- غيداء العويِّد
أفاقت في ساعة متأخرة كعادتها في العامين الأخيرين، أرْسَلَتْ عينيها يسارًا نحو النافذة التي تكاد تحتل الحائط بأكمله، تأملت خيوط الضوء وهي تتذكر كلمتيْ: ضوء فاتر، اللتين لمحتهما قبل أيام أثناء تحريكها السريع لشاشة هاتفها الخلوي.
نَظَرَتْ إلى القلوب الثلاثة التي طُبِعت على معصمها من أثر سوار ذهبي يزين يمينها، حاولت النهوض لكنها تكاسلت مستسلمة للدفء الذي يحفها من جميع الجهات، استعاد ذهنها في تلك اللحظة خاتمة حوار تلفزيوني مع الروائي المصري محمد المنسي قنديل، وبالتحديد الأسئلة الثلاثة التي وجهت له، حين سأله المقدِّم: أنت تقول إن الضوء يأتي من الداخل دائمًا، وإن الضوء الخارجي مجرد حيلة، من أين تستمد ضوءك؟ حَاوَلَتْ نبش ذاكرتها للعثور على إجابة ذلك السؤال ولكنها أخفقت في ذلك.
تحركت بتثاقل من وسط سريرها بعد مُضِيّ ساعة كاملة من التحديق المتواصل في سقف الغرفة، رشقت الماء على وجهها، ورسمت على شفتيها ابتسامة مصطنعة حين وقعت عينها على انعكاس صورتها في المرآة، وتذكرت فورًا ثاني الأسئلة التي وجِّهت للكاتب قنديل: أنت تقول أيضًا إنها مأساة أن تنظر في المرآة ولا ترى وجهك، ماذا ترى في مرآتك؟ هذه المرة أبت إرهاق ذهنها في محاولة اقتناص إجابته الشاردة من بين جدران ذاكرتها، وكأنها تتجنب إيجاد إجابة للسؤال الذي حولته تلقائيًا لذاتها فيما كانت تحدِّقُ في سواد عينيها، وتتحسَّسُ بشرتَها الملساء.
أطفأت الإضاءة بلمسة ناعمة، وغادرت مرآتها، ثم بدأت بتبديل ملابسها وعقلها يستدعي أبياتًا شعريةً اصطفاها مهيب البرغوثي لنعي أخيه الشاعر مريد البرغوثي من الديوان الأخير للراحل “استيقظ كي تحلم”:
“ماذا أفعل وأنا أراهم
(وهم يمشون إلى ما أخشاه)
يغلقون عليّ الباب كمرآة في الظلام
ما شغلُ المرآة عندما لا ينظر فيها أحد؟
ماذا تصنع مرآة وحيدة في الظلام؟”
رددت في باطنها: ماذا تصنع مرآة وحيدة في الظلام؟! ماذا تصنع مرآة وحيدة في الظلام؟!
باغتتها دمعة يتيمة وهي تسترجع ملامح المقدِّم وهو يقرأ السؤال الثالث من اللقاء نفسه: أنت تقول إن الأحلام في أيام الجفاف لا تلد إلا سرابًا، هل ما زلت تحلم؟ وبماذا؟ وهنا انسابت إجابة قنديل بسلاسة دون حرث ذهن، وسَمِعَتْ صوته يقول: لن أكف عن الحلم؛ لأن الحلم يعني التغيير، يعني الخروج عن الواقع والصعود عليه.
سَحَبَتْ ورقةً مطويةً من الرف المعلَّقِ بجانبها، كانت قد طبعتها قبل أيام حين قرأت خبر بيع لوحة: “إمبراطورية الضوء” للفنان البلجيكي رينيه ماغريت[1]، تسمَّرت في مكانها تتأمل عناصر اللوحة الغريبة للرسام الذي نعتوه بـ” سيد الألغاز ” كانت تحاول استقراء المعاني المضمرة في تفاصيل الصورة المطبوعة، واستبصارها، بدا لها أن رينيه كان مغموسًا في عوالم الفكر والفلسفة، تركت الورقة وراحت تبحث عن الفنان السريالي وتقرأ له، استيقنت من صحة تخمينها حين وقعت على نص يثبت أنه كان بعيدًا عن حياة الرسامين ومجتمعاتهم الخاصة، وصديقًا لصيقًا محاورًا للمفكرين والفلاسفة، كما أنَّ له اطِّلاعًا واسعًا على الشعر وفنونه.
بعد ذلك شاهَدَتْ مجموعة كبيرة من لوحاته الشهيرة، فاكتشفت أن كل لوحة تمثِّل حالة فلسفية عميقة ومختلفة، يمكن قراءتها على مستويات متفاوتة، ومن زوايا متعددة، وهذا يتعاضد مع ما قاله ماغريت عن نفسه ” بأنه يخيط فكرة كل صورة، والصور ليست كومة غبية من العناصر ولكنها قصة مستقلة” لفتها اختياره الدقيق للفظة: (يخيط) التي عَبَّرَ من خلالها عن صميم عمله، وتبادر إلى ذهنها معلومة مرت بها وهي أنه ابن خياط، ابتسمت وقالت في نفسها: يبدو أنه ورث مهنة الخياطة عن والده، ولكن كلًا منهما يخيط بطريقته الخاصة، فأحدهما يخيط الملبوسات، أما الآخر فيخيط اللوحات.
خلال عملية البحث صادفتها العبارة التالية ” رؤية ما وراء ما لانراه ” عادت تُعَايِنُ لوحاته، وتمتمت: ألا يجدر أن تكون هذه العبارة عنوانًا لجميع لوحاته! ثم انصرفت إلى اللوحة الغامضة التي ما كانت إلا تجسيدًا حقيقيًا لشخصية رينيه العاشقة للمزاوجة بين المتضادات، المتناقضة بطريقة غير مألوفة كما أخبر النُّقَّاد.
أخذت تمعن النظر في نصف اللوحة العلوي النهاري، ونصفها الآخر الليلي، معتقدةً أنه يتعمد إيصال رسالة مفادها: أن الإنسان أو حياة الإنسان الفعلية ماهي إلا التقاء الأضداد المتعارضة بشكل يُشكل ويستغلق على الأفهام، وهي في الوقت ذاته مازالت تحاول تفسير المغزى المخبوء خلف صراع الليل والنهار، وتتساءل: هل تعكس هذه اللوحة حالة الإنسان في صراعه بين أقداره ورغائبه؟ أم تراه يرمز إلى العراك الخفي بين العوالم الداخلية والخارجية لبني البشر؟ أم أن المعنى أوسع فيشير هنا إلى النزاع الدائم بين الحق والباطل في هذه الدنيا؟ بدا لها وكأن هذه اللوحة تحاكي صورة فوتوغرافية رأتها في أحد مواقع التواصل الاجتماعي، كانت الصورة ملتقطة لريشة طائر ساقطة على الأرض نصفها العلوي أبيض، ونصفها السفلي أسود، كتب أحدهم تعليقًا فوقها: (الطيران والسقوط، الأبيض والأسود، الأضداد أشباه)
ثم تخيَّلَت فجأة رجلًا يقف مكان البيت في الظلام، والضوء ينساب من ناحية قلبه، ولوهلةٍ تساءَلَتْ: هل كان يقول: أيها الإنسان ثمة نور داخلك ينقذك حتى في عمق العتمة، ولكن ما هي دلالة السماء النهارية؟! هل كان يقصد أن النور الذي يشع بين جوانحك سوف يسعفك حتمًا رغم أنف كل تناقضات الحياة التي لا يستوعبها عقلك؟! أَمْسَكَت الورقة وبدأت تحركها وتديرها بين أصابعها في كل الاتجاهات، ثم وَضَعَتْهَا على الطاولة مقلوبة رأسًا على عقب، فأضحى الليل في الأعلى والنهار في الأسفل، وقالت لنفسها متعجبة: الآن أصبح اسم اللوحة: إمبراطورية الظلام، بدلًا من: إمبراطورية الضوء.
خطر لها في تلك اللحظة مقولة بيرم التونسي: “راحت على الشمس نومة والبلد في ظلام”
وتراءى لها وجه الشاعر السوري محمد الماغوط عابسًا في صورته الشهيرة بقلنسوة رمادية، وسيجارة تسترخي بين شفتيه، يتكئ على المنضدة ويردد: سأختار الظلام، سأختار الظلام، فيأتيه الرد بهدوء من جليسه المقابل المناضل الإنساني الكبير مارتن لوثر كينج: لا يمكن طرد الظلام بالظلام، فتمر من أمامهما صاحبة كتاب “أضواء في ظلامي” هيلين كيلر، وهي تسير بخطًى وئيدة وتتلمس طريقها وتطلق حكمتها: ” كل شئ له نكهته، حتى الظلام والصمت، وأنا تعلمت أن أكون سعيدة بصرف النظر عن الحالة التي أنا فيها” وتمضي كيلر في طريقها وتتركهما يتساءلان: ما هي نكهة الظلام ؟
كما خطر لها كلمات كثيرة متعلقة بمفردة الظلام، كانت قد مَرَّت بها خلال قراءاتها في الأيام الماضية مثل: مهد الظلام، جيوش الظلام، عُمْرُ الظلام، باطن الظلام، ساد الظلام، عصور الظلام، أشواك الظلام، أصابع الظلام، التعامل مع الظلام، التحديق في الظلام، السقوط في الظلام.
نَفَضَتْ رأسها وكأنها تحاول طرد عاصفة الظلام وهبوبها المنهكة عن سماء مخيلتها، وألقت على اللوحة نظرة نهائية وهي تقول: لو أردنا أن نجمع كل معاني التناقض تحت قبة واحدة لكانت هذه اللوحة المبهمة هي المثال الأمثل، إنها لوحة يؤطرها الغموض، تختلط في باطنها مفاهيم ذات رمزية عالية، وهنا تستحضر ما قاله رينيه يومًا: ” نحن رعايا هذا العالم غير المترابط” ثم انكفأت على هاتفها الذكي تدقق النظر في لوحة أخرى له تسمى: “الانعكاس المستحيل” وهي صورة لرجل يقف أمام المرآة ويرتدي بدلة سوداء، الغريب في الأمر أننا لا نرى انعكاس وجه الرجل على سطح المرآة كما هو متوقع، ولكن يظهر لنا في نفس هيئة وقوفه قبالة المرآة، أي لا نتمكن من رؤيته إلا من الخلف فقط.
تتوقف لتحليل اللوحة المُلْبِسة في محاولة لالتقاط المعنى الذي ابتغى تصويره للمشاهد، حيث توصلت إلى ثلاثة تأويلات: الأول: أن الإنسان كائن مُعقَّد، مرُكَّب لا يستطيع فهم نفسه التي بين جنبيه، فضلًا عن تعسُّر فهم الآخرين له، فينقل لنا هنا فكرة ضياع الهوية وفقدانها، أما التأويل الثاني: فإنه يُعَبِّر عن مدى زيف الإنسان أمام الآخرين، وأن ما يظهره لا يوافق أو ينافي ما يبطنه، وكأنه يخبرنا بالحكمة التي خلص إليها ومفادها: أن الواقع يجانب الحقيقة، بل ويعاكسها غالبًا.
التأويل الأخير أبسط من سابقه، وهو: أن جوهر الإنسان الحقيقي لا يظهر في ملامحه الخارجية، فلا يهم أن تعكس المرآة وجهه أصلًا، كما لو أنه يحاول توجيهنا إلى إعادة رؤية الحياة من زاوية مغايرة، قائلًا: إن الوجه مجرد قناع مضلِّل، يخبئ خلفه شخصًا آخر لا يدركه بصرك، فالحقيقة الكامنة الكاملة ليس بوسعك الوصول إليها، فالمرئي غير مرئي في أغلب الأحايين، فلا تصدق ما تشي به الملامح السطحية، ولتنفذ عين بصيرتك على العمق البعيد، وكأن اللوحة المرسومة تشابه الحكمة المتداولة لجبران خليل جبران: ” ليست حقيقة الإنسان بما يظهره لك، بل بما لا يستطيع أن يظهره لك، لذلك إذا أردت أن تعرفه فلا تُصْغِ إلى ما يقوله بل إلى ما لا يقوله”.
انتحت جانبًا وحدها وجلست تتفكر في تاريخ اللوحة وبواعثها، تحديدًا في سبل استدرار الإلهام لكل لوحة، متسائلةً عن أصل البداية، والشرارة الأولى التي أشعلت جذوة ريشة رينيه، فكانت المحصلة تُحَفًا فنيةً مدهشةً، فخطر لها الرسام العراقي ستار كاووش الذي واجه التساؤل ذاته في معرضه الشخصي الأول فكان جوابه: إن الإشراقة الأساسية لكل لوحات المعرض جاءت من مقطع صغير قرأته للشاعر المكسيكي أوكتافيو باث، والذي يقول فيه: “الريشة عصفور حي يرزق” و كاووش وفق رؤيته الشخصية يعتبر الشعر رئته الثانية التي يتنفس من خلالها، بعد رئته الأولى التي هي باليت الرسم، فالشعر يمنحه لمحة ضوء تجعله يمضي مع الرسم بمرونة أكبر، وخيال أوسع، فكثيرًا ما يتوقف عند مقطع صغير من قصيدة، ويخلق له مرادفًا تشكيليًا، وله تشبيه جميل في هذا الشأن حيث يقول: أنه ينظر إلى الشعر والرسم كنافذتين مفتوحتين باتجاه بعضهما دائمًا، يتداخل الضوء الذي يشع منهما بطريقة لا نعرف معهما إن كان هذا الضوء قد انبثق من هذه النافذة أو تلك.وهنا استرجعت مباشرة ما قرأته في مقال طويل يُبرهن على افتتان رينيه الكبير باللغة والأدب حتى أنه كان يكتب بعض الكلمات المعبرة في أسفل لوحاته،والحقيقة بدا هذا لها واضحًا بشكل جليّ من خلال اختياراته لعناوين مميزة للوحاته حتى بدت
وكأنها عناوين قصائد شعرية، تمعنت في الأمر قليلًا ثم قالت لنفسها مبتسمة: نعم، نعم إنها قصائد بصرية!
لقد آمنت يقينًا بأن اللوحة عمل فني متكامل؛ كالكتابة الأدبية تمامًا، فاللوحة نص بصري تحتضن بين أضلاعها الأربعة: فوران عاطفة، عصارة تفكير، محصلة تجريب، مخزون ثقافة، صوت ذكرى، وأجنحة خيال، علاوة على أنها تحمل استعارة، وايحاء، وميتافيزيقا، وحبكة، وحيلة وتحدي، فاللوحة بإيجاز هي لب روح الفنان المنساب إلى الألوان، والخطوط، والأشكال.
نَظَرَت مرةً أخيرةً إلى لوحاته تِبَاعًا، كم أحبَّتْ مضمون لوحة استبصار، وأثارت تعجبها كثرة الشروحات المبذولة للوحة: ابن الإنسان، وتساءلت عن الهدف المراد من الحمامتين في لوحة: المعالج، وحرك ماء فضولها عنوان لوحة: رفقاء الخوف ودلالاته المحتملة، وحدقت طويلًا في الغيوم البيضاء في لوحة: المرآة الزائفة، ثم قررت إطلاق تسميتها الخاصة على اللوحة، فحوَّلت عنوانها إلى: عين من سماء، أو: مقلة سماوية، وبعد كل هذه المحاولات التحليلية خالجها شعور بأنها تشاهد أسراب أسرار تحلق عاليًا بمنأى بعيد عن متناول قبضة إدراكها، وتساءلت: هل قطعت أميالًا طويلة في مضمار الفهم؟ أم أن ما توصلت إليه لا يعدو كونه مجرد بصيص فهم؟
وكم تمنَّتْ لو كان في مقدورها الإتيان بالرسَّام، وربطه مكتوف الأيدي، مثبَّتًا أمامها في كرسي، فتستجمع تركيز حواسها كله؛ لتستفسره، وتستفصله، وتستنطقه عن الحقائق الغامضة لأعماله كاملةً، ثم تسجل اعترافاته وتوثقها؛ بغرض نشرها إلى جمهوره في أنحاء العالم، لكنها ابتسمت ضاحكة، وتذكرت معلومة صادفتها تفيد بأن ماغريت كان يرفض أي محاولات لفك تشفير معاني أعماله، وهو في هذا يقف في صف معظم الفنانين التشكيليين الذين يتبنون فكرة الامتناع عن ترجمة معنى اللوحة، ومنهم الفنان ستار كاووش أيضًا حيث قال: وتبقى اللوحة في النهاية عبارة عن خدعة بصرية، فيها جمال ودهشة وتفرد، نُحِسُّهَا وتؤثر فينا من دون أجوبة محددة لذلك، العملية أشبه بغناء عصافير، لم نفهم ماذا تقول، أو لماذا؟ ولكننا نتمتع بذلك إلى حدود الدهشة.
[1] بيعت اللوحة بمبلغ 59.4 مليون جينيه إسترليني في مزاد أقيم مؤخرًا في العاصمة البريطانية لندن.
المقال جميل، هل تتكرم الكاتبة بمشاركتنا ما فهمته من بقية اللوحات، لم اجد الكثير عنها في الشبكة .