العلم

هل من المستحيل علمياً أن تنحدر البشرية من زوجين فقط؟

  • صباح أحمد

كتب ريتشارد بوغز مقالًا يناقش فيه مسألة انحدار البشرية من زوجين، وهل تقطع الأدلة الجينية بالاستحالة العلمية في أن ينحدر الجنس البشري (جنس الهومو) من فردين فقط في الماضي؟ هذا السؤال طُرح على ريتشارد بوغز بشكل شبه متكرر. وكان يجيب عن هذا السؤال بقوله: من خلال فهمي الحالي للأدلة الجينية، لا يمكنني القطع بأن هذا أمر مستحيل. وقد شرع في مقالته بمناقشة فصل من من كتاب حديث يتحدث عن هذا الموضوع. وكان مما ذكره في المقالة ما يلي:

آدم والجينوم

غالبًا ما يجمع المؤمنون بالديانات الإبراهيمية الذين يقبلون التطور بينه وبين الاعتقاد بأن جميع البشر قد انحدروا من زوجين. حتى الآن، افترض الكثيرون أن هذا الاعتقاد متوافق مع التطور والعلم السائد.

هذا ليس صحيحاً، وفقًا لما كتبه عالم الأحياء المسيحي دينيس فينيما في كتابه آدم والجينوم عام 2017. يزعم الفصل الثالث من هذا الكتاب أن ثلاث دراسات جينية سكانية تعطي تقديرات مستقلة بأن الكثافة السكانية البشرية لم تنخفض ​​أبدًا في تاريخ البشر عن حوالي 10,000 فرد. وهو ما يعني أن انحدار البشر من زوجين أمر مستحيل، وهذه حقيقة مشابهة لمركزية الشمس. إنه يعطي قراءه المسيحيين خيارًا بين تبني العلم السائد، أو التمسك بمعتقدات لا يمكن الدفاع عنها حول آدم وحواء.

هذا جيد، طالما أن العلم السائد يُظهر حقًا أن انحدار البشر من زوجين هو استحالة مطلقة. لكن بعد أن نظرت إلى الأدلة التي يستشهد بها فينيما، لم أصل إلى نفس قناعته. ولا أستطيع أن أردد صدى صوته وأقول لشخص يؤمن بانحدار البشر من زوجين أنه ضد العلم، وسأشرح فكرتي مناقشاً الأدلة التي يستشهد بها كل على حده.

  • الدليل الأول: الانخفاض في التنوع الجيني (Genetic diversity).

الفصل الثالث من كتاب آدم والجينوم يجادل بأن انحدار الجنس البشري من زوجين فقط من شأنه أن يتسبب في انخفاض شديد في التنوع الجيني، مما قد يكون له آثار مدمرة. ويكتب فينيما:

 ”إذا جاء الجنس البشري من خلال مثل هذا الحدث (عن طريق زوج واحد) أو إذا قل عدد الأنواع إلى زوج تكاثر واحد في مرحلة ما من تاريخ هذه الأنواع، فإن ذلك سيترك علامات مميزة في جينوم هذه الأنواع، وهذه العلامات ستستمر لمئات الآلاف من السنين؛ وهو ما يعني انخفاضا حادا في التنوع الجيني للأنواع الناتجة ككل. أحد هذه الأنواع التي تفتقر بشدة إلى التنوع الجيني هو الشيطان التسماني، وهو جرابي آكل للحوم وُجد سابقًا في جميع أنحاء أستراليا، ولكنه الآن فقط في جزيرة تسمانيا قبالة الساحل الأسترالي. كان لدى شياطين تسمانيا تنوع جيني ضئيل للغاية خلال مئات السنوات القليلة الماضية: معظمهم يملك نفس الجينات بالضبط مع وجود اختلافات نادرة فقط“.

ثم يذهب ليصف كيف تُصاب شياطين تسمانيا بسرطانات الوجه المعدية – وهو أمر يعزوه إلى تنوعها الوراثي القليل. ويخلص إلى أن: ”الآثار المترتبة على ذلك واضحة: لقد عانت شياطين تسمانيا من انخفاض شديد في العدد في الماضي البعيد، لكن البشر لم يعانوا من ذلك“.

وكتب لاحقًا: ”تقدم قصة الشيطان التسماني، طريقة لطيفة لرؤية الأشياء التي نتوقعها، إذا بدأ الجنس البشري فعلا بشخصين فقط“.

إنها قفزة صغيرة إلى حد ما أن نقول إنه إذا كان البشر قد مروا بندرة شديدة في عددهم، فسيكون لديهم مستويات تنوع جيني مماثلة لشياطين تسمانيا. في حين أنه يبدو واضحًا أن شياطين تسمانيا قد مرت بهذه الندرة، إلا أن هذه الاختناقات ليست كلها متشابهة. يمكن أن تختلف في طولها وكذلك في شدتها، والاختناق القصير له عواقب أقل خطورة من الاختناق الطويل. كل ما نحتاجه لفرضية آدم وحواء هو الاختناق السكاني القصير والحاد.

من السهل أن يكون لديك حدس مضلل حول الآثار الجينية لندرة سكانية قصيرة ومفاجئة. على سبيل المثال، اقترح عالم الأحياء إرنست ماير أن العديد من الأنواع قد مرت باختناقات شديدة في أحداث التأسيس (حدث التأسيس هو: إنتاج نوع جديد من عدد صغير من الأفراد اللذين ينتمون إلى مجموعة كبيرة من الأسلاف). وجادل بأن الفقدان الشديد للتنوع في مثل هذه الأحداث من شأنه أن يعزز التغير التطوري.

فقدت حجة ماير حول الفقد الشديد للتنوع الجيني الكثير من قوتها عندما أظهر علماء الوراثة السكانية أنه حتى إذا تم تقليل عدد الأنواع إلى زوج تكاثر واحد فقط، فلن يؤدي ذلك إلى انخفاضات هائلة في التنوع الجيني، إذا تبع ذلك نمو سريع في عدد الأفراد. عندما يتم أخذ شخصين بشكل عشوائي من كثافة سكانية كبيرة، فسيحملان في المتوسط ​​75% من التنوع الجيني لهذه الكثافة السكانية. لكن في اختناق سكاني مكون من أنثى واحدة مخصبة، إذا تضاعف حجم السكان كل جيل، فبعد عدة أجيال، سيكون لدى السكان أكثر من نصف تنوع السكان الجيني قبل حدوث الاختناق. إذا كان النمو السكاني أسرع من هذا، فستكون نسبة التباين الجيني أعلى. وبالتالي، فإن اختناق قصير وحاد يتبعه نمو سريع، لن يحكم على نوع ما بمصير شياطين تسمانيا.[1]

أي أن زوجين من البشر يمكنهما حمل تغاير زيجوتي كبير من أسلافهم السابقة، بشرط أن يكون مستوى التغاير الزيجوتي في أسلافهم عاليًا، ثم يمكنهما بعد ذلك تمرير معظم هذا التغاير الزيجوتي إلى نسلهم طالما أن نسلهم ينمو بسرعة.

يجادل دينيس فينيما بعد ذلك أنه لو انحدرت البشرية من زوجين فقط، فسيحدث انخفاض شديد في الثراء الأليلي Allelic richness/diversity (مقياس آخر للتنوع الجيني وهو: العدد الإجمالي للأليلات في مجموعة سكانية ما).

فمثلاً معقد التوافق النسيجي الكبير Major Histocompatibility Complex/MHC، هو مجموعة من الجينات التي تلعب دورًا مهمًا في المناعة، كل جين من جينات هذا المعقد له ألف أليل. كيف يمكن أن تظهر كل هذه الأليلات من فردين فقط؟ لابد من حدوث انخفاض شديد في العدد الإجمالي للأليلات.

وهذا الانخفاض الشديد سيؤثر سلباً على الكائنات الناتجة، فجسم الإنسان يستطيع محاربة عدد لا حصر له من الڨيروسات والبكتيريا والطفيليات الآن بسبب هذا الثراء الأليلي، لو كان لا يوجد ثراء أليلي فأي عدوى يمكن أن تقتلك بسهولة،  فهناك فرص أكبر لتعرض الجنس البشري للانقراض.

هذا صحيح. لكن مرة أخرى، لو حدث نمو سريع جداً في أفراد النوع بعد هذا الاختناق الحاد، فمن الممكن توليد ثراء أليلي مجدداً، ومن هنا فما زال يمكننا الحصول على تنوع جيني كبير (تغاير زيجوتي، وثراء أليلي) من فردين فقط.

  • الدليل الثاني: اختلال التوازن الارتباطي (Linkage disequilibrium) بين أفراد النوع.

يستشهد فينيما بدراسة تفحص أنماط اختلال التوازن الارتباطي (LD) في البشر[2] كدليل على أن الكثافة البشرية لم تقلّ أبداً لشخصين فقط. هذه الورقة ”تستند إلى العلاقة التقريبية المعروفة بين (LD)، و(Ne) الحجم الفعال للسكان، أي عدد السكان البالغين والقادرين على التكاثر“.

يعلق فينيما على الدراسة قائلاً:

”تشير النتائج إلى أننا ننحدر من مجموعة يبلغ عدد أفرادها حوالي 10,000 فرد – وهي نفس النتيجة التي حصلنا عليها عند استخدام التباين الجيني، يوسع هذا التحليل معرفتنا بالماضي منذ ما يقرب من 200,000 عام مضى، عندما يظهر جنسنا لأول مرة في السجل الأحفوري. وجد الباحثون أنه خلال هذه الفترة، احتفظ البشر الذين يعيشون في إفريقيا الزنجية بحد أدنى من السكان يبلغ حوالي 7000 فرد، وأن أسلاف جميع البشر الآخرين حافظوا على حد أدنى من السكان يقدر بحوالي 3000 – مرة أخرى، بالإضافة (7000+3000) نحصل على نفس الرقم“.

تعتمد هذه الدراسة بشكل حاسم على معرفة معدل إعادة التركيب الجيني للسكان. يتم استخدام معدل إعادة التركيب الجيني على حد سواء لحساب حجم السكان الفعال (من LD) وتقدير الفترة الزمنية. لكن الطريقة الرئيسية المستخدمة لتقدير معدل إعادة التركيب الجيني من قبل المؤلفين هي أنماط اختلال التوازن الارتباطي. يتم أيضًا استخدام أنماط اختلال التوازن الارتباطي لحساب أحجام السكان الفعالة بدلالة معدل إعادة تركيب معروف. يوجد هنا درجة من الاستدلال الدائري، لا مفر منه. عندما استخدم المؤلفون طريقة مختلفة قليلاً لتقدير معدل إعادة التركيب الجيني (والتي تعتمد أيضًا على مقاييس اختلال التوازن الارتباطي)، انخفضت جميع تقديراتهم لـ (Ne) بمتوسط ​​27%. ومن ثَمّ فنحن أمام تقديرات أولية فقط لحجم السكان الفعال. أنا متأكد من أن مؤلفي الدراسة لن ينظروا إلى نتائجهم على أنها ذات يقين مكافئ لمركزية الشمس.

من الواضح، مع ذلك، أن الورقة لم تقدم تقديراً لحجم السكان الفعال يصل إلى فردين فقط. هل هذا إذن يدحض فرضية آدم وحواء؟ لا أعتقد ذلك، لأن مثل هذا السيناريو ببساطة لا يتوافق مع الأساليب المستخدمة في هذه الدراسة. تفترض الأساليب أن السكان – في أي نقطة زمنية معينة – في حالة توازن سكاني، كما لا تحدث أي انفجارات سكانية (نمو سكاني كبير)، وبالتالي فلا يمكن لهذه الأساليب أن ترصد الاختناقات السكانية الحادة والقصيرة.

وحتى لو كانت نتائج هذه الدراسة صحيحة تمامًا، فإن المؤلفين لا يدلون بأي تصريحات حول حجم السكان منذ أكثر من 200,000 عام فقط. يبدو أن هذا يترك الباب مفتوحًا أمام احتمال وجود آدم وحواء في 5.8 مليون سنة سابقة.

  • الدليل الثالث: نموذج ماركوف (PSMC method).

يستشهد فينيما أيضًا بدراسة منشورة في مجلة (Nature) عام 2011. هذه كانت الدراسة الأولى التي تستخدم نموذج ماركوف (PSMC method) وهي طريقة يتم فيها تحليل الجينوم الفردي لاستنتاج أحجام السكان الفعالة السابقة في الماضي. بتطبيق هذه الطريقة على الجينوم البشري، فعدد الأفراد لم ينخفض عن 5700 فرد African individuals. هل يثبت هذا أن الاختناق السكاني القصير والمفاجئ لم يحدث أبداً؟ لا أعتقد ذلك. نظرًا لأن هذه التقنية غير قادرة على رصد الاختناقات السكانية الحادة والقصيرة، وقد لاحظ مؤلفو الورقة أنفسهم: ”أحد القيود على طريقة (PSMC) هو أنها غير قادرة علي رصد التغيرات المفاجئة في عدد السكان الفعال، على سبيل المثال، انخفاض الكثافة السكانية الفوري من 12000 إلى 1200 منذ 100,000 سنة مضت“.

في الآونة الأخيرة أيضاً، أظهرت بعض عمليات المحاكاة التي أجراها طالب دراسات عليا أن طريقة (PSMC) لا تكتشف الاختناقات السكانية الحادة والقصيرة، مثل تلك التي يسببها الوباء أو الكوارث الطبيعية. ومن ثَمّ فلا أستطيع أن أرى أن تحليلات (PSMC) (التي تم إجراء العديد منها على الجينوم البشري منذ الورقة الأصلية) يمكن الاستشهاد بها على أنها تدحض بشكل صارم الاختناق السكاني القصير والحاد.

خاتمة

السؤال الذي يطرحه أصدقائي المؤمنون مختلف عن الأسئلة المطروحة في الدراسات التي نوقشت أعلاه. لا يسألني أصدقائي عما إذا كان من المحتمل أن يكون البشر قد مروا في أي وقت مضى باختناق سكاني مكون من فردين فقط بل يسألونني إذا كان ذلك ممكنًا. لم يتم تصميم أي دراسة حتى الآن لاختبار هذه الفرضية. هذا ما نحتاجه لحل هذه المشكلة.

لقد تناولت الحجج المقدمة ضد هذه الفرضية في فصل من كتاب واحد تناول هذه القضية أكثر من أي مصدر آخر صادفته، قد تكون هناك حجج أخرى، وربما أفضل، لم يقدمها فينيما فلم أتفاعل معها.

هل يواجه المؤمنون حقًا خيارًا ثنائيًا بين قبول العلم السائد والاعتقاد بأن البشر، في مرحلة ما من تاريخهم، قد انحدروا جميعًا من آدم وحواء (زوجين) فقط؟ قد يبدو أنهم كذلك، ولكننا ما زلنا بحاجة إلى المزيد من الأدلة قبل أن نقتنع بوجود المعضلة.[3]


[1] ملخص الرد على الدليل الأول لمن لم يتضح له رد عالم الأحياء ريتشارد بوغزهو أن: زوجين من البشر يمكنها حمل تباين جيني كبير من أسلافهم، بشرط أن يكون مستوى التنوع الجيني في أسلافهم عالٍ، ثم يمكنهما بعد ذلك تمرير معظم هذا التباين الجيني (يمكن قياس التباين الجيني بالتغاير الزيجوتي Heterozygosity: وجود أليلات مختلفة في مكان واحد أو أكثر على الكروموسومات) إلى نسلهم طالما أن نسلهم ينمو سكانياً بسرعة (وأثناء النمو السكاني السريع، يمكن توليد ثراء أليلي أيضاً Allelic richness: العدد الإجمالي للأليلات في مجموعة سكانية ما، والثراء الأليلي هو مقياس آخر للتنوع الجيني).(صباح)

[2] اختلال التوازن الارتباطي هو مقياس لمقدار إعادة التركيب الجيني الذي حدث بين المواقع على الكروموسومات البشرية خلال تاريخهم التطوري، إعادة التركيب الجيني هي عملية يتم فيها كسر أجزاء من الكروموسومات أو الحمض النووي وإعادة تجميعها مع بعضها البعض بطرق مختلفة لتوليد توليفات جديدة من الأليلات، والأليل هو نسخة مغايرة من نفس الجين فمثلاً الجين الذي يصنع لون العيون له نسخ مغايرة تعطي سمات ظاهرية (ألوان مختلفة) للعيون، هناك علاقة رياضية بين حجم السكان في وقت ما واختلال التوازن الارتباطي، فمن خلال معرفة أنماط اختلال التوازن الارتباطي يمكننا رياضياً معرفة عدد السكان في وقت معين من الماضي.(صباح).

[3] ملحوظة: إذا شخص يؤمن بالخلق المباشر لآدم وحواء، ولا يؤمن أن آدم وحواء قد انحدرا من اختناق سكاني شديد لأسلاف قبلهم، فنفس الحجج يمكن تطبيقها على فكرة الخلق المباشر، شرط أن يكون هناك تغاير زيجوتي كبير في آدم وحواء، يعني الخالق يمكنه أن يخلق كلاهما بتغاير زيجوتي كبير، بدل أن يرثوا هذا التغاير الزيجوتي الكبير من أسلاف قبلهم، ولن يحدث انخفاض شديد في التباين الجيني (التغاير الزيجوتي والثراء الأليلي) طالما أن نسبهم ينمو بسرعة (صباح).

المصدر
ecoevocommunity-nature

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى