عام

أوجاعنا المخجلة

في المدرسة قصة صغيرين، دخلا معًا إلى الابتدائية وقبل أنْ يعرفا معاني الصداقة والعلاقات، كان شيئًا ما ينمو في نفس كل واحد منهما عن صاحبه.

وعندما نضجت معاني الصداقة في المرحلة المتوسطة كان الوقت قد حان ليعرفا أنهما صديقان، لم يكونا متماثلين، لكن شعر كل واحد منهما أنّه يحب الآخر ويميل إليه، عاشا صداقة ممتعة، يلهوان، ويلعبان، ويضحكان، ويتشاجران، ومع الأيام كانت صداقتهما تذهب بعيدًا في أعماقهما، وتنمو أغصانها في هواء حياتهما الغضة، كانا ساذجين في سنوات الصداقة العشر الأولى.

لم تظهر لهما تحديات المستقبل، ولا تناقضات الإنسان، ولا أشواك نفوسهما الجارحة. لم يريا أنفسهما إلا أنهما صديقان فحسب. يُقيّم كل واحد منهما الآخر بحسب أفعاله في اللحظة واليوم، لا يبحث أيّ منهما عن أبعد من هذا، لا يفسر ولا يحلل ولا تختزن ذاكرته الكثير سوى هذا الصداقة. مثلما ينشأ أخوان في بيت واحد.

في المرحلة الثانوية وفي زحام العواطف الجياشة، تفجرت معاني القرب بينهما، وأحبّا بعضهما أكثر مما يتحابُ الإخوة، تشاركا أدق تفاصيل الحياة، من الآلام والآمال، من الفرح والترح، من السهر والمرض والشقاوة، حتى لم يعد اليوم الدراسي كافيًا في إشباع صداقتهما.

وفي لحظة فارقة، بينما كانا جالسين ذات جلسة تبدو هادئة عادية ليس فيها ما يثير، يتابعان أحاديثهما اليومية صَعَق عبدُ الإله صاحبه بدون إرهاص سابق، برغبته في إنهاء صداقتهما، وإسدال الستار – وإلى الإبد – على الصداقة بينهما. هكذا بصورة حاسمة ومفاجئة، وعازمة على دفن اثني عشر عامًا من الذكريات في لحظة واحدة.

في كلمات مختصرة وجادة، وبلغة قد صيغت بعناية كما تصاغ البيانات السياسية، وبنفس عازمة على إغلاق أي فرصة لطرح الأسئلة، دحرج عبدُ الإله كلماتِه على صديقه الذي بُهت فلم ينبس بكلمة، ثم ذهب وتركه غارقًا في موجة من الذهول والصدمة.

لم يحدث منذ طفولتهما أن تهاجرا أبدًا، بل ربما لم يفكرا في حدوث هذا الأمر يومًا، لكنهم يواجهان سكتة مفاجئة للماضي والمستقبل في لحظة واحدة، هكذا مثلما تحدث الزلازل، وتتفجر البراكين، بغير إنذار مسبق. لقد كانت خبرتهما محدودة جدًا، فلم يكن بوسعهما تطويق الحريق الذي شب في بستان صداقتهما، الذي أتى على كل شيء في لحظة واحدة حتى كان كالصريم.

لم يكن صرحًا من خيال كما قال ناجي عندما هوى، بل كان صرحًا حقيقًا، افترقا، لم يكن هجرا، ولا عداوة، لكن وأدًا لقصة مشروع صداقة جميل.

أربعون عامًا مرت. ولا زالت الأسئلة تريد استجوابهما عمّا حدث. مثلما تفرج الدول عن تاريخها بعد عقود.

يحاول مراقب قريب من الصديقين تقليب أوراق السنين، وإعادة البحث عن أسباب تلك اللحظة الصعبة التي قوّضت كل شيء.

كان عبد الإله متفوقًا في دراسته بشكل أفضل من صديقه، وقد كان التفوق في ذلك الحين قبل أربعين عامًا معيار التمييز بين الطلاب، في جو يقوم على التراتبية والطبقية الطلابية حسب درجاتهم.

تكوّن في نفس عبد الإله -منذ وقت مبكر- شعورٌ مشوه بالاستعلاء وأنه الأفضل، رغم أنّ صاحبه من أسرة أغنى، وأرفع شأنًا من أسرته، لكنّه لم يعترف بهذا لصديقه، وكان يمقت ذلك، بل ويسعى لمحوه وتغييره.

قال عبدُ الإله لصديقه يومًا: لقد انتهى عصر المشيخة، فرد عليه صديقه: إن ذلك لم ينته. شعر عبد الإله من جواب زياد أنّه يرى نفسه الأفضل، وأنّ هذا جواب يتضمن فوقية مرفوضة من صديقه، فأضمر في نفسه حتمية التكافؤ، كأنّما يظن أنّ بنيان الصداقة لا يشيد إلا على أرضٍ شيوعية -لم يكن لديه أي فكرة عن الشيوعية حينئذٍ- تزول فيها مميزات الفرد لصالح فكرة الصداقة، ولكن نسيَ في سكرة الرغبة الطامحة في صداقة متكافئة حسب معاييره، أنّه يخفي نفسًا مختالة بتفوقها أيضَا.

لم يبدِ زياد أي غيرة تجاه تفوق صديقه الدراسي، ولم يكن ممتعضًا من ذلك، بل كان يفرح ويشعر أنّه شريكٌ في إنجازه، لقد كانت غلطته الكبرى -من وجهة نظر صاحبه التي فجرت غضبه- رفضه التخلي عن امتيازه القبلي.

في أجواء هذا الرفض تشوهت مرآة النظر عند عبد الإله، لم يعد ينظر ببراءة لأي تصرف من صديقه، خاصة ذلك التصرف الذي يشي ولو من بعيد باعتزازه بدماء المشيخية، حتى إنّ عبد الإله دخل يومًا على صديقه في مكان عام ولأمر ما، -ولشيء لا يمكن ربما الآن تفسيره أو البحث عن ملابساته، والأقرب أنه ليس شيئًا مهمًا بل هو عادة الرفاق يومئذٍ- لم يقم زياد للسلام على صديقه عند قدومه، فأسرّها عبدُ الإله في نفسه، ولكنه أبداها في موجة انفجار عاطفي عارم.

ربما يمكن من خلال تقليب أوراق التاريخ توجيه بعض اللوم لزياد؛ لأنّه لم يكن منتبهًا لحساسية صديقه تجاه سلوكه المخملي، الذي تشربه من انحداره من أسرة متطبعة بالزهو، والعيش في خيالات العرق المتميز، وكان يمكن أنْ يخفف من طبيعة الأمر بسلوكٍ أكثر تواضعًا، وهو الحريص على استمرار الصداقة كما بدا بعد سنين، لكنّ مطالب عبد الإله بتخلي زياد عن مكاسب وهبها الله له ولأسرته، كانت مطالبات تعسفية بائسة، لم يكن يدرك حينها الشاب الصغير أنّ مطالبه تعاند التاريخ والسنن والواقع والحياة، وأنّه كما قَبَل صديقه تفوقه الدراسي؛ كان يجب أنْ يحتفي بنعمة صديقه، أو يتقبلها على الأقل ليستمر نهر الصداقة في الجريان.

كانت خبرة عبد الإله غضة لم تمكنه من التفريق بين أنْ يفتخر الإنسان بقدراته، ويستعلي بإمكاناته، وبين أنْ يقبلها ويسعد بها فحسب. كان يفسر قبول رفيقه بالتميز المشيخي في ذاته استعلاء.

قصة الطفلين ثم الشابين، قصة متكررة في أزمة الإنسان في قانون التفاوت بين الخلق، قصة أوجاعنا المخجلة التي تتوارى حول قيم مصطنعة. نحن ممتعضون من الأغنياء بحجة النزاهة، ونلمزهم بالتكبر والمكاسب المشبوهة. ممتعضون من ذوي الجاه والنسب، بحجة الحفاظ على قيم التواضع، ممتعضون من أشكال الناس وألوانهم الجميلة كأنما نريد أنْ يخرج الآخرون من جلودهم النضرة، ويبرقعوا وجوههم الوسيمة، ويتبرؤوا من أنسابهم الرفيعة، ويحرقوا ثرواتهم الطائلة.

حين قدمت أرواحنا إلى الحياة كانت متساوية، -والروح من أمر ربي- لكنها نُفخت في أجساد متفاوتة، متفاوتة في جيناتها، في مقاديرها، في أعمالها وأشكالها وصورها، وتاريخها وماضيها ومستقبلها. لم تكن خبط عشواء، بل كل شيء جعله الله بقدر.

حين انحدرت روحك في جسدها كان كل شيء قد انتهى، شكلك، وأسرتك، ولونك، وبلدك، ووطنك، لستَ مذنبًا في شيءٍ ولا الآخرون كذلك. إنّ الذين ولدوا بأشكال وسيمة وجميلة، وألوان لافتة، وذكاءات عالية، وأسر شريفة، ليسوا مذنبين ولا محظوظين.

ليس من حقنا أنْ نلوم من اختصهم الله بشيء، كما ليس من الإيمان أن نضجر ونعترض لأننا أقل من الآخرين في أي شيء. نحن محاسبون وهم على شيء واحد فقط، على أعمالنا، على ردود أفعالنا في قاعة اختبارات الحياة، لسنا مسؤولين عن أوراق الأسئلة، لكننا مسؤولون عن أوراق الإجابات التي كتبتها أيدينا.

إنّ الحياة ساعة تشبه ساعة وجودك في قاعة الاختبار، وشكلك، ولونك، وأسرتك، وذكاؤك، ومالك، وقدراتك، ومواهبك، ومقدار الألم، والفرح في حياتك، مقعد له رقم جلوس، تجلس فيه بغير اختيارك؛ لكن في وسعك أن تُبلي فيه بلاءً جيدًا، في وسعك أنْ تكون رائعًا، وناجحًا، ومفلحًا، وتأتي أولاً في الآخرة، رغم كل الصفات المحدودة في مقعدك الدنيوي بحسب الإمكانات التي كانت لك ليس أكثر.

في الآخرة تتغير كل الظروف التي كانت هنا، وتعود الأرواح من جديد إلى الشيء الذي صنعته بأعمالها هنا، في قدراتها الواسعة أو المحدودة، الألوان هناك ليست شيئًا جينيًا ترثه من أبيك وأمك؛ جيناتك هناك من عملك هنا، -يوم تبيض وجوه وتسود وجوه-، جمالك هناك ترسمه أعمالك هنا، هناك لك أب واحد، وقدر واحد، وكتابة واحدة هو عملك، حيث تصبح كل الأحداث وفق معيار توفيق الله لك بالعمل الصالح. تصبح ثروتك، ومكانك، وراحتك، وسعادتك، ومنصبك = المعنى الحقيقي لما فعلت هنا وليس لما وُلدت به.

العدالة المطلقة لا تسمح بذرة خلل في الميزان، المعاقون، والأقوياء، والباذخون الأثرياء، والمعدمون المدقعون، والدميمون ذو الصور البشعة، وأهل الجمال الذي يخطف البصر: محكومون بعدالة الرب الكاملة.

الأرواح متساوية حتمًا في فرص الاختبار الإلهي لكن ليس بالضرورة في صورته وهيئته. تدخل فتاة دميمة شوهاء، فترى في صفها فتيات جميلات بقوامهن الفاتن، وألوانهن البهية، وتقاسيمهن الجميلة، كل شيء فيها ليس جميلاً بينما كل شيء فيهن يبدو جميلاً.

لا يمكننا القول:

الجمال نسبي،

والجمال جمال الروح،

لا يجيب على أسئلتها الثائرة،

إلا الجواب الرباني،

الابتلاء وفرصة الحياة الواحدة،

وما أجمل قول الله عن هؤلاء:

﴿للسائل والمحروم

المحروم من المال، المحروم من الجمال، المحروم من النسب، المحروم من الصحة، المحروم من العافية، المحروم من الذكاء، سماهم الله محرومين بكل ما تلقي هذه الكلمة من ظلال الرحمة الربانية، والعلم الإلهي بالوضعية البائسة. الناس يشفقون على طفل جائع، لأنه محروم فحسب. لكن الله يرحم كل محروم من أي شيء، من مال، أو قوة، أو جاه، أو جمال. المحرومون جاءوا في المقعد الأرفق بهم في العلم الرباني، والموسرون في المقعد الأرفق بهم، وتبقى مسؤوليتهم عن أنفسهم.

لو جاء أبٌ لابنيه، فقال لأحدهما هذه 100 ريال، وقال للآخر هذه 1000 ريال، فاعملوا فيها، والأبُ يعرف قدرات كل واحد منهما، ويعرف المدى الذي يمكن أن يصله كل واحد منهما حسب ظروفه، ويقيّم بحسب ذلك.

نحن نضع اختبارات متساوية لطلابنا، لأننا لا نعرف عنهم أي شيء، سوى أنهم في الصف الفلاني، فنضطر أن نوحد اختباراتهم، لكنّ الله الذي خلق عباده يعلم كل شيء عنهم، ومساحة الابتلاء فيهم، فمهما تنوعت اختباراتهم، وتفاوتوا في حظوظهم الظاهرة؛ فسيحظون بالعدالة الكاملة، كل ذلك بكمال لطفه وخبرته. ﴿ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير

كل الوجوه الوسيمة والدميمة، كل النفوس النسيبة والوضيعة، كل الألوان البيضاء والسوداء،

كل المحظوظين والعاثرين، يأخذون نموذج ابتلاء للمحبة والخضوع لربهم.

المفلحون في الآخرة هم الذين أفلحوا في محبة ربهم وخضعوا له، في القصور، أو العشش، أو في بيوت الصفيح. الناجحون هم الذين يحبون الله بوجوههم الدميمة أو الوسيمة. السعداء في الآخرة هم الذين يحبون الله وينقادون له، في أي جسد نُفخت فيه أرواحهم، في أيّ أسرة، في أيّ وضع مادي، في أيّ ظروف، في الثراء والعدم، في الجاه والمكانة، والانسحاق والضآلة، في الأجساد الفتية وفي الأجسام المنهكة المتعبة العليلة.

مقالات ذات صلة

‫4 تعليقات

  1. المقال جميل حقيقة، لكن لن يكون هناك عزاء حقيقيا لأي محروم بمئات المقالات، بل بأفعال تخفف عنهم وحشة الدنيا، بأخلاق تخفف عنهم عناء الحياة، بمعايير وعادات وتقاليد تسمح لهم بوجود متقبل وطبيعي.

  2. المقال وافي كافي مختصر مفييييييييد غني جداً لشتات افكار حاولنا نوصلها للناس وتعثرنا دائماً
    شكراً لك
    ولقلمك
    ونفع الله بك البلاد والعباد
    وجعلك نصره لدينك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى