عام

أقصيرٌ طريقُنا أم يطولُ؟

عثمان العمودي

من مُتَع الدنيا ولذائذها المعجَّلة القراءةُ في كتب السُنَّة، وتشنيفُ الأذن بـ: حدثنا، أخبرنا، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم. والأخيرةُ أحلى من عسل السدر بحضرموت. ومما ينهض بهمتك لقراءة هذه الكتب أنك -إن فعلت ذلك- وقفتَ على أمورٍ لا تُدرَك إلا بالقراءة المتتابعة والنظر المستدام، فتجد في ذهنك من ارتباط المعاني واقتران النظائر وانتظام الطريقة ما يفوق الوصف، سوى ما وراء ذلك من إخبات القلب وازدياد العلم والإيمان.

ومن هذه النظائر التي تستحق التوقف والتتبع ما بوَّب له الإمام البخاريُّ في صحيحه بقوله: (بابٌ في الأمل وطوله)، فإنَّك إذا استتبعتَ القراءة في كتب السنة وجدتَ الإمام الترمذي يبوِّب في جامعه: (بابُ ما جاء في قِصَر الأمل)، وهذا التقابل الظاهر يوحي بشيءٍ من الافتراق بين الحالين، ويُلِحُّ بعده سؤال بدهي: ما شأن الأمل؟ أقصيرٌ هو أم طويل؟

وإذا قِستَ هذا السؤال من نفسك وجدتَه من الافتراق بالمحلِّ الذي سبق، فإن كل امرئٍ يلمس من نفسه طولَ الأمل في أمور وقِصَره في أخرى، على تفاوتٍ بين الناس في متعلَّقات الآمال، فمن الناس من يطوِّل الأمل في أسباب حياتِه، ومنهم من يصنع ذلك في أحوال عيشِه، وبعضهم يمُدُّ ذلك إلى أهله ورفاقه، أو يجعل ذلك في ماله وعقاره، وضربٌ آخر يطولُ أمله في تحصيل العلم وتحقيق المسائل، إلى غير ذلك من أنواع الآمال، وكلُّ واحدٍ من هؤلاء يندبُ حظَّه إذا ذُكِرت الآخرة، ويرى أنَّه أسرَف في الأمَل بما أورثه التفريط في العمَل!

وقد أشار إلى هذه الحقيقة المُرَّة الحافظ عبد الحق الإشبيلي في كتابه «العاقبة في ذكر الموت» فقال: (واعلم أنَّ الناس في قصر الأمل وطوله مختلفون، وفي درجاته متفاوتون، فمنهم من يؤمل أن يعيش أقصى ما يعيشه إنسان ممن شاهد أو سمع به في زمانه، ولو كان الاختيار إليه لما مات أبدا؛ حُبَّاً منه في الدنيا وكلَفاً بها وتلذُّذاً بالبقاء فيها، وهيهات! ليس للإنسان ما تمنَّى، ولا أن يدرك كل ما فيه تعنَّى)[1]، ثم استرسَل في هذا بكلامٍ نفيس مُشجٍ، ولولا طول صفحاته لنقلتُه بحرفه.

وهو صادرٌ في غالب هذا عن أبي حامد الغزالي في «الإحياء»؛ فإنه عقد باباً في طول الأمل وقصره، وذكر فيه تفاوتَ الناس في الآمال، ثم قال: (فهذه مراتب الناس، ولكلٍّ درجات عند الله، وليس من أملُه مقصورٌ على شهر، كمن أملُه شهرٌ ويوم، بل بينهما تفاوت في الدرجة عند الله؛ فإن الله لا يظلم مثقال ذرة، ومن يعمل مثقل ذرةٍ خيراً يره)[2].

وليس المقصود بهذا أن يكون المرءُ خالياً من الأمل، فهذا لا يكون، ولا ينفكُّ الإنسان عن أملٍ يحدوه وعملٍ ينفعه؛ كما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (أصدق الأسماء حارثٌ وهمَّام)[3]، والأمل في الجُملة نوعٌ من الهم والإرادة، وهو كذلك إحدى أركان العيش الثلاثة التي أجملها عبدةُ بن الطبيب بقوله:

والمرءُ ساعٍ لأمرٍ ليس يدركُه
والعيشُ شحٌّ وإشفاقٌ وتأميلُ

وكان عمر رضي الله عنه إذا أُنشِد عنده هذا البيت كرَّره؛ متعجِّباً من حُسن تقسيمه وتفصيله، فإن بعض التأميل والتمني يرجع على النفس بالتسلية والسكون والقرار، واللذة أحيانا، كما سئل بعض الحكماء: أيُّ شيءٍ أدوم متاعاً؟ فقال: الأماني. ومن الأبيات الفاخرة في ديوان الحماسة:

منىً إن تكن حقَّاً، تكن أحسنَ المنى
وإلَّا، فقد عشنا بها زمناً رغدا

وكان بعضُ المتصبِّرين إذا انغلقَت في وجهه السُّبل، قال:

إذا ضاقَت همومي في فؤادي
طلبتُ لها المخارجَ بالتمنِّي!

ولما بلغ الحافظُ ابن حجر في «فتح الباري» تبويبَ البخاري السابق ذكره، أورد كلاماً نافعا، منه قوله: (وفي الأمل سرٌّ لطيف، لأنه لولا الأمل ما تهنَّى أحدٌ بعيش، ولا طابَت نفسُه أن يشرع في عملٍ من أعمال الدنيا، وإنما المذموم منه الاسترسالُ فيه وعدمُ الاستعداد لأمر الآخرة، فمن سلِم مِن لك لم يكلَف بإزالته)[4]، ففي هذا النص -غير ما مضى- بيانٌ للفرق بين الأمل المذموم والأمل الذي لا يقوم العيش إلا به، وذلك أن الاسترسالَ في الآمال والمبالغةَ في تقليب الذهن بها وإجالةِ الفكر فيها يحجب عن العمل، ويطبع على القلب طابعاً من الغفلة يُنسيه الأجل.

ولارتباط الأمل بالأجل، بوَّب الإمام الدارمي في سننه: (بابٌ في الأمل والأجل)، ثمَّ أورد فيه حديث عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه: (خطَّ لنا رسول الله خطَّاً مربعا، ثمَّ خطَّ وسطه خطَّا، ثم خطَّ حوله خطوطا، وخطَّ خطَّاً خارجاً من الخط، فقال: (هذا الإنسان -للخط الأوسط-، وهذا الأجل محيطٌ به، وهذه الأعراض -للخطوط-، فإذا أخطأه واحدٌ نهشَه الآخر، وهذا الأمل -للخط الخارج-)[5]. هذا لفظ الدارمي، والحديث في البخاري.

فالرسمُ إذن -على ما يبدو لك-: مربع (هو الأجل)، وخطٌّ بداخل هذا المربع (هو الإنسان)، فالأجل محدقٌ به، وحول الإنسان -في داخل المربع نفسه- خطوط (هي ما يعرض له من الآفات والنوائب والمهالك)، ثمَّ خارج المربع هذا كلِّه: خط (هو الأمل).. فأملُ الإنسان فوق أجله، (والمرءُ ساعٍ لشيءٍ ليس يدركُه)!

والصراعُ مع هذه الآمال الطوال صراعٌ لا ينقطع ما دامت الروح تسري في الجسد، والأمر فيه كما ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يزال قلبُ الكبير شابَّاً في اثنتين: حب الدنيا، وطول الأمل)[6]!

وهذان الأمران مقترنان -كما ترى-؛ فإن الركون إلى الدنيا والإخلاد إلى الأرض يُذكي نار الآمال والأماني، ويزين للعبد أحوال الدنيا من المعايش والشهوات والملذات، والضد بالضد؛ فالتبصُّر بالمآل والتفكُّر في الآخرة والتدبُّر في العواقب يطفئ نارَ الأمل التي تغرُّ المدلجين في ليل الدنيا..

ومن اللطيف هنا أن الحافظ ابن حجر لما أراد التعليقَ على تبويب البخاري كاملاً: (بابٌ في الأمل وطوله، وقول الله تعالى: ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ…)، نبَّه على أن في نسخة أبي ذر الهروي سقطاً أغفل الشاهد من الآية، وصوابه -كما في باقي النسخ- إلى تمام الآية: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾، وذلك أن المراد من سياق الآية الإشارةُ إلى أن متعلَّق الأمل ليس بشيء، لأنَّه متاع الغرور!

والإشكال الأكبر أن كل مؤمن يعلم هذه الحقيقة علمَ اليقين، ولكننا إذا نزلنا ميدان العمل وجدنا النفسَ قاصرةً عن بلوغ الغاية، والقلبَ غافلاً عن ذكر الآخرة، وإن كنَّا نحن أدرى بحقيقة ذلك من أبي الطيب بنجد، ولكننا نتغافل ونعلل أنفسنا قائلين: أقصيرٌ طريقُنا أم يطولُ؟

وأما من كان حاضرَ الذكر للآخرة، كثيرَ التبصُّر والاعتبار، فلن يقل حالُه عن حال معروف الكرخي لما استوى في صف الصلاة وقد أقيمت، فقال لمحمد بن ثوابة: (تقدَّم، فصلِّ بنا). فتورَّع ابن ثوابة من التقدُّم عليهم وقال: (إن صليتُ بكم هذه الصلاة فلن أتقدم لأصلي بكم بعدها)، فقال معروف: (وأنت تُحدِّث نفسَك بصلاةٍ أخرى!؟ نعوذ بالله من طول الأمل؛ فإنَّه يمنع عن خير العمل، من عدَّ غداً من أجله فقد أساء)!

وقد حبَّر الحافظ عبد الحق الإشبيلي -في كتابه السابق- سطوراً تبعث الشجا، ختمها بذكر الحال التي ينبغي أن يكون المؤمن عليها من الأمل فقال:

(ورجلٌ آخر قد جعَل التقوى بضاعتَه، والعبادةَ صناعتَه، ولم يتجاوز بأمله ساعتَه، بل جعل الموت نصب عينيه، ومثالاً قائماً بين يديه، وسيفاً مُصلَتاً عليه، فهو مرتقبٌ له مستعدٌ لنزوله، لا يشغله عن ارتقابه شاغل، ولا يصرفه عن الاستعداد له صارف، قد ملأ قلبه وجَلا، وعُمرَه عمَلا، وعدَّ يوماً واحداً يعيشُ فيه بقاءً ومهَلا، وغنيمةً تملأ نفسَه سروراً وجذَلا، لازدياده فيه من الخير، وادخاره فيه من الأجر، واكتسابه عن الله عز وجل من جميل الذكر، ومثلُ هذا قد رفعَ التوفيقُ عليه لواءه، وألبسَه رداءَه، وأعطاه جماله وبهاءَه.

فانظر -رحمك الله- أيَّ الرجلين تريد أن تكون، وأيَّ العملين تريد أن تعمَل، وبأي الرداءين تريد أن تشتمل، وبأيهما تريد أن تتزين وتتجمل، فلستَ تلبس هناك إلا ما لبسته هنا، ولا تُحشَر هناك إلا فيما كنتَ فيه هنا، إن صلاحٌ فصلاح، وإن فجورٌ ففجور)[7].

اللهم اغفر لنا وتب علينا.


[1] العاقبة في ذكر الموت (71)، وطالع الصفحات بعد هذه مشكورا.

[2] إحياء علوم الدين (4/458).

[3] أخرجه الإمام أحمد (19032)، وأبو داود (4950).

[4] فتح الباري (11/237).

[5] أخرجه الدرامي (2771)، والبخاري (6417)، وغيرهما.

[6] أخرجه البخاري (6420)، ومسلم (1046).

[7] العاقبة في ذكر الموت (72).

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى