عام

هل التقى ابن تيمية وابن بطوطة؟

أضواء على مقال د. عبد الهادي التازي

  • عبدالله بن عبدالرحمن البراك

حمل المقال PDF

مدخل

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى مَن تبعه بإحسان إلى يوم الدين… أما بعد:

فإن شيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام ابن تيمية رائدَ دعوة تجديدية قلَّ نظيرها، فقد هيَّأت له العناية الإلهية من الترقي في معارج العلم والعمل ما بوَّأه منها منزلة سامية، وبلَّغه فيها درجة عالية، شهدت بها القلوب، وأذعنت لها النفوس، ثم فتح الله له بها أبوابًا مستغلقة من التجديد في الاعتقاد والسلوك والفقه، فصدر منها بخيرٍ كثيرٍ على الأمة من بعده، فرحمه الله ورضي عنه وأجزل له المثوبة والأجر.

ومن لطيف تقدير الله أن يكون للأئمة والمجددين -ومنهم ابن تيمية- خصومٌ ومخالفون، يباينون مشاربهم ويعارضون مسالكهم، ثمَّ أولئك الخصوم ليسوا على درجة سواء، فمنهم من يكون له حظٌّ من العدل والإنصاف، ومنهم من تغمسه غلواء الخصومة في حمأة الظلم والإجحاف، وقد كان لشيخ الإسلام حظٌّ وافرٌ من هذا الضرب، فقد لاقى منهم أنواعًا من الافتراءات وألوانًا من التُّهم، في حياته وبعد مماته، فاتهموه بتُهَمٍ شَتَّى، من أقبحها وأكلحها: اتهامه بالتمثيل لصفات الخالق بصفات المخلوق، تارةً بإلزامات فاسدة، وتارةً بحكايا باطلة، يختلقها أولئك؛ ثم يتلقَّفها السمَّاعون لهم.

ومن أشهر الحكايا الباطلة المنسوبة إلى الشيخ زورًا وبهتانًا هي حكاية تشبيهه للنزول الإلهي بنزوله عن المنبر -تعالى الله عن ذلك-. ولمّا كان بطلان هذه الفرية ظاهر ظهورًا بيِّنًا لا يخفى على منصف؛ لم يكن لينقلها إلا الفرد بعد الفرد نقلًا متهافتًا، كالآقشهري (ت: 739هـ)[1]، وأبي عبدالله المقري (ت: 759هـ)[2]، وابن عرفة (ت: 803هـ)[3]، وتقي الدين الحصني (ت: 829هـ)[4]، إلا أن هؤلاء جميعًا نقلوها بلا خطام ولا زمام؛ لأن أحدًا منهم لم يحكها حكاية الشاهد المعاين، وأكثرهم لم يدرك الشيخ أصلًا.

وانفرد عنهم الرحالة المغربي محمد بن عبدالله الطنجي، المعروف بابن بطوطة (ت: 779هـ)، وحكاها حكاية المعاين لا الناقل، فقال في رحلته المشهورة:

(….وكان بدمشق من كبار الفقهاء الحنابلة تقي الدين ابن تيمية، كبير الشأن، يتكلم في الفنون، إلا أن في عقله شيئًا! وكان أهل دمشق يعظِّمونه أشد التعظيم، ويعظهم على المنبر، وتكلم مرة بأمرٍ أنكره الفقهاء، ورفعوه إلى الملك الناصر، فأمر بإشخاصه إلى القاهرة، وجمع القضاة والفقهاء بمجلس الملك الناصر، وتكلم شرف الدين الزواوي المالكي، وقال: إن هذا الرجل قال كذا، وعدَّد ما أنكر على ابن تيمية، وأحضر العقود بذلك ووضعها بين يدي قاضي القضاة، وقال قاضي القضاة لابن تيمية: ما تقول؟ قال: لا إله إلا الله، فأعاد عليه، فأجاب بمثل قوله، فأمر الملك الناصر بسجنه، فسجن أعوامًا، وصنَّف في السجن كتابًا في تفسير القرآن سمَّاه بـ«البحر المحيط» في نحو أربعين مجلدًا! ثم إن أمَّه تعرضت للملك الناصر وشَكَتْ إليه، فأمر بإطلاقه إلى أن وقع منه مثل ذلك ثانية، وكنت إذ ذاك بدمشق، فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكِّرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل درجة من درج المنبر، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء، وأنكر ما تكلم به، فقامت العامة إلى هذا الفقيه، وضربوه بالأيدي والنعال ضربًا كثيرًا حتى سقطت عمامته وظهرت على رأسه شاشية حرير، فأنكروا عليه لباسها واحتملوه إلى دار عز الدين بن مسلَّم قاضي الحنابلة، فأمر بسجنه وعزَّره بعد ذلك، فأنكر فقهاء المالكية والشافعية ما كان من تعزيره، ورفعوا الأمر إلى ملك الأمراء سيف الدين تنكيز، وكان من خيار الأمراء وصلحائهم، فكتب إلى الملك الناصر بذلك، وكتب عقدًا شرعيًّا على ابن تيمية بأمور منكرة، منها: أن المطلِّق بالثلاث في كلمة واحدة لا تلزمه إلا طلقة واحدة، ومنها: أن المسافر الذي ينوي بسفره زيارة القبر الشريف زاده الله طيبًا لا يقصر الصلاة، وسوى ذلك مما يشبهه، وبعث العقد إلى الملك الناصر، فأمر بسجن ابن تيمية بالقلعة، فسجن بها حتى مات في السجن)[5].

وقد تصدَّى للردِّ على رواية ابن بطوطة وتزييفها جمعٌ من العلماء والمؤرخين والباحثين[6]؛ ما بين مطوِّلٍ ومختصرٍ، منهم: أحمد ابن عيسى (ت: 1327هـ)، ومحمد رشيد رضا (ت: 1354هـ)، ومحمد بن سليمان الفقيه (ت: 1355هـ)، ومحمد محسن البرازي (ت: 1368هـ)، ومحمد راغب الطباخ (ت: 1370هـ)، وعبدالرحمن الوكيل (ت: 1390هـ)، ومحمد بهجة البيطار (ت: 1396هـ)، وعبدالله كنون (ت: 1409هـ)، ومحمد عطاء الله الفوجياني (ت: 1409هـ)، وعبدالصمد شرف الدين (ت: 1417هـ)، والألباني (ت: 1420هـ)، وأبي الحسن الندوي (ت: 1420هـ)، وحمد الجاسر (ت: 1421هـ)، وعلي بن المنتصر الكتاني (ت: 1422هـ)، وأحمد بن حجر آل بوطامي (ت: 1423هـ)[7].

ومجمل الرد على رواية ابن بطوطة فيما يلي:

أولاً: أنها رواية منكرة تتنافى مع ما هو مقطوع به من سلامة عقيدة شيخ الإسلام مما تضمنته الرواية، فضلًا عن تقريرات الشيخ الكثيرة في نفي التمثيل للصفات الإلهية عمومًا، وفي حديث النزول خصوصًا، ومن ذلك قول الشيخ: (والذي يجب القطع به: أن الله ليس كمثله شيء في جميع ما يصف به نفسه، فمن وصفه بصفات المخلوقين في شيء من الأشياء فهو مخطئ قطعًا؛ كمن قال إنه ينزل فيتحرك وينتقل كما ينزل الإنسان من السطح إلى أسفل الدار)[8]، وقوله أيضًا: (فمن قال: إن علم الله كعلمي… أو استواءه على العرش كاستوائي، أو نزوله كنزولي، أو إتيانه كإتياني، ونحو ذلك؛ فهذا قد شبَّه الله ومثَّله بخلقه، تعالى الله عما يقولون، وهو ضالٌّ خبيثٌ مبطلٌ، بل كافر)[9].

ثانيًا: أنها تضمنت عددًا من الأخطاء التاريخية المتعلقة بهذه الحادثة المزعومة، كضبط اسم قاضي الحنابلة في دمشق[10]، وخطبة ابن تيمية على منبر الجامع[11].

ثالثًا: أنها تضمنت عددًا من الأخطاء التاريخية المتعلقة بسيرة ابن تيمية عمومًا، كسياق ماجريات محاكمة الشيخ في مصر[12]، وضبط اسم القاضي الذي انتصب خصمًا له[13]، وتصنيف الشيخ في السجن تفسيرًا في أربعين مجلَّدًا اسمه «البحر المحيط»[14]، وشفاعة والدة شيخ الإسلام له عند السلطان الناصر للإفراج عنه[15].

رابعاً: وهو من أشهر أوجه الرد، بيان اضطرابها من الناحية التاريخية؛ تأسِّيًا بقول الإمام سفيان الثوري -رحمه الله- (لما استعمل الرواة الكذب؛ استعملنا لهم التاريخ)[16]، ووجه ذلك الاضطراب: ادعاء ابن بطوطة أنه رأى ابن تيمية بدمشق وسمع خطبته ورآه ينزل درجة من درج المنبر، مع أن الشيخ كان مسجونًا قبل مجيء ابن بطوطة بأكثر من شهر! لأن المؤرخين اتفقوا على أن الشيخ حُبِسَ بقلعة دمشق في السادس من شعبان سنة (726هـ)[17]، ولبث فيها إلى أن توفاه الله ليلة الإثنين، لعشرين من ذي القعدة سنة (728هـ)، أما ابن بطوطة فقد صرَّح في رحلته بأنه وصل دمشق في يوم الخميس، التاسع من رمضان سنة (726هـ)[18]، فكيف يراه ابن بطوطة ويسمعه يعظ الناس على منبر الجامع؟!

ومما يقدح أيضًا في رواية ابن بطوطة لهذه الحادثة وملابسات نقلها أمور:

الأول: أن ابن بطوطة معروفٌ بالإغراب في رحلته، وقد تحفَّظ غير واحد من المؤرخين على بعض ما فيها[19]، فلا يسلَّم بكلِّ ما حُكِيَ في الرحلة على علَّاته، وإنما يصار إلى فحصها فحصًا منهجيًّا وفق الموازين العلمية، وتكون خاضعة للقبول والرد.

الثاني: أن ابن بطوطة أملى رحلته في سنة (756هـ)[20]، مما يعني أن الفارق الزمني بين الحادثة المزعومة وبين روايته لها نحو من ثلاثين عامًا، وهذا زمن طويل يحتمل فيه الخطأ والوهم، كأن تكون تلك الرواية قد تسربت إليه من افتراءات بعض مناوئي الشيخ، فاختلط عليه سياق الكلام ونسبها لنفسه.

الثالث: أن كاتب الرحلة ابن جُزَي (ت: 757هـ) قال في مطلعها: (ونقلتُ معاني كلام الشيخ أبي عبد الله بألفاظٍ موفية للمقاصد التي قصدها، موضحة للمناحي التي اعتمدها، وربما أوردتُ لفظه على وضعه؛ فلم أُخِلَّ بأصله ولا فرعه)[21]، وهذا يعني أنه من صاغ ألفاظ الرحلة بحسب فهمه لمعاني كلام ابن بطوطة ومقاصده، فيحتمل أن ابن جُزَي توهَّم حضور ابن بطوطة للحادثة المزعومة، بينما ابن بطوطة كان يحكي ما سمعه من مناوئي الشيخ[22].

 

التازي ورواية ابن بطوطة

وكان من منتقدي رواية ابن بطوطة أيضًا المحقق المغربي الكبير، الدكتور عبدالهادي التازي -رحمه الله- (ت: 1436هـ) وذلك في تحقيقه للرحلة التي طبعت عام 1417هـ، حيث قال في مقدمة التحقيق: (وتبقى هناك -مع هذا- بعض المؤاخذات التي تستوقفنا حقًّا:

الأولى: قضية حضور ابن بطوطة لمجلس تقي الدين ابن تيمية وهو بدمشق، بعد أن كان وصلها يوم الخميس 9 رمضان 726- 9 غشت 1326 فقد أخبر أولًا عن سجن ابن تيمية وإطلاق سراحه، ثم أخبر أنه وقع منه مثل ما استوجب سجنه أولًا فسجن مرة ثانية، وقال: إنه حضر يوم الجمعة وشاهد ابن تيمية يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم، وإن من جملة كلامه: أن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل درجة من درج المنبر، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء إلى آخر الحكاية، مع العلم أن ابن تيمية أودع في السجن منذ سادس شعبان، أي قبل وصول الرحالة إلى دمشق!! فكيف يصح قول ابن بطوطة هذا مع تلك الفقرة التي نسبها لشيخ الإسلام في تفسيره لحديث النزول بما هو من قول المجسمة المخالف لمذهب السلف الذي يُعَدُّ ابن تيمية قطبًا من أقطابهم؟

ونعتقد أن أحسن ما يمكن الجواب به عن هذا الانتقاد ما عقب به زميلنا الراحل الأستاذ عبدالله كنون رحمه الله من أن الخبر وقع فيه تزيُّد من خصوم ابن تيمية فرواه رحالتنا على علَّاته)[23].

وبعد ذلك بسنوات، وعند حضوره لأعمال مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 1423هـ-2002م؛ وقف التازي على نسخة خطية فريدة في مكتبة الأزهر من كتاب «المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم» لأبي العباس القرطبي (ت: 656هـ)، وكاتب النسخة هو ابن بطوطة الطنجي صاحب الرحلة المذكورة آنفًا، كَتَبَها في المدرسة العزيزية بدمشق، وتحتوي النسخة على وثيقتين اثنتين كُتبتا بيده، أولاهما بآخر المجلد الثاني وثانيتهما بآخر المجلد الثالث والأخير، وهما معًا تثبتان أنه كان مقيمًا بدمشق على الأقل في شهر ربيع الثاني وجمادى الأولى وجمادى الآخرة من عام (727هـ)، حيث فرغ ابن بطوطة من نسخ المجلد الثاني من الكتاب يوم الجمعة ثاني جمادى الأولى، وفرغ من نسخ المجلد الثالث يوم الاثنين الثامن عشر من جمادى الأخرى، أما وثيقة المجلد الأول فقد ضاعت مع ضياعه[24].

فكتب التازي بعد ذلك مقالاً بعنوان: «لقاء الفقيه والرحالة.. هل التقى ابن تيمية وابن بطوطة؟»[25] في مجلة العربي الكويتية، العدد 553 (ديسمبر 2004)، واستشهد في مقاله بالوثائق السابقة التي تدلُّ على وجود ابن بطوطة في دمشق مرة أخرى في سنة (727هـ)، فأثبت بذلك أن ابن بطوطة دخل دمشق مرَّتين لا مرَّة واحدة، وافترض أن ابن تيمية في المرَّة الثانية كان يتمتع بحريته، وطالب باعتبار رواية ابن بطوطة مصدرًا للحادثة التي ذكرها.

وقد سبق ذِكْرُ تتابع العلماء والمؤرخين والباحثين على نقض وتفنيد رواية ابن بطوطة للحادثة المزعومة، فلم يعد لها كبير شأن، إلا أن مقال الدكتور عبدالهادي التازي جاء ليعيد لها بريق حياة، فأورث تشويشًا على قوم؛ وطار به فرحًا قوم آخرون. ومع نشر المقال قديمًا إلا أن مجلة العربي أعادت نشره في الآونة الأخيرة، وتداولته عدد من الصحف والمواقع الإلكترونية، فكان لابد من تسليط الأضواء على مقالته؛ للكشف عن مكامن الغلط فيها، والله الهادي إلى سواء السبيل.

قال الدكتور عبدالهادي التازي: (أثارت المعلومة التي سجلها «ابن بطوطة» في رحلته عن تقي الدين أبو العباس، المشهور بـ«ابن تيمية»، ردود فعل كثيرة من لدن المعلقين على الرحلة بكل لسان، خاصة منهم الذين كانوا يتتبعون يوميات الرحالة يومًا عن يوم؛ مقارنة مع ما كُتِبَ أو عُرِفَ خارج نطاق الرحلة، بحثًا عما ينفي أو يؤكد مصداقية المعلومات الواردة في الرحلة.

كان مأخذ معظم المعلِّقين على الأساس الذي بنيت عليه (المعلومة) أن ابن بطوطة يحكي عن مشهد رآه بعين رأسه بدمشق، على منبر في يوم من أيام رمضان سنة 726هـ عندما كان ابن تيمية يحدِّث الناس من أعلى المنبر عن موضوع نزول الله إلى سماء الدنيا.

أقول: كان المأخذ الأساس أن ابن تيمية كان أثناء ذلك التاريخ -رمضان 726هـ- في السجن، ولم يكن ممكنًا أن يراه ابن بطوطة آنذاك، أي: في سنة 726 التي جعلها كاتب الرحلة ابن جُزَي زمنًا لذلك اللقاء.

وهكذا فقد ثارت ثائرة كل الناس الذين أخذوا يسلكون كل مسلك لتبرير ما ورد في (المعلومة) التي كانت على كلِّ حال معلومة مهزوزة.

تعقيبي اليوم يرتكز أولاً وأخيرًا على صنيع الكاتب ابن جُزَي وهو يتحدث عن نشاط ابن بطوطة بدمشق سنة 726هـ، مهملًا أو متناسيًا زيارة الرحالة لدمشق أيضًا عام 727هـ، إن ابن بطوطة في (معلومته) عن تقي الدين ابن تيمية كان يتحدث عن زيارته لدمشق عام 727هـ وليس عن زيارته الأولى 726هـ، وهكذا نرى أن ابن جزي أهمل الحديث عن الزيارة الثانية للرحالة المغربي، وأبدلها خطأً بزيارة خيالية لابن بطوطة لجنوب فارس: أصفهان وشيراز!! وكان الذي نبَّهني إلى ذلك الخطأ الفادح الذي وقع من الكاتب ابن جزي هو وجود تأليف يتعلق بالحديث الشريف، مكتوب بخط ابن بطوطة نفسه عام 727هـ بدمشق، بالمدرسة العزيزية، نسخه لصديقه الشيخ علي السخاوي المالكي الذي كان تعرَّف عليه ضمن علماء دمشق… ذلك التأليف يحمل اسم (المفهم لما أشكل من تلخيص حديث مسلم) لأبي العباس أحمد بن عمر الأنصاري القرطبي… فمع وجود ابن بطوطة بدمشق عام 727هـ؛ هل هناك ما يمنع من حضوره بجامع دمشق مجلس تقي الدين ونقله لمعلومة لم نقرأها في كتاب من الكتب التي تناولت حياة ابن تيمية؟… إن الذي أريد أن أقوله بوضوح بعد وجود ما يثبت حضور ابن بطوطة بدمشق عام 727هـ-1327م؛ هو أن الرحالة المغربي يمسي معتبرًا مصدرًا معاصرًا من مصادر الحديث عن ابن تيمية، وأنه لا يجوز لنا أن نهمل معلومات الرحلة، بل علينا أن نقرأها قراءة جديدة انطلاقًا مما قدمناه، وانتهاء إلى أن الهدف يبقى دائمًا هو البحث عن الحقيقة والحقيقة وحدها).

فالتازي في هذا المقال يستحضر ردة فعل المعلقين على رواية ابن بطوطة لحادثة ابن تيمية، ويستعرض مأخذهم الأساس على تلك الرواية؛ والمتمثل في اضطرابها التاريخي الذي يدل على امتناع اللقاء بينهما، ثم يستشهد بالنسخة التي كتبها ابن بطوطة من كتاب (المفهم) والتي تدلُّ على وجود ابن بطوطة في دمشق مرة أخرى في سنة (727هـ)، ويثبت بذلك أن ابن بطوطة دخل دمشق مرتين لا مرة واحدة، المرة الأولى في سنة (726هـ) والثانية في سنة (727هـ)، ويفترض أن ابن تيمية في المرة الثانية كان يتمتع بحريته، ثم يصل بعد ذلك إلى غاية المقال ونتيجة مقدماته وهو المطالبة باعتبار رواية ابن بطوطة مصدرًا للحادثة المزعومة.

والجواب عن ذلك من وجوه:

الوجه الأول: أن نكارة متن رواية ابن بطوطة يقتضي بطلانها حتى لو سُلِّم بخروج الشيخ من الحبس:

بيان ذلك: أنه لا تلازم بين الأمرين، بين افتراض الإفراج عن الشيخ، وبين التسليم برواية ابن بطوطة، فإثبات وجود ابن بطوطة في دمشق مع توهم الإفراج عن الشيخ لا يستلزم وقوع الحادثة المذكورة حتى لو رواها ابن بطوطة رواية المعاين، لأنها رواية منكرة مضطربة، تتنافى مع ما هو مقطوع به من سلامة عقيدة شيخ الإسلام مما تضمنته الرواية، فضلًا عن تقريرات الشيخ الكثيرة في نفي التمثيل للصفات الإلهية عمومًا، وفي حديث النزول خصوصًا، كما أنها تضمنت عددًا من الأخطاء التاريخية المتعلقة بهذه الحادثة المزعومة وبسيرة ابن تيمية عمومًا، وقد سبق بيان ذلك على وجه التفصيل.

فتقرر بهذا أن إثبات وجود ابن بطوطة في دمشق مرة أخرى سنة (727هـ) لا يلزم منه وقوع الحادثة المزعومة.

الوجه الثاني: عدم ذكر الإفراج عن الشيخ من تلاميذه مع وجود المقتضي لذلك:

بيان ذلك: أن خروج الشيخ من حبس القلعة في سجنته الأخيرة لم يُشِرْ له أحدٌ من تلاميذ الشيخ وأصحابه، وهو أمرٌ تنهض له همم ودواعي المترجمين للشيخ منهم، كالبرزالي والذهبي وابن عبدالهادي وابن كثير وغيرهم، لأنهم نقلوا ما هو دون ذلك بكثير، لاسيما أن الشيخ محبوسٌ بين أظهرهم في دمشق، فدلَّ ذلك على بطلان احتمال خروجه في حبسه الأخير.

الوجه الثالث: عناية المترجمين للشيخ بضبط دقائق سيرته وخصوصًا ما يتعلق بمِحَنِهِ وسجناته:

بيان ذلك: أن من كَتَبَ في سيرة الشيخ وترجمته كانت لهم عنايةٌ بالغةٌ بضبط تفاصيلها وذِكْرِ دقائقها، ومن ذلك فيما يشبه هذا المقام: ما ذكروه من حبس الشيخ بمصر لمدة أيام قليلة ابتداء من تاريخ 3/10/707هـ بسبب شكوى المتصوفة منه بالقاهرة؛ لمنعه الاستغاثة والتوسل بالمخلوقين، وكلامه في ابن عربي، فعُقِدَ له مجلس، فاختلف الحضور بين براءته وإدانته، وكان في طرف الإدانة قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة، فعندئذ خُيَّر الشيخ بين أمور ثلاثة: العودة إلى دمشق، أو البقاء بالإسكندرية بشروط، أو الحبس، فاختار الحبس، ثم ألحَّ عليه جماعة من رفاقه ليسير معهم إلى دمشق ويقبل الشروط فوافقهم، فركب خيل البريد ليلة 18/10/707هـ متوجهًا إلى دمشق، فلما وصل مدينة بلبيس أرسل القاضي ابن مخلوف في طلبه بريدًا آخر، فردُّوا الشيخ منها إلى القاهرة، ثم عُرِضَ الشيخ على قضاة المالكية، فاختلفوا، فلما رأى الشيخ ذلك قال: «أنا أمضي إلى الحبس وأتبع ما تقتضيه المصلحة»، فحُبِسَ مرة أخرى في قاعة الترسيم إلى سلخ صفر من سنة  709هـ[26].

فاتضح بهذا السياق أن المترجمين للشيخ كان لهم تمييزٌ بين سجنات الشيخ بمصر ولو كان الفاصل بينها مدة يسيرة، فأن يُغفلوا الإفراج عنه وهو محبوس بدمشق فهذا بعيد جداً.

الوجه الرابع: وجود بعض الأخبار التي تؤكد بقاء الشيخ في السجن عند زيارة ابن بطوطة الثانية لدمشق:

بيان ذلك: أنه عند تقصِّي سيرة الشيخ في الفترة التي مكث فيها ابن بطوطة في دمشق لنسخ «المفهم»، وهي أشهر ربيع الآخر وجمادى الأولى وجمادى الآخرة من سنة (727هـ)، فإننا نجد بعض الإشارات التي تؤكد بقاء الشيخ في السجن شطراً من الفترة التي قضى فيها ابن بطوطة في دمشق، مما يؤيد الأصل المذكور في الأوجه السابقة، ومن تلك الأخبار التي تدلُّ على ذلك:

الأول: أن شرف الدين عبدالله أخي شيخ الإسلام توفي يوم الأربعاء الرابع عشر[27] من جمادى الأولى سنة (727هـ)، وصُلِّي عليه الظهر بالجامع، ثم حُمِل من الجامع إلى باب قلعة دمشق، وصلَّى عليه عز الدين عبدالعزيز ابن عمه -وهو حموه- بباب القلعة، ورفع المصلون أصواتهم بالتكبير، فصلَّى عليه أخواه؛ الشيخ تقي الدين أحمد وزين الدين عبدالرحمن، وكان الصوت بالتكبير يبلغهم داخل القلعة، ذكر ذلك ابن الجزري وابن عبدالهادي[28].

فهذا الخبر دالٌّ على مكث الشيخ في السجن في منتصف شهر جمادى الأولى، بدلالة صلاته على أخيه من داخل القلعة.

الثاني: ما ورد في بعض المجاميع الخطية نقلاً عن أحد تصانيف الشيخ في السجن، حيث جاء فيه: (قال شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله ورضي عنه- في أثناء كلامه في «الرد على الاتحادية» –وهو بقلعة دمشق بعد موت أخيه الشيخ شرف الدين بقريب من شهر-: فظهر ضلال شيخهم التلمساني؛ حيث قال:

يا صاحبي أنتَ تنهاني وتأمرني
والوَجْدُ أصدقُ نهَّاءٍ وأمَّارِ

فإن أُطِعْكَ وأعصِ الوَجْدَ عُدْتُ عَمٍ
عن العِيانِ إلى أوهامِ أخبارِ

وعينُ ما أنتَ تدعوني إليه إذا
حقَّقتَهُ تَرَهُ المنهيَّ يا جاري

قال شيخ الإسلام: ويرحم الله أخي أبا محمد عبدالله، عارض هذا فقال:

يا عاذلي أنتَ تنهاني وتأمرني
والحقُّ أصدقُ نهَّاءٍ وأمَّارِ

فإن أُطِعْكَ وأعصِ الوَجْدَ عُدْتُ عَمٍ
عن الصَّوابِ إلى أوهام كُفَّارِ

وعينُ ما أنتَ تدعوني إليه إذا
حقَّقتَهُ تَرَهُ المخلوقَ للباري)[29].

فهذا النقل دالٌّ أيضاً على مكث الشيخ في السجن في منتصف شهر جمادى الآخرة تقريبًا، بدلالة ما جاء في صدر النقل: (وهو بقلعة دمشق بعد موت أخيه الشيخ شرف الدين بقريب من شهر).

الوجه الخامس: وجود رغبة من السلطان في الإفراج عن الشيخ بعد زيارة ابن بطوطة الثانية لدمشق بأشهر لولا ممانعة قاضي قضاة دمشق:

بيان ذلك: أن علاء الدين القونوي (ت: 729هـ) عيَّنه السلطان الناصر قاضياً لقضاة دمشق بعد وفاة الزملكاني (ت: 727هـ)، وكان تعيين القونوي في السادس والعشرين من شهر شوال سنة (727هـ)[30]، وقد نقل المؤرخون حادثةً مهمةً وقعت في ملابسات تعيينه، قال الصفدي: (لما توجَّه من مصر قال له السلطان: إذا وصلتَ إلى دمشق، قل لنائب الشام يفرج عن ابن تيمية[31]، فقال: يا خوند[32]، على ماذا حبستموه؟ قال: لأجل ما أفتى به في تلك المسألة، فقال: إنما حُبِسَ للرجوع عنها، فإن كان قد تاب ورَجَعَ أفرجنا عنه. وكان ذلك سبب تأخيره في السجن إلى أن مات)[33].

ووجه الدلالة من هذا الخبر في أمرين:

الأول: أن مؤرخي تلك الحقبة نقلوا في كتبهم هذه الحادثة التي أفادت رغبة السلطان بالإفراج عن الشيخ؛ رغم أنها لا تعدو أن تكون محادثة عابرة دارت في مجلسه بمصر، ولم تتحقق تلك الرغبة فعليًّا بسبب ممانعة القونوي، فهل يتصور أن يُغفل المؤرخون حدثًا بقيمة الإفراج عن الشيخ من حبسه في دمشق -لو كان قد وقع فعلًا- قبل بضعة أشهر من هذه الحادثة؟

الثاني: أن هذا الخبر يدلُّ على بقاء شيخ الإسلام في السجن حينئذ، ويظهر منه أيضًا عدم الإفراج عن الشيخ فيما مضى، لأنه يبعد جداً تصوُّر حبس الشيخ بسبب مسألة الزيارة، ثم الإفراج عنه زمن وجود ابن بطوطة في دمشق -وهي أشهر ربيع الآخر وجمادى الأولى وجمادى الآخرة من سنة (727هـ)-، ثم حبسه مرة أخرى، ثم رغبة السلطان بالإفراج عنه مرة أخرى بعد بضعة أشهر.

الوجه السادس: وجود ما يدلُّ على استيعاب مدة سجن الشيخ للفترة ما بين دخوله للسجن وبين وفاته:

بيان ذلك: أن الشيخ حُبِسَ بالقلعة عصر يوم الأربعاء، السادس من شعبان سنة (726هـ)، وتوفي سحر يوم الإثنين، العشرين من ذي القعدة سنة (728هـ)، وهذا يعني أنه قضى في السجن 809 يوماً تقريباً[34].

وقد نقل ابن عبدالهادي وابن كثير وغيرهما عن الشيخ زين الدين عبد الرحمن أخي شيخ الإسلام (أنه قرأ هو والشيخ منذ دخل القلعة ثمانين ختمة[35]، وشرعا في الحادية والثمانين، فانتهيا فيها إلى آخر اقتربت الساعة  ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾)[36]، وأن الشيخ (كان كلَّ يوم يقرأ ثلاثة أجزاء؛ يختم في عشرة أيام)[37]، وهذا يعني أن الختمات الواحدة والثمانون إلا قليلاً قد استغرقت منه 809 يوماً.

فتحصَّل من هذا أن عدد أيام تلك الختمات مطابقٌ لعدد أيام حبس الشيخ، ولو كان الشيخ قد خرج من حبسه ولو لأيامٍ يسيرة لحصل التفاوت بينهما.

الوجه السابع: عدم استقامة تصور الإفراج عن الشيخ مع سياق أحداث محنته الأخيرة:

بيان ذلك: أن محنة شد الرحال التي حُبِسَ الشيخ بسببها في سجنته الأخيرة كانت ذات وطأةٍ شديدة عليه وعلى أصحابه، لأن خصوم الشيخ لما عثروا على جوابه في المسألة عَظُمَ التشنيع عليه، وحُرِّفَ كلامه، ونُقِلَ عنه ما لم يقله، وحصلت فتنةٌ طار شررها في الآفاق، واشتدَّ الأمر، وخيف على الشيخ من كيد القائمين في هذه القضية بالديار المصرية والشامية، وكثر الدعاء والتضرع والابتهال إلى الله تعالى، وضَعُفَ من أصحاب الشيخ من كان عنده قوة، وجَبُنَ منهم من كانت له همة، واجتمع جماعة بالسلطان في مصر، وأجمعوا أمرهم على قتل الشيخ، فلم يوافقهم السلطان على ذلك، وإنما أَمَرَ بحبسه في قلعة دمشق، ثم امتُحن بعض خاصة أصحابه -كابن القيم وابن كثير وعبدالله بن يعقوب الإسكندري المعروف «ابن أردبين»- بالضرب والحبس والتعزير في دعاوى مختلفة.

فنشأ عن هذه الأجواء المشحونة على الشيخ وفتواه طيشٌ للعقول، وتغيُّرٌ للقلوب، حتى إن ابن الفركاح (ت: 729هـ) صديق شيخ الإسلام منذ زمن الطفولة، والذي كان يُذكر من مناقبه احترامه لشيخ الإسلام، وأنهما مع اختلافهما في مسائل؛ إلا أنهما لم يتهاجَرَا ولم تقاطَعَا[38]، إلا أنه عندما قام بعض فقهاء الشافعية والمالكية في تلك المحنة وكتبوا فتيا في الشيخ تقي الدين ابن تيمية، ذُكِرَ أن ابن الفركاح كَتَبَ عليها كلاماً في نحو أربعين سطرًا؛ وآخرُ الكلام أفتى بتكفيره![39]. مع أن ابن الفركاح لم يسبق له أن وقف موقف الخصومة من الشيخ  في جميع المحن التي سبقتها، كمحنة الحموية والواسطية ومسألة الطلاق.

ومن آثار هذه الأجواء المشحونة أيضًا أن ابن القيم عندما ادُّعِيَ عليه بسبب إنكاره شد الرحال إلى قبر الخليل طَلَبَهُ قاضي القضاة شرف الدين المالكي، فتغيَّب عنه، وبادر بالاجتماع بقاضي قضاة الحنابلة شمس الدين محمد بن مُسَلَّم (ت: 726هـ)، وتاب عنده، فقبل توبته، وحقن دمه، ولم يعزِّره. ومع ما كان لشمس الدين بن مُسَلَّم من مكانة وإجلال، إلا أن بعض القضاة ضيَّقوا عليه في أحكامه بسبب ذلك، فتألَّم وكَظَم، وسار للحج والمجاورة، فتوفي بالمدينة النبوية[40].

وبعد استصحاب ما سبق ذكره من أحوال هذه المحنة، فأن يُتصوَّر الإفراج عن الشيخ من حبسه بعد بضعة أشهر من ذلك، ثم يمكَّن من التعليم والفتيا، بل وأن يخطب على منبر الجامع الأموي وتقع منه تلك الحادثة المدَّعاة؛ فهذا التصور لا يستقيم مع سياق المحنة، بل إن سياق المحنة يأباه بالكلية.

 

تتمة

ومما يحتاج أيضًا إلى تعقيب في مقال التازي موضعان:

الموضع الأول: قول التازي: (فمع وجود «ابن بطوطة» في دمشق عام 727هـ، هل هناك ما يمنع من حضوره بجامع دمشق مجلس «تقي الدين»، ونقله معلومة لم نقرأها في كتاب من الكتب التي تناولت حياة «ابن تيمية»؟!

معلومة فريدة: هذه (المعلومة) الفريدة والممكنة جدًّا تتلخص في أن والدة ابن تيمية تعرضت للملك الناصر وشكت إليه فقام بإطلاق سراحه إلى أن وقع منه مثل ذلك ثانية وكنت إذ ذاك بدمشق فحضرت مجلسه… ويفسر لنا قولة ابن بطوطة ثانية ماورد في الدرر الكامنة (ج1. ص164) من أن ابن تيمية عام 705هـ نزل من المنبر درجتين.

فمع تأكدنا من أن ابن بطوطة كان بدمشق عام 727هـ؛ ومع عدم ما ينفي تدخل والدته من أجل العفو عن هذا الرجل الذي ظل ضيفًا مستديمًا على السجون…).

فالتازي في هذا الموضع من المقال يستشهد لتسويغ رواية ابن بطوطة بما ذكره ابن بطوطة نفسه من شفاعة والدة شيخ الإسلام له عند السلطان الناصر بعدما سُجن الشيخ بمصر، وأن سبب تلك السجنة حادثة مقاربة لما نقله ابن بطوطة.

والجواب عن ذلك من وجوه:

الوجه الأول: أن شفاعة والدة شيخ الإسلام له عند السلطان الناصر بعدما سُجن الشيخ بمصر ادعاءٌ تفرد به ابن بطوطة، ولم يذكره أحدٌ من المؤرخين والمترجمين؛ سواءً كانوا من أنصار الشيخ أو خصومه، واستشهاد التازي به كمقدمة للبرهنة على الإفراج عن الشيخ أثناء الزيارة الثانية لابن بطوطة إلى دمشق مصادرةٌ على المطلوب.

الوجه الثاني: أن شيخ الإسلام ابن تيمية عُقِدَت له مجالس في رجب وشعبان من سنة (705هـ) للمباحثة معه في العقيدة، ثم استدعي على إثرها إلى مصر في رمضان من نفس السنة، وعندما وصل الشيخ ومعه أخواه وبعض أصحابه إلى القاهرة عُقِد له مجلس بحضور جمعٍ من الأمراء والقضاة، ثم سُجِنَ هو وأخواه في القاهرة بضعة عشر شهرًا، من يوم الجمعة 26/9/705هـ إلى يوم الجمعة 23/3/707هـ[41]. فلما كان في العشر الأوائل من شهر ربيع الأول سنة (707هـ)، وصل الأمير حسام الدين مهنا إلى القاهرة، واجتمع بالسلطان، وخاطبه في أمر الشيخ تقي الدين ابن تيمية، فأذن له السلطان بإطلاقه، فتوجه الأمير حسام الدين مهنا بنفسه إلى السجن، وأخرج الشيخ يوم الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الأول[42].

فتقرَّرَ بهذا أن الشيخ خرج من سجنته هذه بشفاعة الأمير حسام الدين مهنا، وأن ما ادَّعاه ابن بطوطة من تعرُّض والدته للسلطان وشكواها إليه ثمَّ الإفراج عنه بسبب ذلك غير صحيح، لاسيما أن والدة الشيخ كانت في الشام؛ بينما السلطان في مصر، ويدلُّ على ذلك رسالة الشيخ إلى والدته وهو بمصر؛ لأنه أرسلها بعد الإفراج عنه كما في سياق ابن عبدالهادي لها[43].

الوجه الثالث: أن افتراض التازي تدخُّل والدة شيخ الإسلام لأجل العفو عنه في سجنته الأخيرة (726-728هـ) غفلةٌ منه عن حالها، فوالدة الشيخ هي سِتُّ النِّعَم بنت عبدالرحمن بن علي بن عبدوس بن الحلاوي الحراني، عُمِّرت فوق التسعين سنة، وكانت صالحةً خيِّرةً مباركة، من بيت علمٍ وصلاح، وتوفيت سنة (716هـ)[44]، أي قبل سجنة الشيخ الأخيرة بعشر سنين! فلا يستقيم افتراض تدخُّلها لأجل العفو عنه.

الوجه الرابع: أن التازي استشهد لرواية ابن بطوطة بما نقله ابن حجر عن الآقشهري في «الدرر الكامنة»، حيث ذكر الآقشهري أن خصوم الشيخ (ضبطوا عليه كلمات في العقائد مغيَّرة، وقعت منه في مواعيده وفتاويه، فذكروا أنه ذكر حديث النزول، فنزل عن المنبر درجتين فقال: كنزولي هذا، فنُسِبَ إلى التجسيم، وردُّه على من توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو استغاث، فأُشخص من دمشق في رمضان سنة خمس وسبعمائة فجرى عليه ما جرى، وحبس مرارًا)[45].

والجواب عن ذلك:

  1. أن الشيخ عُقدت له مجالس «العقيدة الواسطية» في شهري رجب وشعبان من سنة (705هـ)، وحاققه خصومه على بعض عباراتها، واجتهدوا في التشنيع عليه بها، فأين خصوم الشيوخ الكُثُر عن هذه الحادثة الشنيعة -أي: حادثة النزول عن المنبر التي سبقت هذه المجالس- والتي تبلغ منهم في الشيخ كل مرام؛ من تأليب العامة والخاصة وأرباب السلطان عليه؟ وأين النقل في ذلك من كتب التواريخ والتراجم؟
  2. أن سبب استدعاء شيخ الإسلام لمصر بعد مجالس «العقيدة الواسطية» في سنة (705هـ) هو سعي نصر المنبجي (ت: 719هـ) وابن مخلوف المالكي (ت: 718هـ) في ذلك، وكان لكلٍّ منهما باعثٌ مختلفٌ عن الآخر، فأما نصر المنبجي فقد كان بسبب موقف الشيخ من ابن عربي، وأما ابن مخلوف فقد كان بسبب وقوفه على فتوى الشيخ في إثبات الاستواء والكلام لله على ما يليق بجلاله، فحرَّضا أمراء مصر على استدعائه، وخوفوهم من شرَّه على الدولة، فطُلِبَ الشيخ إلى مصر، ثم عُقِدَ له مجلس في قلعة الجبل بالقاهرة، وادُّعي عليه أنه يقول: إن الله تكلم بالقرآن بحرف وصوت، وأنه على العرش بذاته، وأنه يشار إليه بالإشارة الحسية، ثم حَكَمَ عليه القاضي ابن مخلوف بالحبس، ذكر ذلك النويري والذهبي وابن كثير والدواداري وغيرهم[46]، ولم يُشِرْ أحدُ منهم من قريب ولا بعيد إلى ما ذكره الآقشهري من أن سبب استدعائه لمصر حادثة تشبيهه للنزول الإلهي بنزوله.
  3. أن رواية الرحالة الآقشهري تضمنت أن حادثة تشبيه ابن تيمية للنزول الإلهي بنزوله كانت سنة (705هـ)، وروايته للحادثة تطابق في مضمونها رواية ابن بطوطة، وهذا يعني تقدَّم إشاعة هذه الفرية على شيخ الإسلام، فربما كانت تثار علىه بين حينٍ وآخر، فرواها بعض مناوئي الشيخ لابن بطوطة عند دخوله دمشق.

الوجه الخامس: أن شيخ الإسلام ذَكَرَ في حكايته للمناظرة في «العقيدة الواسطية» أن بعض الخصوم عرَّض بشيء من الافتراءات التي ينسبها بعض الناس له، فقال: (وقلت لهم: ذكرتُ في النفي التمثيل ولم أذكر التشبيه؛ لأن التمثيل نفاه الله بنصِّ كتابه، حيث قال: ﮋ ﭡ ﭢ ﭣﮊ، وأخذوا يذكرون نفي التشبيه والتجسيم ويُطنبون في هذا، ويعرِّضون بما ينسبه بعض الناس إلينا من ذلك. فقلت: قولي من غير تكييف ولا تمثيل ينفي كل باطل)[47].

فإن كان مقصود الشيخ هو حادثة النزول عن المنبر، فإن ذِكْرَ خصومه لها تعريضًا لا تصريحًا برهانٌ على أنها محض افتراء وكذب، إذ لو كان تلك الحادثة قد وقعت؛ لاشتهرت واستفاضت عند الناس استفاضة يستحيل على الشيخ إنكارها، لاسيما أن عقيدة الشيخ تضمنت قوله: (ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل)[48]، أفكان يُعجز خصومه في ذلك المجلس أن يفحموه بقولهم: «لقد روى جمعٌ من الناس يستحيل تواطؤهم على الكذب أنك ذكرتَ حديث النزول، فنزلتَ عن المنبر درجتين وقلت: كنزولي هذا»؟ ولو قالوا ذلك لنقله المؤرخون والمترجمون للشيخ أو لخصومه ومناوئيه.

الموضع الثاني: قول التازي: (هل لا يمكن أن نجعل من الرحلة مصدرًا معاصرًا شاهدًا لوجود فترة سراحٍ أخرى كان يتمتع فيها ابن تيمية بحريته؛ قبل أن يصدر الأمر في الأخير بتاريخ تاسع جمادى الآخرة عام 728هـ = 25 أبريل 1328م بتجريده من كتبه وأدواته وقلمه؛ قبل أن يدركه أجله في السجن ليلة الاثنين 20 ذي القعدة 728هـ = 26 – 27 سبتمبر 1328م؟ بمعنى أن ابن تيمية كان أثناء زيارة ابن بطوطة ثانية لدمشق عام 727هـ كان يتمتع بحريته، وأنه عاد إلى نشاطه، إن كل قراءاتي عن حياة ابن تيمية رحمه الله لم تمنعني من افتراض وجود تقي الدين خارج القضبان عند الزيارة الثانية لابن بطوطة لمدينة دمشق، والشهادة معاصرة، لاسيما أن تتبعنا لحياة الملك الناصر كحاكم، كانت تحملنا على الاعتقاد بأنه كان يتبع مع تقي الدين سياسة (الساخن والبارد) -كما يقولون- مجاملة للمعارضين من جهة واحترامًا من جهة ثانية لأفكار العالم ابن تيمية).

فالتازي في هذا الموضع من المقال يستشهد بتجريد شيخ الإسلام من كتبه وأدواته وقلمه للاستدلال بذلك على وجود سجنة مستأنفة للشيخ؛ هي التي مات فيها، وأن ما قبلها كانت فترة يتمتع فيها الشيخ بحريته، تزامنت مع زيارة ابن بطوطة الثانية إلى دمشق.

والجواب عن ذلك من وجهين:

الوجه الأول: أن تجريد شيخ الإسلام من كتبه وأدواته وقلمه كان بسبب شكوى القاضي تقي الدين الإخنائي (ت: 750هـ)، وذلك أن الشيخ عندما حُبِسَ في قلعة دمشق بسبب مسألة شد الرحال لزيارة قبور الأنبياء والصالحين؛ أكبَّ على العبادة والتلاوة وتصنيف الكتب والرد على المخالفين، فصنَّف عددًا من الردود في المسألة التي حُبِسَ بسببها، ومنها: «الإخنائية» التي ردَّ بها على قاضي قضاة المالكية بمصر تقي الدين الإخنائي، فلما خرجت نسخة الكتاب من السجن وانتشرت بين الناس؛ كان وقعها شديدًا على خصومه، فجزعوا من ذلك[49]، وأوجعت «الإخنائية» المردود عليه: تقي الدين الإخنائي، فلم يجد حيلة إلا أن يشتكيه إلى السلطان، فأمر السلطان حينئذ بإخراج الكتب والأوراق والأقلام، قال ابن كثير في حوادث سنة (728هـ): (وفي يوم الاثنين تاسع جمادى الآخرة[50] أُخْرِج ما كان عند الشيخ تقي الدين ابن تيمية من الكتب والأوراق والدواة والقلم، ومُنِعَ من الكتب والمطالعة، وحُمِلَتْ كتبه في مستهلِّ رجب إلى خزانة الكتب بالعادلية الكبيرة، قال البرزالي: وكانت نحو ستين مجلدًا، وأربع عشرة ربطة كراريس، فنظر القضاة والفقهاء فيها وتفرقوها بينهم، وكان سبب ذلك أنه أجاب لما كان ردَّ عليه التقي بن الإخنائي المالكي في مسألة الزيارة، فردَّ عليه الشيخ تقي الدين واستجهله، وأعلمه أنه قليل البضاعة في العلم، فطلع الإخنائي إلى السلطان وشكاه، فرَسَمَ السلطان عند ذلك بإخراج ما عنده من ذلك)[51].

وكان بعد ذلك يغسل رسائل أصحابه التي كانت تُرسل إليه من قبلهم؛ ثم يكتب عليها مرَّة أخرى بالفحم، كما ذكر ابن عبدالهادي[52].

الوجه الثاني: أن مقتضى كلام التازي يفيد أن فترة الإفراج عن الشيخ والتي كانت بين السجنتين الأخيرتين ابتدأت قبل شهر جمادى الآخرة من سنة (727هـ) على الأقل -وهي آخر أشهر الزيارة الثانية لابن بطوطة إلى دمشق- وانتهت بشهر جمادى الآخرة من سنة (728هـ) -عندما مُنِعَ الشيخ من الكتابة مطلقًا، وأُخرج ما كان عنده من الكتب والأوراق والدواة والأقلام[53]-. فإن كان ذلك كذلك فما الذي يدعو السلطان الناصر أن يفاتح قاضيه علاء القونوي برغبته الإفراج عن الشيخ في تاريخ 26 شوال من سنة (727هـ)؟[54] ما دام أنها في نطاق الفترة التي كان يتمتع فيها الشيخ بحريته، إذ إنه قد أُفْرِج عنه أصلًا-بمقتضى كلام التازي- قبل ذلك ببضعة أشهر!

فتبين بهذين الوجهين أن مَنْعَ الشيخ من الكتابة مطلقًا وإخراج ما كان عنده من الكتب والأوراق والدواة والأقلام ليست سجنة مستأنفة، ولم يكن الشيخ قبلها يتمتع بحريته، وإنما كان ذلك إمعانًا في التضييق عليه والتنكيل به في آخر سجنته الأخيرة، لانزعاجهم من نشاطه التصنيفي في الرد على المخالفين.

تذييل

تبيَّن بما سبق أن الشيخ عندما سُجِنَ بسبب مسألة شد الرحال لزيارة قبور الأنبياء والصالحين في شهر شعبان من سنة (726هـ) لم يُفرج عنه إلى أن مات في شهر ذي القعدة من سنة (728هـ)، لكن قد يُشكل على ذلك ما ذكره المؤرخ تقي الدين المقريزي (ت: 845هـ) في حوادث سنة (728هـ)، حيث قال فيها: (وفيها أفرج عن تقي الدين أحمد بن تيمية بشفاعة الأمير جنكلي بن البابا وغيره من الأمراء)[55].

والجواب عن ذلك من وجوه:

الوجه الأول: أن ما ذكره المقريزي وهمٌ منه[56]، فلم يذكر ذلك أحدٌ من المؤرخين والمترجمين للشيخ من معاصريه، سواء كانوا في الشام كالبرزالي والذهبي وابن عبدالهادي وابن كثير والصفدي، أو في مصر كالنويري، وهم أحرى بذكر هذا الخبر، لعناية جملة منهم بسيرة الشيخ وحرصهم على ضبط دقائقها، وخصوصًا ما يتعلق بمِحَنِهِ وسجناته.

ويجاب أيضًا بما سبق ذكره في صدر المقالة من أوجه، كوجود ما يدلُّ على استيعاب مدة سجن الشيخ للفترة ما بين دخوله للسجن وبين وفاته، وعدم استقامة تصور الإفراج عن الشيخ مع سياق أحداث محنته الأخيرة، وغير ذلك.

الوجه الثاني: أن المقريزي ذكر بعد ذلك بأسطرٍ خبر وفاة شيخ الإسلام في نفس السنة (728هـ)، فقال: (ومات في هذه السنة من الأعيان: شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله ابن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني بدمشق، ليلة الإثنين العشرين من ذي القعدة، في سجنه بالقلعة)[57]، ولم يذكر ما بينهما شيئًا يتعلق بحبسه مرة أخرى، فدلَّ ذلك على وهمه في الخبر الأول.

الوجه الثالث: أن تقي الدين المقريزي على عِظَمِ مكانته وجلالة قدره بين المؤرخين إلا أنه وقعت له أوهامٌ عديدة في سيرة شيخ الإسلام:

منها: تسمية القاضي المالكي المردود عليه في مسألة شد الرحال[58].

ومنها: سياقه لماجريات محنة الشيخ بمصر في «المقفى الكبير»[59]، حيث خلط في هذا السياق بين عدَّة أحداث، فنشأ عن ذلك بعض الأوهام[60].

الوجه الرابع: أن المقريزي ذكر هذا الخبر في حوادث سنة (728هـ)، وزيارة ابن بطوطة الثانية لدمشق كانت في سنة (727هـ)، فلا يستقيم الاستشهاد به لتصحيح رواية ابن بطوطة للحادثة المزعومة.

 

خاتمة

تقرر بما سبق ذكره أن حكاية تشبيه شيخ الإسلام للنزول الإلهي بنزوله -تعالى الله عن ذلك- فرية كاذبة متهافتة، اختلقها من لا خلاق له، ثم اتخذها بعض مناوئي الشيخ -ممن أُشربوا بغضهم له وانحرافهم عنه- تكأةً للطعن فيه والتشنيع عليه، فلا يليق بالمنصف ولو كان مخالفًا للشيخ أو مباينًا له أن يتلقاها بلسانه أو أن تقرَّ في جنانه، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.

ويا ليت الدكتور عبدالهادي التازي -رحمه الله- اكتفى بنكارة الرواية، ولم يعجل للمنافحة عنها ببادي الرأي عند اكتشافه الزيارة الثانية لابن بطوطة إلى دمشق، فحفظ مقام شيخ الإسلام من هذه التهمة الشنيعة البشعة التي يتنزَّه عنها فضلاء عوام المسلمين فضلًا عن أجلِّة علمائهم وأئمتهم؛ أولى من حفظ مقام الرحالة ابن بطوطة من الكذب أو الوهم، لاسيما أن التازي في مقدِّمته للرحلة استنكر متن رواية ابن بطوطة للحادثة المزعومة بمخالفتها مذهب السلف الذي يُعَدُّ ابن تيمية قطبًا من أقطابهم، فلم يكن يجدر به أن تسوقه دهشة الاكتشاف إلى إهمال هذا المأخذ المتيقن؛ والمسارعة إلى تصحيح الرواية بالأوهام.

والله أعلى وأعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين ،،

اقرأ ايضًا: ابن بطوطة أعظم رحالة في التاريخ


[1]  حكاها في رحلته، ونقلها عنه ابن حجر في «الدرر الكامنة» (1/180).

[2]  حكاها في رحلته «نظم اللآلي في سلوك الأمالي»، ونقلها عنه حفيده أبو العباس في «أزهار الرياض» (5/16)، وأحمد بابا التمبكتي في «كفاية المحتاج» (1/265).

ولا يبعد أن يكون المقري قد استمدَّها من ابن بطوطة، لأن المقري كان قاضيًا للسلطان أبي عنان المريني (ت: 759هـ) عندما قدم عليه ابن بطوطة وأملى رحلته في قصره، كما أن مجالس السلطان العلمية ضمَّت الرجلين جميعًا. انظر: ملاحق «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» (4/294-295).

ومما يجدر ذكره أن شيخ المالكية في مصر بدر الدين القرافي (ت: 1008هـ) استدرك على المقري تلك التهمة وأنكر ثبوتها عن الشيخ، فعندما حكى قول المقري: (وكانت له [أي: لابن تيمية] مقالاتٌ شنيعة من إمرار حديث النزول على ظاهره، وقوله فيه: كنزولي هذا)، علَّق القرافي بقوله: (وهذه الزيادة لم تثبت عنه، أعني قوله: كنزولي). «توشيح الديباج» (ص129).

[3]  نقلها عنه الرصاع -تلميذ تلامذته- في «الفهرست» (ص154). انظر: «المدخل إلى كتاب الشفا» للكتاني (ص196).

[4]  «دفع شُبَه مَنْ شَبَّهَ وتمرَّد» (ص65). والحادثة المفتراة التي ساقها في تشبيه الاستواء لا النزول -تعالى الله عن ذلك-، وقد أسندها عن مجاهيل.

[5]  «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» (1/316-317).

[6]  ومنهم أيضًا بعض خصومه، كأحمد بن الصديق الغماري (ت: 1380هـ) في «جؤنة العطار» (ص75).

[7]  انظر: «توضيح المقاصد» لابن عيسى (1/497-499)، «فتاوى الإمام محمد رشيد رضا» (6/2528-2537)، «الكشف المبدي» للفقيه (ص237-238)، «حول ابن بطوطة وابن تيمية» للبرازي (ص58-60 مجلة الرسالة، العدد 329)، «مقالات العلامة المؤرخ المحدث محمد راغب الطباخ» (1/223-227)، «ابن بطوطة يفتري الكذب على ابن تيمية» للوكيل (ص38-41 مجلة التوحيد، العدد الخامس)، «حياة شيخ الإسلام ابن تيمية» للبيطار (ص43-49)، «في اللغة والأدب» لكنون (ص15-18)، «تحقيق القول بما رواه ابن بطوطة عن شيخ الإسلام» للفوجياني (3/511-518 مجلة رحيق»، «مجموعة تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية» عبدالصمد شرف الدين (ص26-31)، مختصر «العلو للعلي الغفار» للألباني (ص74)، «رجال الفكر والدعوة في الإسلام» للندوي (2/146)، «أشهر رحلات الحج» للجاسر (ص21)، تحقيق «رحلة ابن بطوطة» للكتاني (1/109)، «نقض كلام المفترين على الحنابلة السلفيين» لآل بوطامي (ص45)، مقدمة تحقيق «شرح حديث النزول لابن تيمية»، د. محمد الخميس (ص34-38)، «موقف ابن تيمية من الأشاعرة»، د. عبدالرحمن المحمود (2/693)، «دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية-عرض ونقد»، د. عبدالله الغصن (ص141-142)، «مقالة التشبيه وموقف أهل السنة منها» د. جابر إدريس (2/319-325)، مقدمة تحقيق «شرح الواسطية للهراس»، علوي السقاف (ص33-36)، «قضايا تاريخية وفكرية من تاريخنا الإسلامي»، د. خالد كبير علال (ص142-146)، «عداء الماتريدية للعقيدة السلفية»، شمس الدين الأفغاني (3/620-621)، «ابن تيمية رد مفتريات ومناقشة شبهات»، د. خالد عبدالقادر (ص101-104)، «معرفة الله عز وجل وطريق الوصول إليه عند ابن تيمية»، د. مصطفى حلمي (ص71).

[8]  «شرح حديث النزول» (ص459).

[9]  «مجموع الفتاوى» (11/482).

[10]  حيث ذكر أن قاضي الحنابلة هو عز الدين بن مسلَّم، وهذا خطأ، لأن القاضي في زيارته الأولى هو شمس الدين محمد بن مسلم بن مالك بن مزروع الرَّيني الصالحي (ت: 726هـ)،  أما القاضي في زيارته الثانية فهو عز الدين محمد بن سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر المقدسي الصالحي (ت: 731هـ).

[11]  لأن الخطيب وقت دخول ابن بطوطة قاضي القضاة جلال الدين القزويني الشافعي (ت: 739هـ)، ولم يكن الشيخ يخطب على منبر الجامع الأموي، وإنما كان يلقي درسه صبيحة الجمعة وهو جالسٌ على كرسي في الجامع الأموي.

[12]  حيث ذكر أن قاضي القضاة قال لابن تيمية: ما تقول؟ قال: لا إله إلا الله، فأعاد عليه، فأجاب بمثل قوله، وهذا يغاير ما نقله المؤرخون، وما نقله الشيخ نفسه أيضاً. انظر: «نهاية الأرب» للنويري (ص176 الجامع)، و«الدرة اليتيمية» للذهبي (ص45-46 تكملة الجامع)، و«مجموع الفتاوى» (3/258).

[13]  حيث ذكر أنه شرف الدين الزواوي المالكي، وهذا غير صحيح، بل هو شمس الدين ابن عدلان الشافعي. انظر: «البداية والنهاية» لابن كثير (ص422 الجامع)، و«العقود الدرية» لابن عبدالهادي (ص212).

[14]  فلم يذكر أحدٌ ممن ترجم للشيخ تصنيفًا بهذا الاسم، أو أن له تفسيرًا لكامل القرآن، وإنما فسَّر الشيخ مواضع متفرقة منه.

[15]  وسيأتي الحديث عنها بإذن الله.

[16]  «الكفاية في علم الرواية» للخطيب البغدادي (ص119).

[17]  هذا ما نص عليه ابن عبدالهادي في «العقود الدرية» (ص398)، وابن الجزري في «تاريخه» (2/111)، وابن كثير في «البداية والنهاية» (18/267) -نقلاً عن البرزالي-.

[18]  «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» (1/297).

[19]  انظر: «الإحاطة في أخبار غرناطة» (3/206)، و«الدرر الكامنة» (5/227).

[20]  انظر: «موسوعة مشاهير رجال المغرب»، عبدالله كنون (3/187).

[21]  «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» (1/152).

[22]  «في اللغة والأدب»، عبدالله كنون (ص17).

[23]  مقدمة «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» (1/128).

[24]   اكتشاف غير مسبوق حول رحلة ابن بطوطة | مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي (al-furqan.com)

[25]  مقالات من مجلة العربي لقاء الفقيه والرحالة.. هل التقى ابن تيمية وابن بطوطة؟ (3rbi.info)

[26]  انظر: «المقتفي» (ص215 الجامع)، و«العقود الدرية» (ص329-330)، و«البداية والنهاية» (ص426 الجامع).

[27]  في المطبوع من «تاريخ ابن الجزري» (2/214): (الرابع من جمادى الأولى)، وهو خطأ.

[28]  انظر: «تاريخ ابن الجزري» (1/214)، و«العقود الدرية» (ص436)، و«ذيل طبقات الحنابلة» (4/483).

[29]  «مجموع محفوظ في مكتبة بوردر برقم (815)» (ق 120/و)، وفي أوله «الدرة المضية في فتاوى ابن تيمية» ذكر الناسخ أنها من انتقاء الحافظ شمس الدين ابن عبدالهادي تلميذ شيخ الإسلام.

[30]  «نهاية الأرب» للنويري (33/239).

[31]  لما ذكر الشيخ مرعي الكرمي في «الكواكب الدرية» انتصار علماء بغداد لشيخ الإسلام، وكُتُبَهم إلى السلطان الناصر بالثناء على الشيخ وتعظيمه والتنويه بقدره والدفاع عن فتواه، وتألمهم من حبسه؛ والشفاعة بالإفراج عنه، قال بعدها (ص171): (والظاهر أن هذه الكتب لم تصل للسلطان الملك الناصر، إما لعدم من يوصلها، أو لموت الشيخ قبل وصولها، وإلا لظهر لها نتيجة). قلت: لعل رغبة السلطان في هذا الخبر بالإفراج عن الشيخ -لولا ممانعة القونوي- يشعر بوصول تلك الكتب. والله أعلم.

[32]  الخوند: الأمير أو السيد العظيم. انظر: «معجم الألفاظ التاريخية في العصر المملوكي»، محمد أحمد دهمان (ص70).

[33]  «أعيان العصر» (3/285-290). انظر: «الوافي بالوفيات» (20/426-427)، و«مسالك الأبصار» (9/209)، و«الدرر الكامنة» (3/93-95)، وفيه: (فيقال: كان هذا الجواب سببًا في استمرار الشيخ ابن تيمية في السجن إلى أن مات؛ لأنه كان لا يُتَصَوَّر رجوعه).

[34]  استأنست في احتساب عدد الأيام بكتاب «التوفيقات الإلهامية في مقارنة التواريخ الهجرية بالسنين الإفرنكية والقبطية» لمحمد مختار باشا (ص363-364).

[35]  ذكر ابن الجزري في «تاريخ حوادث الزمان وأنبائه» (ص197 الجامع) أن الشيخ بدأ في تلك الختمات من حيث مُنِعَ من الكتابة والتصنيف؛ خلافًا لما ذكره ابن عبدالهادي وابن كثير أنه بدأ فيها منذ دخوله القلعة، ويظهر أن ما ذكره ابن الجزري وهم؛ لأنهما أكثر وأضبط.

[36]  «البداية والنهاية» (ص446 الجامع).

[37]  «العقود الدرية» (ص443).

[38]  «الوافي بالوفيات» (6/43-44).

[39]  «تاريخ ابن الجزري» (ص192 الجامع).

[40]  انظر: «تاريخ ابن الجزري» (ص184، 195 الجامع)، و«الوافي بالوفيات» (5/20)، و«مسالك الأبصار» (6/302 ط. دار الكتب العلمية).

[41]  انظر: «ذيل مرآة الزمان» (2/850-853)، و«البداية والنهاية» (ص421 الجامع)، و«المقفى الكبير» (ص505 الجامع)، و«مجموع الفتاوى» (3/257).

[42]  انظر: «العقود الدرية» (ص311)، و«البداية والنهاية» (ص425 الجامع)، و«كنز الدرر» (ص239 الجامع).

[43]  «العقود الدرية» (ص316).

[44]  انظر: «المقتفي» (5/224)، و«البداية والنهاية» (ص436 الجامع)، و«تاريخ ابن الوردي» (2/256).

[45]  «الدرر الكامنة» (1/180).

[46]  انظر: «نهاية الأرب» (ص161-173 الجامع)، و«ذيل العبر» (4/12)، و«البداية والنهاية» (ص420 الجامع)، و«كنز الدرر» (ص239 الجامع).

[47]  «مجموع الفتاوى» (3/195).

[48]  «العقيدة الواسطية» (ص91).

[49]  انظر: «العقود الدرية» (ص435، 439، 441).

[50] في «تاريخ ابن الجزري» (ص196 الجامع): (تاسع عشر جمادى الآخرة)، وهو الأصوب.

[51]  «البداية والنهاية» (18/293).

[52]  «العقود الدرية» (ص438، 442).

[53]  انظر: «البداية والنهاية» (18/293)، و«نهاية الأرب» (ص185 الجامع)، و«العقود الدرية» (ص438).

[54]  انظر: «أعيان العصر» (3/285-290)، و«مسالك الأبصار» (9/209)، و«نهاية الأرب» (33/239).

[55]  «السلوك لمعرفة دول الملوك» (3/113). وعنه تلميذه ابن تغري بردي في «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة» (9/92).

[56]  إن كان لما ذكره المقريزي أصلٌ فلعل المقصود به الإفراج عن الشيخ من حبس الإسكندرية سنة (709هـ) بعد عودة السلطان الناصر للحكم، فقد يكون الإفراج عنه حينها بسبب شفاعة الأمير جنكلي، لأنه من أكثر الأمراء محبة للشيخ وتعظيمًا له.

[57]  «السلوك لمعرفة دول الملوك» (3/114).

[58]  حيث ذكر في «المقفى الكبير» (ص512 الجامع) أن تصنيف الشيخ في مسألة شد الرحال ردٌّ على زين الدين ابن مخلوف المالكي، ومن المعلوم أن تصنيف الشيخ في تلك المسألة ردٌّ على تقي الدين الإخنائي، والرد هو «الإخنائية»، أما زين الدين ابن مخلوف فهو متوفى سنة (718هـ).

[59]  «المقفى الكبير» (ص507-512 الجامع).

[60]  ومن تلك الأوهام:

  • أنه جعل إخراج مهنا بن عيسى للشيخ من حبسه سنة (709هـ)، وهذا غير صحيح؛ لأن ذلك جرى في سنة (707هـ).
  • أنه جعل إخراج مهنا بن عيسى للشيخ عندما حُبِسَ بسبب منعه الاستغاثة والتوسل بالمخلوقين بعد شكوى المتصوفة منه بالقاهرة، وهذا غير صحيح؛ لأن إخراج مهنا بن عيسى للشيخ حدث عندما حُبِسَ بحكم ابن مخلوف عليه بسبب عقيدته في الصفات.
  • أنه جعل المجلس الذي عقد له في مسألة الاستغاثة في شوال سنة (707هـ) مقدَّمًا في ترتيب الأحداث على المجالس التي عقدت له بسبب عقيدته في الصفات شهر ربيع الأول والآخر من نفس السنة (707هـ)، وهذا غير صحيح، والصواب عكس ذلك.
  • أنه جعل إخراجه من القاهرة إلى الإسكندرية بعد حبسه على إثر المجالس التي عقدت له بسبب عقيدته في الصفات، وهذا غير صحيح، لأن ذلك جرى بعد حبسه في قاعة الترسيم على إثر المجلس الذي عقد له في مسألة الاستغاثة.

انظر: «المقتفي» (ص214-215 الجامع)، و«كنز الدرر» (ص239 الجامع)، و«البداية والنهاية» (ص425-426 الجامع).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى