د. عبدالله البريدي
مفهوم “التحليل” Analysis من أكثر المفاهيم شيوعاً في الأبحاث والدراسات والنصوص والنقاشات، وقد يكون من أكثرها غموضاً أيضاً، مع توهم كثيرين (حتى الباحثين والأكاديميين) بأنهم يعونه تماماً، وقد جاء ذلك نتيجة لقلة النصوص المُجلِّية لتعريف هذا المفهوم وأنواعه ومستوياته واستخداماته، على الرغم من كثرة تِرداده في الكتب والدراسات المنهجية والفلسفية والعلمية. التحليل مفتوح على ممارسات متنوعة، وبقدر ما فيه من “العلم” والضبط فيه من “الفن” والاجتهاد أيضاً، وهذه سمة خطيرة قد توقعنا في “تيهٍ تحليلي“، فلا نصاً قطعنا ولا نتيجة أبقينا. ولهذا كله فقد حَبَّرتُ هذا النص الصغير. التحليل مفهوم متعدد الجوانب والمستويات والاستخدامات، وقد يكبر ليعبِّر عن المنهج أو النموذج أو النظام ذاته برمته، وقد يتوسط أو يصغر ليشكِّل أجزاء أو جزءاً منه، وهو حينذاك قد يقابل مفهوم “التركيب” Synthesis، في ممارسات تكاملية أو متوازية/متنافسة.
يأتي هذا النص ليعكس توصيفاً عاماً لـ “التحليل” ومستوياته واستخداماته، ضمن إطار ما أسميه بـ التفلسف التلقائي أو السلِس أو الطري، في قالَب الكتابة الشذرية. لا يؤمِن تفلسفُنا هذا بالهذر، ولا بالكرِّ بالجمل المطوَّلة ولا بالفرِّ بالأساليب المتكلَّفة، ويلوذ عِوض ذلك بالمعجم اللغوي العام والصور المجازية الخالِقة للمعنى والميسِّرة لفهمه (للمزيد حول التفلسف السلس، انظر نصي المعنون بـ: الحياة “المعاصرة” لا تحتوينا بل تُلاحقنا).
الكتابة الشذرية تؤمن بحتمية الفراغ في النص وأهمية الإفراغ، فالفراغ هو ما يمده بأسباب حياته، وذلك أنه الصانع لشراكة حقيقية بين الكاتب والقارئ، ليستنتج هو بدوره، فيقارن ويفاضل ويصنِّف ويحلِّل ويركِّب ويكمِّل. يمكن تطبيق هذا الأسلوب الشذري بقوالب متنوعة، ولعل منها هذا القالب الذي استخدمه في هذا النص، وهو ما يمكن أن نصفه بـ الكتابة النقشية بعنونة موحية.
يقترح عنواننا المجازي دلالات شتى، وأهمها تعريف أو توصيف للتحليل الذي نقوم به في دراساتنا وأبحاثنا ونصوصنا، فهو يشير إلى سمة التحليل وغايته، مع وجوب ملاحظة عمومية ما نرومه بـ “عطاياه” (=عللاً ومعاني وكيفيات، ستتضح لاحقاً). قد يكون هذا التعريف أو التوصيف مكثَّفاً جداً، مما يفوِّت الفرصة لاستيعاب شامل لمفهوم التحليل. هنا يسعنا اقتراح تعريف أو وصف أعم للتحليل، إذ يمكن القول إنه:
فحص نص عن موضوع ما، بقالب تفكيكي سياقي ترميزي تنقيبي تجريدي تفسيري لتحديد: مكوناته وخصائصه ووظائفه وكيفياته ومعانيه وعلله؛ بغية الخلوص إلى نتائج متوخاة إزاء سؤالٍ أو كلٍ محدد.
هذا أمر جيد، ولكي يكون الطرح أفيد، فسأعرض خريطة عامة “تقريبية” للتحليل، متوخية صورة مجازية، تُظهر النصَ بوصفه ثمرة تَجود بعَصْرات متتالية، باكورتُها أجود من آخرها.
العصرة الأولى : التعليل – العلة
- قراءات تفكيكية، لتحديد: علل ومعلولات وعلِّيَّة.
- قراءات متوالية، في جولات تحليلية تجريدية عديدة، مختلفة المستويات: تزامنية، علِّيَّة.
- قراءات تراكمية، تتضمن مساءلة للعلية الأولية المستنتَجة إلى حين الوصول إلى علية نهائية مستقرة، يمكن اختبارها بطريقة برهانية.
العصرة الثانية: التفسير – المعنى
- قراءات تفكيكية، لتحديد: بِنيات وقضايا ومفاهيم.
- قراءات متوالية، في جولات تحليلية تجريدية عديدة، مختلفة المستويات: سطحية، عميقة.
- قراءات تراكمية، تتضمن مساءلة للمعاني السائدة، في محاولة للوصول إلى معان جديدة أو تشسيع للمعاني السابقة، يمكن فحصها وتقييم عمقها وتماسكها.
العصرة الثالثة: التوصيف – الكيفية
- قراءات تفكيكية، لتحديد: مكونات وسمات ووظائف.
- قراءات متوالية، في جولات تحليلية عديدة، مختلفة المستويات: المسارات، العمليات.
- قراءات تراكمية، تتضمن مساءلة للكيفية السائدة، في محاولة للوصول إلى توصيفات جديدة للكيفية أو تفصيل أو تطبيق لها، يمكن فحصها وتقييم معقوليتها وتماسكها.
العصرة الرابعة: التوهم التحليلي – اللامحلل
- قراءات سطحية، إذ ليس ثمة رؤية، ولا منهج، ولا تفكيك.
- قراءات مُشتَّتة، في ممارسات لا تحليلية مُبعثرة، لا تثمر وصفاً ولا تطوِّر تفسيراً ولا تكشف علِّيَّة.
- قراءات مُلفَّقة: لا تنتظمُ في أنماط ولا تنسلكُ في مسارات مُغذِّية لفهم أشمل أو تصور أعمق.
جلي أنه يسعنا استخدام أي من العصرات الثلاث الأولى، وذلك بحسب طبيعة نصوصنا وأهدافها، وقد نتوسل بتركيبة منها، ولكن حَذارِ في كل ممارسة تحليلية نتغياها أياً كان هدفها من العصرة الرابعة، فهي مُشبعة بلا إشباع. الكارثة تكمن في تورط بعض الباحثين والكتّاب بها. لِمَ؟ لكونهم لا يطيقون دفع كلفة العصرات العلِّيَّة والتفسيرية والوصفية؟
نتائج شذرية:
- ضعوا في أكوابِ نصوصِكم عَصْرَةً تحليليةً تليقُ بها.
- التحليلُ الجيدُ هو ما يجعلُ النصَ ينبضُ بمُضمَرٍ أو بنتيجةٍ متوخاة.
- أبقِ نافذتَك التحليليةَ مُشرَعة!
اقرأ ايضاً: ضياع البوصلة والتبدد في عوالم المعرفة