عام

إعادة كتابة التاريخ البشري

رواية جديدة عبقرية تقلب الافتراضات الأساسية حول 30.000 سنة من التغيير

  • وليام ديريسويسز*
  • ترجمة: أحمد بامخالف
  • تحرير: أمجاد عبد الرحمن

رسم توضيحي لرودريجو كورال

منذ عدة سنوات، عندما كنت في بداياتي التدريسية بجامعة ييل، اتصلتُ بزميل لي في قسم الأنثروبولوجيا لمساعدتي في مشروع كنت أعمل عليه. لم أكن أعرف شيئًا عن الرجل. لقد اخترته في تلك اللحظة؛ لأنه كان يافعًا في مقتبل العمر، ومن ثمّ حسبت من المرجح أن يوافق على الحديث.

في الخمس الدقائق الأولى من تناولنا للغداء، أدركت أنني كنت في حضرة رجل عبقري، ليس شخصًا ذكيًا للغاية فقط – إنه عبقري بالمعنى الحرفي-. هناك فرق نوعي بين الذكاء والعبقرية، يبدو أن الرجل الجالس بالجهة المقابلة من الطاولة ينتمي إلى نوع آخر من الكائنات المختلفة عني، مثل زائر من حضارة أرقى، لم أختبر شيئًا كهذا من قبل، سرعان ما انتقلت من محاولة مواكبة الأمر إلى التمسك بمجرد الجلوس هناك في حالة من الاستغراب.

ذلك الشخص كان ديفيد غريبر. وبعد عشرين سنة من تناولنا ذلك الغداء معًا، نشر كتابين، واسْتَغنَت عنه جامعة ييل على الرغم من سجله الممتاز وهذه خطوة تُعزى عالميًا إلى سياساته الراديكالية، ثم نشر كتابين آخرين وحصل على وظيفة في كلية جولدسميث بجامعة لندن، وقام بعدها بنشر أربعة كتب أخرى بما في ذلك “الدين: الخمسة آلاف سنة الأولى” ، وهو تاريخ تنقيحي استقصائي للمجتمع البشري من الحضارة السومرية حتى وقتنا الحاضر. حصل على وظيفة في كلية لندن للاقتصاد ونشر كتابين آخرين وشارك في كتابة كتاب ثالث، وأثبت أنه ليس فقط من بين أبرز المفكرين الاجتماعيين في عصرنا، بل إنه مفكر ذو أصالة بشكل مذهل، وصاحب رؤية واسعة النطاق، قارئ نَهِم، ومنظم وقائد فكري للنشاط اليساري على جانب المحيط الأطلسي، من بين الأمور الأخرى التي تُنِسب إليه أيضًا هي المساعدة في إطلاق حركة “احتلوا وول ستريت” وصياغة شعارها: “نحن 99 في المائة”.

في 2 سبتمبر 2020، توفي ديفيد غريبر عن عمر يناهز 59 عامًا بسبب التهاب البنكرياس أثناء إجازته في البندقية. وقع هذا الخبر على نفسي كالصاعقة. كم عدد الكتب التي فقدناها والتي اعتقد أنه لن ترى النور أبدًا الآن؟ كم عدد الرؤى، وكم مقدار الحكمة التي ستبقى غير معبر عنها إلى الأبد؟ إن ظهور كتاب “فجر كل شيء: تاريخ جديد للإنسانية” يبدو حلوًا ومرًا، وفي الوقت نفسه هدية نهائية غير متوقعة وتذكير بما كان يمكن أن يقدمه مؤلفه لو ظل حيًّا. في مقدمته، يذكر المؤلف المشارك لغريبر، ديفيد وينغرو، عالم الآثار في جامعة كوليدج لندن أن الاثنين خططا لما لا يقل عن ثلاث دراسات تالية.

ويا لها من هدية، مشروع لا يقل طموحًا عن ادعاءات عناوينه. كُتب فجر كل شيء ضد الرواية التقليدية للتاريخ الاجتماعي البشري كما طوره هوبز وروسو لأول مرة ودعمها المفكرون اللاحقون. وتولى الترويج لهذه الرواية اليوم غاريد دايموند ويوفال نوح هراري وستيفن بينكر، وتقبلها العالم بشكل أو بآخر. ويروى أن القصة بدأت على هذا النحو: ذات مرة، عاش البشر في مجموعات صغيرة من الصيادين-الجامعين (ما يسمى بحالة الطبيعة)، ثم جاءت فكرة استغلال الزراعة التي أدت إلى فائض الإنتاج ومن ثمّ إلى النمو السكاني وتوسع الأراضي الخاصة. وبعد ذلك تضخَّمت تلك الجماعات الصغيرة إلى ما يسمى بالقبائل، وتطلبت الزيادة في الحجم تنظيمًا متزايدًا: التقسيم الطبقي، والتخصص: رؤساء، ومحاربون، ورجال دين.

في نهاية المطاف، ظهرت المدن ومعها الحضارة – الأدب والفلسفة وعلم الفلك-، التسلسل الهرمي للثروة والمكانة والسلطة، الممالك والإمبراطوريات الأولى. ومع تقدمنا ببضعة آلاف من السنين، ومع ظهور العلم والرأسمالية والثورة الصناعية، شهدنا إنشاء الدولة البيروقراطية الحديثة. فهذه المراحل الزمنية تعتبر: خطية (تسير بالترتيب ودون رجعة) وموحدة (لابد من اتباعها بنفس الطريقة بكل مكان)، وتقدمية (المراحل هي “درجات” في المقام الأول، تسير من أدنى إلى أعلى، ومن أكثر بدائية إلى أكثر تعقيدًا)، وحتمية (التنمية مدفوعة بالتكنولوجيا، وليس الاختيار البشري)، وغائية (تبلغ العملية ذروتها فينا نحن البشر).

وكما قال غريبر ووينغرو، بالإعتماد على ثروة من الاكتشافات الأثرية الحديثة التي امتدت عبر هذه البسيطة، بالإضافة إلى القراءة العميقة للمصادر التاريخية التي غالبًا ما تم تجاهلها سابقًا (حيث تمتد مراجعهم إلى 63 صفحة)= لا يفكك الاثنان كل عنصر من عناصر الرواية التي وصلت إلينا فحسب، بل أيضًا الافتراضات التي تستند إليها. نعم كان لدينا جماعات، وقبائل، ومدن، ودول زراعية، وعدم المساواة، والبيروقراطية، ولكن ماهي طبيعة كل هذه الأشياء؟ وكيف تطورت؟ وكيف انتقلنا من واحدة إلى أخرى؟  كل هذا وأكثر أعادا كتابته بشكل شامل، والأهم من ذلك أنهما يدحضان فكرة أن البشر هم مجرد كائنات لا فائدة لها، يتحركون بلا حول ولا قوة على حزام تكنولوجي ناقل يأخذنا من سيرينجيتي -عبارة عن نظام بيئي يشكل إقليمًا جغرافيًا في أفريقيا- إلى حاضرة نيويورك، حيث يحاولان أن يظهرا لنا أنه كان لدينا خيارات وقد اتخذناها. يقدم غريبر ووينغرو تاريخًا للثلاثين ألف عام الماضية والذي لا يختلف فقط بشكل كبير عن أي شيء اعتدنا عليه، ولكنه أيضًا أكثر إثارة للاهتمام فهو محكم، ومدهش، وملهم في آن واحد.

يأخذنا الجزء الأكبر من الكتاب (الذي يزيد عدد صفحاته عن 500 صفحة) من العصر الجليدي إلى الدول الأولى (مصر، الصين، المكسيك، بيرو). ويبدأ بإلقاء نظرة خاطفة على ما قبل العصر الجليدي إلى فجر الأنواع.

تطور الإنسان العاقل في إفريقيا، لكنه لم يفعل ذلك إلا عبر القارة من المغرب إلى رأس الرجاء الصالح، ليس فقط في السافانا الشرقية وفي مجموعة كبيرة ومتنوعة من الأشكال الإقليمية التي اندمجت لاحقًا في الإنسان الحديث. ولم يكن هناك جنة عدن الأنثروبولوجية، بمعنى آخر لم يكن هناك سهل تنزاني يسكنه “حواء الميتوكوندريا” ونسلها. أما بالنسبة للتأخير الواضح بين ظهورنا البيولوجي وبالتالي ظهور قدرتنا المعرفية للثقافة والتطور الفعلي للثقافة هي فجوة تمتد لعشرات الآلاف من السنين فهذا كما يخبرنا المؤلفان، مجرد وهم حيث كلما نظرنا أكثر وخاصة في إفريقيا (بدلًا من أوروبا بشكل أساسي، حيث ظهر البشر متأخرًا نسبيًا)، كلما وجدنا الدليل الأقدم على السلوك الرمزي المعقد.

هذه الأدلة وغيرها الكثير كانت من العصر الجليدي من المجموعات الأوروبية الآسيوية وأمريكا الشمالية اللاحقة تُظهر -وفقًا لغريبر ووينغرو- أن مجتمعات الصيد كانت أكثر تعقيدًا بكثير وأكثر تنوعًا مما كنا نتخيله. قدم لنا المؤلفان مدافن فخمة من العصر الجليدي (يُعتقد أن الزخرفة الخرزية في موقع واحد فقط تطلبت 10000 ساعة من العمل)، بالإضافة إلى المواقع المعمارية الضخمة مثل غوبكلي تبه في تركيا الحديثة، والتي يعود تاريخها إلى حوالي 9000 قبل الميلاد. (ما لا يقل عن 6000 سنة قبل ستونهنج) وتتميز بمنحوتات معقدة من الوحوش البرية. كما يخبراننا عن بوفرتي بوينت وهي مجموعة من الأعمال الترابية الضخمة المتناظرة التي أقيمت في لويزيانا حوالي 1600 قبل الميلاد، “مدينة الصيد وجمع الثمار بحجم بلاد ما بين النهرين”.   ونرى كيف يصفان مجتمعًا أمازونيًا أصليًا ينتقل موسميًا بين شكلين مختلفين تمامًا من التنظيم الاجتماعي (من مجموعات بدوية صغيرة وسلطوية خلال الأشهر الجافة إلى مستوطنات بستانية كبيرة بالتراضي خلال موسم الأمطار). يتحدثان عن مملكة كالوسا، وهي مملكة من الصيادين وجامعي الثمار التي وجدها الإسبان عندما وصلوا إلى فلوريدا. كل هذه السيناريوهات لا يمكن تصورها في السرد التقليدي السابق.

النقطة الأساسية هي أن الصيادين اتخذوا خيارات واعية ومدروسة وجماعية حول الطرق التي أرادوا بها تنظيم مجتمعاتهم؛ لتوزيع العمل، والتصرف بالثروة، وتوزيع السلطة بعبارة أخرى،  لقد مارسوا السياسة حيث جرب بعضهم الزراعة وقرروا أنها لا تستحق التكلفة، ونظر آخرون إلى جيرانهم وقرروا العيش بشكل مختلف قدر الإمكان – وهي عملية يصفها غريبر ووينغرو بكل تفاصيلها فيما يتعلق بالسكان الأصليين في شمال كاليفورنيا، “التطهيرية” الذين جعلوا التوفير والبساطة والمال والعمل متقنًا ومثاليًا، على عكس زعماء القبائل المتفاخرين في شمال غرب المحيط الهادئ. لم يكن أي من هذه المجموعات بقدر ما لدينا سبب للاعتقاد يشبه الهمجيين البسيطين للخيال الشعبي والأبرياء غير الواعين الذين عاشوا في نوع من الوقت الحاضر الأبدي في انتظار اليد الغربية لإيقاظهم ودفعهم إلى التاريخ.

يحمل المؤلفان هذا المنظور إلى العصور التي شهدت ظهور الزراعة والمدن والملوك في المواقع التي تطورت فيها لأول مرة منذ حوالي 10.000عام، لم تستحوذ الزراعة على كل شيء مرة واحدة بشكل موحد وبلا هوادة، كما أنها لم تبدأ في عدد قليل من المراكز – بلاد ما بين النهرين، ومصر، والصين، وأمريكا الوسطى، وبيرو، وهي نفس الأماكن التي ظهرت فيها الإمبراطوريات لأول مرة – بل أكثر من ذلك، ربما تصل إلى 15 أو 20 مركزًا.  وهذا النوع من الزراعة يتم إجراؤها موسميًا في وديان الأنهار والأراضي الرطبة، وهي عملية تتطلب عمالة أقل بكثير من النوع المألوف ولا تؤدي إلى تطوير وتوسع الأراضي الخاصة. وهو أيضًا ما يسميه المؤلفان “الزراعة البسيطة” أي الزراعة كمجرد عنصر واحد ضمن مزيج من أنشطة إنتاج الغذاء التي قد تشمل الصيد والرعي والبحث عن الطعام والبستنة.

يمكننا القول إن المستوطنات سبقت الزراعة وليس العكس كما كنا نظن، فقد استغرقت الحضارات المتواجدة في منطقة هلال الخصيب حوالي 3000 عام للانتقال من الزراعة الأولى للحبوب البرية إلى إكمال عملية التدجين أي حوالي عشرة أضعاف المدة اللازمة كما أظهرت التحليلات الحديثة. أطلق غريبر ووينغرو على الزراعة المبكرة مصطلح “بيئة الحرية” ويقصد من ذلك حرية التنقل داخل الزراعة وخارجها لتجنب الوقوع في شرك مطالبها أو التعرض للخطر بسبب الهشاشة البيئية التي تنطوي عليها.

كتب المؤلفان فصولهم عن المدن ضد الفكرة التي تقوم على أن عددًا كبيرًا من السكان يحتاجون إلى طبقات من البيروقراطية لتحكمهم وهذا النطاق يؤدي حتمًا إلى عدم المساواة السياسية. العديد من المدن القديمة التي يسكنها الآلاف من الناس لا تظهر أي علامة على الإدارة المركزية، لا قصور ولا مرافق تخزين مجتمعية ولا توجد فروق واضحة في الرتبة أو الثروة وهذا هو حال ما قد تكون عليه أقدم المدن على الإطلاق. ومن هذه المدن هي تاليانكي التي تقع في أوكرانيا اليوم، ولم يتم اكتشافها إلا قريبًا في السبعينيات ويعود تاريخها إلى حوالي 4100 قبل الميلاد أي قبل مئات السنين من مدينة أوروك أو الوركاء وهذه الأخرى تعتبر أقدم مدينة معروفة في بلاد ما بين النهرين. حتى في “أراض الملوك” كان التمدن يسبق الملكية بقرون. وكذلك بعد قيام الحكم الملكي يقول غريبر ووينغرو أن “المجالس الشعبية وتجمعات المواطنين كانت سمات مستقرة للحكومة” وتتمتع بسلطة واستقلالية حقيقية على الرغم مما نحب أن نصدقه فإن المؤسسات الديموقراطية لم تبدأ إلا بعد آلاف السنين في أثينا.

فقد نشأت الأرستقراطية في مستوطنات أصغر مثل المجتمعات المحاربة التي ازدهرت في مرتفعات بلاد الشام والتي نعرفها من الشعر الملحمي -وهي شكل من أشكال الوجود الذي ظل في حالة توتر مع الدول الزراعية طوال تاريخ أوراسيا من هوميروس إلى المغول وما ورائهم-. لكن المثال الأكثر إقناعًا للمؤلفَيْن عن المساواة الحضرية هو بلا شك تيوتيهواكان، وهي مدينة في أمريكا الوسطى كانت تنافس الإمبراطورية الرومانية المعاصرة من حيث الحجم والعظمة، ولكنّها بعد الانزلاق نحو الاستبداد، غير شعبها مساره فجأة وتخلى عن بناء النصب التذكارية والتضحية البشرية لبناء مبان عامّة عالية الجودة. كتب المؤلفان أن العديد من المواطنين تمتعوا بمستوى معيشي نادرًا ما يتم تحقيقه عبر هذا القطاع الواسع من المجتمع الحضري في أي فترة من التاريخ الحضري، بما في ذلك تاريخنا.

وهكذا نصل إلى الدولة بهياكلها الخاصة بالسلطة المركزية المتمثلة بشكل مختلف في الممالك الممتدة والإمبراطوريات والجمهوريات الحديثة حيث من المفترض تكون هي ذروة النموذج الحاكم. إذا أُستعير مصطلح من الإيكولوجيا للتنظيم الاجتماعي البشري. ما هي الدولة؟ يسأل المؤلفان. ليس هناك نموذجًا واحدًا مستقرًا استمر طوال هذه العصور من مصر الفرعونية إلى اليوم، ولكن مزيجًا متغيرًا من الأشكال الأساسية الثلاثة للهيمنة، وهذه الأشكال تكمن في السيطرة على العنف (السيادة)، والسيطرة على المعلومات (البيروقراطية)، والكاريزما المتمثلة في الشخصية الحاكمة، ويتجلى هذا الشكل على سبيل المثال في السياسة الانتخابية. ويمكن أن تمتلك بعض الدول اثنتين من صور الهيمنة وربما صورة واحدة مما يعني أن اتحاد الثلاثة كما هو الحال في الدولة الحديثة ليس حتميًا وليست إلزامية بالضرورة مع صعود بيروقراطيات عالمية مثل منظمة التجارة العالمية، حيث إن هذه الصور في حالة تحلل بالفعل. والأهم من ذلك، أن الدولة نفسها قد لا تكون حتمية. كتب المؤلفان أن الممالك والإمبراطوريات كانت في معظم الأعوام الخمسة آلاف الماضية جزرًا استثنائية من التسلسل الهرمي السياسي، وتحيط بها مناطق أكبر بكثير، يتجنب أصحابها بشكل منهجي أنظمة ثابتة وشاملة للسلطة.

هل تستحق “الحضارة” كل هذا الاهتمام؟ يريد المؤلفان معرفة ما إذا كانت الحضارات كمصر القديمة، والأزتيك، وروما الإمبراطورية، والنظام الحديث للرأسمالية البيروقراطية التي يفرضها عنف الدولة تعني خسارة حرياتنا الأساسية الثلاث: حرية العصيان، وحرية الذهاب إلى مكان آخر، وحرية إنشاء طوائف اجتماعية جديدة. أم أن الحضارة تعني بالأحرى “المساعدة المتبادلة، والتعاون الاجتماعي، والنشاط المدني، والتعايش [و] مجرد الاهتمام بالآخرين؟

هذه هي الأسئلة التي طرحها غريبرعلى أنه لا سلطوي معتدل وليس من دعاة الفوضى، وفلسفته تقول إن الناس يمكن أن يتعايشوا بشكل جيد دون حكومات. طوال حياته المهنية تم تأطير فجر كل شيء من خلال سرد لما يسميه المؤلفان “نقد السكان الأصليين”. في أحد فصول الكتاب وصفوا اللقاء بين الوافدين الفرنسيين الأوائل إلى أمريكا الشمالية، وبشكل أساسي المبشرين اليسوعيين، وسلسلة من المثقفين الأصليين وهم يعتبرون الأفراد الذين ورثوا تقليدًا طويلًا من الصراع والنقاش السياسيين، وفكروا بعمق وتحدثوا بشكل صريح عن هذه المسائل مثل “الكرم، والتواصل الاجتماعي، والثروة المادية، والجريمة، والعقاب، والحرية”.

كان نقد السكان الأصليين، كما عبرت عنه هذه الشخصيات في حديثهم مع محاوريهم الفرنسيين بمثابة إدانة شاملة للمجتمع الفرنسي وبالتالي الأوروبي:- تنافسه المستمر، وندرته في اللطف والرعاية المتبادلة، ودوغمائيته الدينية واللاعقلانية، والأهم من ذلك كله عدم المساواة المروعة وانعدام الحرية. يجادل المؤلفان بشكل مقنع بأن أفكار السكان الأصليين التي تم ترحيلها ونشرها في أوروبا استمرت في إلهام عصر التنوير، لاحظ الكاتبان أن مُثُل الحرية والمساواة والديمقراطية كانت حتى الآن غائبة تمامًا عن التقليد الفلسفي الغربي. المؤلفان يذهبان إلى أبعد من ذلك ويؤكدان أن الرواية التقليدية لتاريخ البشرية باعتبارها ملحمة من التقدم المادي قد تم تطويرها كرد فعل على نقد السكان الأصليين من أجل إنقاذ شرف الغرب. نحن أكثر ثراءً ونتبع المنطق لذلك نحن أفضل. يطلب منا المؤلفان إعادة التفكير فيما قد يعنيه الأفضل في الواقع.

“فجر كل شيء” ليس موجزًا عن اللاسلطوية، على الرغم من أن القيم الأناركية المناهضة للاستبداد، والديمقراطية التشاركية، والشيوعية الصغيرة متضمنة في كل مكان في الكتاب، فهو موجز للاحتمال والذي كان بالنسبة لغريبر ربما أعلى قيمة على الإطلاق. الكتاب عبارة عن فوضى مجيدة مليئة بالاستطرادات الرائعة والأسئلة المفتوحة والقطع المفقودة. إنه يهدف إلى استبدال السرد الكبير المهيمن للتاريخ ليس بآخر من ابتكاراته الخاصة، ولكن بإطار صورة تصبح مرئية فقط لماض بشري مليء بالتجربة السياسية والإبداع.

يتساءل المؤلفان كيف علقنا في عالم تسوده الحرب والجشع والاستغلال واللامبالاة المنهجية لمعاناة الآخرين؟ إنه سؤال جيد. إذا حدث خطأ فادح في تاريخ البشرية، يفنّد الكاتبان ” ربما بدأ الأمر يسير على نحو خاطئ على وجه التحديد عندما بدأ الناس يفقدون هذه الحرية في تخيل أشكال أخرى من الوجود الاجتماعي وتفعيلها”. ليس من الواضح بالنسبة لي كم عدد الاحتمالات المتبقية لنا الآن في عالم من الأنظمة السياسية التي يبلغ عدد سكانها عشرات أو مئات الملايين. لكننا عالقون بالتأكيد.


* وليام ديريسويسز هو مؤلف كتاب موت الفنان: كيف يكافح المبدعون من أجل البقاء في عصر المليارديرات والتكنولوجيا الكبيرة.

المصدر
theatlantic

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى