ما يتحدث عن الإخلاص بلغة معجونة بالصدق، فتسري روحه في المستمع فإذا قلب ذاته؛ روعته من حجم مطالبها الأرضية والمسافات التي بينها وبين تجريد الإخلاص لله.
حاولت أن أقسو على نفسي وأن أقهرها على الطهر مهما كلف الثمن، فبدا لي أنني أمام رحلة صعبة كأنما تدخل من نفق إلى نفق، كأنما أنت في عالم مكتظ بالأصوات والأصداء والاحتيال، مثل خائض في وحل كبير ينظف جسده فتتلطخ يداه وثيابه، يسمع صوتًا هنا، أنت تريد الإخلاص لتصل للقبول، والقبول للتأثير، والتأثير للمدح، والثناء والحضور والمجاهدة لأجل ذلك، ويقينك أن المرائي لا يحبه الله، ولا يحببه إلى الناس، وتكتب عن آلامك لنفس الغرض لتبدو كأنما تصارع الأهواء وأنت إنما تحتفل بها.
لم تكن هذه مجرد أوهام بل كانت أشواكًا حقيقية في الطريق.
أنت فعلت كذا، وقلت كذا، واقترفت معصية حين كنت بعيدًا، كل فعل تفعله يظهر بعد التحقيق الجاد أنه مشوب وفيه قذر، هذا إن لم يكن قذرًا كله.
لست هنا أتحدث عن حالة معتدلة من المحاسبة والندم؛ بل عن حالة غالية من الازدراء، والامتعاض، والغثيان
من هذه النفوس المحتالة، ذات القدرة العالية في الخداع والروغان.
وتشبعت بفكرة البحث الصارم عن النية حتى صرت أبثها في حديثي، -ولشدة ولعي بها- حدث مرة أنني تحدثت لجمع من الموظفين الجدد، في مهمة إشرافية جديدة لهم، فروعتهم من دسائس النفوس واستكبارها وخيلائها، ولأني كنت متشبعًا بالفكرة حقًا، جاءت ساخنة مؤثرة، ولو لم تكن مناسبة ولا متزنة، فاعتذر أحدهم على الفور من مهمته، وطلب عودته لمهمته السابقة.
في أدبيات التزكية كنت أفهم أن التزكية اتهام النفس وسوء الظن بها، ليس فهذا فحسب بل ملاحقتها بالفحص والتدقيق والتحقيق، وتعطيل العمل حتى الفراغ من التفتيش التام والكامل عن كل الخبايا والزوايا، وكل تفتيش لا تخرج منه إلا على عوار مختبئ.
في كل مرة معاناة، حين أنزل من المنبر أسمع ملاحظة على الخطبة أتكدر من النقد، وأتنغص أكثر لأنني تكدرت.
لماذا انزعجت لأنك تريد إعجاب الناس ولولا ذلك ما انزعجت، ولذلك تكون سعيدًا حين تسمع ردود الأفعال.
سألت الشيخ د. صالح بن حميد -وفقه الله- عن هذا الشعور فأجابني إجابة مقتضبة خلاصتها: أنّ هذا شيء طبيعي لا إشكال فيه، فالنفوس تسعد بالثناء.
وفي ذات مرة قرأت هذا النص من كلام ابن القيم -رحمه الله- حيث يقول:
سألت يومًا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن هذه المسألة، وقطع الآفات والأشغال بتنقية الطريق وبتنظيفها. فقال لي جملة كلامه: النفس مثل الباطوس، وهو جب القذر، كلما نبشته ظهر وخرج، ولكن إن أمكنك أن تسقف عليه، وتعبره وتجوزه فافعل، ولا تشتغل بنبشه، فإنك لن تصل إلى قراره، وكلما نبشت شيئًا ظهر غيره.
فقلت: سألت عن هذه المسألة بعض الشيوخ، فقال لي: مثل آفات النفس مثل الحيات والعقارب التي في طريق المسافر، فإن أقبل على تفتيش الطريق عنها والاشتغال بقتلها انقطع ولم يمكنه السير قط ولكن لتكن همتك المسير والإعراض عنها وعدم الالتفات إليها، فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتله ثم امض على سيرك. فاستحسن شيخ الإسلام ذلك جدًا وأثنى على قائله. [انتهى من مدارج السالكين، ومن المستدرك على الفتاوى.]
دهشت لهذا النص شعرت بفرحة شافعية بهذا الفيض التيمي، والتوصيف الأحفوري لأعماق أرواحنا. من إمام متفرد في بعثرة دواخل النفس وإضاءة معتماتها. (الباطوس)
ومع أن الباطوس يطلق الآن على شيء يشبه المعصرة التي تدور بها الدواب ولكن بحجر، لكن المعنى القديم الذي جاء في نص ابن تيمية هو جب القذر، أي البئر أو الحفرة التي يراكمون فيها القذر والزبالات ويضغطونه مرة بعد مرة، فحين تريد تنظيفه ونبشه؛ يعود ليتوسع كما كان قبل الضغط، هكذا تكون محاولة التنظيف محبطة وعبثية.
وهكذا حين نفتش عن بواطيسنا الداخلية، فإننا سنجد ميراثًا طويلًا من البقع السودا،ء وندوب جراح الفطرة، وأوساخ الذنوب، وخواطر النفوس الأمارة بالسوء، وأصوات الشيطان، في عجينة لازبة متلاصقة كلما أردنا انتزاع شيء منها؛ بدا تحته ما هو أسوأ وأشد نتنًا وقبحًا، في أكدار متوالدة متسلسلة تستنزف العمر والطاقة.
والحل يكمن في استقرار اليقين بحقارة نفوسنا، والمسافات الساحقة التي تفصلها عن الطهر الكلي أو الغالب، تعايش مع نفس لا تنفك متلوثة، وأزح من طريقك ما يقعدك عن السير فقط، وأما ما تحت ذلك فلا تضيع وقتك في التنبيش، وتخل عن أحلام القداسة والطهر والنقاء.
فالإخلاص ليس معنى مجردًا خارج الأذهان، وليس تدويرًا لأفكار الحساب الصارم، وتنقيثًا عن أسرار النفوس، بل هو قول وعمل للقلب واللسان والجوارح. الإخلاص أن تواصل السير في العمل الصالح والقول الصالح، وألا تستوقفك أقذار الطريق.
وحين أقول الطريق، فليس المقصود ذلك الطريق المنفصل عنك، بل الطريق في روحك الذي يمر بك على أشواك نفسك وأقذارها، ليس المعنى ألا تجاهد في طلب الإخلاص؛ بل تطلبه طلبًا سمحًا كما طلبه السابقون الأولون.
تنوي وتمضي لا تفتح دفاتر التحقيق بالاحتمالات والأسئلة.
ولا تنقب بتكلف لم تؤمر به.
فإذا حركتك النصوص لوجوب صلاة الجماعة، فليس لازمًا أن تدخل نفسك المختبر، وتلقيها في أحواض المحاليل وتستنطقها بالأسئلة.
هل أنت تخرج من أجل الجيران؟
لو لم يكن معك والدك، هل كنت ستصلي الجماعة؟
هل يصلي في المسجد أحد المشايخ؟
كل هذه الأسئلة تفتح أبواب التنبيش عن سوءات مستترة.
وقل مثل ذلك في كل عمل قلبي، ودعوي، وذا نفع متعدي.
بواطيسنا مترعة بما يسوؤنا،
امضوا فوق جسور التغافل فوقها.
واركل ما برز منها وأعاقك، وتعوذ بالله منها، ولا تطل الوقوف، بينما تمر الركبان في مسيرها إلى ربك، وأنت واقف تظن أنك على شيء، تندب الرياء وتشتم دخائل النفوس.
اللهم زك نفوسنا أنت خير من زكاها!