عام

القلق والخوف من المستقبل: مرض العصر بين الماضي والحاضر

في دراسة حديثة نُشرت قبل عدة أشهر في “مجلة البحوث النفسية” المرموقة بعنوان: “اتجاهات القلق بين البالغين في الولايات المتحدة، 2008-2018: زيادة سريعة بين الشباب” وعن طريق استطلاع النتائج السنوية للمسح الوطني، توصلت الدراسة إلى أنّ هناك زيادةً في القلق بصورةٍ ملحوظةٍ بين سكان أمريكا، وكانت كبيرةً بشكل خاص ومقلقة بين من هم في عمر 18 – 25 عامًا من الشباب، حيث ارتفعت بينهم من 8% إلى 15%، وهذه الدراسة الحديثة تعضّد الكثير من الدراسات الأخرى التي تُبرز هذا التطور الخطير في انتشار القلق بين دول العالم المتقدم. وفي مقالةٍ لافتةٍ أخرى بعنوان: “القلق: ظاهرة حديثة” قال الكاتب -تحت عنوان: “ثمن التقدم”-: بأننا نعيش اليوم في أكثر عصور القلق على الإطلاق، وذكر أنّ التقدم والازدهار المادي كان الثمن الرئيس لزيادة القلق. إذ ذكر أنّ التطوّر التكنولوجي، والتصنيع، والتمدن (بناء المدن الكبيرة والهجرة من الريف)، وتوسع الحريات والقيم الديمقراطية، ذكر أنّها كلها وإن ساهمت في التطور الواسع لجودة الحياة المادية، إلّا أنّها أيضاً ساهمت في زيادة القلق.

وفي دراسة أخرى لعالم النفس مايكل دوقاس توصل إلى أنّ عدم تحمل حالة “عدم اليقين uncertainty” هو العملية المركزية التي تنطوي على مستويات عالية من القلق، وأن المرضى الذي يُعانون من اضطراب القلق العام لا يتحملون حالة عدم اليقين بدرجة عالية، حتى أنه شبهها عندهم بـ”حساسية” عدم اليقين. وسوف نتعامل في مقالنا هذا مع تعريف القلق المرادف للحالة المصاحبة لعدم تحمّل “انعدام اليقين”، وليس القلق المعرفي الباعث للإنسان على الفضول وطرح الأسئلة.

***

يُعرَّف القلق بأنّه حالة نفسية وفسيولوجية تتركب من عدة عناصر لخلق شعور غير سار، يرتبط عادة بعدم الارتياح، والخوف أو التردد، ويكون مصحوبًا بالخوف والجزع من أحداث متوقعة مثل: الموت أو الرزق، حيث يشعر الشخص بالخوف والهلع عندما يفكر في موته أو رزقه.

وقد دارت تساؤلاتٌ في خلدي وقلت في نفسي: هل نحن اليوم في حالةٍ من انعدام اليقين من أحداث المستقبل هي أشد مما كان عليه أجدادنا في الماضي؟ وماذا يخاف الإنسان عادةً من المستقبل؟ ولماذا تخبرنا الكتب المقدسة ويخبرنا الحكماء عادة بأن رزق الغد غير موكل بالإنسان وعليه برزق يومه؟

لا يخفى على أحد بأننا نعيش في أكثر عصر يؤمِّ

ن فيه الإنسان مستقبله ويخاف منه في نفس الوقت. ألسنا نسمع كثيرًا بالأمان الوظيفي؟ ورواتب المعاشات؟ حتى تؤمن مستقبلك عند الكبر؟ وتأمين مستقبل الأبناء؟ وانتشار قوات حفظ الأمن والمرور والتسلح العسكري غير المسبوق لتأمين البلدان؟ ومراكز أبحاث التخطيط واستشراف المستقبل؟ ورغم كل هذا فعدم تحمل حالة عدم اليقين والخوف من المستقبل والمجهول والشك والتشاؤم بما تخفيه الأيام والليالي هو المحرك الأساسي لهذا العصر.

وبعد تفكير طويل، خلصت إلى أن الخوف من الرزق هو العامل الأول لقلق الإنسان وخوفه من المجهول، فهو يخاف أكثر ما يخاف من الرزق ومن أن يُعدم ما في يده من مال في المستقبل؛ ولهذا فهو يلهث خلف الدنيا في كل أوقاته. ولهذا في الأثر “نُزلت سورة فرفعت، وحُفظ منها: “لو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى إليهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب”، وفي الأثر المنسوب إلى بعض الإسرائيليات “يا ابن آدم خلقتك للعبادة فلا تلعب، وقسمت لك رزقك فلا تتعب، فإن رضيت بما قسمته لك أرحت قلبك وبدنك، وكنت عندي محمودًا، وإن لم ترض بما قسمته لك فوعزتي وجلالي لأسلِّطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحوش في البرية، ثم لا يكون لك فيها إلا ما قسمته لك، وكنت عندي مذمومًا”، فمن هنا يتبين أن الرزق هو هاجس الإنسان وأكثر ما يسبب له القلق والخوف من المستقبل وأنه قد يجعله مثل الوحش المسعور الذي يريد ابتلاع أي شيء إذا ما انفكّ عن قياده.

***

وفي الماضي – وتحديدًا قبل عصر الأنوار والحداثة وما بشرت به من وعود وردية وما جاءت به من تحولات جديدة في الحياة وعلمنة الوجود والقيم- كان الناس يعتمدون في معيشتهم اعتمادًا رئيسيًا على حالة “عدم اليقين” وعدم الأمان المستقبلي بشكل لا يقارن بما نعيشه اليوم من توفر المعيشة والمخزون الغذائي الهائل والسدود الضخمة التي توفر الماء ومحطات تحلية مياه البحر وغيرها من وسائل الأمان المعيشي في الرزق غير أنهم سابقًا كانوا أقل قلقًا وأكثر أمانًا نفسيًا. فقد كانوا قديمًا يعتمدون على ما تجود به الطبيعة من خيرات عبر المواسم والسنين. فمثلًا كانوا يعتمدون على الأمطار ومواسمها اعتمادًا أساسيًا في شربهم وسُقياهم لمزارعهم، فكانت تأتي مواسم تعدم فيها السماء عن المطر ويلجأون بذلك إلى الله أو إلى آلهتهم المختلفة لتجود عليهم بالماء والمطر. وكانوا يعيشون في مجاعاتٍ عندما تجدب الطبيعة، وكان يموت منهم الآلاف بسبب الجوع، ومن المستحيل أن نسمع بهذا في عصرنا الحالي حتى في الدول الفقيرة فما بالك بالدول المتقدمة والتي هي أكثر قلقًا من غيرها.

وكانوا قديمًا يعتمدون على مزارعهم ومحاصيلها والمواشي في أكلهم وغذائهم، فإذا هاجمهم وباء المحاصيل هلكت الزروع والمواشي وهلكوا معها. وكانت الحروب تتهددهم باستمرار وكذلك قطاع الطرق، وكانوا في عرضةٍ دائمة لهذه المخاطر والويلات. رغم كل هذا، لم تكن حياتهم قلقة مثل هذا العصر الذي يعيش فيه الإنسان وهو في تشاؤم وخوف مستمرين ورغبة دائمة في استشراف المستقبل حتى لا تقع عليه ويلاته، ورغم هذا فقلقه في ازدياد مستمر.

هل غياب الله والدار الآخرة وعلمنة أشكال الحياة المختلفة جعلت الإنسان يرى حياته الدنيوية هي المحرك الأساسي لكل عمله وبالتالي أصبح كل هاجسه وخوفه دنيويًا ورغبةً في الفردوس الأرضي؟ فغاب إذ ذاك الأمان وغابت المكابح لشره الإنسان ولهفه وراء الدنيا؟ هذا هو السؤال المحوري في نظرتي لهذا التغير وزيادة معدلات القلق رغم كل ما يبذله الإنسان ليؤمن مستقبله ويكون في أمان مما تخبيه صروف الأيام. “ولا تقتلوا أولادكم من إملاق”، “ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق”، “إن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله”، “من أصبح معافًى في بدنه آمناً في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، يا ابن جعشم يكفيك منها ما سدّ جوعك ووارى عورتك”، هذه بعض الآيات والأحاديث التي تدفع الإنسان إلى عدم القلق من الرزق والمستقبل ولهي أكبر دليل على أن هذا الهاجس يسكن الإنسان من قديم الزمان ولكن الدين والعقيدة الإيمانية كانت العامل الأساسي في سد هذا القلق والهاجس الذي يسكن الإنسان، حيث أنه عند جميع الشعوب كان الإنسان يلجأ إلى آلهته لتجلب له الرزق وتؤمن له معيشته.

كان الإنسان قديمًا يصحو صباحًا حاملًا أدواته ذاهبًا لحرفته أو إلى دكانه متوكلًا على ربه قائلًا “على بابك يا كريم”، مستشعرًا الرزق والفضل من عند الله. يقول أحد علماء عصرنا بأن الوظيفة في الزمن الحالي تضعف العقيدة لأنها تُضعف استشعار اسم الله الرزاق في قلوب الناس. وفي الدراسة التي أشرنا إليها في بداية المقالة، كان القلق يزداد ازديادًا ملحوظًا بين من حصلوا على شهادة ثانوية وعلى بعض التعليم الجامعي مقارنة بأولئك الذين لم يكملوا المدرسة الثانوية. ولعل هذا فيه إشارة بأن الذين لم يتعلموا هم أكثر توكلًا في عملهم وتكيّفًا على مجريات الزمان من أولئك الأكثر تعليمًا، ولعلها أيضًا العلمنة التي يتلقاها الطالب نتيجة التعليم العام -كما أشارت الكثير من الدراسات في عدة دول حول العالم إلى أن التعليم العام وخصوصًا الجامعي يؤدي إلى علمنة الفكر- وبالتالي يفقد الإنسان المرجع الديني الذي يستند إليه في التوكل والإيمان بالمستقبل ويصبح أكثر قلقًا على المستقبل. ولا ينافي هذا ولا يتناقض مع البحث والتفكير في المستقبل واستشرافه. ولكن يتنافى مع امتلاء هذا الفراغ الناجم عن عدم اليقين بالتوكل على الله في كل حين. فهنا تكمن المقولة الشهيرة للرسول عليه الصلاة والسلام “اعقلها وتوكل” أي أن العمل بالأسباب لا ينافي التوكل بل كلاهما يكمل الآخر. وكان النبي إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. وأكثر عبارة قرأتها يومًا وتؤثر دائمًا فيّ هي “الله هو الأمان في فوضى هذا العصر”، فالفطرة السليمة هي التي تُنشِّئ الإنسان على يقينيات كبرى يلجأ إليها ويتمسك بها؛ فهي توفر له الأمان من تقلبات الحياة، وتعطيه المعنى الأسمى لوجوده.

وإنّي لأعرف شبّانًا وفتياتٍ كانوا على أفضل حالة نفسية، ثم لمّا تبدلت قناعاتهم الدينية في النظرة إلى الوجود وفي خلق الله أصبحت تراودهم الأفكار الانتحارية ويراودهم القلق، والاكتئاب، والخوف من المستقبل والمجهول، بشكل كبير. وصدق القائل حين قال “يارب ماذا وجد من فقدك وماذا فقد من وجدك”.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى