عام

الإنسان والآلة: انفلات الفعل من مقاصدنا؟

  • إبراهيم محمد الحجِّي
  • تحرير: عبد القادر زينو

من مرويات العرب أنَّ أعرابيًا دخل البادية فإذا به يرى عجوزًا بين يديها شاةٌ مقتولةٌ وإلى جانبها جرو ذئب. فقالت: أتدري ما هذا؟ فقال الأعرابي: لا.

فأجابته العجوز: هذا جرو ذئب أخذناه صغيرًا، وأدخلناه بيتنا وربيناه، فلما كَبِر فعل بشاتي ما ترى، وأنشدت أبياتها الشهيرة في حقّ جرو الذِّئب:

بَقَرْتَ شُويهتي وفَجَعْتَ قَومي
وأنت لشاتِنا ابنٌ رَبِيْبُ

غُذِيْتَ بِدرِّها ونَشَأت معها
فَمَن أنْبَاك أنَّ أباكَ ذيبُ؟

إنَّ حال هذه العجوز حالٌ ماثلةٌ لاحتضان ما نتوهَّم استئناسَه، فتربيتها لجرو ذئب تغذّى من ضرع شاتها، ونام في حضنها، ولعب في ملاعب قومها، لم يكفل لها -إطلاقًا- أن لا يفترسَ الشاةَ الّتي رضع منها ابنًا ربيبًا، أو أن يفجع القومَ بفعلته، فهذا الفعل نتيجة مترقبة من قَبيل ما ذكره إدغار موران ووصفه بمقولته: “انفلات الفعل من مقاصدنا”. إن موران بهذه الجملة يقرر بأن الإنسان ما إن يخوض غِمار أيّ فعلٍ، حتى يتفلّت ذلك الفعل بعيدًا عن مقصده، فبواعث الفعل لا تكفي لضمان الوصول!(1)

أحسب أنَّه من المهم الوقوف عند تلك الفكرة مليًا وتأملِها بعنايةٍ لا سيّما في وقتنا المعاصر، إذ يشير جيمس غلايك بأنَّ كلَّ شيءٍ يبدو أنّه ينطلق بسرعةٍ مفرطةٍ، وأنّ المستقبلَ يأتي إلينا بسرعة أكبر من قبل، وأنّ نهرَ الزمنِ بات متسارعًا وأنَّ المعلومات التي كانت بأيدينا حلّقت في السماء؛ لترتدّ في نحورنا، والخيارات التقنيّة التي كنّا نملكها، اليوم هي من تملكتناَ! فبينما ينظر أناسٌ إلى هذه القفزات المعلوماتيّة والتقنيّة بوصفها لعنةً ابتدعها الإنسان، يراها آخرون هبةً لتحقيق الحُلْم الإنسانيّ.(2)

سنسعى في هذا النص الصغير لدحرجة تلك الفكرة إلى أقصاها، محاولين إسقاطها على واقع حياتنا المعيشة، عبر إعمال سؤال مفاده هل بتنا نعيش في عصرٍ ابتعدت فيه أفعالُنا عن مقاصدها؟ وإذا كان الحال كذلك فهل ثمة حل؟؟

الحبل والشَرَك

بدأت وسائل التواصل الاجتماعيّ كالحبل الذي نتشبّث به ليصلنا بمن نحب، فأضحت وسيلةً لشدِّ أواصر العلاقات الاجتماعية، وتقليص المسافات بين المتصلين، إلا أن ذلك الفعل غادر بعيدًا، فلم تعد تلك الوسائل تحقِّق ذلك المقصِد، بل قامت بالعكس في فكّ حبال المجتمع وحلّ شِبَاكه، وأوقعت النَّاس في شرَك الوسيلة مُضيعةً الغايةَ، حتى فرَّقت أهل الدار الواحدة، وطغى التواصل الافتراضيّ على الفيزيائيّ، ففرّق ما بقي من وصْل، وتُرِك أفراد المجتمع في مجتمعاتٍ بديلةٍ افتراضيةٍ يُخيَّل إليهم من سحرها أنَّها “اجتماعيّة”، والحقيقة ليست كذلك فتلك المجتمعات الافتراضيّة ليست إلا فراغاتٍ تقنيّة متروكةٍ لنا عُنوة، لنملأها برموزٍ تفاعليّة جامدةٍ لا طعم لها ولا رائحة.

تعمَد تلك المجتمعات الافتراضيّة إلى تعزيز الفردانيّة، وتبديل بعض أنماط وطرائق المعيشة، فهي تجتهد لعزل الفرد عن محيطه الاجتماعيّ الحقيقيّ من أفراد الاسرة والأصدقاء لتموضعه في مجتمع افتراضيّ يقبع خلف شاشة يخفت ضوئها لمجرد انخفاض الطاقة، ناهيك عن تلك الفراغات الفكرية والثقافية التي تدفعها تلك الوسائل، فاختلط نابل الفكر بحابل الشهرة، فأضحت المعلومة أسيرة ميدان السذاجة.(3)

إنَّ الفرد لا يثق في معلومة إطلاقًا، فوسائل التواصل الاجتماعيّ نهْبٌ لكلِّ مَن هَبّ ودَبّ، إذ تمنح حقَّ الكلام لفيالق الحمقى كما يقول إمبرتو أيكو، أولئك الذين كانوا يتكلمون في البارات، ولا يتسببون بأي نفع للمجتمع، واليوم هؤلاء الحمقى لهم حقُّ الكلام شأنهم شأن من يحمل جائزة نوبل، [رغم أنَّ جائزة نوبل ليست معيارًا للقيمة الجيّدة بل أحيانًا تدلّ على فساد الشخص] فنحن اليوم أمام غزو البلهاء، وغياب الحقيقة، وتصدّر الرويبضة.

تسليع الفرد

ما حدث في وسائل التَّواصل لا يبتعد كثيرًا عمّا يحدث في السّوق، فالسّوق ببساطة هي عبارةٌ عن مكانٍ يلتقي فيه العرض والطلب، والبيع والشراء، ذلك الفعل جاء لأجل مقصِدٍ واحدٍ، هو سدّ حاجة الإنسان بوصفه غايةً، ذلك المقصِد لم يعد كذلك حينما تقلّد السّوق مكانة الإله وهو ما يسميه فرانك توماس أيديولوجية “السُّوق بحقٍ إلهيِّ”.(4) فأصبح السّوق مرجعيّة كبرى “صلبة، مصمتة” لنموذجٍ حيوانيّ يجتهد لتحويل كل شيء خلاف السوق إلى أدوات ووسائل تشتغل لصالح السوق، حتى أنَّ الإنسانَ نفسه لم يسلم من ذلك، فانتقل من كونه غايةً إلى مجرّد وسيلة.(5)

عندما يقع الفرد في شرَك الشبكة العنكبوتيّة التي تقرأ ميولَه، وتجعل السَّوقَ أمامه، ملبيَّةً كل ما يريد في كبسة زر، فلن يفلت أبدًا من أنْ يكون تُرْسًا في عمليّة الشّراء غير المنتهيّة، فأكلًه بِزِرّ، وملبَسُه بِزِرّ، وكل ما يشتهيه بِزِرّ، ولا يعلمُ أنّه ليس سوى أيقونةٍ في عمليّة الشّراء غير المنتهي، بل ضحيةُ الإملاءات التسويقيّة الّتي لا يمكنه تجاهُلها، فهو ليس سوى رقمٍ في تصاعد مبيعاتٍ عمليّة تسويقيّة لا أكثر.

التقنيّة إلى أين؟!

لا شكّ بأنّ التطوّر التقنيّ هو أحد أبرز وأهم سمات هذا العصر، لا جدال في ذلك! فبواسطته تمكنت البشرية مؤخرًا من تخفيف آثار جائحة كورونا – كوفيد 19 – عبْر تحقيق التباعد الاجتماعي، وتقديم الحلول التقنيّة لاستمرار عجلة الحياة، فكلُّ شيءٍ باتَ يُحَقَّق عن بعد، فالتّعليم والتّسوّق والأعمال وغيرها من ضرورات انتقلت إلى الهاتف الذكي، ولا حاجة لمغادرة غرفة النوم فضلًا عن غرفة المعيشة.

ولا شك أنّ هذا الأمر من علامات اليُسر والسّهولة التي نغبط أنفسنا عليها، فالتّقنية في تسارع نحو التيسير “الظّاهريّ”، فالسّيارات مُقبلة على مرحلةٍ جديدةٍ للتّحكّم بها دون سائقٍ، والقفز سريعًا نحو البشر لزرع شريحةٍ ترتبط بعقل الإنسان تمكّنه من التحكّم بأجهزةٍ أخرى، وآخرون يتحدّثون عن الطّبيب الآلي والجّراح التقنيّ والصيدليّة الذكيّة، وكلُّ ذلك بفضل الذّكاء الاصطناعيّ المتسارع، ولكن دعونا نستحضر ذلك الواقع بجِديّة أكبر وبذهنيّة نقديّة أجلى، فلو افترضنا بأنَّ المُعلِّمَ والطبيبَ والمهندسَ والصيدليَّ وآخرون سيُستعاض عنهم بأجهزة ذكيّة تقوم مقامَهم وبأسواقٍ وسياراتٍ وطائراتٍ كلُّها ذكيُّةٌ، ألا يتبادر إلى الذِّهن هذه الأسئلة: ماذا ستصبح حال الإنسان في تلك اللحظة ؟؟ وأين موقعُ هذه الأعداد الهائلة على الكوكب من معادلة الذكاء الاصطناعيّ وما يؤول إليه، وما فائدةُ الإنسان بعد شلِّ كلِّ إمكانيّاته؟ وهل سنصل إلى مرحلة “الإنسان المُعطّل” بفضل الآلة؟!

التصحيح ضرورة

نعود إلى إدغار موران حيث يجْهَد لأن يقدِّم لنا حلًا بقوله “يرتدّ الفعل على رؤوسنا ككيدٍ ينقلب علينا، وهذا ما يفرض علينا متابعةَ الفعل ومحاولةَ تصحيحه – إذا لم يكن قد فات الأوان – وتدميرَه في بعض الأحيان” (6).

نعم نحن بحاجة إلى شيءٍ من الجُرأة لنتوقّف قليلًا وإلى قدْرٍ من النّقد لنتـأمَّل كثيرًا، فنراجع أفعالنا قبل أن تصل إلى فضاءاتٍ بعيدة، فتتحكم بنا وتجرُّنا إلى متاهاتٍ لا قِبَل لنا بها، فالمستقبل ليس هو ببساطة قضيةُ إمكانيّات تكنولوجيّة أو علميّة، بل ربما يكون بدرجة أكبر قضيةَ إمكانيّات للذّهن والرّوح والحقيقة(7).  وما دام الأمر في أيدينا، فلنقلِّم أظفارَ التقنيّة قبل أن تتوحش، ولنقمْ بتشذيبها قبل أن تبادرَ بتعطيلنا وشلِّ حَراكنا، ولنتريّث قبلَ أن ننفخ في تلك الإمكانيّات والتقنيات، فتتضخّم ولا نستطيع حينها السيطرةَ عليها أو القدرةَ على تدميرها بعد فوات الأوان حسب وصف موران، ونتحسّر بعد بقر الذئب للشَّاة حيث لا تنفع حسرةٌ من قد قيل له : (يداك أوكتا وفوك نفخ).


المراجع

  1. إدغار موران، (2004). الفكر والمستقبل مدخل الى الفكر المركّب. ترجمة أحمد القصوار ومنير الحجوجي. الدّار البيضاء: دار توبقال للنشر. ص 80.
  2. توم لومباردو، (2009). قيمة الوعي بالمستقبل، في: الاستشراف والابتكار والاستراتيجية نحو مستقبل أكثر حكمة. ترجمة صباح الدملوجي، ط1، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ص 449
  3. عثمان الدليميّ (2019). مواقع التواصل الاجتماعيّ: نظرة عن قرب. عمان: دار غيداء للنشر والتوزيع، ص39-40
  4. مُراد دياني (2014). اتّساق الحريّة الاقتصاديّة والمساواة الاجتماعية في نظرية العدالة في: ما العدالة ؟ معالجات في السياق العربي، ط1. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ص329
  5. عبد الوهّاب المسيريّ (1999). موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، القاهرة: دار الشروق، المجلد الأول، ص 122
  6. إدغار موران، (2004). مرجع سابق ص 81
  7. توم لومباردو، (2009). مرجع سابق ص 453

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. اشكرك دكتور إبراهيم على هذا المقال الرائع
    حيث لامست به معاناة شريحة كبيرة جدا في مجتمعاتنا
    تقبل مروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى