عام

الإنترنت في قبضة أثرى رجل في العالم

الإعفاءات الضريبية، وسياسات العمل الجائرة، والنموّ الهائل، كيف جعلتْ جيف بيزوس يحقق السيادة لأمازون بين الشركات العالمية؟

  • روب لارسون
  • ترجمة: سهام محمد
  • تحرير: أروى الشاهين

ما إن حلَّ صيفُ 2017 إلا وأصبح مؤسّسُ أمازون ورئيسها التنفيذي (جيف بيزوس) أثرى رجال العالم طرًّا، متفوِّقًا على الرئيس التنفيذي السابق لمايكروسوفت (بيل غيتس) الذي ظلَّ متمتِّعًا بعرش الثراء طوال عقدٍ من الزمان، ولم يكدّر طلاق (جيف بيزوس) على ثروته، مع أنه يعدّ الطلاقَ الأكبر كلفةً عالميًّا وذلك عام 2019، ولم تهتزّ امتيازاته الممنوحة له في التصويت في الشركات.

كان قد جنى ثروته المقدرة بـ: 108$ مليار دولار -وفقًا للحسابات في الولايات المتحدة- من شركته الكبرى، التي تقلّدت في سنواتها الأخيرة لقبَ (أكبر شركات العالم) بمعيِّةِ أضخم شركتين في مجال التكنولوجيا: مايكروسوفت، وآبل.

تعزو أمازون نجاحَها العظيم إلى سياستها الموسومة بـ“الهوس بالمستهلك”؛ إلا أنَّ السجلاتِ تفصح عن سببٍ آخر، أنَّ انتعاش الشركة وتصاعد اسمها ليس إلا حصيلةَ الكثافة الشديدة التي أسهمت في تقوية الشبكة الاقتصادية، واستثمارها الضخم لعمّال الياقات البيضاء والزرقاء[1] معًا، والإعفاء من ضريبة المبيعات.

في بدايات الشركة أفصح بيزوس لزميله عن رغبة حثيثة تحدوه ليحقّق لشركته قفزةً سريعة، معبِّرًا عن رغبته بقوله: “الصغير معرّضٌ دائمًا للسرقة ممن يكبرونه … علينا أن نعادلَ القوى الشرائية مع دور النشر الراسخة والمعروفة”،

إلا أنَّ ازدهارَ شركته بنفسها لم يحقّق مبدأ تكافؤ الفرص؛ بل العكس استغلت نفوذها الذي ما فتئ يتسع، وأرغمت بقوتها التفاوضية قطاعاتِ السوق بأسرها لتتنازل عن أرباحها لأمازون! علّق أحد الكُتاب على الصفحة الأمامية للشركة عن الحدث بقوله: “تحوَّلنا من داوود إلى جالوت على مرأى من الناس ومسمع منهم”[2].

أسّس بيزوس أمازون –بعد نجاحها على مدى أعوام- محفظةً استثمارية في وول ستريت، ومنذ البدايات كان يخطّط “لاستغلال” الإنترنت، وهو ما يوضحه أنموذجه في العمل (business model)، ومردُّ القيمة للاستراتيجية المتّبعة عنده قائمةٌ على (تجارة التجزئة في الإنترنت) التي تقلّ معها تكلفة المعاملات، أو ما يسمى بـ (transaction costs) وهو مصطلح اقتصادي يصف تكاليف عقد الصفقة.

حيث تحتاج هذه التجارة [التقليدية] إلى تكاليفَ مرهقةٍ، مثل: ثمن الوقود، والتنقّل، والمواصلات للوصول إلى المتجر، والتقيّد بساعاتِ عملٍ في قطاع التجزئة، بإزاء التسوّق في الشبكة العالمية الذي شرع بابًا جديدًا، وحقّق سبيلًا أخرى مريحة، ومازلنا نلمس أثرها حتى يومنا هذا؛ إذ ساهم انخفاض تكاليف معاملات التجارة الإلكترونية في توسّع تجارة التجزئة فيها، على حساب المتاجر التقليدية.

بدأ بيزوس في تشييد امبراطوريته معتمدًا على تجارة الكتب، لغاياتٍ نفعية بحتة، فهي تُشحن في حالة جيدة، مأمونة من التلف يوفرها تجّار الجملة في يسرٍ بالغ.

ارتفعت المبيعات ارتفاعًا سريعًا في منتصف التسعينيات، وتوسّعت الشركة في السلع المباعة، فوفرت أشرطة الـ DVD والموسيقا والألعاب والإلكترونيات، كان النمو عجيبًا مع ارتفاع الإيرادات التي تجاوزت نسبة 50% خلال بعض الأرباع.

يمكننا أن نفسّر هذا النمو إلى أسبابٍ عديدة، لكنّ السببَ الجوهري كان (تأثير الشبكة الاقتصادية) وفي الأسواق التي تستخدم الشبكات -مثل شبكات الهاتف- فإنَّ قيمة الخدمة تزيد بتهافت الناس عليها واستخدامها، وامتدّ تأثير الشبكة حينما قررت (أمازون) ألّا تكتفي بكونها محطةً افتراضية واسعة لتجارة التجزئة، بل طمعت بأن تكونَ مِنَصّةً لعرض بضائع المستخدمين على موقعها المركزي الافتراضي.

والمبيعات العالية للسلع بأنواعها كانت بأسعار زهيدة وكميات ضخمة، مما هيّأ لأمازون أن تخفض أسعارها لتحقق للمستهلك منحةً قصيرة المدى، وخطوةً كبرى فتحت للشركة مجالاتٍ أوسعَ في أعمالها، ومن ثم تخفيضات أكبر وفرصة لجذب عددٍ هائل من باعة الطرف الثالث إلى مِنصَّتها.

أثناء عام 2002 بلغت مبيعاتُ الطَّرف الثالث ثلثَ السيولة النقدية، لكنّ (أمازون) بقيتْ مسيطرةً في طريقها واضعةً نصبَ عينيها أن تزيدَ من قوِّة مِنَصَّتها، فحققَّتْ ذلك بتفعيلها خدمةَ الـ(برايم) ضمن برنامج (ولاء أمازون Amazon’s loyalty program)[3]، الذي يقدِّم خدمةَ الشَّحن السريعة (والبثَّ الإعلاميَّ حاليًّا) مقابلَ رسومٍ سنوية.

بهذا ضاعفتْ (أمازون) كميّةَ المبيعات، وانخفض سعر السِّلع، وفتحتْ المجالَ لمفاوضاتٍ قوية مع المورِّدين، وبعدها بعشر سنوات، حقّق باعة الطرف الثالث في أمازون مبيعاتٍ بما يقارب 40% من السِّلع المشحونة، وما يتجاوز مليوني بائع تجزئة على سوق أمازون.

وفي السنة الأخيرة كانت أغلب المبيعات 58% من السوق، وما يقارب 1% من الأمريكيين الذين يبيعون سلعهم على أمازون، مقابل عمولة ثابتة بنسبة 10% -تقريبًا- على كلِّ عملية بيع، وبذلك نجحت المِنَصَّةُ وجذبتْ آلافَ الشَّركات الصَّغيرة والمتوسطة، المتلهِّفة للبيع على أمازون دون تكبِّد عناء إنشاء مواقعها الخاصة.

أعجب ما في الأمر أنَّ (أمازون) خفّضتْ أسعارَ الباعة المستقلِّين، ودفعتِ الفرقَ عنهم في سبيل حماية مِنَصَّتها وحرصًا على توسِّعها، وبديهةً ألّا معنى لهذا “الخصم” من أمازون إلا بإدراكنا المكانةَ الكبرى التي توليها الشركة لقوتها.

مع هذا التوسّع الهائل لأمازون وغيرها من مِنصّات التكنولوجيا، فقد لجأت أمازون إلى أن “تجنّد” التجَّار الصِّغار ليبيعوا في موقعها، طامعةً بذلك أن ترسّخَ أوتاد مِنَصَّتها بقوة في الاقتصادات الضخمة، مثل الهند، وأفادت تقاريرُ صحف الأعمال أنَّ أمازون بلغ بها الأمرُ إلى أن تمنحَ الشركات الصغيرة قروضًا تضمن معها وجود بضائعها على المِنَصَّة، ولتفتح المجال للمزيد من الأعمال، وقد واجهت الشركة تحدّيًا قانونيًّا سنة 2018 من eBay التي اتهمت أمازون بسرقة بائعيها ذوي القيمة العالية باختراقها نظام المراسلة الداخلي.

مع اتساع أمازون المتزايد، استمرّتْ خسائرها الماليّة -وهي سمةٌ عامّةٌ في تاريخ الشركة- لكن كيف حافظ بيزوس على مستثمريه مع ذلك؟!

استنتجت تقارير الأعمال إلى أنَّ معدّلَ النموّ الضخم الذي اعتمدته أمازون هو السبب في بقائها؛ إذ ضمن لها هذا النمو قوةً ورواجًا في السوق، وأرباحًا مستقبليّة ضخمة، وهو ما تقبله المستثمرون، كلُّ ذلك كان مقابل التضحية بالأرباح الصغيرة على المدى القريب، وجملة بيزوس الشهيرة “هامشك هو فرصتي” نعزوها جميعًا إلى شيء واحد، هو تأثير الشبكة  (network effects).

حتى لحظة كتابة هذا المقال، تعتلي أمازون عرشَ ثاني أكبر شركات العالم -حسب قيمتها السوقية، بعد مايكروسوفت وقبل آبل وغوغل وفيسبوك- بـمبلغ 177 مليار دولار من الإيرادات السنوية وبضعة مليارات من الأرباح السنوية، والفضل في ذلك لخدمات الحوسبة السحابية؛ إذ تُعدّ أمازون من بين قادة “تحسين” العمليات التجارية بوضعها معايير لتقييم كل قرار، ثم إنشاء تفضيلات من خلال الخوارزميات التي تدير جزءًا واسعًا من نشاط المنصة اليومي.

وأمازون تعتمد اليوم على هذه الأنظمة في “مسح” بيانات التسعيرة بانتظام، من مواقع المنافسين ثم مطابقتها أو تخفيضها قليلًا لتزيد قوة منصتها، وتحصد حصة سوقية أكبر.

لقد أثبتت أمازون استبدادها الحقيقي في السوق بتاريخها الطويل، مستغلة نفوذها لتفكيك العميل  فالمنافس فالمستهلك، وهي قصة مذهلة تكررها الشركة؛ لتسوّغ زيادة سيطرتها المستمرة، مستخدمةً قانون الغابة التي سمّيت باسمها.

سرعان ما أثبت نموّ أمازون الضخم صحةّ مقولة بيزوس تلك:”الصغير معرّضٌ دائمًا للسرقة ممن يكبرونه…”، ها هي الآن من (الكبار) المحتذين بالمقولة، لقد نالت الاعتراف بقوتها الضخمة عند نسبةٍ لا يستهان بها من الغالبية، بما في ذلك ما يسميه الاقتصاديون بقوة “الاحتكار” -امتلاك زمام السلطة عن طريق مشترٍ كبير- ويختلف عن احتكار البيع، يتجلى هذا في مفاوضات أمازون مع UPC أكبر شركات الشحن الأمريكية، فعندما تعاقدت معها أمازون لنقل شحناتها، تخلّت عنها أمازون بعد ارتفاع مكانتها وتوجهت إلى شركة الشحن FedEx ودمجت بياناتها معها بهدوء في ظل تكاثر الشحنات.

ولمّا رفضت UPC المفاوضات، لم تتردّد أمازون في قطع علاقتها بها، لتتحول UPC بين ليلة وضحاها من شركة شحن تستقبل ملايين الطرود اليوميّة إلى مستودعٍ فارغ، وبسبب انخراط أمازون مع FedEx أثناء اعتمادها على البريد الأمريكي الذي سهل لها شحن أعداد هائلة من الطلبات -ومنحها قدرة على السلاسة مع المشترين- فقد تسبب هذا بتحول فيدكس إلى كهف بعد 72 ساعة، واضطرّت إلى الخضوع للمفاوضات بأسعارٍ متدنيّة لصالح بيزوس.

لاحظ براد ستون في كتابه الصادر 2013 “متجر كل شيء: جيف بيزوس وعصر الأمازون” أنَّ التجارب علّمت “الشركة درسًا في استغلال النفوذ، وحقيقة البقاء الدارويني في عالم الأعمال الكبيرة”.

ومع توسع أمازون في شتى المنتجات وأنواع السلع، دخلت بعض التقنيات إلى حيز اهتمامها، ومنها diapers.com وهي شركة ناشئة لمنتجات الأطفال يديرها رجال أعمال يولون بيزوس التقدير، كانت خدمة توصيلهم أشبه بهِبَةٍ من السماء للآباء المُتعبين، وتمكّنت هذه المجموعة الصغيرة من جمع الملايين في رأس المال الاستثماري، وما إن شعر فريق بيزوس بوجود فريسة حتى أبلغوا مؤسسي diapers.com أنَّ أمازون على وشك إطلاق مجموعةٍ ضخمة من الفئة نفسها، والأفضل للجميع أن يتفاوضوا على الاستحواذ، وحين رُفض “العرض” خفّضت أمازون منتجات الأطفال عندها بنسبة تصل إلى 30% ، وصرّحت لاحقًا أنّه لا علاقة لتخفيضها بهذه الشركة الناشئة، لكنَّ رجالَ الأعمال الصغار لاحظوا أن خوارزميات أمازون عُدِّلت أسعارُها تلقائيًا، بعد قراءة أسعارهم المعدّلة على الإنترنت، أي أنَّ الشركة كانت تتّبع أسعار منافسيها الصغار ببرنامجها العنكبوتي.

أثناء محاولة الشركة الناشئة بيع نفسها لشركة والمارت Walmart، زادت أمازون حدّة ضغطها بالإعلان عن برنامج “ولاء” جديد يمنح 30% من المنتجات الإضافية للأطفال مقابل الاشتراك في خدمة Amazon mom. وقدّر موظفو diapers.com خسائر البرنامج بنحو 100$ مليون في الربع، وفور انهيار موقعهم وبيعه، أغلقتْ أمازون برنامجها الخاسر، ثم اضطرت لفتحه لاحقًا حين حامت شكوك اللجنة الفيدرالية حولها.

من هنا ندرك خبث أمازون الكبير وتجاوزها لمعنى التنافس، فعوضًا عن “هوسها بالعميل” والسعي لإرضائه بأقلِّ الأسعار، تعمّدت الإدارة الدخول في خسارةٍ كبيرة في سبيل إخراج منافسها الصغير والفقير ثم الاحتكار.

ومع أنَّ الفئة الأساسية التي قامت عليها أمازون هي الكتب، إلا أنّها افترستها في النهاية دون رحمة، فإضافةً إلى انخفاض تكاليف معاملات (أنموذج الأعمال)، كان لسنوات الدمج السابقة أثرٌ على تجارة الكتب، وتقليص عدد المكتبات في الولايات المتحدة، بل كادت تكون سببًا في انعدامها، وتركتها لقمةً سائغةً لأمازون، وبحلول عام 2004 كانت أمازون قد شرعت في بيع نسبة كبيرة من الكتب التي اشترتها في الولايات المتحدة، وأشهرتْ سيفها في وجه الناشرين، وهذا اقتباسٌ مما كتبه ستون:

اقتربت أمازون من الناشرين الكبار، وفرضتْ تخفيضاتٍ ضخمة على مبيعات الجملة، ومدّة أطول للسداد، وتخفيضات الشحن التي سهلتها خصومات أمازون مع UPC، أما الناشرون الذين لم يمتثلوا لقرارها، فقد هدّدتهم بسحب كتبهم من أنظمة التوصية الآليّة، وهذا يعني ألّا تظهرَ في اقتراحات المستهلكبهذا امتلكت أمازون طرقَها السهلة في إثبات قوتها السوقية.

وحين لم يذعن لها الناشرون، نفّذت تهديدها بإزالتهم من نظام التوصية الآلي؛ مما جعلهم يتكبدّون خسائر تقدّر بـ 40%. وبعد ثلاثين يومًا عادت قائلة لهم: يا لها من مصيبة؛ كيف نجعله يعمل مجددًا؟وفقًا لما ذكره كريستوفر سميث أحد كبار المشترين آنذاك.

   واصل بيزوس ضغطه طمعًا في المزيد، وطلب من بليك (رئيسة العلاقات مع الناشرين آنذاك) أن تحدّد شروطًا أفضلَ مع الناشرين الصِّغار، الذين قد تتوقف أعمالهم إن لم يجنوا مبيعاتٍ ثابتةً على أمازون، ثم أطلقوا مشروعًا ضمن مجموعة الكتب، سمّوه (غزال) لأن بيزوس قد اقترح على بليك أن يكون اقترابهم مع الناشرين الصغار على هيئة انقضاض الفهد على الغزال المريض.

ونتيجة لبرنامج غزال، قامت مجموعة بليك بتصنيف الناشرين وفق اعتمادهم على أمازون، وبدأت مفاوضاتها مع أضعفهم“.

يكمل ستون: “بعد بداية غزال بمدّة، سمع عنه محامو أمازون، وأصرّوا على تغييره إلى اسم ٍمسالم، وهو “برنامج التفاوض مع الناشرين الصغار، وقد لاحظ أنَّ تخفيضَ أسعار الجملة للكتب، قد ساعد أمازون على خفض أسعار البيع بالتجزئة، ممّا جذب مزيدًا من العملاء وضيّق الخناق أكثر على متاجر الكتب، وسجلّاتُ الشركة حافلةٌ بهذه الأدوار الوحشية التي نفذها المسؤولون عمدًا لقمع المنافسينيضيف ستون بقوله إنّ مسؤولًا تنفيذيًّا في مجموعة الضغط على دور النشر قال معترفًا ,,شعرتُ بمتعةٍ ساديّة وأنا أضغط على الناشرين في سبيل أن يرضخوا لأمازون لتضع شروطًا تناسبها,,.

أثناء منتصف عام 2000 بدأت أمازون تجاري شركة Walmart في تخفيضاتها، بل إنها ربحت عقودًا في إدارة التجارة الإلكترونية لكتب تارجت (Target)  و بوردرز (Borders) بعد تعثرهما في تطوير موقعهما على الإنترنت.

وبعد أن أحكمت أمازون قبضتها على الناشرين في 2004، بدأت تستعدّ لجهاز (كيندل).

لقد كانت لأمازون محاولاتٌ خجولة مع الموسيقا، إلا أنَّ بيزوس تفطّن لخسارته بإزاء ستيف جوبز حين أعلن عن الآيتونز في 2001، ووفقًا لما كتبه ستون: “أدرك بيزوس آخر الأمر أنَّ أمازون لن تزدهر في بيع الكتب في هذا العصر الرقمي، إلا أنَّه سيطر على الكتاب الإلكتروني مثلما تفعل آبل مع سيطرتها على الأعمال الموسيقية“، من تلك اللحظة طوّرت الشركة أجهزةً لقراءة الكتب الإلكترونية، وهي استراتيجيةٌ خطيرة بسبب قلّة خبراتها التصنيعية، وفي نهاية المطاف كان القارئ الإلكتروني (كيندل) أقلّ تنوعًا من الأجهزة الذكية، لكنّ ميّزته بطّاريته التي تدوم وقتًا أطول، وطريقة عرضه المناسبة للقراءة.

قلل بيزوس سعرَ الكتاب الإلكتروني إلى 9.99 دولار، ليضمن نجاحه، ويبدو أنه بسبب قوته، سيجر عواقب وخيمة على دور النشر؛ إذ كانت أمازون تعي أنّ هذا السعر لجهاز (كيندل) سيبثُّ الذُّعرَ في أنفس الناشرين، ويتكبدّوا منه خساراتٍ مالية، لكنّها أرادت أن تخضعهم إلى تخصيص نظامٍ رقمي في مكتباتهم، يُرسي قواعد الكتاب الجديد؛ لهذا لم تذكر الشركة سعرَها خشية تراجع الناشرين، ولم يعرفوا عنه إلا حين أعلن بيزوس عن المنتج سنة 2007.

صدر كيندل2 في 2009 وأثناء تلك السنوات بقيت أمازون محافظةً على نسبة هائلة بلغت 90% من سوق القارئ الإلكتروني، حتى إصدار آبل للآيباد في 2010، وإصدار شركة بارنز آند نوبلز جهازها NOOK في عام 2011، أما عن الناشرين فقد كتب ستون:

إنَّ احتكار أمازون للكتب الإلكترونية منذ بدايتها كان مرعبًا؛ فقد رجحت كفّتُها بسبب الأسعار المخفضة على حساب متاجر الكتب، فحازت بذلك أمازون قوة ًأكبر، وقد رأى الناشرون على مدى سنوات ما أحدثته يدها الطولى؛ إذ قدمت تنازلاتٍ قيّمةً للمستهلكين، مثل تخفيض الأسعار، وخصومات الشحن التي ساعدتها على الإمساك بزمام الأمور، ونيل النصيب الأكبر من أسهم السوق، ثم تعزيز قدرتها على التفاوض“.

وعلى منهج الرأسماليين الاحتكاريين يستمر بيزوس في وحشيته تجاه المنافسين له، ومحاولة اقتلاعهم من السوق، ويصعب التنبؤ بما يمكن أن يفعله في سبيل سحقهم، وخير مثال على ذلك: استهدافه متجر Zappos الرقمي لبيع الأحذية، وإنفاقه ٣٠ مليون دولار في سبيل إنشاء موقع ينافسه endless.com -الذي وفّرت أمازون فيه أنواعًا وأحجامًا مختلفة من الأحذية، مع عروض شحن مجّانية- وهذا بالضبط هو النهج الذي تسلكه أمازون في تضحيتها بخسائرَ ماليّةٍ مقابلَ إبعاد منافسيها الضعفاء والانفراد بالسوق.

إلا أن هذا لم يبعد Zappos مما جعل أمازون تضيف بدهاء مكافأة ٥ دولارت على عروض الشحن المجانية، وهذا يعني زيادة في رصيد المستهلكين لشراء الأحذية، تزامن هذا مع ضغوط الركود العظيم 2007، وانخفاض الإنفاق عند المستهلكين وتجميد الحدِّ الائتماني؛ كلّها ساهمت في بيع Zappos إلى بيزوس، عندئذ أوقف مكافأةَ الشحن.

واصلت أمازون نموها باستعدائها الشركات الضخمة، وفتحت مجال التخفيضات الواسعة للباعة المستقلّين، ودخلت شركات مثل: سوني، وبلاك آند ديكر، في مفاوضات معها بسبب بيع منتجاتهم بأسعار زهيدة في سوقها، إلا أنَّ قوة أمازون السوقية تعيدهم خائبين كلَّ مرة.

بلا ريب فقد امتدت أذرع أمازون العدائية إلى القطاع العام بعد إعلان الشركة الضخم عن حاجتها إلى مقرٍّ جديد أو ” HQ2″، يرسي قواعدها في مدينة (سياتل) المكلفة، حينها انهالت عليها الطلبات من 238 مدينة ومنطقة في أمريكا الشمالية، لقد كانت تلك دعاية إعلامية مجّانية جبّارة إلى الحدِّ الذي جعل أمريكا بنفسها تثني قدميها راكعةً وتقدّم القرابين لأغنى رجلٍ في العالم، بل إنه نال عروضًا من أفقر البلدان في أمريكا الشمالية، الذين قدموا له الدعم والأموال من الميزانيات المتهالكة، وقلّصوا الخدمات العامة، قدّمت نيوجرسي ونيوآرك حزمةً موحدة بقيمة 7 مليار دولار من التخفيضات والإعانات الضريبية، ثم تجرَّأ المحافظ (كريس كريستي) بإعلان تفوقهما على الولايات الأخرى، وأشارت صحيفة (وول ستريت) إلى أنَّ الشركة “نصحت مرشحي مقرّها الجديد بالحفاظ على خصوصيّة المرحلة” (في النهاية قسمت أمازون استثماراتها بين نيويورك والعاصمة واشنطن).

تربح الشركة الآن “نصفًا” من كلِّ دولار يُنفق في الإنترنت، مستمرةً في توسّعها الهائل إلى مجال الأغذية باستحواذها على سلسلة متاجر Whole Foods المميزة، ومن ثم دمجها إياها مع نظام خصوماتها وخدمات توصيلها، ثم توسّعت في الإعلانات على الإنترنت لتتنافس مع جوجل وفيسبوك، تبعها توسُّعٌ في الشحن الجوّي والبرّي والبحري بإنشائها خدمة الشحن البحري، والتخطيط للشحن الجوّي، والبداية بمشروع خدمات التوصيل “last-mile”، وشراء بيزوس صحيفة واشنطن بوست، ومع هذا يبقى نموُّ أمازون في الصناعات المبتكرة هو محور الاهتمام.

أما الحوسبة السحابية، فهو نظامٌ يهتمُّ بتطوير التكنولوجيا، التي توفر ما تحتاجه معالجة المعلومات، مثل: التخزين، وإدارة البيانات، والمعالجة عبر الانترنت؛ عوضًا عن أجهزة الشركة تُخزن البيانات وتُعالج في مراكز الحوسبة التي أسستها شركات التكنولوجيا، وهي مستودعاتٌ ضخمة بلا نوافذ ومليئة بصفوف طويلة من خوادم الحاسب، التي تدير البيانات وتجري العمليات الحسابية للعملاء حول العالم، وتُنفَّذ نسبةٌ متزايدة من متطلبات الحوسبة اليوم عن طريق الحوسبة السحابية، وأمازون تعدُّ من أعظم الرواد في هذا السوق -تليها مايكروسوفت-.

إلا أنَّ طموح الشركة تجاوز المدى، وما عاد يُشبعها أن تشبه وول مارت Walmart في بيع التجزئة، بل باتت تمنّي النَّفس في مشابهة قوقل ومجاراة تطوّرها التقني، لقد حازت الشركة على كمّيات هائلة من بيانات العملاء وسلوكهم في الشراء والتصنيف -وهي عملة العصر التكنولوجي- وأتاحت بعضها للناشرين.

ساعد هذا لاحقًا على إنشاء[4] APIs (واجهة برمجة التطبيقات) التي تسمح لمطوّري البرامج بجمع بيانات الأسعار والمنتج، كما تتيح APIs للعملاء استخدام سلّة التسوق، ونظام الدفع في أمازون، ثم جُمعت هذه المشاريع معًا تحت مسمّى: خدمة أمازون ويب Amazon Web Services (AWS) .

جذبت هذه الخدمة المتاحة على الانترنت الشركات الصغيرة أوّل الأمر؛ لعجزهم المالي عن توفير متطلّبات الخدمة وأجهزتها الإلكترونية وموظّفيها، لكن سرعان ما أدركتها الشركات الكبيرة.

توسعت الخدمة سريعًا -جزئيًّا- والسبب كالعادة هو انخفاض الأسعار الذي تحمّله مستثمرو أمازون طلبًا للنمو السريع، وتكمن قيمة الحوسبة السحابية في تقليل الحاجة إلى برامج ومعدّات الحاسب المُكلفة التي تسمح عادةً بمعالجة البيانات بسرعة، والتعامل مع حركة البيانات الثقيلة، لكنها لا تعدّ ضروريةً إلا في حالات الذروة.

وقد صُمِّم نظام أمازون للتعامل مع ضغط البيانات في الأسبوع الذي يلي عيد الشكر، ثم يدخل معظمه في حالة خمول بقية السنة “نادرًا ما يستخدم النظام بطاقته الكلية” كما يقول نيكولاس كار في كتابه The Big Switch: Rewiring the World, from Edison to Google ، وقال بيزوس كذلك في عام 2006: “أحيانًا نستخدم أقل من 10% من طاقة النظام”، ويمكن شراء طاقة الحوسبة هذه بوصفها أداةً مساعدة، مثل الطاقة المائية، وهناك آمالٌ كبيرة معقودة على هذا التطور من مراقبي الأعمال في تخفيف عبء الشركات الصغيرة والناشئة التي قد تعاني مع خوادم تكنولوجيا المعلومات الضخمة.

ألقت أمازون بظلالها على سوق الحوسبة السحابية مدة من الزمن وهي الآن من أعتى المؤثرين فيه، حيث تبلغ حصتها السوقيه 51% تليها خدمة Azure السحابية من مايكروسوفت بنسبة 13% ثم قوقل بنسبة 6%. وخلافًا لأنموذج الأعمال الذي تنتهجه أمازون في حرق الأموال، فإنَّ الحوسبة السحابية AWS تدرّ عليها الأرباح، فمنذ اعتمدتها الشركة بدأت تجني بضع مليارات سنويًا، ومازالت سببًا في نصف أرباح أمازون حتى يومنا هذا.

الأهم من هذا كلّه أنه لم تكن الشركات الكبيرة وحدها هي من أدرك قيمة خدمات أمازون، بل وصل هذا الانتباه إلى المؤسسات الضخمة مثل البنتاجون، فمنذ 2018 حظيت أمازون باستضافة بيانات وزارة الدفاع الأمريكية، والاستخبارات الأمريكية CIA وبعض الوكالات الأمنية الأخرى، ويبدو أنَّ سيطرة أمازون على أمن الحوسبة السحابية ستطول، فوفقًا لتقرير وول ستريت أنفقت الشركات الثلاث المسيطرة على الخدمة السحابية ما يقارب 30 مليون دولار على مراكز بياناتها العملاقة التي تخزن خوادم الشركات، و”هذا الاستثمار الضخم قد يبني حواجزَ كبيرةً أمام المنافسين الذين سيضطرون لدفع مبالغ خيالية في سبيل مجاراة القدرة الحاسوبية لأمازون ومايكروسوفت وقوقل”. ونقلًا عن المستثمرين فإنّهم “شيدوا حصنًا منيعًا” إذ تعدُّ الحواجز العالية سمةً كلاسيكيّة للاحتكارات طويلة المدى، واحتكار القلة.

ومع أنّ مزايا الخدمة السحابية هائلة، إلا أنّ جوانبها السلبية تبقى حاضرةً لا تختلف عن الخدمات المساعدة الأخرى التي قد تتعطل، تمامًا كما يحدث حين تعطّلُ عاصفةٌ رعديّةٌ خطوطَ الكهرباء ونجلس في حالة انتظار وترقب حتى تعمل مجدّدًا، ففي عام 2012 تعرّض ساحل المحيط الأطلسي إلى عاصفةٍ رعديّة أو ما تسمى بـ”derecho “[5] صاحبها هطول أمطارٍ غزيرة، وفيضانات، وتساقطت الأشجار، فتعطّلت خطوطُ الكهرباء المحلّية.

وبما أنّ ملايين من العالقين هناك يستخدمون نظام الحوسبة، فقد”بذل تقنيّو أمازون جهدهم كلَّه… ولكنَّ الخدمة لم تعمل كلّيًّا مع أنَّ الانقطاع قصير، وقضت الشركة ساعاتٍ طويلةً لإعادة تشغيل خوادمها وبناء قواعد البيانات وأجهزتها، واستعادتها مجدّدًا”.

وتحاول أمازون وغيرها من محتكري القلّة، بذل جهودهم الاستثمارية ليجتنبوا حدوث أيِّ خلل مشابه مستقبلًا، ولكن يتّضح لنا من هذا كله أنَّ احتكار شركات عدّة لأيِّ صناعة يفتح مجالًا أكبرَ للمخاطر والأخطاء.

ولا تقتصر هذه الأخطار على بيانات الشركات الكبيرة فقط، بل تمتد إلى المنزل كذلك، لأنّ الحوسبة السحابية تشغل جيلًا جديدًا من الأجهزة الصغيرة الخاصة مثل مكبّر الصوت الذكي “smart speakers” وتسمح هذه الحواسيب وأجهزة الإستريو المنتشرة في المنزل بـ “الحوسبة الصوتية السحابية” وهي أوامر لفظية بسيطة أو استعلامات لتفعيل خدمات مثل اللعب أو الموسيقى أو البحث في الانترنت.

تزعمت أمازون سوق مكبرات الصوت الذكية كما فعلت مع الخدمة السحابية، وقدمت أنموذجها المختلف Echo الذي تليه خدمة Home من قوقل، ثم Invoke من مايكروسوفت، وبعده Portal من فيسبوك وHomePod من آبل، ويرى المحلِّلون أنَّ الانخفاض الحادّ لأسعار أمازون في السوق جعلها تتصدر جزئيًا، ونقلًا عن وول ستريت فإنّها ترى في الخدمة الصوتية “فرصةً عظيمةً للدخول إلى عالم التجارة الإلكترونية”، وبذا يتبيّن أنَّ اعتمادها على خدمتها الخاصّة -عوضًا عن خدمات الشركات الأخرى- يفتح لها فرصًا أكبرَ لبيع منتجات التجزئة، واشتراك الأُسَر في خدمة البرايم، ثم جمع بيانات أكثر وفرض رسوم سنويّة.

تسبّبت هذه الأجهزة -التي تسترق السمع دائمًا- إلى أحداث عديدة مريبة؛ منها الخطأ الذي وقع فيه برنامج Echo حين التقط جزءًا من محادثة عادية لسيدة من سياتل، فعدّها أمرًا، فأرسلها إلى أحد قوائم الاتصال دون ترخيص من المستخدم.

وحين قررت مجموعةٌ من جمعية الدفاع عن الأطفال والخصوصية أن تجرّبَ برنامج (إيكو) في نسخته المخصّصة للأطفال، وجدتْ أنه يحتفظ بالمعلومات المسجّلة عن طلبات الأطفال وبحثهم، ولا يمكن لبرامج المراقبة الأبويّة حذفها إلا بالاتصال على خدمة العملاء.

وشيئًا فشيئًا تبتلع شركات التكنولوجيا الكبيرة خصوصيات المستهلك، وما سوقُ الخدمات الصوتيّة إلا دليلٌ على ذلك، فالمستخدمون اليوم يمنحون صلاحياتٍ لخوارزميات هذه الخدمة لكي تقرِّر عنهم ما يناسبهم أو لا، ويبدو أنَّ أمازون تقتحم حياة العميل عَنوةً، وتدمج نفسها معه، لا سيّما بعد شرائها لشركة تربط جرس الباب بأجهزة هاتف ذكي مزوّد بكاميرا، وخدماتها التي تُقدم داخل المنزل، وإن لم تكن موجودًا فيه.

ومع ذلك تبقى هذه الخدمات السحابية المريبة والمتطورة خاضعةً للجهد البشري ولا يُشغلها إلا الأيد العاملة، وتاريخ الشركة مع عمالتها أقلُّ من المتوقع.

في كتاب Amazonia: Five Years at the Epicenter of the Dot.Com الصادر عام 2010، يُحدّثنا جيمس ماركوس عن قصّة العمل مع أمازون عام 1996 وتوقيع الأوراق التي عُنونت بـ”ضغوط العمل”.

يدرك الموظّف أنَّ عمله قد يحتاج مستوياتٍ عاليةً من الضغوطات، وضمن شروط الوظيفة يوافق على ألّا يرفع أيَّ دعوى قضائية على الشركة بسبب الأضرار المزعومة التي يتكبدّها جرّاء هذا العمل، ويحقُّ للشركة طلبَ تعويض إن فعل“.

صيغ هذا البند كما يجب -لا سيما في بدايات الشركة- حين عمل المبرمجون وعمال المستودعات بجهود مضنية حتى آخر رمق -فيما يسميه عمالقة التكنولوجيا ساخرين- بـ “مسيرات الموت”؛ إذ أُنجزت طوال أيّام، أعمالُ إعادة هيكلة البرامج الرئيسية أو عمليات التخزين والتصفية، ولم يكن يتخللها غير فترات متقطعة بين النوم والموقع.

وعمومًا فإنَّ العمال لا يحظون بعطلاتٍ أسبوعية، منصاعين إلى التنازل عن حقٍّ ثمين من حقوق الحركات العمالية، يقول ستون أنَّ بيزوس لديه “تصوّرٌ مغايرٌ لثقافة أمازون؛ إذ يعمل الموظفون عملًا دؤوبًا، لإرساء قواعد الشركة وزيادة قيمة حصصهم الملكيةإلا أنّه في مقابلة التوظيف يرفض كلَّ موظف مُحتمل إذا زلَّ لسانه وتحدَّث عن التوازن بين حياته العائلية وعمله“.

ومما لا شكَّ فيه أنَّ النساء كنَّ الضحيّةَ الأولى لهذه السياسة، وذلك عندما يعدّهن المجتمعُ خطَّ الرعاية الأولى للأطفال؛ لأنَّ بيئة العمل هذه إما أنّها ستخيبهنَّ، أو تمنعهنَّ من الإقدام عليه، وليست قضيةُ وادي السليكون منّا ببعيد،([6])تلك القضيّة التي يقف خلفها نقصُ تمثيل المرأة وتبنّيها لأخلاقيات تحتقر التوازن بين الحياة العائلية وبيئة العمل، وهذا يعني أنَّ رفض بيزوس هو نوع من أنواع التحيّز الجنسي المؤسّسي.

وقد عانى موظّفو الياقات البيضاء من ظروفٍ قاسية لا تختلف عن تلك المعروفة في شركات التكنولوجيا العملاقة، إضافةً إلى المناوبات الطويلة في المستودعات مع شحِّ أيدي الشركة العاملة في مواسم الأعياد، وهو ما ذكر في كتاب”Operation Save Santa”، زد على ذلك رفض بيزوس دعم تصاريح الحافلات منذ سنوات، محاولًا أن يمنع العمال من العودة باكرًا واللحاق بالحافلات، وفي تحقيق موثّق لصحيفة (نيويورك تايمز) ذُكر أنّه “تصل رسائلُ البريد بعد منتصف الليل، متبوعةً برسائل نصّية تلومهم على التأخّر في الردّ”، وغير مستغرب معرفة أنَّ الإدارة تهتمُّ بـ”مبادئ القيادة” التي هي أشبه بصورة ساخرة للاستبداد الليبرالي “القادة هم أهل الفطنة والذكاء، وحاشاهم عن الخطأ”.

وقد كتب ستون أنّه مع ازدهار الشركة “زاد ضغط بيزوس على طاقمه، واستدعاؤهم أثناء إجازاتهم الأسبوعية، واجتماع المسؤولين صباحَ السبت في نادي الكتبوفي النهاية أصبحت الشركة بيئةً مسمومةً متعارضةً مع تكوين العائلة، وغادرها بعضُ الإداريين حين قرروا إنجاب الأطفال” وحين سألت إحدى الموظفات عن اليوم الذي ستبني فيه أمازون بيئةً تدعم توازن العمل والحياة، أجاب بيزوس قائلًا “نحن هنا للإنجاز…هذه أولويتنا…. إن عجزت عنها فلا مكان لكِ هنا”، وتعدُّ أمازون جزءًا من اختلال التوازن الجندري في اقتصاد السوق العالمي؛ إذ إنّ قرار المرأة بالإنجاب مآله أن تطرد من العمل.

ومع التضحيات الكبيرة التي خاضها الموظفون في سبيل الشركة، وتأجيلهم لفكرة إنشاء أسرة أو قبولهم التأخّر عن عائلاتهم، إلا أنّ للرئيس التنفيذي فكرةً مغايرةً كما يبدو، ففي حين اعتصر بيزوس موظفيه وأرهب الأيدي العاملة، لم يمنع نفسه من الانتقال مع زوجته ماكينزي بعد حملها -قبل الانفصال- إلى منزلهما الضخم في مدينة سياتل، المجاور لمنزل بيل غيتس، ووفقًا لستون فإنَّ ماكينزي ستتنقل مع بيزوس في حافلة صغيرة بعد إيصالها الأطفال إلى المدرسة، ثم تعود إلى شقتها للكتابة. وكما هو متوقع حظي بيزوس بإجازة بعد وضع طفلهما الأول، ولكن يبدو أنَّ امتياز التوازن العائلي في أمازون ليس إلا لأصحاب المناصب الكبيرة.

وللشركة تاريخٌ بشع مع القوى العاملة أصحاب الياقات الزرقاء -عمّال المستودعات- الذين يتنقلون من رفٍّ إلى رفّ مع عرباتهم، يحملون البضائع ويسارعون بجمعها إلى مركز التصنيف والتغليف والتعبئة، هذه القوى العاملة المطحونة في سبيل راحة التسوّق في الإنترنت.

ومنذ بدايات أمازون، عندما كانت السكاكين تُنقل بلا تغليف، وهي تُنهك موظفيها حدّ الإعياء، مع ساعات عملٍ بلا انتهاء مقابل أجرٍ زهيد، شأنها في ذلك شأن مؤشرات الأداء المتصاعدة التي تدفع العمّال للاستمرار من جناحٍ إلى آخر في المستودعات.

يستخدم العمال ماسحات ضوئية محمولة للتعرف على السلع وتوجيههم مباشرة إلى الرفّ، وهو ما يسمح للشركة أيضًا بتتبعهم ورصد إنتاجيتهم كلَّ ثانية، وغالبًا ما يُهدّدهم مديروهم بالتسريح، لعدم بلوغهم الأهداف المرجوّة -وإن كانت يومية أحيانًا- ثم ترتفع متطلّبات العمل إلى الذروة وكأنها استراتيجية لتشغيل العمّال إلى غاية الإجهاد ثم استبدالهم، وكتب أحد العمال أنّ هناك محاولاتٍ مستميتة منهم لدعم بعضهم، مثل تغطية مكان زملائهم المتأخرين، ولكنَّ قدرتهم على التضامن قاصرة جدًّا.

ومن أشهر القضايا التي أضرت بسمعة أمازون، قضية مركز الينتاون في بنسلفايا حين ارتفعت الحرارة، وامتنعت أمازون عن توفير مكيفات لمرافقها في وسط غرب الولايات المتحدة، ومنطقة وسط الأطلسي، ولعلّهم تناسوا الأجواء الحارّة والرطوبة الحادّة صيفًا في المنطقة، وحين ارتفعت الحرارة ثلاث درجات في المستودعات، قرّرت الشركة زيادة دقائق معدودة في أوقات الراحة وتوزيع المياه، أو مشروبات الطاقة للعمّال اللاهثين من رفٍّ إلى آخر في الأجواء الخانقة.

ولكنَّ معدلاتِ الحرارة المتصاعدة ومطالب الإنتاجية المضحكة في الينتاون تشير إلى عمل الموظفين في ظروفٍ قاسية، وتحت ضغط الأجواء الحارّة، إلى أن أوصلهم ذلك إلى حالات الإغماء، والسقوط على أرضيّة المستودع، وأقصى ما فعلته أمازون هو الاستعانة بمسعفين في مواقع العمل لمداواة العمال من الإرهاق والجفاف، ونُقل بعضهم إلى المشافي، ثم استبدلوا بعمال آخرين على حين غرة.

وناشد أحد المسعفين الجهات التنظيمية الحكومية مع استمرار المأساة واستبدال عامل تلو الآخر بسبب الحرارة، وبعد هذه الشكوى حضر شهودٌ آخرون منهم”رجلُ أمن أبلغ عن سقوط موظفاتٍ حوامل عانين من الحرارة”، ونشرت صحيفة الينتاون مورننج كول في تقرير جريء نقلته عن أحد الرؤساء المحليين الكبار، أنَّ إدارة الصحّة والسلامة رصدت في حملتها التفتيشية ١٥ حالةَ إغماء في يومٍ واحد في شهر يونيو، فانتهى الأمر إلى تركيب مراوح جديدة وتوزيع أكياس تبريد، ومع قسوة النظام الذي قد يطرد العمال، هتف بعضهم ينادون “بسقوط العبودية في أمازون”.

ويعتقد ستون أنّ ما أثير في العلاقات العامة عن هذا الموضوع وغيره، هو ما جعل الشركة ترضخ لتركيب مكيفات في مراكز طلبيات الشراء، ولأنَّ قوانين الحكومة تلزم الشركات بالكشف عن متوسط رواتب العمال، فلا يخفى علينا أنَّ معدل ما تدفعه أمازون لكلِّ مركز $28,446 سنويًّا، أو 13.68$ كلَّ ساعة، وهو نموذجيٌّ قياسًا على المستودعات في الولايات المتحدة، ولكنه لا يعكس الإيرادات الهائلة التي تتمتع بها قامة مثل أمازون، ومن جهة أخرى، فحسب ما تقوله ملفات أمازون الفدرالية “نحن نعدّ علاقات الموظفين جيدة” وهذا مريح أيضًا.

تحثّنا هذه التطورات لنفهم أهميةَ العمل النقابي، ولكنَّ الشركة قاومت تشكيل نقابات لعمّالها -على غرار شركات وادي السليكون في منعها للنقابات- وحين لاحظ ستون محاولة سائقي الشاحنات ونقابة United Food and Commercial Workers have “تشكيل شراكة” في مراكز طلبيات الشراء ..

واجه مديرو أمازون اللوجستيون سريعًا هذه الحملات، وتعاملوا مع موظفيهم ثم أصغوا إلى شكاويهم، مع توضيحهم الرفضَ القاطع لهذه الجهود النقابية، ثم إنَّ حجم َالقوى العاملة الكبير، ومعدّلَ الدوران المرتفع في مراكز تلبية الطلبات؛ جعلت تنظيم العمّال أمرًا محالًاوتصرّح النقابات بعقبات أخرى تقف أمامهم، منها: خوف العمال من العقوبات“.

يسهل علينا أن ندرك الموضوع بعد إغلاق أمازون لمراكز الاتصال في 2001 زاعمةً أنّه لا علاقة لذلك بنقابات العمل هناك، تيقّظ جوي ألين Joe Allen في جاكوبين Jacobin أنّ والمارت ” Walmart تتعمّد بناءَ مراكز توزيعها في مناطق نائية لتتقي التكوين النقابي”وتسير أغلب الشركات المصنِّعة وتجّار التجزئة على هذه الخطى ومنها أمازون، إلا أنَّ العملَ على المستوى العالمي يعني أنّه لا مفرّ من بعض أشكال التضامن العمّالية، ومنها إضراب العمال الأوروبيين في أواخر 2018 وهتافهم “لسنا بآلات”، وفي أسبانيا رفضت الشرطة مطالب أمازون بإيقاف الإضراب، وتحديد المستويات الإنتاجية للعمال.

كشفت تقارير في الولايات المتحدة أنَّ أمازون تشترط على موظفي المستودعات في عقود العمل ألَّا تُنافس، أي أنّها تمنعهم من العمل في أيّ نشاطٍ ينافسها بأيِّ شكل ٍكان، ولكن بعد اعتراض العامّة عليها قرّرت حذف الشرط، وحصره على العمّال المؤقتين.

غالبًا ما يلجأ محبّو الكتب إلى جهاز (كيندل) لينزلوها ويقرأوها أثناء تنقلاتهم، لكنهم نادرًا ما يطالعون تعليمات الجهاز وشروطه، مما يخوّل للشركة صلاحية التحكم في الكتب الإلكترونية بعد تنزيلها على أجهزة المستخدمين الخاصّة، وهو ما حدث في 2009 عندما حذفت أمازون بعض الإصدارات -التي لم تكتمل حقوقها- من حسابات مستخدمي (كيندل) .

تستحوذ أمازون على شبكة إنزال الكتب الإلكترونية ومزامنتها، في جهاز الكيندل، ويحقّ لها أن تحذف ما تشاء دون إذن المستخدم، ومن بين الطبعات التي حُذفت رواية الكاتب الاشتراكي جورج أورويل 1984، ولعلّ هذا الفعل يجعل أورويل يلقّب بيزوس بـ(طاغية الشركات، والتوأم الرأسمالي للأخ الأكبر).

اقرأ ايضاً: أعمال خيرية أم استثمار سري؟


[1] طبقات الياقات البيضاء والزرقاء white- and blue-collar، مصطلحان يشيران إلى طبقات العمال المتفاوتة في العمل، فالبيضاء هم من يرتدون الملابس الرسمية وأصحاب المكاتب، أما الزرقاء فهم العمال الميدانيون والمباشرون للعمل بأيديهم -المترجمة.

[2] مجاز يشير إلى قوة الشركة بعض ضعفها، ودخولها في حالة من الصراع في السيطرة- المترجمة.

[3] برامج الولاء: هي برامج تضمن عودة العميل للشراء، ويقصد بها: ولاء العميل للمؤسسة أو الشركة – المترجمة.

[4] application programming interfaces

[5] عواصف رعدية خطيرة ونادرة، وتحدث أضرارًا هائلة بكلِّ ما تمر عليه. -المترجمة.

[6] وادي السليكون يقع جنوب خليج سان فرانسسكو، ويضم جميع شركات التقنية الفائقة في أمريكا، متهم بتمييزه الجندري بسبب قلة النساء العاملات مقارنة بالذكور. المترجمة.

المصدر
thewalrus

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى