د. عبدالله البريدي
يحتل مفهومُ التحليل Analysis أهمية كبرى في مناهج البحث بمختلف أشكالها وأهدافها ومستوياتها، وقد مورس عملياً في مختلف الحقول على مر العصور. في نص سابق[1]، قدمتُ تعريفًا أو توصيفًا لـ التحليل، ورسمتُ خريطة عامة “تقريبية” لمستوياته الرئيسة (التعليلية والتفسيرية والتوصيفية واللاتحليلة أو “التوهم التحليلي”)، حيث عرَّفتُ التحليل بأنه: “ فحص نص عن موضوع ما، بقالب تفكيكي سياقي ترميزي تنقيبي تجريدي تفسيري لتحديد: مكوناته وخصائصه ووظائفه وكيفياته ومعانيه وعلله؛ بغية الخلوص إلى نتائج متوخاة إزاء سؤالٍ أو كلٍ محدد“[2].
وفي هذا النص، أستعرض بعض الأدوات التحليلية، التي تختلف أهميتها من نص إلى آخر ، ومن ظاهرة أو موضوع إلى آخر، وفقًا لطبيعة البحث أو التحليل وأهدافه ومنهجه وحقله المعرفي، وذخائر الباحث الإبستمولوجية، وعدّته والمنهجية.
قدّم الأدبُ في العقود الماضية إسهامات مُقدَّرة إزاء مفهوم التحليل ومناهجه وأدواته، وبعض تلك الإسهامات عميقة وشاملة ومُلهمة، إلا أنه يمكننا توجيه نقدين كبيرين للإسهام الأدبي في هذا الخصوص، ويتمثلان في: “الأدلجة التحليلية” و”الضيق الحقلي”، فالناظر إلى جملة من المناهج والأدوات التحليلية الأدبية، يجد أنها مؤدلجة بهذه الفلسفة أو تلك كالبنيوية والتقويضية، أي أنها ليست محايدة، كما أن الأدب يصبغ كثيراً من مناهجه وأدواته بحقليّة تحليلية ضيقة، أي أنه يكويها بميسمه، فلا تكاد تصلح لحقل آخر. هذان العيبان، يدفعاننا إلى تجاوز هذه الأدلجة والحقلية الغليظتين في الأدب إلى سياقات أحيد وأرحب، وهو ما نعاينه في العلوم الاجتماعية.
ضمن المنهجية البحثية الحديثة في العلوم الاجتماعية، طُّوِّر ما يُسمى بـ البحث النوعي (الكيفي) Qualitative، وهو نهج يجمع في طياته بين: صرامة العلم ورحابة الفن، مما يجعله يؤمن بأهمية التنويع في أدوات التحليل للنص أياً كان أو الظاهرة (البيانات) أيًّا كانت، فقد طَوّر باقةً متنوعة من هذه الأدوات التحليلية المحايدة الرحبة الصالحة للاستخدام في أي حقل معرفي، على أن هذا التنويع يستجلب العديد من الفوائد للباحث أو المحلِّل في سائر الحقول المعرفية، مع تفاوت قيمة الفوائد ووزنها؛ وفقًا لطبيعة هذا الحقل أو ذاك، ومنها[3]:
1- الانعتاق من إسار الأدبيات السابقة حول الظاهرة (الموضوع) المبحوثة أو النص المُحلَّل.
2- تجنب الطرق القياسية أو المألوفة في تحليل الظاهرة أو النص.
3- تحفيز العملية الاستقرائية وتعظيم الانتفاع منها، وتجويد الجانب التحليلي الاستنتاجي منها وتثميره.
4- عدم الاستعجال في ترقية الاستنتاجات المؤقتة إلى “نتائج نهائية”.
5- منح فرص أكبر لظهور المفاهيم والأفكار والفئات والفروض.
6- التنقيب الجيد فيما يقوله أو يفعله النص /المبحوث (في الظاهرة أو الموضوع).
7- تجنب المرور السريع على “الجواهر غير المصقولة”.
8- طرح الأسئلة المتنوعة التي تخترق حجُب التفكير التقليدي/المألوف.
9- المعاونة في تصنيف المفاهيم والأفكار والفئات والفروض والتوصيفات والمعاني والعلل.
10- التعرف على الخصائص والسمات وعوامل التشابه والاختلاف.
15 أداة تحليلية للنص/ للظاهرة
في أدبيات البحث النوعي، نجد جملة من الإسهامات الجيدة لعدد من المنظِّرين حيال أدوات التحليل، ومن ذلك ما اقترحه ستراوس وكوربن وغيرهم، حيث طرحوا العديد من الأدوات التحليلية، ومنها[4]:
1- اطرح أسئلة
تقنية طرح الأسئلة هي أداة رئيسة في التحليل، ويجب اصطحابها في البدايات التحليلية حتى النهايات، وذلك لكونها تعين على:
- تقليب النص/البيانات (للظاهرة أو الموضوع المبحوث) بالفحص المتنوع.
- التحليل/التفكير خارج الصندوق.
- تطوير إجابات متنوعة وإن كانت “مؤقتة”.
- التعرف المعمق على النص/البيانات.
- فهم الظاهرة من منظور المبحوث (المشاعر/الاتجاهات).
- ترميز النص/البيانات (سيرد بيانه) بطريقة ناجعة.
وهنا نبادر بالقول: نوّع في الأسئلة التي تطرحها على نفسك أثناء العمل التحليلي، واحرص على ما ينمِّي المرونة الفكرية والطلاقة، من قبيل : ماذا في هذا النص أو في هذا الجزء منه؟ ماذا لو قلَبْنا طريقةَ تفكيرنا؟ ماذا لو …؟. ثم، لا تنسَ أن الأسئلة في البدايات تكون في العادة مفتوحة وفضفاضة وكبيرة، ثم تأخذ بالبلورة والتحدُّد شيئاً فشيئاً مع تقدم العملية التحليلية.
2- رمِّز نصك
وفق التعريف السابق للتحليل، يتبين لنا أنه يتأسس على التفكيك والتجزئة للنص/ للبيانات بقالب ترميزي، وهذا يعني أننا نحتاج إلى “تقنية الترميز”. يمكن تعريف الترميز بأنه: تشفير البيانات بقالب تفكيكي سياقي بما يمكّن المحلّل من اشتقاق المفاهيم والأفكار والفئات والتوصيفات والمعاني والعلل وتأسيس روابط فيما بينها.
ويمكن تقسيم الترميز إلى:
أ- الترميز المفتوح Open Coding
تشفير البيانات لتصنيفها واختبارها وبلورة المفاهيم ووضعها في فئات محورية Core Categories (مفاهيم محورية أكثر تجرداً)، عبر ثلاثة أساليب تحليلية:
- تحليل البيانات سطرًا سطرًا، وهي الأكثر ثراء ونفعًا تحليليًا (صعبة ومجهدة).
- تحليل الجملة أو الفقرة، مما يجعل الاهتمام موجَّهًا للأفكار الرئيسة والسعي لتسميتها وربطها مع الأفكار الأخرى.
- تحليل الصورة العامة للبيانات عبر طرح سؤال من قبيل: ما الذي يقوله هذا النص أو ما الذي تقوله هذه البيانات؟ ما الذي يحدث هنا في النص/البيانات؟
ب- الترميز المحوري Axial Coding
إعادة تنظيم البيانات بطريقة جديدة عقب القيام بالترميز المفتوح، عبر ربط أكبر وأحكم بين الفئات المحورية من خلال استخدام نموذج تحليلي يتضمن تحديد:
- الأوضاع Conditions.
- السياق Context.
- استراتيجيات الفعل والتفاعل والنتائج Action/Interaction/Consequences.
ج- الترميز الانتقائي Selective Coding
يقوم هذا الترميز على:
- اختيار الفئة المحورية الرئيسة بطريقة منهجية منظمة، لتكون عماد التحليل والبحث.
- تطويرها وتهذيبها.
- السعي لربطها مع الفئات الأخرى والتحقق من العلاقات فيما بينها لبناء إطار متماسك قد يقودنا إلى بلورة مفاهيم وتوصيفات ومعان وعلل منشودة.
ما سبق، لا يعدو أن يكون نماذج مقترحة للترميز، إذ لا يلزم أن نتقيد بها حرفيًا، صحيح أنها مفيدة ومجربة، ولكن يسعنا التعامل معها بمرونة. إذن، المقصود هو التوسل بنظام ترميزي فعَّال، وفقًا للنص المحلل أو بيانات الظاهرة المبحوثة. والترميز يحتاج إلى ممارسة ودربة، مع فائدة عرض الترميز المزمع تطبيقه على عدد من الزملاء النابهين لنقده وتطويره.
مثال تطبيقي: قد يحسُن بنا -نظرًا لغموض الترميز وقلة استخداماته العملية- وضعُ تطبيق عملي للترميز في القالب التحليلي، على أن يكون بشكل مختصر. وليكن تطبيقنا على نص نفيس لابن تيمية، حيث يقول:
“كثير من الناس قد يألف نوعًا من النظر والاستدلال، فإذا أتاه العلمُ على ذلك الوجه قبِله، وإذا أتاه على غير ذلك الوجه لم يقبله، وإن كان الوجه الثاني أصح وأقرب، كمَنْ تعوَّد أن يحجَ من طريق بعيدة مُعطشة مَخُوفة، وهناك طرق أقرب منها آمنة وفيها الماء، لكن لمَّا لم يعتدها، نفرتْ نفسُه عن سلوكها، وكذلك الأدلة التي فيها دقة وغموض وخفاء قد ينتفع بها من تعوَّدتْ نفسُه الفكرة في الأمور الدقيقة، ومن يكون تلقيه للعلم عن الطرق الخفية التي لا يفهمها أكثر الناس أحب إليه من تلقيه له من الطرق الواضحة التي يشركه فيها الجمهور، ومثل هذا موجود في المطاعم والمشارب والملابس والعادات لما في النفوس من حب الرياسة، فهذه الطرق الطويلة الغامضة التي تتضمن تقسيمات أو تلازمات أو إدراج جزيئات تحت كليات، قد ينتفع بها من هذا الوجه في حق طائفة من الناظرين والمناظرين، وإن كان غير هؤلاء من أهل الفطر السليمة والأذهان المستقيمة لا يحتاج إليها، بل إذا ذُكرتْ عنده مجَّها سمعُه ونفر عنها عقلُه، ورأى المطلوب أقرب وأيسر من أن يُحتاج إلى هذا”[5].
يتخذ الترميز عدة خطوات، فمنها:
- في القراءات الأولى للنص (الترميز المفتوح)، نحدد كل الكلمات أو الجمل المفتاحية، أي الأكثر أهمية ومحورية وندخل فيها كل الكلمات والجمل المحتملة، وهذا يعني أنه لا تلزم الدقة المتناهية، بل نتسامح مع اجتهاداتنا الترميزية الأولى، ويكون الترميز وفقًا للسؤال المطروح أو هدف التحليل. لغرض التطبيق، قمنا بتحديد جملة منها عبر تغميق الكلمات والجمل وتخطيطها كما هو مدوَّن أعلاه، مع عزوها للسطر.
- نحدد في قراءات تالية أهم المفاهيم أو الفئات المحورية، فمثلًا يمكننا صياغة الآتي:
- سطر 1-6، 9، 11: منهج استقرائي (كثير من الناس)/ نظر واستدلال / العلم/ قبول العلم أو الحد المائز بين العلم المقبول واللاعلم المردود/ الدقة الاستدلالية/ الاقتصاد الاستدلالي، الجماعة العلمية/الاستدلالية.
- سطر 1-2: الألف الاستدلالي/ العادة البرهانية.
- سطر 2-5: التحيز الاستدلالي.
- سطر 4-5: كارزما استدلالية.
- سطر 5-6: الغرور الاستدلالي / النخبوية الاستدلالية.
- سطر 7: الأستاذية الاستدلالية.
- سطر 9-10: الفطرة الاستدلالية/ الاستدلالية التلقائية.
- في جولات تحليلية تالية (الترميز المحوري)، يمكننا تصنيف هذه المفاهيم والأفكار وجعلها في فئات محورية، فمثلاً يسعنا تصنيفها إلى:
- مكونات استدلالية ابستمولوجية (فلسفة العلم): نهج استقرائي/ نظر واستدلال / العلم/ قبول العلم أو الحد المائز بين العلم المقبول واللاعلم المردود/ الدقة الاستدلالية/ الاقتصاد الاستدلالي/ الجماعة العلمية/الاستدلالية.
- مكونات استدلالية ذهنية (عقلية): الألف الاستدلالي/ العادة البرهانية/ التحيز الاستدلالي.
- مكونات استدلالية نفسية (سيكولوجية): الغرور الاستدلالي / النخبوية الاستدلالية/ الأستاذية الاستدلالية.
- مكونات استدلالية مختلطة (ذهنية نفسية): كارزما استدلالية/ الفطرة الاستدلالية/ الاستدلالية التلقائية.
- قد ترى في جولات تحليلية قادمة، إعادة النظر في هذا التصنيف عبر إدخال هذا الجانب في فئة محورية ما أو إضافة فئة محورية جديدة أو دمجها أو حذفها ونحو ذلك. المهم أنه أضحى لدينا الآن ما نسميه بالفئات المحورية، وهي: مكونات استدلالية ابستمولوجية، مكونات استدلالية ذهنية، مكونات استدلالية نفسية، ومكونات استدلالية مختلطة.
- في جولات تحليلية متقدمة (الترميز الانتقائي)، يمكنك التقاط فئة محورية لتكون هي العمود الذي تقيم به فسطاط تحليلك. فلنفترض مثلًا أنك تحلِّل هذا النص في إطار فلسفة العلم، حينها يسعك اختيار المكون الاستدلالي الابستمولوجي، على أن تجهد لتطويره وتهذيبه عبر عمليات تحليلية وتجريدية وتركيبية إضافية متوالية، ليكون من ثمَّ جاهزًا لأن تجذب إليه ما تراه مناسبًا لبحثك من بقية المكونات، فيتخلق بذلك إطار تحليلي، فيه قدر من التماسك والتكامل والوضوح والعمق. هنا، نقول إننا مارسنا تحليلًا ناجعًا، يَعبُر بنا إلى نتائج قيِّمة، وإسهامات أصيلة أو جيدة.
3- اعقد مقارنات
المقارنات الجيدة هي تلك التي تعينك على:
– رفع الحساسية التنظيرية بما يجعلك قادرًا على تمييز الأكثر أهمية ومحورية في النص/البيانات: مفاهيم وأفكار وفئات ومسارات وعلل ومعان وتوصيفات ونحو ذلك.
– تعزيز المرونة في التفكير والخروج بمنظورات أو مداخل جديدة.
– الظفر بفهم أعمق وأرحب للنص/للبيانات.
– الانتقال من مرحلة الوصف إلى التجريد.
– اختبار الفروض أو النتائج المؤقتة.
– اكتشاف النمط العام Pattern (النمط يعكس النتائج المرتحلة في اتجاه أو مسار معين، بما يجعلها تجسد سمة عامة للموضوع المُحلَّل).
– تسهيل ربط النتائج بعضها ببعضها الآخر.
وهنا يمكن التمييز بين نوعين للمقارنة:
أ- مقارنات ثابتة: وذلك بمقارنة حدث بحدث آخر في النص/البيانات، بغية تعميق الفهم واصطياد السمات وأوجه الشبه والاختلاف وتأسيس قاعدة للتصنيف ونحو ذلك.
ب- مقارنات نظرية: أحياناً لا نتمكن من الخروج بشيء ذي بال من جزء في النص/البيانات، مما يُرجعُنا إلى الدراسات السابقة، لكي ندفع عجلة التحليل أو ننشطها مرة أخرى.
4- نقِّب في الدلالات
نقِّب في دلالة هذه الكلمة المفتاحية أو تلك. قد تتفاجأ حينما تفكر في معنى جديد محتمل لهذه الكلمة أو الجملة أو تلك، فلربما قادك ذلك إلى منظور جديد في التحليل. حدد الكلمات المفتاحية: اللافتة والمشاكسة في النص/البيانات، وأخضعها لتحليل دلالي، لتنظر في المعاني المحتملة، وما قد تحمله من مفاهيم ومعان وأفكار وسمات وعلل وفئات ومسارات وأنماط. تأكد من هذه النتائج واحسب تكرارها وكثافة دلالاتها في السياقات الصغيرة والكبيرة في النص/البيانات.
5- نقِّب في المفاهيم
هذه الأداة تقوم على قَلْب المفاهيم أو الفكرة “رأسًا على عقب”، من أجل استيعاب سماتها وأبعادها المباشرة وغير المباشرة، المعنوية والمادية؛ في محاولات تجهد لأن تظفر بفهم أرحب، أو منظور غير مألوف للنص/للظاهرة، حيث تُمارس تحديًا للفهم السريع الذي يتشكَّل، أو ما يعرف بـ بادئ الرأي، الذي ربما يُورطك فيما وصفناه سابقاً بـ “التوهم التحليلي”، أي الخيبة الضافرة بـ اللامُحلَّل[6].
6- نقِّب في المشاعر
هذه الأداة شبيهة بسابقتيها، بَيْدَ أنها تختص بالمشاعر وأبعادها الجوانية والبرانية، فحينما يستخدم البعض -على سبيل المثال- ممن ابتلي بمرض السرطان، جملة: “لا أريد أحدًا أن يتعاطف معي”، فإن هذا يدعونا إلى التنقيب الذكي في المشاعر القابعة وراء هذه الجملة أو النُزفة المشاعرية، وماذا عساها تحمل لنا من “مغانم تحليلية”. تُرى، ماذا يريد أن يقول لنا؟ وماذا يعني هذا لنا في التحليل؟. هذه الأداة والتي قبليها إن مورست بشكل معمَّق متقدِّم، فإنه يمكن أن تُلحق أو تُدرج فيما يُسمى بـ “تحليل المضمون” Content Analysis (وله أدبياته المتخصصة وتطبيقاته المتنوعة).
7- فعًّل ذخائرك
تُفعِّل هذه الأداةُ خبراتنا وتجاربنا السابقة التي تتقاطع مع الظاهرة المبحوثة أو النص المُحلَّل، إلا أنه يتوجب الحذر من مغبة سحب الظاهرة أو النص إلى قفص آرائنا وأمزجتنا الخاصة. لنجعلها فقط وسيلة للانفتاح على زوايا جديدة للنظر والتحليل والتفكير في النص/البيانات، لا أن تكون باباً خلفياً لتحيزاتنا الذاتية في قالبها المسبق، الأمر الذي يعني حينها أننا كما لو كنا نكتب مقالة تعبّر عن آرائنا الذاتية الصرفة، لا بحثًا رصينًا ولا تحليلًا مُعمَّقًا.
8- تفطَّن لتحيزاتك
تسعى هذه الأداةُ إلى جعلنا نتفطَّنُ إلى “فِخاخ التحيزات” إبان تحليلنا للنص/للبيانات، ومن ذلك:
- تحيزات الباحث: ارسم خريطة تحيزاتك، ولتفرز ما هو مقبول منها، وما هو ردئ وغير مقبول، لكي تطمئن أنك تمارس عملًا تحليلًا رصينًا، لا كتابة ذاتية خالصة.
- تحيزات المبحوث (في الظاهرة): لتكن واعيًا بتحيزاته أيضاً مع التمييز بين المقبول وغير المقبول منها.
- تحيزات اللغة: ماذا تعني -على سبيل المثال- كلمة “دائماً” أو “أبداً” هل تروم المعنى الحرفي والدفع به إلى تخومه القصيَّة، أم أن ثمة دلالة أقرب من ذلك في تحيز لمعانٍ أو مشاعر معينة؟ ماذا يعني -مثلاً- ابن تيمية حينما يعبر بـ “جمهور العقلاء من الأمم الأخرى” كما في نصه الذي جاء فيه: “وهذه هي أصول الدين عندهم، وهذا مما يخالفهم فيه جماهير المسلمين، بل جمهور عقلاء العالمين”[7]، أهو يشير إلى تفكير أو عقل أو تحليل كلي في قالب فطري بطريقة أو شكل ما؟ أم أن ثمة معاني وربما تحيزات أخرى تحتاج إلى تنقيب وكشف وبيان؟
9- فتِّش عن الزمن
هذه الأداة تحثنا على التوسل بالتفكير المائز للمراحل والعمليات والأحداث والمسارات والتموضعات الصائرة والتوليفات والسمات المتشكِّلة في رحاب الزمن. فمثلًا، ماذا تعني عبارة ذلك المصاب بالسرطان: “حينما اكتشفتُ أنني مصاب بالسرطان، لذتُ برهة بالصمت الوقور” “من ثمَّ، رحتُ أبحث عن طريقة للعلاج”، “في البداية، كنتُ أتقبل ..”. ماذا تعني “حينما” و”برهة” و “من ثم” و”في البداية”؟ وماذا عساها تسعفنا في بناء التحليل المتماسك؟
10- فكِّر بالاستعارة
إذا كنتَ إزاء تحليل نص أو بيانات في ظاهرة مجتمعية ما، فإن المبحوثين أحيانًا يستخدمون الاستعارة للتعبير عن بعض المشاعر أو الأشياء أو الأحداث، وهذا ما يدفع باتجاه العناية القصوى بها، فقد تخبئ لنا “كنزًا تحليليًا” أو تدلنا على مغارة للمعاني النفيسة. أما الباحثون فإنهم يلوذون بالاستعارة من أجل تطوير المفاهيم والأفكار والعلل والمعاني والتوصيفات أو توضيحها للآخرين وإقناعهم بها.
11- فكِّر بالسردية
فكِّر في النص/البيانات بوصفه سردية. هنا ستجد نفسك أمام أداة تحليلية موسِّعة لآفاق التفكير والتحليل، حيث ستكون مدفوعًا إلى تحديد:
- العوامل المؤثرة.
- الأحداث الحرجة.
- السياق.
- الحبكة.
- منظورات متعددة.
- – السيناريوهات المحتملة.
- – نهايات مفتوحة أو مغلقة.
12- تمعَّن في الشواهد السالبة
هذه الشواهد هي تلك التي تعاند النمط أو المسار، حيث تشوِّش على النتيجة التي تجهد لأن تتماسك بطريقة تقودنا إلى قبولها وإسدال الستار التحليلي من ثمَّ، حيث تعمد الشواهد السالبة إلى إثارة نقاط اختلاف وشذوذ وربما بعثرة لتحليلاتنا. ولهذا كله، فإنه يتوجب التعامل معها بجدية تامة، فهي مفيدة جدًا، حيث تمكّننا من:
- لفت النظر إلى زوايا جديدة.
- تطوير النتائج المؤقتة.
- اختبار الأنماط أو العلل أو المعاني أو التوصيفات الآخذة بالتشكُّل.
- تقوية مثل هذه النتائج وجعلها أكثر تماسكًا وانتظامًا، على أن من التماسك والانتظام الاعتراف بتعذر الظفر بتماسك وانتظام مُطلقين.
13- اقبض على المسار والنمط
هذه الأداة تسعى إلى أن تجعلك تُحلِّل النص/البيانات من جهة فكرة “التسلسل” للأحداث والمشاعر والأفكار والسمات والمعاني والمؤثرات، لتُشكِّل “مسارًا” محتملًا، قد يقودنا إلى القبض على “النمط” Pattern أو “العلة” أو “المعنى” أو “التوصيف” المتوخى. وربما تساعدنا أيضًا على بلورة الفئة المحورية Main Category (أو المفهوم الرئيس، أيًا كان نوعه وطبيعته) ، والتي تشير إلى الفكرة الرئيسة التي يسعها أن تؤسس روابط بين مختلف الأفكار الفرعية ضمن إطار أكثر شمولية وتماسكاً وتناغمًا وتكاملًا. هنا تتخلق نواة ما يسمى بـ النظرية المُجذَّرة (إن كان البحث يروم بناء مثل هذه النظرية).
14- توسَّل بالرسوم
يصعب أحيانًا بلورة الأفكار والفئات الرئيسة والتقاط المفاهيم والمعاني والعلل وتطوير النتائج المؤقتة وتصنيف كل ذلك وتنظيمه في مسلك يقود إلى بناء متماسك، دون التوسل برسم يَلمُّ شَتات تحليلنا ويُنظِّم مساراته ويُشسِّع آفاقه، ويربط بين عوامله ومفاهيمه، ويمكن حينذاك استخدام ما يُسمى بـ النموذج البصري Visual Model. التحليل عبر “تقنية الرسم” استراتيجية مجربة، وقد وجدنا فعاليتها، ولقد مارستُ هذه التقنية لنحو ثلاثة عقود، واعتاد ذهني عليها، إذ بتُ أجدني متوفرًا على رسمة في ذهني لهذا الموضوع أو ذاك، دون أن أنقشها على ورقة يدوية أو إلكترونية، فالذهن يصبح رسَّامًا بـ “إيماءة تحليلية”. يسعكم تجريب ذلك.
15- لُذ بالجدولة
بجانب الرسوم والنماذج البصرية، نقترح استخدام “تقنية الجدولة”، وذلك بوضع جدول تحليلي ذكي يتطور مرحليًا مع تطور تحليلنا وفهمنا للنص/للبيانات، ليكون خير معين على تصنيف أو تنظيم أو تجريد أو تركيب في قالب تحليلي ملائم. الجدولة التحليلية هي الأخرى ناجعة وملهمة. لقد ذهلتُ قبل عدة أشهر، حينما طبقتها في بحث تحليلي لنص قرآني، حيث خرجت بنتائج مثيرة لم أكن أتوقع الخلوص إليها. لنجاح هذه التقنية، يكون المحلل بحاجة إلى أن يطبق مبدأ “عش نصك”، إذ بدون معايشة صادقة مكثفة، لن تكون قادرًا على تطوير الجدولة مرحليًا، مما يضعف من القِطاف التحليلي.
هذه باقة من الأدوات التحليلية، ولك أن تطبق ما تراه مناسبًا وفعَّالًا. ولعلنا، نختم هذا النص المختصر بسبع شذرات:
- النص سحابةُ غليظةُ، فاستمطروها بتحليلات مُشكَّلة.
- لا تُظفر ذخائرُ النص، إلا بمفتاح تتعدد أسنانه التحليلية.
- النص إجابة خاملة متوارية، فنشِّطها واستجلبها بسؤال شَكِس وترميز فَطِن.
- النص طبقاتٌ، لا يسعك فهمُه، إلا بنزعها في جولات تحليلية مترويِّة.
- النص شَعِثٌ، فَلُمَّ شَتاتَه بتفكير تحليلي تصوري.
- النص سرديةٌ، فاقبض على فواعلها وحبكتها ومآلاتها بتحليلات راصدة.
- التحليل سباحة، فالنص يغرقك، ما لم تتمرَّس على التحليل.
[1] التحليل: عصرُ النص ليقطِّر عطاياه https://atharah.net/analysis-and-squeezing-the-content-to-give-you
[2] السابق.
[3] انظر: جوليت كوربن، أنسلم ستراوس (1438هـ)، أساسيات البحث النوعي – التقنيات والإجراءات لبناء نظرية مُجذَّرة، ترجمة: عبدالرحمن المحارفي، الأحساء: جامعة الملك فيصل.
[4] انظر السابق، وانظر أيضاً: زيتون، عبدالحميد (2006)، تصميم البحوث الكيفية، القاهرة: عالم الكتب؛ Glaser, B. (1992) Basics of Grounded Theory, CA: Sociology Press; Charmaz, K (2006), Constructing Grounded Theory, London: Sage.
[5] ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، تحقيق: محمد رشاد سالم، مج 3، الرياض: دار الفضيلة، ص 588.
[6] التحليل: عصرُ النص ليقطِّر عطاياه، المرجع السابق.
[7] درء تعارض العقل والنقل، السابق، ص 543.