عام

التقنية والابتكار الاجتماعي

في أحد معسكرات الابتكار سألت أحد الفرق المشاركة: ما المشكلة التي تعملون على حلّها؟ فأجابوا مباشرة: “مشكلتنا نبي نعمل تطبيق”!

جملة سريعة ومختصرة تبيّن حجم التصور المغلوط تجاه دور التقنية في حل مشاكلنا المجتمعية. حاولت جاهدًا إقناعهم بأن التطبيق ليس المشكلة المراد حلّها، وإنما أداة من أدوات حل المشاكل، وآمل أني فعلت.

كثيرًا ما ارتبط الابتكار في أذهان الناس بالتقنية، وحُصرت أمثلته في التطبيقات والأجهزة الذكية، وتعامل الناس مع التقنية باعتبارها الخلاص والملاذ من كل أزمات البشرية، والمتابع لنتائج مختبرات الابتكار يجد الكثير من الحلول المقترحة معتمدة على التقنية مع استبعاد الأفكار المستغنية عنها. يطلق أليكس جورياتشيف -مدير مراكز الابتكار التابعة لشركة سيسكو- على هذا النوع من التفكير وصف “الخوف من تفويت التقنية”، فأصحاب هذا التفكير من خشيتهم تفويت أحدث التقنيات وأعظمها، ينسون ما ينبغي التركيز عليه في الواقع وهو القيمة المراد تقديمها.

ولأن الحديث هنا عن نوع محدد من الابتكارات، فغالبًا ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن الابتكار الاجتماعي التجارب التي وظّفت التقنية في خدمة المجتمع، وهذا الاختزال لمفهوم الابتكار عمومًا، والابتكار الاجتماعي خصوصًا حريٌّ بالمعالجة والتوسعة، وبيان دور التقنية الحقيقي في الابتكارات. فإن كانت التقنية خدمت البشرية، وسهّلت على الكثير منهم الحياة، فهي في الوقت نفسه، كانت عبئًا على آخرين، ووبالًا على مشاريع، ومآلًا فاشلًا للعديد من الأشخاص الذين رأوا فيها الخلاص ولم يقدروها حقّها.

بعد ثورة التقنية وصدارتها في سوق ريادة الأعمال ومحاولات استثمارها في المجال الاجتماعي، ظهر ما سمّي بـ “الابتكار الاجتماعي الرقمي – DIGITAL SOCIAL INNOVATION “. وهو نوع من الابتكار الاجتماعي الذي يتعاون فيه المبتكرون والمستخدمون والمجتمعات باستخدام التقنيات الرقمية للمشاركة في إنشاء المعرفة والحلول لمجموعة واسعة من الاحتياجات الاجتماعية، وتغطي نطاقات واسعة، وبسرعة لم يكن من الممكن تصورها قبل صعود الإنترنت. أو يمكن تعريفه بشكل أبسط بأنه استخدام التقنيات المفتوحة والتعاونية لمواجهة التحديات الاجتماعية وتغيير حياة الناس.

يتداخل هذا المصطلح مع مصطلحات أخرى مثل “التكنولوجيا من أجل الخير” و”التكنولوجيا المدنية” و”التكنولوجيا الاجتماعية”، ولا مشاحة في الاصطلاح كما يقال، الأهم هو السير في نفس الاتجاه وتشارك ذات الأهداف: إعادة توجيه التكنولوجيا لتحقيق أهداف اجتماعية، وتسخيرها لتحسين الحياة وإفادة الكثيرين بدلاً من القلائل؛ ومن ذلك تمكين المواطنين من السيطرة بشكل أكبر على حياتهم، واستخدام معارفهم ومهاراتهم الجماعية لتحقيق تأثير إيجابي؛ أو جعل الحكومات أكثر شفافية، وتعزيز البدائل للنماذج التكنولوجية والتجارية السائدة والترويج لها باعتبارها بدائل مفتوحة وتعاونية وليست مغلقة وتنافسية، واستخدام التكنولوجيا لخلق مجتمع أكثر استدامة من الناحية البيئية.

يقول مات ستوكس، منسق شبكة الابتكار الاجتماعي الرقمي، بأن التقنيين مذنبين بالطوباوية التقنية غالبًا، وبالبحث عن المشكلات التي تكون التكنولوجيا هي الحل لها. ولكن منظور الابتكار الاجتماعي الرقمي ينظر للتقنيات الرقمية كأداة وليس غاية في حد ذاتها. فالتكنولوجيا الرقمية هي مجرد وسيلة لمواجهة التحديات الاجتماعية الملحة، وعليه فالبداية تكون من المشكلات دائمًا.

الابتكار الاجتماعي الرقمي أحد طرق الابتكار الاجتماعي بشكل عام، فهو يمتد عبر المجالات الاجتماعية، وله روابط وثيقة بالعديد من المجالات الأخرى لأبحاث وممارسات الابتكار الاجتماعي. وهذا يستدعي التشارك مع العديد من الجهات والمنظمات كعادة الابتكار الاجتماعي دائمًا، فعلى سبيل المثال، لأخذ الشبكات داخل مشروع مجتمع الابتكار الاجتماعي، يتداخل “الابتكار الاجتماعي الرقمي” بشكل وثيق للغاية مع الاقتصاد التعاوني، ومع الابتكار الذي يقوده المجتمع، ومع ابتكار القطاع العام. من المهم بدلاً من فصل أنفسنا في صوامع للابتكار الاجتماعي، أن نعمل معًا لإحداث تأثير أعمق وأوسع.

والأفضل من ذلك، عندما جمع المختصين من مجالات مختلفة، فلكي توسع نطاقات “الابتكار الاجتماعي الرقمي” من الضروري جلب مجموعة واسعة من أصحاب المصلحة، مثل صانعو السياسات وموظفو الخدمة العامة والمستخدمون النهائيون والمستفيدون والتقنيون وعلماء الاجتماع ومنظمات المجتمع المدني معًا. لا يمكن لأي من هذه المجموعات وحدها أن تنجح، ولهذا السبب تعتبر الأساليب الشبكية مهمة جدًا.

هناك المئات من المشاريع القائمة حاليًا تحت تصنيف الابتكار الاجتماعي الرقمي والتي تستخدم مجموعة كبيرة من التقنيات: إنترنت الأشياء، والتعهيد الجماعي، والتطبيقات، والبيانات المفتوحة، والشبكات الاجتماعية، والتصنيع الرقمي. ويتم استخدامها لمواجهة التحديات في جميع المجالات تقريبًا، بما في ذلك التعليم والرعاية الصحية والديمقراطية والشفافية والمساءلة والبيئة والهجرة، فضلاً عن عدم المساواة والفقر والعدالة والإسكان وغيرها الكثير.

لست في صدد حصر فرص توظيف التقنية في الابتكار الاجتماعي، فهذا موضوع يستحق دراسةً أوسع من هذا المقام، ولعل أحد المختصين يتصدر لها، وهدفي هنا -إن صح الوصف- تقليل العشم في التقنية، لا أكثر.

نعيش في عصر التقنية لا أحد يمكنه إنكار هذا، المعترَض عليه اعتبار التقنية هي الحل لكل مشاكل العصر.

وأخيرًا، لنتذكر أن الابتكار لا يتعلق بالجديد، بل بالمفيد، وبالأفضل للمستفيد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى