مراجعات كتب

لماذا يجرح الحبّ؟

تجربة الحبّ في زمن الحداثة – إيفا إيلوز

عبدالله الوهيبي

 

 «النعيم في الحبّ نادرًا ما يتحقق، إذ أمام كل تجربة حب ناجح في عصرنا توجد عشر تجارب للحبّ الفاشل، وهو ما يؤدي -غالبًا إلى تدمير الفرد، أو على الأقل النظرة المتهكّمة من العاطفة، التي تجعل العودة إلى الحبّ مجددًا أمرًا صعبًا ومستحيلًا. لماذا يجب على الأشياء أن تكون على هذا النحو لو لم تكن متأصلة بطبعها في عملية الحب نفسها؟».

بهذا الاقتباس تفتتح عالمة الاجتماع إيفا إيلوز كتابها المهم والثري عن الحب المعاصر، والذي تُرجم إلى أكثر من عشرين لغة، حيث تتناول بالدراسة والتحليل منابع التعاسة في العلاقات الرومانسية وروابط الحبّ بين الجنسين في العصر الحاضر، عصر الحداثة، وتحديدًا في الحقبة التي تبدأ منذ أول العشرينيات الميلادية من القرن المنصرم.

ومع أن ارتباط الحب والغرام بالتعاسة والألم قديم قدم الحبّ نفسه، إلا أن المؤلفة تحاجج أن الألم والتعاسة المعاصرة الناتجة عن الحبّ تختلف في المحتوى واللون والشكل. وقد قامت المؤلفة بإجراء مئات أو آلاف المحاورات مع شخصيات متفرقة في بلدان متنوعة، كما حللت نصوصًا أدبية وروايات واعترافات مكتوبة وسيرًا ذاتية بغرض رسم ملامح للبنية الداخلية المنتجة للألم الرومانسي المعاصر. فيما يأتي أنقل مقاربة مقتضبة لبعض مضامين أطروحة الكتاب، واختصارًا لأبرز أفكاره.

–  أوجاع الحب القديمة

قديمًا -في المجتمع الأوروبي الوسيط على الأقل- كانت المعاناة في الحب تنتج عن العقبات المجتمعية (اختلاف الطبقة مثلًا)، والقيود الثقافية (اختلاف المذهب أو الدين مثلًا)، والتقاليد الاقتصادية، والتي كانت تقف حائلًا دون ارتباط المحبين، في حين أن المجتمع المعاصر -في البلدان الغربية الغنيّة- تجاوز كل هذه القيود تقريبًا، فلم يعد هناك مبرر للتعاسة من هذه الحيثية على الأقل، إلا أنه -مع ذلك- لم يسلم من آلام العلاقات الحميمية في عالمنا المعاصر سوى عدد قليل من الناس، ولفهم أسباب ذلك، وطبيعة التحوّل في نظام العلاقات بين الجنسين، وبنى الارتباط ومسارات الحب المعاصر؛ لابد من فحص وتحليل ثلاثة جوانب مختلفة وهامة للذات الحديثة: (1) تشكّل الإرادة “كيف نريد شيئًا ما؟”، (2) الاعتراف “ما الذي يمنح إحساسنا القيمة؟”، (3) الرغبة “ما الذي نتوق إليه؟ وكيف نتوق؟”.

– نقد المنظور النفسي لفشل الحبّ

تشنّ المؤلفة هجومًا متعددًا على المدخل النفسي لمناقشة ظاهرة تعاسة علاقات الحبّ، وترى أن «التحليل والعلاج النفسي –بقصد أو بدون قصد- قد قدّم ترسانة هائلة من التقنيات وضعت على كاهلنا –بإصرارٍ وحتميّة- مسؤولية جميع مآسينا العاطفية» [ص17-18]، وكان لهذه الأطروحات النفسية -التي روّجها علماء نفس ومعالجين نفسيين ومحللين- تأثيرات واسعة في القرن العشرين، وهي تقرر وتكرر أن جميع مآسينا النفسية مرتبطة جوهريًا بتاريخنا النفسي، وأن الخطاب ومعرفة الذات هما طريق التعافي؛ لأن معرفة أنماط الإخفاقات العاطفية ومصادرها يساعدنا على التغلب عليها، وهذا التصوّر العام ينسجم بقوة مع المزاج الليبرالي المهووس بفكرة المسؤولية الفردية، بينما الحقيقة –كما ترى المؤلفة- تكمن في أن

 «إخفاقات حياتنا الخاصة ليست نتاج ضعف نفسي، وإنما تقلبات حياتنا العاطفية ومآسيها تتشكّل وفق ترتيبات مؤسساتية؛ فالمشكلة في العلاقات الإنسانية المعاصرة لا يكمن في طفولة مختلّة، أو نقص في الوعي الذاتي للنفس؛ وإنما مردّه إلى مجموعة من التوترّات الاجتماعية والثقافية، والتناقضات التي اجتاحت هيكلة الأنفس والهويات الحديثة» [ص18].

ولا يعني ذلك إنكار أهمية المؤثرات النفسية، ولكن المقصود أن التجربة الفردية تتضمن الكثير من المحتوى الاجتماعي والجماعي، وأن الاختلافات النفسية في كثير من الأحيان ليست سوى اختلاف في المواقف والتطلعات، بل إن بنيتنا النفسية صيغت بواسطة أنظمة تشكيل الذات والهوية الحداثية، مما يعني أن «كياناتنا النفسية هي في حد ذاتها حقيقة اجتماعية» [ص35].

– الحبّ الحداثي

بصورة إجمالية الحداثة هي المرحلة التي تبلورت فيها العلمنة، والعقلنة، وشاعت فيها الديموقراطية، وأنماط الفردانية، وتسيّد العلم التجريبي، وترى المؤلفة أن «دراسة الحبّ مركزية وليست هامشية بالنسبة لدراسة جوهر الحداثة وأساسها» [ص26]، ومنذ مطلع السبعينات فصاعدًا شهدت المجتمعات الحداثية الغربية تطرفًا في الحرية والمساواة داخل الروابط العاطفية، وانقسامًا جذريًا بين الحياة الجنسية والعاطفية.

تأثرت العلاقات بين الجنسين بثورتين هامتين في القرن العشرين: ثورة الفردانية في أنماط المعيشة، وانتشار النماذج الاقتصادية (الرأسمالية) لتشكيل الذات، وصوغ المشاعر؛ فنشأ نموذج جديد من العلاقات أطلق عليها عالم الاجتماع المعروف أنتوني غيدنز “العلاقة النقية”، والتي تفترض نشوء تعاقد يقوم على علاقة بين فردين، بحقوق متساوية، لأجل مقاصد عاطفية وفردية، فهو تعاقد مؤسس لأغراض ذاتية، يمكن الدخول فيه والخروج منه بإرادة حرّة. وقُدّم هذه النموذج الجديد باعتباره انتصارًا للحبّ، والفردانية، والحرية والاستقلالية، وهزيمةً للنظام الأبوي، ومؤسسة الأسرة القديمة، إلا أن المؤلفة -وهي توافق على هذا النموذج وتؤيده- تعترف بأن نموذج “العلاقة النقيّة”، وطبيعة التحوّل الحداثي في أنظمة العلاقات الحميمية «جعلت المجال الخاص أكثر تقلّبًا، وأفقدت الوعي الرومانسي السعادة» [ص32]، وتسببّت في «إنقاص المصادر الأخلاقية والقيود الاجتماعية، التي تصوغ شكل الأنشطة الفردية في البيئة الاجتماعية؛ ومن ثمّ فقد عرّت الحداثة بنية الأفراد أمام تركيبتهم النفسية الذاتية، مما يجعل النفس هشّة، ومنشغلة للغاية -أيضًا- بالأقدار الاجتماعية» [ص35-36]، فـ«الحرية الجنسية والعاطفية تولّد أشكالها الخاصة من المعاناة» [ص114].

– تحولات بيئة اختيار الشريك

أول منابع التعاسات الرومانسية المعاصرة يتجلى في التحولات التي غيّرت بيئة اختيار الشريك والشروط والإجراءات والتقاليد المصاحبة لعملية إنشاء العلاقة. إجمالًا يمكن القول بأن اختيار الشريك في البيئات التقليدية (ما قبل الحداثية) يخضع لضوابط اجتماعية وثقافية عديدة، ويمارس ضمن معايير محددة، وهذه الضوابط والمعايير بمثابة القيود التي تكبح وتنظّم كثيرًا من سيطرة الذوق الشخصية والتفضيلات الذاتية، فالعلاقات القديمة بين الجنسين (الحديث هنا عن أوروبا في العصر الوسيط) تتحرك داخل نسق عائلي واجتماعي واضح، والمرأة في داخل هذه المنظومة تؤسس رأيها وقبولها للخاطب والزوج المحتمل بمشاركة العائلة، وكذلك الرجل أيضًا -إلى حدٍ ما-، و«لأن العديد من الناس يشاركون في هذه المهمة الاجتماعية من تقويم الخاطب وإصدار الرأي تجاهه؛ فإن رأي المرأة يكون انعكاسًا وامتدادًا لشبكتها الاجتماعية، فمشاعر المرأة تجاه الرجل تنشّطها آراء الآخرين فيه. وهذا التداخل بين الشعور والحكم، بين المشاعر الفردية والملاحظة الجماعية؛ يدلّ أنه حين نحبّ شخصًا ما -كما هو الحال عند اتخاذ القرار إزاء الخاطب- يكون الواحد منا مغمورًا باستمرار في المجال الأخلاقي لمعايير الجماعة ومحرماتهم، كما يكون تورطنا الرومانسي متشابكًا بشبكة التزام الفرد تجاه الآخرين، فذوات المحبين -الرجل والمرأة- اُحتويت وحُميت بالحضور الكثيف للآخرين، الذين يتصرفون كحكّام ومنفذين للمعايير الأخلاقية والاجتماعية» [ص59].

يتأسس مسار إنشاء العلاقة بين الجنسين -بدءًا من التعرّف والتغزّل والخطبة- في الحقب ما قبل الحداثية على القواعد والطقوس، وهي قواعد قد يرى البعض أنها معيقة ومكبّلة، إلا أنها تعمل على تمكين وتسهيل التواصل بين الفاعلين الاجتماعيين، وبناء التوقعات عن الطرف الآخر طبقًا لتلك الأعراف، فهي تشبه الدرب المرسوم بدقة وسط أدغال الاحتمالات. فالتسلسل المعهود للعواطف أن سماح المرأة وتشجيعها للرجل على التواصل الغزلي معها يعني أنه من اللائق حينها أن يتقدم الرجل إلى الأب معلنًا عن رغبته بالاقتران، وعندها تنتظر المرأة إفصاح الرجل عن حبّه، قبل أن تعبّر عن مشاعرها. وفي تلك الأزمنة كان البدء بتلميحات الرغبة بالزواج ومحاولات الغزل تؤخذ على محمل الجد؛ لأن الزواج يعدّ -حينها- أهم عملية اقتصادية في حياة كثير من الناس، لكون ممتلكات الزوجة تتحوّل إلى زوجها بعد الزواج، وترتب على ذلك ثلاثة آثار مهمة: (1) أنه بغض النظر عن مشاعر الفرد فالمصلحة الاجتماعية والاقتصادية تساهم بقوة في تنظيم بيئة الاختيار، (2) أن عرض الزواج يرفض أو يقبل –غالبًا- بناء على المكانة الاجتماعية والثروة. (3) أن أساليب تقويم الخاطب أكثر “موضوعية”، فهي تعتمد -بدرجة أو أخرى- على المركز الموضوعي للخاطب وطبقته.

ما الذي تغيّر؟ تبرز التغيرات والتحولات المؤسسية في بيئة الاختيار –التي ألمحنا إلى طرف منها-أو ما تسميه المؤلفة “التحول العظيم” في “أسواق الزواج”، في ثلاثة مسارات: التحولات الأخلاقية أو القيمية، والتحولات الاجتماعية، والتحولات التقنية. ويظهر ذلك في غياب وتراخي المعايير، فتفريد معايير اختيار الشريك، أي تحوّله ليكون خيارًا فرديًا، وتجاوزه للنسيج الأخلاقي للمجموعة، أدى إلى اصطباغه بالصبغة الذاتية، واستناده للتفضيلات الشخصية، كما رافقه ضمور الآليات والتقاليد الطقوسية للاقتران والالتزام بالعلاقة طويلة المدى.

وارتبطت “فردانية الاختيار” بظهور معيارين لتقويم الشريك المحتمل وانتشارهما، الأول: معيار الحميمية العاطفية والاتساق النفسي، والثاني: النشاط الجنسي.

– الحميمية العاطفية بوصفها معيارًا

في الحقب ما قبل الحداثية «كان هدف العزاب هو الرضا عن اختيارهم، وليس العثور على الشريك المثالي. وكانت التوقعات العاطفية للزواج هي تجنب المعاناة المفرطة، وفي أفضل الحالات إنشاء شكل دائم –ولكن منخفض نسبيًا- من المودة» [ص316]، أما العلاقات الحديثة فتعتمد –بشكلٍ مبالغ فيه- على ما تسميه المؤلفة “الأصالة العاطفية”، والذي يتطلب أن يتعرّف كل من الرجل والمرأة على مشاعرهما بدقّة، وطبقًا لهذه المشاعر تُبنى اللبنة الفعلية للعلاقة، لذا فـ«نظام الأصالة العاطفية يجعل الناس يدققون في مشاعرهم ومشاعر الآخرين؛ بقصد البت في أهمية الدلالة المستقبلية للعلاقة وشدتها» [ص63]، ويفترض نظام الأصالة «أن هناك مستوىً وجوديًا للعاطفة يسبق ويتجاوز القواعد التي تنظّم وتوجّه تعبير الشعور بشكل عام، والحبّ بشكل خاص. في نظام الأصالة الالتزام لا يسبق، وإنما يتّبع المشاعر التي تصبح الدافع البديل للالتزام» [ص63-64]، ويكون التحقق اليقيني من المشاعر لدى الذات الحديثة؛ «إما من خلال قدر كبير من التدقيق الذاتي، كالتساؤل عن طبيعة أسباب العواطف وحقيقتها، وإما من خلال الكشف المربك الذي يفرض نفسه من شدّته، كالحب من أول نظرة مثلًا» [ص64]، وتظهر المقارنة أن «الاختيار الذي تنظّمه الطقوس يعارض الاختيار الذي يقوم على نظام الأصالة، والاستبطان، والأنطولوجيا العاطفية، ينظر الأول إلى الالتزام على أنه إنجاز أدائي، أنشئ بواسطة فعل الإرادة، وسلسلة من الطقوس الاجتماعية، أما الثاني فهو نتيجة للاستبطان المؤسس على المشاعر الحقيقية» [ص182-183]. ما هي المشاعر الحقيقية؟ تمثّل الإجابة على هذا السؤال مثارًا لأشكال من التعاسة في العلاقات الحديثة، وهذا من يعقّد جديّة العلاقة ويهدّد استدامتها باستمرار، وهذا ما يفسّر –جزئيًا- صعوبة الالتزام في العلاقات المعاصرة، والوفاء بالوعد طويل المدى، لأنه في «نظام الأصالة يجب أن تعكس القرارات [العاطفية] الجانب الضمني العميق للماهية العاطفية للذات، كما لا بد لها أن تتابع ديناميكية “تحقيق الذات”؛ لأن تحقيق الذات يجب أن يكون في تطور مع التنمية الذاتية والتغيير، فمن الصعب تصوّر ما يمكن أن تكون عليه الذات المستقبلية، ويتطلب المثال الثقافي الأعلى لتحقيق الذات أن تبقى خيارات الفرد مفتوحة إلى الأبد، وهذا يستلزم رصدًا غير مستقر جوهريًا للذات، يتطوّر وينمو بطريقة تعني –ضمنيًا- أن ذات الغد يجب بالضرورة أن تكون مختلفة عن ذات اليوم» [ص183]، وترى المؤلفة أن هذا التصور الشائع لتحقيق الذات «قوة ثقافية جبارة؛ فهو ما يجعل الناس يتركون وظائف غير مرضية، وزواجًا بلا حب، ويحضرون اجتماعات للتأمل، ويقضون عطلات طويلة ومكلفة، ويستشيرون أخصائيًا نفسيًا. فالذات تبدو بوصفها هدفًا متحركًا، وشيء يحتاج إلى الاكتشاف» [ص183].

– الإغراء الجنسي

أيضًا، أصبحت المرغوبية الجنسية معيارًا مستقلًا وحاسمًا في اختيار الشريك، وهذا يأتي ضمن التضخّم الهائل الذي شهده المجال الجنسي في الثقافة الاستهلاكية المعاصرة، وبمساهمة واسعة من القطاعات الاقتصادية في ترويج الجمال الجنسي، وتأسيس ذات قائمة على الإثارة الجنسية، حيث رُبط المكياج والمستحضرات التجميلية والإغواء الجنسي والاستهلاك بقوة في الدعاية والإعلان، وهذا “التجنيس” للنساء، أي صوغ «الجسد باعتباره جسمًا حسيًا يبحث بنشاط عن الرضا الحسي والسرور والجنس» [ص84]، تبعه تجنيس الرجال أيضًا، وظهر ذلك في الرياضة واستغلالها في التخيّلات الجنسية للرجال.

ويظهر هذا التضخم في معنى الجنسانية في العلاقات الحميمية بوضوح في ظهور مصطلحات “مثير” أو (Sexy) والإثارة، باعتبارها طرقًا جديدةً لتقويم الذات والآخرين، لا سيما في العلاقات الحميمية. وكان لهذا التحوّل في معنى الجنسانية نتائج هامة، منها المساهمة في تدمير الأنماط التقليدية للاختيار، وإتاحة فرص بديلة للنساء من الطبقات الدنيا في الثراء والتعليم للوصول إلى الرجال الأقوياء، صحيح أن «نساء الماضي يستخدمن رأس مالهن الجنسي للحصول على مكانة اجتماعية، ولتعويض الأصول التي حرمن منها بطريقة أخرى، ولكن الجديد [في هذا التحول المعاصر] هو تلك البنية الاجتماعية الحالية، وثقافة وسائل الإعلام التي تمكّن وتسهّل تحويل رأس المال الجنسي إلى رأس مال اجتماعي» [ص108-109]، وأيضًا كثرة التناقضات في اختيار الشريك، لتضارب المعايير، ومنها تشريع الجنسانية بوصفها هدفًا في حد ذاتها، يستقل عن الأهداف الزوجية الأخرى، وأيضًا الإغراء الجنسي يجعل الانجذاب بين الجنسين يعتمد أكثر فأكثر على الأيقونات المرئية والمنظور البصري.

إن التحوّل في البنية الحميمية المعاصرة يعني الانتقال «من المعاني والطقوس المشتركة علنًا -بما أن كل من المرأة والرجل ينتميان إلى عالم اجتماعي مشترك- إلى التفاعلات الخاصة التي تقوّم فيها ذات أخرى؛ وفقًا لمعايير متعددة ومتقلبة، مثل الجاذبية الجسدية، والكيمياء العاطفية، وتوافق الأذواق، والتركيب النفسي» [ص221]، ومن ثمّ تتكاثر الشكوك وينعدم اليقين، لأن فرادنية المعايير ودقتها تعني «أن الرجال والنساء لا يملكون سوى قدرة ضئيلة على التنبؤ بما إذا كانوا سوف يجذبون شريكًا محتملًا، فأن تكون “مرغوبًا” يعتمد على ديناميكية فردانية عالية الذوق والتوافق النفسي» [ص222].

– وفرة الخيارات وانفتاح الإمكانات

أدت التحولات في بيئة اختيار الشريك -وما رافقها من التغير الجوهري الذي طبع المجال العام المعاصر بالحضور المختلط بين الجنسين بكثافة في التعليم والعمل وغيرها- إلى الوفرة الهائلة للشركاء المحتملين، مما أنتج عدة تغيرات إدراكية مهمة في تكوين المشاعر الرومانسية، وعملية الاستقرار على حب واحد، فمع كثرة هذه الخيارات أمام الجنسين إلا أن «الأفراد مطالبون بالمشاركة في جهد مستمر من الاستبطان لتحديد تفضيلاتهم، وتقويم خياراتهم، والتأكد من مشاعرهم. وهذا يتطلب شكلًا عقلانيًا من الفحص الذاتي، يرافقه نظام أساسي (أصيل) لاتخاذ القرارات العاطفية، والذي يجب أن يتخذ فيه قرار بالاقتران مع شخصٍ ما، على أساس المعرفة العاطفية الذاتية، والقدرة على إسقاط العواطف على المستقبل» [ص170]، وهنا يظهر مأزق آخر ليضع بصمته الخاصة على ملف التعاسة الحديث، وذلك أن البشر –كما يقرر علماء النفس المعرفي- يحملون تحيّزات إدراكية تمنعهم من تقويم معرفة ما، واستبطانها بشكل ملائم، ويتعذر عليهم التنبؤ بمشاعرهم المستقبلية، فـ«الذات الاجتماعية هي في الواقع كيان عملي، وتتشكّل باستمرار حسب الظروف وتصرفات الآخرين. وعند الانخراط في الاستبطان نحاول اكتشاف الاحتياجات أو الرغبات الثابتة، ولكن هذه الاحتياجات أو الرغبات الثابتة تشكّل استجابة للمواقف» [ص172]، فهذا الوجه الأول للمأزق، ويضاف إلى ذلك أن وفرة الخيارات تستلزم عملية شاملة لجمع المعلومات، وذلك مما يعقّد اتخاذ القرار، والأهم أن هذه الوفرة التي تستلزم الفحص والمقارنة العقلانية تؤدي إلى تقليل التقدير الإيجابي للأشخاص، بمعنى أن فحص ودراسة سمات الشركاء المحتملين يقلل من جاذبيتهم العاطفية.

وهذا التعقيد والتداخل في “سوق الزواج” ينتج التناقض بين الأبعاد العقلانية والعاطفية في عملية الاختيار، والأبحاث تشير إلى أن البعد الوجداني للالتزام بعلاقة زواج جادة هي الأقوى في نهاية المطاف، لأن الالتزام لا يمكن أن يكون عقلانيًا، في ظل هذه المعطيات المتداخلة والمحيّرة. تسمي المؤلفة الحالة الاجتماعية في هذا السياق بـ”التناقض اللطيف” وعجز الإرادة:

«يتخذ التناقض الحديث عدة أشكال: عدم معرفة ما يشعر به المرء تجاه شخص آخر (هل هو حب حقيقي؟ هل حقًا أريد قضاء بقية حياتي معه؟). والشعور بالعواطف المتضاربة (الرغبة في استكشاف علاقات جديدة مع الاستمرار في العلاقة الحالية). وقول شيء دون الشعور بالعواطف التي يجب أن ترافق الكلمات (أحب أن أكون معك، لكن لا أستطيع إجبار نفسي على الالتزام)» [ص179]

إلا هذه الوفرة والإتاحة الواسعة للإمكانات تضيق لدى النساء، فـ«دور المرأة الانجابي يجعلها تنهي عملية البحث باكرًا، في حين أن الرجال ليس لديهم حافز ثقافي أو اقتصادي واضح لإنهاء البحث» [ص158-159]، وهذا ما يفسّر ميل الرجل المعاصر إلى عدم الالتزام، بل لدينا ظاهرة معروف شعبيًا باسم (رهاب الالتزام fear of commitment). إذًا، حرية الاختيار والارتباط باتت معضلة «لأنها تؤدي إلى العجز أو عدم الرغبة في ممارسة الاختيار، وإذا كان هناك تاريخ للحرية، فيمكننا القول بأننا قد انتقلنا من الصراع من أجل الحرية، إلى صعوبة الاختيار، وحتى إلى الحق في عدم الاختيار» [ص198]، ولا يقتصر الأمر على وفرة الخيارات فقط، بل يترافق معها –بطبيعة الحال- طول عملية الاختيار وتعقيدها، وكثرة مجالات التقويم ودقتها، ومخاطر إمكانية الحصول على خيار أفضل دائمًا، وبدمج التحليلات السابقة يظهر لنا أن الاختيار الحديث للشريك أو الزوج المحتمل يتضمن مزيجًا من ثلاثة عناصر:

«أنه يمارس من خلال عدد كبير من الخيارات، الواقعية والمتخيّلة، وأنه نتاج عملية استبطان تؤخذ فيها الاحتياجات والعواطف وتفضيلات نمط الحياة بعين الاعتبار، وأنه ينبع من الإرادة الفردية والعاطفية، ملتزمة ومتجاوبة مع إرادة أخرى خالصة وعاطفية، والتي تحتاج من حيث المبدأ إلى التجديد باستمرار» [ص168]

– الأمان أو الحرية؟

يؤدي النجاح في الحقول الاجتماعية إلى استحقاق المكانة، والحصول على التقدير، وما تغيّر في الحب المعاصر هو تضخّم قيمة الجاذبية الجسدية والإغراء الجنسي، بحيث أصبحت هذه القيمة مركزية في الاعتراف الاجتماعي، للإناث على الأقل، ومن ثمّ فإن الفشل في امتلاك هذه القيمة الشكلية يهدد إحساس الفرد بالقيمة والهوية. وبنظرة أعمق، يرتبط الحب الرومانسي بمشاعر الأمان الوجودي لدى الإنسان المعاصر، والذي يعني الاعتراف بالذات وتقديرها، كما تعبّر إحدى الفتيات عن كيفية تجاوزها لانفصال عاطفي مؤلم، وتقول أن الأصدقاء من حولها ساعدوها في التغلب على الألم، وذلك من خلال إخبارها بأنها “رائعة، وبمشاركتهم لها في أكل الشكولاتة، ومشاهدة الكثير من الأفلام”، تعلّق المؤلفة على ذلك بالقول أن «رد فعل هؤلاء الأصدقاء نموذجي للحدس الواسع الانتشار المتمثل في أن الانفصال الرومانسي يصل إلى حد تهديد شعور الفرد الأساسي بقيمة الأمن الوجودي وأسسه» [ص228].

وتطلبًا لهذا الاعتراف يهتم المعاصرون بإنشاء علاقة رومانسية؛ فما هو أساسي «-بالنسبة للجنسين على السواء- في النقاشات الحديثة حول الغزل هو النظر لقيمة الذات بوصفها معطىً من قبل الآخرين، عبر طقوس الاعتراف الصحيحة» [ص206]، ولأن الشعور الإيجابي تجاه الذات معلّق برأي الآخرين؛ بات «الشعور بالرضا عن الذات هو السبب والهدف من الوقوع في الحب» [ص207].

ومما يلفت نظر الباحث أنه لا وجود للحديث عن الأمن والأمان في الروايات الرومانسية الذائعة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، في حين أن مفهوم “الأمان” أضحى شديد المركزية في مفاهيم الحب المعاصر. ما السبب؟ يرجع ذلك لكون الذات فقدت الحاضنة الاجتماعية والأسرية، والشبكة القيميّة، والامتداد التاريخي داخل النسيج الديني والأخلاقي، و«عندما تصبح الذات ماهوية، وعندما يُعرَّف الحبّ على أنه مخاطب لأغوار ماهية الفرد، وليس لطبقته الاجتماعية ومكانته، يصبح الحب إغداقًا مباشرًا للقيمة على الشخص، أما الرفض فيصبح رفضًا للذات» [ص68]، ويصبح «الخوف من الرفض خوف اجتماعي؛ تسببه حقيقة أن القيمة الاجتماعية تتأسس -فقط وحصريًا- من خلال الاعتراف الممنوح من قبل الآخرين» [ص225]، فـ«موضوع الحب متشابك –بشكل معقد- مع قيمة الذات وجدارتها، والمعاناة الرومانسية أصبحت علامة على الذات المعيبة. والنتيجة هي أن ارتداد موضوع الحبّ يقوّض الذات. إن انعدام الأمن الجسدي للذات، والحاجة إلى الاعتراف بين الأفراد أصبح أكثر حدّة؛ بسبب عدم وجود أطر ثقافية وروحية أخرى» [ص235].

حاولت الثقافة النفسية المعاصرة مداواة تآكل الأمان الوجودي عبر إنشاء علاقة حميمية مع الذات نفسها، لفكّ ارتباطها الوجودي بالآخرين؛ لذا فـ«الهوس الثقافي الحديث بـ”حب الذات” ليس سوى تعبير عن الصعوبة التي تعيشها الذات؛ لإيجاد مراس للأمن الوجودي والاعتراف» [ص221]، وترويج “حب الذات” بوصفه علاجًا وحمايةً للذات من الآثار السلبية لرفض وتجاهل الآخرين؛ هي محاولة فاشلة لحلّ مشكلة أكثر تعقيدًا؛ فـ«مثل هذه النصيحة تنكر الطبيعة الجوهرية والأساسية للقيمة الذاتية. إنها تطالب الجهات الفاعلة بأن تخلق ما لا يمكنها خلقه بمفردها» [ص269]، تمامًا كفشل تحميل الذات المسؤولة الكاملة عن إخفاقاتها العاطفية، وإصرار النصائح النفسية على رفض كل أشكال التبعيّة؛ «في حين أن التبعية –عند علماء الاجتماع هي نتيجة لا مفرّ منها لحقيقة أننا مخلوقات اجتماعية، ومن ثمّ فهي ليس حالية مَرَضيّة» [ص266]، والحاصل أن:

«هاجس الحب المعاصر هو محاولة لحلّ الحاجة الفعليّة للاعتراف من خلال الاستقلالية، والتي لا يمكن منحها إلا من خلال الاعتراف باعتماد الفرد على الآخرين. إن ما فقد في تجربة المعاناة الرومانسية الحديثة هو الأمن الوجودي، الذي يستمد من تنظيم الغزل في بيئة أخلاقية من الاختيار والالتزام والطقوس، ومن تجسيد القيمة الذاتية في النسيج الاجتماعي للمجتمع» [ص269، 276]

– عقلنة الرغبة وضعف الإرادة

تعرضت المعتقدات الرومانسية لعملية عقلنة واسعة بواسطة العلوم الطبية الحديثة، بداية من التحليل النفسي، ومرورًا بالعلوم النفسية، وعلوم الأحياء، ثم علم النفس التطوري، وليس انتهاء بعلوم الأعصاب، وذلك من خلال تفسير وإخضاع الحبّ لمفاهيم علمية مثل اللاوعي، والدافع الجنسي، والهرمونات، وبقاء النوع، وكيمياء الدماغ، ففي الثقافة النفسية تصبح الذات «موضوعًا لعملية مستمرة من فهم الذات والرصد النفسي الدقيق للنفسية، الأمر الذي يؤدي إلى عقلنة العلاقات الرومانسية من خلال التبويب المنهجي للعواطف، ومراقبتها بتقنيات الوعي والتحول الذاتي» [ص289]، كما اُعتبر الذوبان العاطفي مهددًا لاستقلالية الذات، والأخطر من ذلك مساهمة علوم النفس في الترويج لاعتبار المعاناة الرومانسية «أحد الأعراض الغير مقبولة، والغير مبررة، وأنها تنبثق من نفسيات غير ناضجة بما فيه الكفاية. فلم يعد الألم يشير إلى تجربة عاطفية تمتد إلى ما وراء حدود الذات؛ أي لم يعد علامة على الإخلاص، ونكران الذات، بل إن مثل هذا الحب -المبني على التضحية بالنفس والانصهار والحنين إلى المطلق- أصبح ينظر إليه باعتباره عرضًا من أعراض التطور العاطفي غير المكتمل. فالمعيار الأخلاقي والنفسي للتبادل العاطفي الذي أصبح يحكم نماذجنا من الرومانسية -والعلاقات بشكل عام- مؤسس على نموذج النفعية للصحة العقلية، والرفاه» [ص290-291، 295]، كما قوّضت التفسيرات العصبية والمتصلة بعالم المخ والدماغ «رؤية الحب بوصفه تجربة شبه صوفية تفوق الوصف، وباعتباره شعورًا ينكر الذات، وأنه ناشئ عن عمليات لا إرادية، ومكانيكية تقريبًا، نفسية أو كيميائية أو عضوية» [ص288، 298].

– سياسات الجنس

ومما فاقم من عقلنة العواطف وتنظيم الرغبات تسييس المجال الخاص، وذلك على يد حركات حقوقية ومدنية يقف على رأسها الحركة النسوية، بتكريس «قواعد المساواة والتوافق والمعاملة بالمثل –التعاقدية-؛ التي أصبحت تهيمن على المفردات الأخلاقية لسياساتنا» [ص301]، فقد غيرّت الموجه النسوية الثانية -وبعمق- فهم عاطفة الحب وممارسته، وتحاول المؤلفة هنا التحرر النسبي من انتمائها وولائها المعلن للنسوية، لأجل تقديم تحليل نقدي لدور الأيديولوجية النسوية في المعاناة الرومانسية المعاصرة. وبسبب الهوس المرَضي بمفهوم السلطة أصبح الحب الرومانسي ينظر إليه نسويًا على أنه «مجرد ممارسة ثقافية تعيد إنتاج انعدام المساواة بين الجنسين، لا بل كأحد الآليات الأولية التي تجعل النساء يقبلن “ويحببن” خضوعهن للرجال» [ص302]، وتسلّط المؤلفة الضوء على قواعد التحرش الجنسي، وكيفيات تأثير التصورات عن السلطة والمساواة وغيرها في تنظيمها، ففي التصوّر النسوي «يصبح الفرد ورغباته بنْية مجردة للسلطة؛ وهذا بدوره يبرّر التدخل المؤسساتي» [ص305]، وترى المؤلفة أن اللغة المحايدة، وعلاقات السلطة المتناظرة، والإنصاف الإجرائي، يعرقل ويعيق طريق الرغبة الرومانسية والإثارة الجنسية. ولأن الأنوثة –ولزمن طويل- عرّفت من خلال عروض التبعية؛ أصبحت «الفروق في السلطة هي في صميم رغبات النساء والرجال وإثارتهم الجنسية» [ص338]، وأن التصورات النسوية «تستبعد التخيّلات العاطفية والمتعة التي تقوم عليها العلاقات الجندرية التقليدية» [ص338].

– خيبات الأمل

تستدعي المؤلفة أطروحة المؤرخ الألماني راينهارت كوزليك (ت2006م) عن نمط التحول في الإدراك التاريخي الحديث، والتي ترى أن العلاقة بين فضاء التجربة البشرية وأفق التوقع تزايد في الأزمنة الحديثة إلى درجة الانفصال التام، فتاريخيًا كانت التجربة البشرية في الإدراك الزماني العام مقاربة لتوقّع الفرد، أما في زمن الحداثة فتسارعت التغيرات الضخمة -التقنية بالذات- التي غيّرت شكل الحياة وباعدت بين طبيعة معيشة الأجيال، بصورة شبه جذرية، مما أفضى إلى تفاقم توقعات الأفراد وتطلعاتهم في حيواتهم الخاصة، والنتيجة كانت –بطبيعة الحال- تعملق خيبات الأمل وتكاثرها. وهكذا الأمر بالنسبة للعلاقات الرومانسية. يعبّر عن ذلك الفيلسوف الأمريكي مارشال بيرمان (ت2013م):

«إن الرجل الذي وضعت حياته المستقبلية كاملة عند الولادة، والذي جاء إلى العالم لملء مكانة موجودة مسبقًا؛ هناك احتمال قليل أن يشعر بخيبة أمل الرجل الذي يعيش في ظل نظامنا الخاص، حيث لا يتم رسم حدود الطموح الاجتماعي [والسبب في ذلك يكمن في كون] العضوية في مجتمع منظّم بشكل صارم قد تحرم الفرد من الفرص لممارسة مواهبه الخاصة، إلا أنها تمنحه أمانًا عاطفيًا يكاد يكون غير معروف بيننا» [ص378]

تتشكّل خيبات الأمل في العلاقات في سياقات عدة، منها ما يتعلق بالمنغّصات الصغيرة في الحياة الحميمية المعاصرة، والتي تنشأ بسبب التواصل اليومي المفرط بين الشريكين، وترى المؤلفة –محقّة- أنها تجربة حديثة، أعني نمط التواصل الكثيف بين الزوجين أو الشريكين، فـ«إنتاج العلاقة الحميمية يكون بواسطة عدد من الاستراتيجيات اللغوية، والتي يهدف جميعها إلى تقليل المسافة بين شخصين، كالكشف عن الطبقات الأعمق للنفس، وتبادل الأسرار العميقة، وكشف النفس وحجبها» [ص386]، وهكذا «يضفي الشركاء الذين يعيشون معًا طابعًا مؤسسيًا على علاقتهم من خلال القرب وفق عدة طرق: التشارك في نفس المساحة والغرفة والسرير، والتشارك في الأنشطة الترفيهية، والتشارك في أداء “أصالة الذات” من خلال طقوس الأصالة» [ص387]، وهذا «يتناقض مع أنماط الحياة المنزلية بين النبلاء حتى منتصف القرن التاسع عشر أو أواخره، فالرجال والنساء –حينها- لا يشتركون بالضرورة في نفس غرفة النوم؛ كانوا معزولين في أوقات فراغهم، ولم ينقلوا باستمرار عواطفهم ودواخلهم» [ص387]، ومن نافلة القول اعتبار أن ذلك التقارب المفرط من مسببات المعاناة الرومانسية، لأن «الألفة بالنسبة إلى العواطف بمثابة القرب البصري للإدراك. وهذا يعني أن بُعدك عن أي موضوع يسمح لك بتنظيمه في شكل ثقافي يمكنه جذب انتباهك واهتمامك بشكل أفضل» [ص389].

– مستخلص عام

تقول المؤلفة: «معاناة الحب [المعاصر] فقدت قوتها، ولم تعد قادرة على تقديم وضوح وجودي؛ لأنها لا تعبّر عن تعارض بين المجتمع والفرد، ولا تتعارض مع حسبان الفعل الاقتصادي، ولا تعطي تعليمات تجبر الذات على التضحية، أو الاستسلام لآليات ضبط النفس المعتادة؛ بل تشير فقط إلى الذات ومنافعها» [ص347]، وتتركّز تعقيدات وتناقضات العلاقات المعاصرة، ومسببات تعاساتها الذائعة في «صعوبة تعبئة مجمل الذات بالرغبة في الآخر، وتأكيد الفردية المستقلة في أعماق أغوار الذاتية، والتبريد العام للعاطفة» [ص422]، فالذات المنفردة تحاول اكتشاف عواطفها الخاصة، وتبني تفضيلاتها طبقًا لخيالاتها ونوازعها الغامضة والظاهرة، وتكابد لتثبيت الميول النفسية السائلة، وتأكيد الشعور بالانسجام تجاه شريك معين، وهو الشريك المبهر الذي نجح –بصعوبة- في تجاوز المعايير الدقيقة، وسط طوفان الصور والشخصيات المحتملة، وبرغم فيضان الفضاء العام المتجدد والإعلامي المجنسن، ثم تصارع هذه الذات العارية لأجل إنشاء علاقة من موقع حرّ ومستقلّ، تتخطّى مخاوف المستقبل الغامض، لأجل الالتزام بعلاقة طويلة المدى، ليس لها مصدر استدامة سوى رغبة الطرفين، ومصالحهما النفعية؛ مستندة -في كل ذلك- على عواطف جيّاشة من غير ذوبان، وانسجام نفسي تام من غير تبعيّة، ورغبات جنسية متسقة ومشبوبة. من فوهة هذا التوصيف الاختزالي تنبعث معظم التعاسات الرومانسية المعاصرة.

اقرأ ايضاً: الجلطة التي أنارت بصيرتها


  • الكتاب: صدر عن صفحة سبعة للنشر والتوزيع، بترجمة خالد حافظي، الطبعة الأولى، 2020م.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مراجعة جميلة ووافية لكتاب مهم أفكاره دسمة وترجمته ليست ممتازة
    شكرا لك، أكدت على أفكار الكتاب المهمة بالنسبة لي وجمعتها في إطار واضح وترتيب منطقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى