- زات رانا
- ترجمة: أسيل جرار
- تحرير: سهام سايح
رُبّما يكون من المعروف عن الراحل ريتشارد فينمان أنَّه حاز على جائزة نوبل لعمله في الديناميكا الكهربائية الكميَّة، ولكن ما قد لا يعرفه معظم الناس عنه أنَّه كان أيضاً سارق خَزناتٍ على مستوى عالمي.
في الأربعينيات من القرن الماضي، وفي صحراء نيومكسيكو، شعر فينمان بالملل بينما كان يقوم بالعمل على مشروع منهاتن الذي كان من شأنه أن يؤدي إلى ولادة القنبلة الذرية، فقرّر بالتالي كعادته أن يشغل نفسه بتدبير المقالب لزملائه.
ولعلْمِه بمدى إهمال زملائه بالخزنات التي كانت تحفظ وثائق غاية في الأهمية – سواء كان ذلك بنسيان إغلاقها، أو بتركها مضبوطة على إعدادات المصنع، أو باختيار تواريخ واضحة ككلمات مرور لها – بدأ فينمان بترك ملاحظات بأماكن عملهم، مثل:
” لقد استعرت المستند رقم ل أ 4312 – لص الخزنات فينمان “
وفي نهاية المطاف أصبح فينمان بارعاً بذلك للغاية، حتى أنَّ العقيد الموكل عن تلك الوحدة بدأ يشير إلى الجميع بتغير مجموعة الأرقام السريَّة لأقفالهم كلّما مرَّ فينمان بأي مكان بالقرب من خزائنهم.
تعدُّ هذه القصة واحدة من العديد من القصص التي أخبرنا عنها فينمان في سيرته الذاتية (بالتأكيد أنت تمزح سيد فينمان !) حيث تخرج طبيعته اللعوبة أفضل ما في كلٍ من ذاته و انتباهه.
ومن أكثر الأشياء التي طالما كانت تثير إعجابي شخصيًا حول فينمان أنَّه كان فضولياً جدًا حول الأشياء، حيث كانت الغاية الوحيدة من أيّ شيء يقرر الالتزام به هو إيجاد ما هو مثير للاهتمام.
كان لفينمان أهداف عامة بالتأكيد، و نظراً لتعقيد العمل الذي كان يقوم به، فقد كان بالطبع شخصًا يركز على الأهداف بدرجة كبيرة. ولكن الدافع المُوجِّه الذي أرشده كان يفوق الأهداف، و الطموحات البسيطة فقد كان فينمان مهتماً بصورة أكبر بالوصول إلى ما وراء المعروف.
تعدُّ الأهداف و الطموحات في الغالب أمرًا مشتركًا بين جميع مساعينا. فنحن ننظر للأمام، ونتوقع الأمور التي قد تُسعدنا في المستقبل، ثم نصل في النهاية إلى تحديد هدفٍ معينٍ من بين عدَّة أهداف. ولكن ماذا لو لم تكن هذه الطريقة المثلى للقيام بالأمر؟
هل تكمُن الإجابة بالسّعي من هدفٍ لآخر؟
إنَّ امتلاك توجُّهٍ ما –سواء أكان غامضًا أم محددًا- يعد أمرًا ضروريًا عند التعامل مع المستقبل، لأنَّه في حال عدم امتلاكنا لأيّ توجُّهٍ فهذا يعني أنَّ تيار الحظ و العشوائية قد يقوم بتشكيلنا، الأمر الذي قد لا يكون نعمةً في كثير من الأحيان.
ولممارسة بعضًا من مظاهر إدارتنا لحياتنا فإننا نلجأ في العادة إلى وضع الأهداف. فلقد تعلمنا أن نفعل هذا في سنٍ مبكرة ٍحتى نتمكن من مواكبة العالم من حولنا. فيما بعد قامت الشركات، على سبيل المثال باستعمال اختصارات مثل الأهداف الذكية (SMART goals) – مأخوذة من الحرف الأول لكل كلمة وهذه الكلمات هي محدد Specific , يمكن قياسه Measurable , يمكن تحقيقه Attainable , ذات صلة Relevant, يمكن متابعته Time Based– لتشجيعنا على الاستمرار في وضع الأهداف.
وسواء كنَّا نقوم بوضع أهداف ذكية (SMART)، أو أيّ أهداف شخصية أخرى ضمن إطارنا الخاص – أو بلا إطار– فالشيء الوحيد المشترك بين هذه الأهداف هو كونها ملموسةً نسبيًا. فأنت تريد الزواج في سن الثلاثين، والحصول على منصب إداري في سن الأربعين، والتقاعد في سن الخمسين، فهكذا ما يتم صياغة هذا النوع من الأهداف.
إنَّني أميل في معظم الأوقات إلى القول بأنَّ امتلاك هذا النوع من الأهداف الملموسة خيرٌ من عدم امتلاك أيّ هدف، كما أنَّ بعض الناس لديهم أكثر من غيرهم نزعةً جينيةً تدفعهم للشعور بالرضا بمجرد القيام بإنجاز محددٍ و ملموس. لكن في المقابل هناك بعض المشاكل التي تنشأ جراء قضاء حياة كاملة في السعي من هدف لآخر.
أولاً، تسعى هذه الطريقة في وضع الأهداف إلى التنبؤ بالمستقبل الذي لا يمكن التنبؤ به. فمن يستطيع القول بأنَّ ما تريده غدًا أو في السنة المقبلة هو ذاتُ الشيء الذي تريده في هذه اللحظة؟ و الأهم من ذلك، ماذا لو كان ما تريده الآن غير موجَّهٍ نحو الاتجاه السليم على المدى البعيد وأنَّك في الواقع تتجه نحو الطريق الخاطئ؟ فالحياة تتغير، ونحن نتغير، فلا شيء من هذه الأمور يعدُّ واضحاً إلَّا بعد حدوثه.
ثانيًا، وعلى نفس القدر من الأهمية فإنّه ينتج عن هذا الأسلوب خلق مرساة تثبِّت صاحبها بشيء معين، ففي هذه الحالة أنت تربط توقعاتك حول السعادة و الرضا بشيء واحد فقط لدرجة أنك تنسى وجود الكثير من الأشياء الأخرى التي بمقدورها إضافة نفس القدر من المتعة إلى تجاربك.
إنَّ الجميع يعلم أنَّ المكافأة الحقيقية تكمُن في عملية السير نحو الهدف لا بالهدف نفسه. لكن ما نغفله هو أنَّه حتى مع امتلاك ميزة وضع الأهداف فإنّه من الصعب جدًا على الشخص أن يبقى مخلصًا لعملية السّير نحو الهدف التي قد تنحرف عن مسارها من يوم لآخر.
يخلق هذا الأمر في النّهاية تعارضًا غريبًا ، فمن جهة تعدُّ الأهداف ضروريةً نوعاً ما ، كما أنّه من الصواب إعطاء المستقبل الاهتمام اللازم ، ومن جهة أخرى فإنَّ القيام بوضع هذه الأهداف و من ثم عبادتها – كما نقوم بالعادة– يؤدي إلى صراعٍ لا يمكننا التخلص منه بسهولة.
ولحل هذا التعارض يجب علينا التوجُّه نحو شيء أكثر غموضًا.
السعي وراء المتعة
إنَّ الشيء المثير للذهول و الإعجاب في شخصية فينمان هو أنّه كان يجعل هدفه ببساطة أن يتعلم بقدر المستطاع من أيِّ اتجاهٍ يقوده إليه فضوله الفطري.
بما أنَّ فينمان كان قد قضى فتراتٍ وجيزة من حياته و هو يعمل على حل مشكلة أو أخرى، فهذا يعني أنّه كان بالتأكيد يمتلك العديد من الأهداف المحدّدة التي كان يسعى إلى إعطائها التركيز المطلوب بدون أيّ مشتتات. لكن توجُّهَه بشكل عام كان مُصوَّبًا نحو الأشياء التي يجدها أكثر إمتاعًا.
إنَّك بجعل المُتعة هدفك الأساسي تمنحُ أهدافك الفِعلية المرونة اللازمة لاستيعاب المعلومات الجديدة بشكل أفضل.
إنَّ السّعي وراء المُتعة في رأيي يحُل الأزمة الكامنة في تحديد الأهداف، فهو على درجة كافية من الغموض و الضبابية لجعل الشخص صادقًا عند التعامل مع المستقبل الذي لا يمكن التنبؤ به دون الضياع بشكل يائس في فوضى الحظ المحض و العشوائية.
يرى كلُّ فردٍ منا في هذه الحياة أمورًا، و يتعلَّم أمورًا، و يسعى نحو أمور عديدة ، و تختلف هذه العملية من شخص لآخر حيث نطوِّر خلال قيامنا بذلك حدسًا قويًا حول ما نجده مذهلاً في هذا العالم – أي إيجاد شيء يتماشى مع طبيعتنا الداخلية – و يحترم في ذات الوقت طبيعتنا المُتغيرة كبشر متيحًا المجال لنا لنتأقلم حسب المتغيرات.
لا تعني المُتعة السّعيَ وراء الملذات و الماديات، أو مطاردة كل شيء جديدٍ ولاَمِع يسعى لتشتيت انتباهك . إنَّ الأمر أعمق من ذلك بكثير، فالمُتعة هي أن تتولى ذلك المشروع العشوائي الذي لم تخطط يومًا لتوليه فقط لشعورك بأنه سيفسح لك المجال لاكتشاف شيء جديد لم تكن تعرفه عن نفسك ، أو أن تنظر لشخص قد قابلته للتو لا كشريك محتمل، أو كشخص قد يقدم لك شيئًا ما بل كفرد قد يفتح لك بعداً جديداً و مجهولاً و فريداً.
تكمن الروعة في هذا النوع من السّعي نحو المُتعة في كونه يمتلك حلقة تغذية راجعة أقصر بكثير من تلك الناتجة عن وضع أهداف محددة؛ فأنت تستمر في فعل شيء معين طالما تشعر بأنّه ممتع ولكنك قد تتركه و تمضي قُدمًا بمجرد شعورك بأنك قد أخطأت في تقدير دافعك الأولي.
إنَّه لمن الطبيعي أن لا يكون جميع الأشخاص و الأشياء مثيرين للاهتمام طوال الوقت، لكن بشكل عام، إذا حاز شيء ما على اهتمامك لفترة معينة من الوقت فمن المحتمل أنّه يستحق أن تُكرس بعضًا من طاقتك لأجله.
إنَّك بجعل المُتعة هدفك الأساسي، تمنح أهدافك الفعلية المرونة اللازمة لاستيعاب المعلومات الجديدة بشكل أفضل، كما و يساعد ذلك في دمج الهدف مع عملية السير إليه بدلاً من جعله شيئًا مُنفصلا يُناضل لإبعاد انتباهك عن العملية .
يعمل السّعي نحو المُتعة أكثر من أي شيء آخر على تكريم الحقيقة البسيطة للتجارب البشرية، ألا وهي أنَّ أفضل الأشياء تكمن في المنتجات الجانبية، حيث تخرج هذه المنتجات عندما تُلزِم نفسك بالقيام بعملية السّير نحو الهدف بإخلاص لا عندما تُفني وقتك في السّعي نحو كَمال خَيالي.
المحصلة النهائية
إذن يتطلب المستقبل منَّا الاهتمام، وعلى الرغم من أنَّ تركيز جُلّ طاقتنا نحو المستقبل يعد أمرًا انهزاميًا، إلاّ أنّنا نحتاج إلى تعمُد توجيه بعض جهودنا نحو المستقبل عندما نُوجِّه أنفسنا في هذا العالم.
وتعدُّ الأهداف أحد الطرق التي تساعدنا في ذلك، فهي تفتح الطريق أمامنا لجعل ما هو غير مؤكد أمرًا ملموسًا، ممَّا يساعدنا على إحراز التقدم دون الوقوع في شباك القلق، إلاّ أنَّ المشكلة تكمن في أنَّ الأهداف تجعلنا نخطئ التفكير، ظانّين أنَّ ما يساعدنا على تحديد ميولنا يعتبر غاية في حد ذاته لا وسيلة.
إنَّ أفضل طريقة للخروج من هذا الفخ يكمن بالسّعي نحو المُتعة، حيث نستخدم حدسنا في السّعي وراء كل ما هو جديد في هذا العالم ، لجعل الهدف و عملية السير إليه أمرًا واحدًا، ممَّا يُساعدنا على الاستمرار في تجديد شعورنا بما يستحق منا السّعي وراءه دون أن نكون حبيسي اليقين الزائف.
المتعة تبحث في لغز الحياة، و تعطينا سببًا لقلب الصفحة التالية، و لرؤية المشهد التالي، و لإعطاء المجهول شكلاً معروفًا.
جَسَّد فينمان هذا المفهوم بوضوح، كما أنّه قال ذات مرة شيئًا يعكس الفرق بين السّعي نحو المتعة من جهة، و السّعي نحو الأهداف المجردة، و الحقائق المؤكدة من جهة أخرى، فقال:
“أظنُّ أنَّ العيش بلا معرفة أكثر متعةً من الحصول على إجابات خاطئة لتساؤلاتنا، فإذا ما سمحنا لأنفسنا بذلك فإنّنا نبقى غير متأكدين عند إحراز التقدم مُتيحين المجال لفرص أكثر للبدائل … و من أجل إحراز التقدم علينا أن نترك الباب مفتوحًا قليلاً أمام المجهول.”
إنَّنا نفترض على نحو خاطئ عند وضع الأهداف أنّنا نعلم بالفعل ماذا نريد. في المقابل يُعدّ السّعي نحو المتعة أكثر تواضعًا، حيث يساعدك على اتخاذ قرارك أثناء عملية السّعي منتقلاً من شيء لآخر حتى تصل في النّهاية إلى إدراك ما يكمُن وراء التوقعات.
قد يحدث أحيانًا أن ننظر للمستقبل و نتصوّر سيناريوهات ظانِّين أنَّها تستحق أن تأخذ من وقتنا، لكن ما يهم في نهاية اليوم هو ما يجري حولنا في الحاضر لا ما تخيلناه البارحة.
اقرأ ايضاً: ألدوس هكسلي وروايته عالم جديد شجاع: الجانب المظلم من المتعة
المصدر: qz