عام

الرعاية الواعية للمصابين بالخرف

الوصول إلى الذات ممكن رغم الخرف

  • ميورين آريش*
  • ترجمة: سهام محمد
  • مراجعة: مصطفى هندي
  • تحرير: مريم سالم

 

يرى العديد من الناس في الذاكرة ركيزةً أساسية يعتمد عليها استقرارهم النفسي وشعورهم بذاتهم. وإن ذكرياتنا -على وجه الخصوص- بكل ما تحمله هي الخيط الذي تنتظم فيه سيرة حياتنا، كما أنها الجسر الذي يصل ماضينا بحاضرنا، ويعيننا على استشراف المستقبل والتخطيط له؛ كل ذلك داخل سردية واضحة متسقة غنية بالمعاني والقيم.

ولكن ما الذي يحدث حين تبلى الذاكرة، ويتمزق نسيجها، ونعجز عن استرجاع ذكريات الماضي؟

 

تلك الصورة المتطرفة من فقدان الذاكرة هي الواقع الذي يكابده ملايين الناس نتيجة الإصابة بأمراض الخرف مثل الزهايمر والأمراض العصبية الأخرى. والمرعب أن بدايات تطور الزهايمر تستهدف المراكز المخية التي تُرمِّز وتخزن التجارب الجديدة، فتبدو وكأنها هفوات طفيفة مما يعرض لكل أحد مثل نسيان آخر المحادثات والعجز عن تذكر المواعيد. ومع مرور الوقت يتجذر المرض ويتجلى تأثيره حين ينسى الفرد خبراته الحياتية وأهم الأحداث الأخيرة. وتدريجيًا، ينال من ذكرياته العميقة، مما يُصعِّب على المرء استرجاعَ ذكرياته الكاملة التي تحدد كيانه، مثل يوم زفافه، أو ولادة أطفاله.

 

انتشر في أوساطنا القول بأن فقدان الذاكرة ملازم لفقدان الهوية بحيث يصبح المرء شخصًا آخر، أدى ذلك إلى استخدام لهجة دونية في التعامل مع هؤلاء المرضى حتى في داخل المؤسسات المعنية برعايتهم، ومن ذلك انتشار أوصاف مثل “التيه” و “الضياع” و “السلوك الغريب”، وهذا يكشف عن وقوعنا في إشكالية ربط تطور المرض بذوبان الشخصية وتحول المرضى إلى “أشباح”.

 

إن ربط الخرف بتآكل الذات قد يعمي مقدمي الرعاية عن رؤية حقيقة و واقع أمراض الخرف، ويُغرقهم في البكائيات ومشاعر الأسى والحزن التي نراها عادة بين المعالجين. وعلى كل حال فإن البحوث الأخيرة التي أجراها مختبَري تخالف تلك الأفكار التي تربط تآكل الذات التام بالزهايمر. ونحن لا ننفي طبعًا التغيرات التي تطرأ على تصورات المصابين عن أنفسهم ومعارفهم وعلاقاتهم الاجتماعية، كما لا ننكر اختلاف تصوراتهم لقدراتهم، أو حتى مظاهرهم الخارجية. إلا أن جوهر الشخص يظل ثابتًا لا يتغير، والإقرار بهذا الثبات سيكون له آثار إيجابية على تحسين منهج الرعاية. إننا في حاجة لأن نتفهم تجارب المصابين بأمراض الخرف حتى لو استدعى ذلك إلى تغيير ومخالفة تصوراتنا وقناعاتنا عنهم وعن هوياتهم.

 

ورغم ما يسببه من دمار، إلا أن الزهايمر لا يطمس كل الذكريات، بل إن كثيرًا من معارف الشخص العامة وذكرياته عن ماضيه البعيد تظل كما هي. وحتى في مراحله المتأخرة، تستطيع الذاكرة الاحتفاظ بالكثير من خبرات المريض الحياتية وتاريخه الشخصي وحكايته، وما يؤمن به.

ومن المراحل المتوسطة إلى المتأخرة من المرض يأتي دور الأنشطة مثل العلاج بالفن والرقص والموسيقى (1) ليشكل وسيلة من وسائل التواصل غير اللفظي التي تعين على التواصل وتعزيز التفاعل الاجتماعي، حتى وإن بدا لنا أن قدرات المريض الأساسية قد تلاشت.

وأذكر على سبيل المثال جدتي التي وصلت إلى مراحل حادة من الزهايمر ومع هذا بقيت معها صفاتها واهتماماتها التي عُرفت بها قبل المرض، مثل ولعها بالموسيقى الاستعراضية، ومعتقداتها الدينية، وحتى حسها الفكاهي.

 

ومع تقدم المرض وانغماس المرضى في الماضي يشعرون بالقطيعة بينهم وبين حاضرهم، حيث يفقدون شعورهم بما يجري حولهم، ويتسلل إليهم الشعور بالغربة، فلم يعد مألوفًا لهم ولا يمثل أي معنى. وهذا هو سبب سلوكهم الذي يوصف عادة بأنه “احتجاجي” أو ثائر ، يتسم بحالة من الشرود الذهني، فقد يخرج أحدهم من مركز الرعاية لأجل العودة إلى المنزل، أو البحث عن مكان عمله، والسؤال عن أقاربه المتوفين.

وتشكل هذه الانتكاسة معاناة لأفراد العائلة حين يدركون الهُوَّة الكبيرة التي فصلت بينهم وبين أحد والديهم، وتصدمهم حقيقة أنهم لم يعودوا جزءًا من ذكريات هذا الأب أو هذه الأم، وأن ديناميات الأسرة التي بُنيت عليها هوياتهم وشعورهم بذاتهم قد تغيرت إلى الأبد.

 

أما ردة الفعل التلقائية من قبل العائلة تجاه المريض فهي محاولة ربطه بالحاضر من جديد. ولعل أقرب الأمثلة المشهودة، هي حين يسأل المصاب بالخرف عن حبيبه المتوفى، ويجيبونه بأنه مات، أو أن المنزل قد بيع. ورغم صحة ما قيل إلا أنه يعيد إليه مشاعر الأسى والحزن، ويجعله في كرب قد يستمر حتى بعد نسيانه المعلومة. ولن ينال المريضُ من هذه المعلومة إلا تكرار حزنه القديم وإثارة قلقه فيعود إلى تيهِهِ باحثاً لا يدري عن ماذا.

 

لهذا فإن اعتبار أن المريض يمر ببعض التغيرات العصبية بدلاً من الحكم عليه بالضياع الأبدي، قد يسهّل التعاطي مع احتياجاته وتلبيتها، وقد يمنحنا أملًا أكبر في توفير بيئة اجتماعية داعمة له. وتُظهر أبحاثنا يومًا بعد يوم أنه عوضًا عن محاولة شرح حاضرهم لهم، ينبغي علينا الوصول إلى ماضيهم -الذي يعيشونه كالحاضر- وذلك لفهم الذكريات والأحداث التي تطوق المريض في لحظته الراهنة. ومربط الفرس في هذا الأسلوب هو فهم خصوصيات من نرعاه لتفسير سلوكه الثائر والصعب ومتطلباته كما لو أنها احتياجات لم تُلبَّى، ومحاولة سد الهوة بينه وبين البيئة المحيطة به. وتلك ليست بالمهمة السهلة على مقدمي الرعاية الذين يتكبدون الكثير من الجهد وقد يفتقرون إلى الوقت الكافي.

 

وهنا أذكر حالة جدتي التي تفاقم اضطرابها مع استفحال مرضها، حين أصبحت تجول هائمة في ممرات دور الرعاية وهي تبحث عن طريق العودة إلى المنزل، ولم تدرك بأني حفيدتها، بل اعتقدت أنني ابنتها وكانت تسألني عن سبب زيارتها في مقر عملها. وبسبب إدراك ممرضات الرعاية لماضي جدتي المهني -حيث كانت تعمل قابلة- فقد هيأن لها أجواء جولات الشاي الصباحية وبعد الظهيرة، وهكذا استطعن إيجاد معنى ومغزى لفعلها بناءً على ماضيها، فالأنشطة البسيطة المرتبطة بذات الفرد قد تحدث تأثيراً كبيراً إذا ما مارسها من جديد في وقته الحاضر.

 

ومع هذا الانتشار الجلي لأمراض الخرف، نجد أن علينا إعادة تعريفها واستيعاب طرق رعاية المصابين بها. وأفضل نهج قد يتبعه أفراد العائلة بمجرد تكيفهم مع التشخيص المبدئي وخروجهم من الصدمة، هو محاولة خلق “صندوق للذاكرة” تحسبًا للأيام القادمة. يمكن أن يساعد في هذا تشكيل مستودع للصور الفوتوغرافية والتذكارات وقصاصات الصحف وجميع الأشياء التي تعني الكثير بالنسبة للمريض، وحتى الأقمشة والروائح التي يألفها ويصنعون بذلك “صندوقًا أسود” يجمع ذكريات المريض.

ويمكن للأغاني القديمة، والموسيقى التي سمعها في طفولته والذكريات المرتبطة بها، أن تعزز من التفاعل الاجتماعي وقد تكون نقطة انطلاق للتذكر من جديد. أما بالنسبة لمقدمي الرعاية، فإن مخزن الذاكرة هام جدًا مثله مثل معرفة تاريخ المريض الطبي، لأنه يمثل جوهرًا هامًا في تحديد هوية الشخص، عافيته النفسية وتوجهاته في فترة معينة من حياته. وكثيرًا ما يتفوق التاريخ الطبي على السرد الشخصي.

 

وللأسف فقد فاتنا اتباع هذا الأسلوب حين أصيبت جدتي بالخرف، وهذا ما تفعله صدمة التشخيص حين تلقي بظلالها على الأهل وتُهدر معها أفضل الخطط للتعامل مع المريض.

وعمومًا، يجب أن لا يُنظر للخرف على أنه “سلوك غير مألوف”، أو أنه “تآكل” للذات كما عُرف عنه. وكما نحاول تعزيز قدراتنا على مواجهة الحياة بمرونة، فإن علينا التكيف مع التغيرات الكامنة داخل إطار هذا المرض، وبهذا فقط سنجد أنفسنا نعبر ذكريات أحبتنا، ونستكشف جواهر من خفاياهم الكامنة في ذاكرتهم، و نبني منظورا جديداً ومشرقاً لحياة أفضل نعزز به تطورنا الذاتي في هذا المجال.

– – – – –

* أستاذ مشارك في علم النفس بجامعة سيدني – استراليا

(1) تقتضي الأمانة العلمية نقل النص كما هو، مع ذلك لا يتبنى ’أثارة‘ جميع   الأفكار الواردة في المقال.

 

مصدر المقال: aeon

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى