عام

“الرَّكْمَجَة” في الحياة

  • راكان بن عارف اللحيدان
  • تحرير: مزنة الكبريش

يقتحم راكب الأمواج البحر وينحني على اللوح، حتى يتجاوز الموج المتكسر، ويصل لذلك الشريط البحري الذي يبدأ فيه البحر برفع أمواجه، لينحني مع التيار، ويركب الموجة، إلى أن تتكسر وترمي به إلى منطقة الزَّبد، فيذهب معها جفاء! ثم يقف ويأخذ لوحه، ليكرر ما قام به أوّل مرة.وخلال ذلك إذا كان محظوظًا سيلتقط صورةً رائعةً والموج يلتفّ من فوقه، وسيذلّ قومه بهذه الصورة دهرًا، في كل صورة عرض، وسيحتفل بتاريخ نشرها الأول كل سنة، حتى تتذكر تفاصيلها أكثر من خلفية التل الأخضر في ويندوز إكس بي.

وهذا النوع من الرياضة، أو ما أظنّ أنها رياضة، أو ما يظنّ أصحابها أنها رياضة، تُسَمَّى عندهم (الرَّكمجة)، وهو دمجٌ ظريف بين كلمتي: ركوب، وموج. وهذا مصطلح رسمي لها، وليس من بنيات أفكاري. وبما أننا نتحدث عن الظرافة، فإنّني سأخبركم عن (ركمجةٍ) نراها في الحياة، وربما مارسناها أحيانًا، وهي ظريفة كذلك وتسلك بك في الحياة على أية حال، لكنها سترمي بك إلى منطقة الزبد في نهاية الأمر، وهنا تتوقف ظرافتها…

*          *          *

الشخص (المُرَكْمِج) يبدو مشغولًا لكنه ليس كذلك، ويَظهر للناس وكأنه يمتلك مشروعًا، لكنه مملوك لمشاريع الغير، وتجاربهم الناجحة.

قيل في الحكمة، أو لعلها من كتاباتي القديمة، لا أدري، فأنا لم أقرأ كتابًا يدعى الحكمة! وقد بتنا ننسبُ الكثير من الأمور إليها، على أية حال قيل: أنّ الفن (التخصص) لا يقتحمه في بدايته إلا مُحِبوه، فإذا رفعه المال والشهرة، أراد تسلقه كل أحد. وهؤلاء المتسلقون من فئات مختلفة: فمنهم المخدوعون بالناجين من السقوط، بما يعرف بـ (انحياز الناجين) وهم الذين نجوا من السقوط وحكوا لك قصص نجاحهم وكأنها المقصد الذي ستصل إليه حتمًا بمجرّد سلوك الطريق، وسيكون هذا بمقابلٍ من وقتك القيّم لشركات الإعلان أو من مالِك مباشرةً. ومنهم الفُضوليّ الذي يريد أن يعرف ما يجري في الأعلى. ومنهم من لديه هدف محدد ومعادلة دقيقة: أنا أريد المال، وهذا الهدف يجلب المال؛ إذن سأتسلق للوصول إليه، ولا بأس من الحصول على الشهرة خلال ذلك، كذلك لن ألتفت للأسفل لأتحدث عن جثث الساقطين أثناء تسلقهم نحو هذه القمم، فالوقت مبكرٌ على إشعاركم بالشفقة.

ومن هؤلاء الذين يطمعون بهذه القمّة، فئة (المركمجين)، وهم فئة غامضة، غريبة، لا يبدو المال مغريًا لأصحابها، ولديهم قناعة يائسة (واليأس إحدى الراحتين) أن الشهرة بعيدة المنال، ربما لأنها تحتاج -مع طلب المال- جُهدًا كبيرًا، وتجلب ضجيجًا لا يطمعون به كثيرًا. ولكن لديهم ميزان رمّانته تستقر بهم على مستوى يشتهون فيه قدرًا معيّنًا من الشهرة، تثير انتباه الدوائر القريبة منهم على الأقل، حتى يقتبسون من النور (أو ما يعتبرونه نورًا) الذي سُلِّطت أضواؤه على موجةٍ معيّنة أَشْهَرَت فئةً من البشر في ذلك الوقت، وارتفعت بهم حتى قفز بعضهم منها واستقرّ على قمة ذلك الجبل مشهورًا بحق! مستفيدًا من شهرته، فهو يريد أن يكون نموذجًا مصغرًا من الفئات المشتهرة في حاضره، وسينفخ في هذا المستوى المتواضع بخياله وتمظهره ليجعل من أجوائه ما يشابه لأجواء وطقوس أولئك الذين لا يدّعون، بل هم هناك في الأعلى!.

*          *          *

أَحيانًا، أكون ساكنًا في حالةٍ معيّنة ومرتخيًا أتأمل، ثم أتذكر مشهدًا أو فكرةً أو موضة اختفت من حياتي تمامًا بعد أن ملأت أوقاتي زمنًا، فتتساءل في نفسك: أين اختفت؟! ثم تعتدل في جلستك مرتبكًا وتقول في نفسك: هل كانت موجودة أصلًا؟! ثم تعتدل أكثر (كأنك تؤدي دورًا في مشهدٍ داخلَ مسلسلٍ عربي لبطلٍ يخاطبُ نفسه أمام المُشَاهِد كي يُحرق المراحل، ويختصر ما سيصنعه في الأحداث القادمة لأن ميزانية المسلسل لا تحتمل عرض كل ما قاله البطل كأحداث، أو أن المخرج كسول!) فتقول في نفسك: هل كنتُ أحلم بأنها حصلت؟ أم أنني رأيتها على الحقيقة؟! وإذا كان جوجل قريبًا منك، فستستعين به لتتأكد أن ذاكرتك على ما يرام.

من ذلك أنني افتقدت في مواقع التواصل تدفقًا واسعًا من مقاطع الفيديو التي كانت تظهر لي في سناب، وأنستقرام، وتويتر، أو بعض حالات الواتساب، كان يظهر أصحابها وهم يقولون الشعر بخلفية موسيقية تجعل المتلقي يتأثّر ولو كان الشاعر يردد قصيدة: (أشعب يا أشعب يا أشعب *** يا بطنًا أوسع من ملعب!)، مع بهرجةٍ لفلاتر ضبابية تعود لأجواء مخرجي التسعينات.. سلّمهم الله!

أين ذهبوا؟! أهكذا بكل بساطة يختفون من صفحات مواقع التواصل واقتراحاتها؟! هل فرّت شياطين شعرهم؟! أم تلبّستهم وهربت بهم للصحاري؟!

كانوا يطلّون عليك في كلّ مكان، حتى إنّك تشعر بالقلق -كما حصل معي يومًا- حين تكون منتظرًا انتهاء طلبك في محلٍّ ما، فَيَصِل لمَسمعِك شِعرًا بخلفية موسيقية، وبما أنك وحيد في كراسي الانتظار، والرجل منهمك لإعداد طلبك في الخلف، تُخرج جوالكَ لعل مؤامرة سيطرة الذكاء الصناعي على العالم ستبدأ من جهازك، لتكتشف أنّ أحد الواقفين قريبًا من المحل يستمعون لهذه المقاطع، فهي تفرض نفسها على أذنك وذاكرته ووعيك ولا وعيك حتى لو لم تفتح جوالك، أو حتى كنت من تلك الفئة التي تكتفي بجوّال (الكشّاف)، هذه حقيقة، وأظنّ أنني استمعت لبعض هذه الأمور كاملةً غير عامدٍ أو راغب بذلك، من خلال تكرار سماعي لها عبر الأجواء من حولي، وفرضها على الجو العام، أكثر من استماعي لأي شيء بمسجلات الكاسيت في التسعينات، بل إنك ستندهش من حفظك للكثير منها، وستجد نفسك ملطخًا بهذا الزَّبَد مُرغمًا، مرّة أو مرتين أو أكثر، سواء كراكب أمواج، أو مستهلك لما ينشرونه، أو كمنخدعٍ بمشروع الرضا عن الذات الذي يقومون به على حساب وقتك ووعيك.

فهل هي مواهب اختفت؟ لا أعتقد ذلك، لأن هذا الكمّ من الاختفاء يتطلب ظهور هتلر وإشعال المحارق، ولم أر من ذلك شيئًا في عناوين الأخبار، أو أنّ قاتلًا متسلسلًا يستهدف (الشعراء) الذين يقولون الشعر بتلك الخلفيات المبكية، وأظن أنني كنت سأعلم عن وجود هذا الكمّ من الجرائم، إن لم أكن -لا قدّر الله- هذا القاتل المتسلسل.

إذن، ماذا جرى؟ أين اختفت تلك المقاطع؟

الذي جرى -كما أظن وأرى- أنّ الموجة انخفضت بهم، ولفظتهم إلى الزبَد، فكان لسان حالهم: “قد كانت جولةً ممتعة، لا بأس بها، فهيّا بنا الآن لنرفع اللوح ونمسح ما علق به من زبد، ونعود نقتحم البحر، ونصل لذلك التيّار ثم ننعطف معه؛ لترفعنا موجة أخرى نرتقيها، وننعم بإطلالة سريعة من ذلك المكان لنجرّب (ولو بجودة أقل.. بكثير!) شعور أولئك الذين نراهم فوقها”.

فوق قمم الشهرة، والغنى، التي تصطاد فضول النظر، فتلتهم أثمن أوقات العمر.

وأثناء تفكيرك بأولئك الشعراء الذين كنت تراهم، تفتح جوّالك على موقع التواصل، فترى أمرًا عجبًا، حيث يظهر لك أولئك الشعراء السابقين الذين رأيتهم فوق موجة الشعر، وترى معهم أعضاء جددًا سجّلوا حديثًا في (الرَّكْمَجَة) وقد جلسوا مجلس الشيخ عبدالرحمن السعدي -رحمه الله- في مساحة الدَّرَج داخل بيته الطيني الذي ألّف فيها كتابه (تيسير الكريم الرحمن في تفسير آي القرآن) الذي لا تخلو منه مكتبة التفسير، ورفوف طلبة العلم، أومجلس الشيخ محمد متولى الشعراوي -رحمه الله- في الجامع، حين كان يفسّر القرآن لكل بيوت العرب، عبر شاشة التلفاز، ثم يوتيوب.. وليس العشرات الذين كانوا يجلسون أمامه.

لسببٍ ما، وبسبب تميّز وشهرة بعض كاتبي الخواطر القرآنية، الذين كانوا ينطلقون من تأصيلٍ شرعيّ يعرّفهم على حدود القول في كتاب الله تعالى، فلا يتجاوزون أو يتعالمون أو يتصدرون لما لا يصحّ المغامرة اللفظية فيه، لتكتشف أن هذه هي الموجة الجديدة التي يركبها أولئك وترتفع بهم حتى يُطلُّون فوقها على تلك القمّة الفعلية -وهي قمّة خير على كل حال- التي يقف عليها المتخصصون المتقنون، بل إن هؤلاء المتخصصون الواقفون على هذه القمة، لو كان خيالِيْ حقيقةً، سيندهشون من هذه العيون التي تطلّ عليهم للحظاتٍ ولسان حالِ أصحابِها من راكبي الموجات: (أهلًا زميلي!)، ثم تنخفض بهم قبل أن يختموا التحية، لتُلقي بهم إلى الزَّبَد الذي هو خُلاصَة الحقيقة التي هم عليها: (التزبّب قبل التحصرم)، و(التصدّر قبل التعلّم). ولكنهم لا يبالون بهذه الجُمَل الكلاسيكية ذات الدلالات التربوية العميقة، فالمهم أن يحصلوا على اللقطة في تلك الفترة الزمنية التي يُقْبِل فيها الناس على هذه القمة.

ولو قُدّر لك أن تذهب إلى أحدهم لتنصحه عن الجُرأة على القول في كتاب الله تعالى ما ليس فيه، بلا حَدٍّ أدنى مقبول من التأصيل العلمي والتخصص أو الثقافة في هذا الجانب، فلا تستغرب أن يردّ عليك قائلًا: أي كتاب الله وأي تأصيل يا رجل؟! أنا متخصص في علم الطقس!

وقبل أن تبتلع الموقف، وتسأله عما يجري، ستراه أعلى الموجة يتصدر في سنابه وانستقرامه حول الطقس، وقبل أن تحاول تبديل النصحية محاولًا تدارك علم الطقس، غيرةً على التخصص واحترامًا له، سيصفعك راكب هذه الموجة بجملة: (تَرقَّبْ اضطرابًا في درجات الحرارة متأثرًا بموجة سيبيرية)، فإذا سقطتَ من هذه الصفعة ورفعتَ رأسك، ستراه ينظر إليك من مكانه فوق الموجة شزرًا، ليُنبِّهَكَ على الزوايا المملوءة نُصُوصًا في ورقة التقويم والتي اعتدت تجاهل قراءتها لعَامِيّتِكَ وقِلّة ثقافتك في المناخ والطقس، فيُعرّفك على الجوزاء والعقارب، ويخبرك أن الخُضرة والتمر تُعتَبران نوعًا من المقاييس المناخية.

فإذا قمتَ من مكانك، وأزلت عنك عوالق الزَّبَدَ الذي لَطّختك بسبب هبوط هذا (المُرَكْمِج) وارتطام موجته بالشاطئ، لن تنتهي من تنظيف نفسك حتى تراه مرّة أخرى عائدًا من بعيد فوق موجةٍ أخرى، أما هذه المرّة، فهو متأثرٌ بصحافي ما، اشتهر في زاويته بستايل معيّن، جلبت صَنمَي الشهرة والمال إلى قدميه، وكان لسان حال (المركمجين) هذه المرّة: بغض النظر عن السيرة الذاتية المُلهِمة لهذا الصحفي، من بناء العلاقات، والبذل اليومي، والثقافة الواسعة التي ذاق معاناة طلبها عقودًا طويلة، حتى وصل لزاويته الصحفية، ومكانته في الإعلام، واحتفاء النخبة به، وتكوينه لمصادر معلومات موثوقة، فأنا أريد أن أمرّ على كل مراحل حياته خلال.. لنقل عدة أيام، وإذا لم يحصل ذلك، فأنا أريد أن أظهر وكأنني قد بلغت ما بلغه بذات الخيال الذي أحيط به وقتي وأخدع به نفسي.

ولا يحتاج الأمر أكثر من مقالاتٍ مكتوبة بإخراج مشابه لإخراج ذلك الكاتب، وبنفس عدد الكلمات، وبضعة صورٍ مع إعلاميين مشهورين، والزعم بأنك تعيش طقوس الكتابة والمعاناة، وفي اليوم السابع، أو الثامن، ستكتب عن تجربتك في كتابة المقالة، والعمل الصحفي، فمرور الزمن في وقتنا هذا كفيلٌ أن يجعل النيّة خِبرةً في دين المركمجين!

وحين تيأس منه، وتغادر الشاطئ، وترتفع على تلٍ قريب، التفت للخلف، وستراه من بعيد، فوق موجة أخرى، يكتب (ثريد) عن كل شيء في تويتر.. أثناء موجة (الثريدات).

*          *          *

على هذا العبث يكرر هؤلاء الركوب على أمواج الزمن مرّة بعد مرّة، حتى تَسكُن رياح الشباب والكهولة، وتهدأ هذه الأمواج، أو يتدارك نفسه قبل ذلك، ويدرك أنه (مركمج) عظيم، وأن قمّة الموجة ليست قمّة الجبل، فضلًا عن إدراك حقيقة أعمق وهي أنه ليس كل قمّة جبل.. ذات قيمة لحياته، وآخرته.

يقول الشاعر:

ولو لَبِسَ الحمار رِداء خَزٍّ *** لقال الناس يا لك من حمار

إذا كان المَرءُ جاهلًا أو تافهًا، فلا يَهمّ بأي رداء يُطلُّ علينا، فالوصف مُتَلبِّسٌ به، وإن لم يُدركه الناس الذين يعزّزون له ضياع وقته على مراحل لا استقرار فيها ولا نفع، فالعبرة بما يُدركه الإنسان (أو سيدركه يومًا) عن نفسه، وإن أطلَّ على المجتمعِ بوجوه مختلفة عبر الزمن، مناسبة للجو العام، وترضي شيئًا ما في نفسه، وتجعله حاضرًا في ذلك (الكرنفال) الذي يحتشد فيه المجتمع، سواء برداء الطبيب، أو خبير تغذية، أو عالم طقس، أو رسام، أو (يوتيوبر) له برنامج كوميدي أو تقني، أو حكواتي لقصص التاريخ في السناب يأخذ الحجاج بن يوسف من تلابيبه ويُلبسه ثوب (أبو سبعة!) ويجعل لسانه العربي الفصيح لسانَ أبناء الشوارع بـ (أسلوبه الجميل!)، أو مستعرضًا للكتب التي اشتراها للتو، ولن يقرأها، أو نحوها من الأمواج التي ضربت شواطئ مجتمعي في السنوات الأخيرة، ولكم أن تستبدلوها بما ترون من أمواج ارتطمت في شواطئ مجتمعاتكم القريبة.

*          *          *

وبالمناسبة، قد يكون راكب الأمواج نافعًا لنفسه، وبلغ من العلمِ بتخصصه مبلغًا يحق له مع هذا المستوى البدء بنفع الغير على الفور، لكن يصيرُ راكبَ أمواجٍ في هذا المجال، فيبدد نفعه على تجارب نشرٍ مختلفة، تبعًا للأمر السائد والمُغري، فيصير (مركمجَ) وسائل، يرى واحدًا في قمّة سناب، وله طريقة عجيبة في استعراض تخصصه، فيحس بالإغراء ويركب هذه الموجة، وبعد البدء بقليل يرى آخر له مبادرات معينة في يوتيوب أو تويتر، فيَحْمل اللوح ارتطام الموجة (هذا إذا لم يقفز من الموجة وهي في الأعلى) ويتبع ذلك التيار، وربما أعجبه البث المباشر في مواقع التواصل بناء على قِمَمٍ يتابعها، فيصنع مثلهم إلى موجةٍ أخرى، وهكذا حتى يتبدد العمر، دون استقرارٍ على نفعٍ واضح ينفع به الناس، مع امتلاكه للأدوات، بل وتوسعه،.ويكون إنتاج حياته: كتاب ناقص، ودروس لم تكتمل، ومبادرة لم تتم، وأوراق عمل لم تبدأ العمل، وخطط معلّقة على الحائط قد صارت ديكورًا للمكان لا وسيلةً لخطوة عملية تالية.. وهكذا، ولعل تَيْه هذا وأمثاله أشد ألمًا من تيه الجاهل، لِما بلغه من مراتب عالية، ثم هبط عنها بمثل هذا التخبط، الذي ربما يخالطه من الطباع أو تنشأ مع تكراره ما يضاد ما نشأ عليه من سموّ في الهمة والالتزام والصبر أيام الطلب، وهذا من الغرائب المؤسفة التي نراها في بعض النماذج.

*          *          *

ليُدرك راكب الأمواج أنه يَظهر للناسِ كلقطةٍ عابرةٍ في أوقات فراغٍ يصرفون لها نصف انتباه، وأنه يصنع ذلك بنفسه مع الآلاف الذين يجنون على أنفسهم كما يفعل، غير أن تلك اللحظات القليلة التي يراها الناس في راكب الأمواج، لها جانبٌ من عنده، يضيع معه عمره على لا شيء، إلا تراكمات من (الدوبامين) التي تكافئ مِزاجه، لكنها بناءٌ من وهم، عرفت الشركات التي تدير مواقع التواصل كيف تحفّز إفرازها من قلب دماغك، لتنشر الرضا على لا شيء، وتتصور وهم الإنجاز، والمشاركة، والنفع العام.

وإنّ أمر هؤلاء، لا يختلف مطلقًا عن أَمْر الأبناء الذين يتأثرون بما يشاهدونه في يوتيوب من حال الأطفال المشاهير، إذ تحتفي بهم المهرجانات، ويجتمع الناس عليهم، ويرون كبار السن والمراهقين والنساء مهيضو الجناح أمام طفلٍ صغير في مثل أعمارهم بسبب شهرته، فيشتعل الحماس في نفوس هؤلاء الأبناء، ويهرولون إلى جوالات أمهاتهم، ويقومون بتشغيل تطبيق الكاميرا الأساسي، ويخاطبون جمهورهم العظيم، ويطلبون اللايكات، والاشتراكات، ويطبقون كل ما رأوه في تلك البرامج، وفي نهاية الأمر، ينسون الموضوع ويلتهون بغيره، ويكون جمهورهم الوحيد والدهم ووالدتهم، وهم مشتركون مسبقًا في حياتهم بدون طلب (لايك) ولا (سبسكرايب)!

لا فرق بين هؤلاء الأطفال وبين راكبي الأمواج، فكلهم يصدقون خيالهم، غير أن الأطفال يلهون في وقتٍ مبكرٍ من عمرهم لا بأس من اللهو فيه، ولا يَطمع أهاليهم منهم إلا أن يبتعدوا عن الأدوات الحادة، ويبقوا على قيد الحياة، أما أولئك فيتمكن منهم الخيال، حتى يحرق أوراق العمر، ويخدع وعيهم في مرحلة من حياتهم لا تحتمل هذا الهدر المؤسف للأوقات.

أسباب (الركمجة)

  1. سنوات التيه:

   من حدد وجهته ولم يلتفت أثناء بحثه عنها، سيصل في الغالب. أمّا من يتجول بلا هدف، فلا يتوقع أنه سيستقر في مكانٍ ما؛ لأنه لم يقصد جهةً يريد الوصول إليها فكيف ينتهي إلى موقع محدد يسعد بالراحة فيه بعد عناء البحث؟! وإنما سيستمر بالمشي والدوران، ولعله سيستمتع بالمناظر دون أن يصل، فلا وصول لأمثاله، ودون أن يدرك أن الوصف المناسب لحاله والذي يستحقه في كل خطوة يطأ بها على وقته أنه إنسان تائه.. وضائع.. وإن أعجبه ما حوله وأشغله عمره كله إلى حدّ المتعة، وكانت ثقته بنفسه عالية.

لا يُعقل أن يمرّ على الإنسان حين من الدهر، لا يدري بعده ما يصنع بوقته، إنّ أول عقدين من عمر الإنسان كافيان لـ (يجد نفسه) كما يعبرون عمّن يبحث عن موهبته، وإن كان المسلمُ واجدًا نفسه بمجرد تلقيه أبجديات عقيدته وواجباته الدينية، لكن الحديث هنا عمّا ينفع من المواهب والتخصصات، إن عشرين سنة أو ثلاثين سنة على الأكثر (وقد بالغتُ هنا وكنتُ كريمًا) كافية ليجد الإنسان ما تهوى نفسه، وتنصرف إليها، ما دامت تنفعه وتتعدى، لتجعله نافعًا لغيره.

  1. ربط الإنجاز بثناء الناس:

ربط ما يقوم به المرء من نفعٍ أو بذل بانتظار شكر الناس له، وتفاعلهم معه، بدرجة ترضي أجواءه الخاصة التي حُبِسَ فيها معيارٌ خاطئ إذا كان هو الغاية الوحيدة، إن رضا الله تعالى، ثم رضا الإنسان عن ذاته كافيان لأن يكونا دافعَيْن للقيام بعمل ما، ولو لم يعرفك أحد، وكم من المجهولين الذين يستظل الناس بإنجازاتهم وأخلاقهم ونصائحهم، سواء من أفكار أو مشاريع أو مشاركة الخبرات ونحوها، قد نفعوا الملايين، لا يعرفهم إلا أهاليهم، وربما لم يعرفوا القيمة التي كانوا يحملونها، أما الذكر الحسن، فإنْ أنعمك الله به فقد نالك أمر طيب (واجعل لي لسانَ صدقٍ في الآخرين)، أمّا إن لم تنله، فلا يصحّ أن يكون هدفًا يملأ جوانحك وتتقرب له بالقربات العظيمة: (إن أباك قد طلب شيئًا فأصابه)، وما الناس إلا مشروع فناء، ولنتخيل أننا في عام 1490هـ، وقرأ بعضنا في ذلك الزمن أن شخصًا ما اشتهر في 1441م مع مجموعة من البشر بأنهم شعراء أو علماء طقس أو محللين سياسيين، لنفترض حصول هذه النادرة، فكان ماذا؟ وأي شيء يضيفه هذا الذكر إلى إنسانٍ كان يخدع نفسه بالتعالم وركوب الموجات؟! لا شيء قطعًا، لذا اتبع ما يخلّد ذكرك في الملأ الأعلى بأحب الأعمال إلى الله، وهو الدائم وإن قلّ، ولا تجتمع ديمومة العمل والبذل مع (الرّكمجة) أبدًا، إما هذه وإما تلك، وإن كان الدائم القليل هو أحب الأعمال إلى الله، فالمفهوم يوضح أن الضدّ من ذلك هو المنقطع كثيره وقليله، ولا شكّ أن ركوب الموجات الفكرية والثقافية والعلمية فضلًا عن ركوب موجات النشر المختلف بلا عمل ولا تأصيل ولا ثقافة أقبح مثالٍ لهذا الضد، فهو قليل، ومتقطعٌ، وكثيرٌ منه تافه يتلبس بلبوس النفع وهو أبعد ما يكون من ذلك، ولا يليق الجلوس إليه، والاستماع له، فما بالك أن تكون ناشرًا له؟

  1. الأسباب المرتبطة بالكسل وهبوط الهمّة:

كالجنوح إلى اللهو، وقلة الصبر، وغياب المجاهدة، وترك تحمّل المسؤولية إلا بقدر ما تضطرك إليها الحياة من أساسيات المعيشة، وكذلك مصاحبة البطّالين، وحتى المنافذ التي يفترض أن تصب على المرء ما ينفعه وينفع به، يجعلها منافذ يستورد منها التوافه، وربما يصدّرها.

  1. الركون إلى الغفلة، وخنق لحظات الوعي:

وهي من رحمة الله بالإنسان، وبالمسلم تحديدًا، فلا بدّ للغافل من ومضات تمرّ عليه، كأنها منادٍ من بعيد، أو كطيفٍ من ضمير، يُذَكّره بالفطرة، وبالجدية، ويحذره من ضياع العمر، وتبدد الهمة، وبدلًا من أن يستجيب لها على عجلٍ ويطأ على أثقال العادة ووساوسها؛ تجده يصرف أنوار الخير هذه بإشغال نفسه بالمزيد من مخدّرات الوقت، مع توهّم أنه لا زال ينير الأجواء، وتكون النتيجة طول غفلته، وابتعاد هذا النداء الصادق.. حتى يكاد لا يسمعه، وإذا تمادى في التعالم والبحث عن الحامدين له بما لم يفعل أو يستحق، فلعله يُختم على قلبه وسمعه وبصره، فلا يستجيب لهذه النداءات حتى في المرات التي يكون محظوظًا فيها بناصحٍ يصرخ فيه ويخشى عليه.

*          *          *

كنت قد قرأت في الجامعة تعليقًا لأحد العلماء على قول لبيد:

ذهب الذين يعاش في أكنافهم *** وبقيت في خلف كجلد الأجرب

حيث قال: رحم الله الشاعر، فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم؟

ويبدو أن هذه الجملة ستتضخم مع الزمن، حيث سأقول -وأنا لستُ عالمًا ولا في الطريق إلى ذلك-: رحم الله هذا العالِم، وأولئك الذين كان بين ظهرانيهم، ورحم الله الشاعر، والخلف الذين كجلد الأجرب، فكيف لو أدركوا بعض من نحن بين ظهرانيهم؟!

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. دخلت لأثارة بحثًا عن ما يتعلق بالكتابة والكُتَّاب لعلهميجيبونني عن سؤالٍ مؤرق
    وإذ بهذا المقال يظهر بين نتائج البحث، قراءته كانت أشبه بيقظه لاختيار قرارٍ صحيح كان يراودني وأأجله
    شكرًا لمن يكتب ليوقظ فينا الهمم ويرينا ما غفلنا أو تجاهلنا رؤيته
    أسأل الله النفع والزيادة لكل من له يد في هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى