عام

لفظ (الرجولة) في ميزان العربية والتراث

  • عثمان العمودي

درج بعضُ الفضلاء -وغير الفضلاء كذلك- على التنبيهِ من غلطٍ شاع في ألسنة النَّاس وفسَد في أقلامهم، وذلك أنَّ العامة من الناس تعدِل بلفظِ “الرجولة” ووصفِ “الرجل” إلى المدح، وتريد به تمامَ الفتوَّة وكمالَ المروءة وعِظَم الغَناء ومسارعةَ النَّجدة. قالوا: (وليس هذا المعنى لهذا اللفظ مِن لغة العرب في شيء)! قالوا: (وإنما انتُزِع هذا المعنى من سياقٍ غربيٍّ إفرنجي فأُسقِط على لفظ “الرجولة”، فذاع بين النَّاس، ولا يعرفه المتقدِّمون بله الأعراب وأهل اللغة الأُوَل)! قالوا: (وإنَّما يصدُق لفظ “الرجل” عند أهل اللغة على الذكر البالغ دون ما فوق ذلك من الصفات).

وهذا التنبيه من الغلط غلط. وهذا التحرِّي والتفاصحُ عدولٌ عن نهج العِلم والفصاحة. وليس أحدٌ في هذه المسألةِ أحقَّ بالإنكار عليه مِن الذي أنكر على العامة استعمالَهم وردَّ عليهم أقوالَهم من غير حجَّةٍ واضحة ولا بيِّنةٍ شاهدة.

ودعواهم مركَّبةٌ من جزءين في الجملة، الأول: (أنَّ هذا المعنى لا يثبُت في اللغة ولا يعرفه العرب)، والثاني: (أنَّ النَّاس لم يكونوا يعرفونه قبل انتزاعِه من الغَرب، ولم يطلقه أئمة التراث بهذا المعنى).

وكلا الجزءين فاسد الاعتبار، فإنَّ لفظ “الرجل” و”الرجولة” ونحوها مما يُشتقُّ منها ترِدُ في لسان العرب والأئمة والعلماء والعامة، ويراد بها أحد معنيين:

الأول: الذكر البالغ. وهو بهذا المعنى يقابل الأنثى من جهة، والصبيَّ من جهةٍ أخرى.

الثاني: المرء الذي استتمَّ خصال المروءة واستكمل موجبات الفتوَّة، وتحلَّى بالشجاعة والنجدة والصدق والثبات والقوة مما استحقَّ به أن يكون رجلا. وهو بهذا المعنى يقابل المرء الرَّذل الجبان الضعيف المتأنِّث.

وإذا كان المعنى الأول متَّفَقاً عليه، فإن السبيل إلى تحقيق المعنى الثاني يتقرَّر بمقدِّمتين اثنتين، الأولى: (ثبوت هذا المعنى لغةً، وعلمُ أهل العربيَّة به)، الثانية: (استعمالُ المعنى الثاني عند العلماء وأئمة التراث من المتقدِّمين).

والمقدمة الثانية فرعٌ عن الأولى، وربَّما يُستَغنى عن الأولى بها، ولكن لمَّا زعموا أنَّ هذا المعنى مولَّدٌ من الفرنجة؛ كان حسناً أن نشير إلى مواردَ مِن استعماله عند المتقدِّمين.

أمَّا ثبوتُ هذا المعنى في اللغةِ فهذا مما لا يستقيمُ لأحدٍ إنكارُه، وهو مستفيض في استعمالات العرب، ونصَّ عليه الأئمةُ في المعاجمِ وغيرِها. فذكره أبو مسحل الأعرابي، والخليل، والكسائي، وابن الأعرابي، وأبو عبيد، ونقله أئمة اللغة من المتقدمين والمتأخرين، كثعلب، والقالي، وكراع النَّمل، والأزهري، والأصفهاني، والرَّازي، وابن منظور، والفيروز آبادي، وغيرهم.

وعبَّروا عنه بطرائق شتَّى من التَّعبير، فالخليل يقول: (ويقال هذا أرجل الرجلين أي فيه رجوليَّةٌ ليست في الآخر)[1]، ويوضِّحه قول ابن سيده وابن منظور وأبي حيَّان والفيروز آبادي: (وهذا أرجَلُ الرَّجلين، أي أشدُّهما)[2].

ويقول أبو مسحل الأعرابي: (ويقال رجلٌ بيِّن الرُّجولة والرُّجولية)[3]، وقال مثلَ قولِه بلفظِه الكسائيُّ وابن الأعرابي وأبو عبيد وابنُ قتيبة، ونقله ثعلب والقاليُّ وكراع النَّمل وابن سيده والأزهري وابن منظور وغيرهم[4]، وبيَّنه السَّمين الحلبيُّ ومثَّل له بقوله: (ورجلٌ بيِّن الرجولةِ والرجوليَّة، ومنه قوله تعالى {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} أي بيِّنُ الرجوليَّة والجَلادة)[5].

فهذه نصوصُ أئمة اللغةِ ونقَلتِها. وبعضُ هؤلاء لو قال قولاً لكان حجةً يُصار إليها، فكيف بهم وقد اجتمعوا على تقرير هذا المعنى المشهور، ونسبتِه للعرب الأقحاح.

وإذا تقرَّر ذلك فينبغي أن يُحمَل لفظ (الرجل) ونحوه إذا ورد مورد المدح على هذا المحمل، وأنَّهم يريدون به من استقامَت له صفاتُ الرِّجال من الشجاعة والجلادة والخشونة ونحوها. وعلى هذا قولُ جرير:

لا يخفينَّ عليك أن مُجاشِعاً
شبَهُ الرِّجالِ، وما همُ برجالِ!

ونحوه قولُ ابن أبي حصينة:

فتىً يسعى الرِّجالُ إلى مداه
فيقصُر عن مداه كلُّ ساعِ

ومثله قول أبي حية النميري:

أصاحبتي، إنَّ ريب المنون
قد عاب قبلي الرِّجالَ الخيارا

وشبهه قول أبي الأسود الدؤلي:

ذهب الرِّجالُ المقتدى بفعالهم
والمنكِرون لكلِّ أمرٍ منكَرِ

ولك أن تحمل على هذا المعنى كلَّ ما صحَّ حملُه عليه في أشعار العرب. فإذا أرادوا المدح وقصدوا إلى ذلك بلفظ (الرجل) و(الرجال) و(الرجولة) جعلتها من هذا الباب، وعليه تحمل قول النابغة: (سبقتَ الرِّجال الباهشين إلى العلا)، وقول قيس بن الخطيم: (رجالٌ متى يُدعَوا إلى الموت يُرقِلوا)، وقول ابن أبي الحصين: (قلوبَ رجالٍ مشرِعين العواليا).

وهذا صنيعُ أئمة تفسير الشِّعر والحذَّاقِ به، فلمَّا عرَض ابنُ سيده لبيتٍ في شِعر المتنبِّي فيه لفظ الفتى، قال في تفسيره: (ذهب في لفظِ الفتى إلى الرَّفع من شأن الفارس، كقولهم (أنت الفتى كلَّ الفتى) ولا يُذهَب به إلى فتاء السنِّ، فإنَّه كقولك (أنتَ الرَّجل)، تمدحه بالصَّبر والثَّبات والنَّجدة، ولا تعني به الرُّجولة التي هي الذُّكوريَّة)[6].

ومَن تأمَّل كلام ابن سيده، ونظر قياسَه الفتى على الرَّجل؛ لأيقن أنَّ دلالة لفظ (الرجل) على معنى الصَّبر والشجاعة والمروءة أعظمُ من دلالة لفظ (الفتى) على ذلك. وقد صنَع مثلَ هذا المعرِّي في شرحِه، عند تفسيره قصيدةً أخرى للمتنبِّي، فإنَّه قال: (سل عن شجاعتِه لتعلمَ رجوليَّته)[7].

وهذا القياس الذي ذكره ابن سيده، هو مما تعلم به أنَّ هذا المعنى مستقِرٌّ عندَهم لا ينازع أحدٌ فيه، وكذلك يجبُ أن يكون الأصل الذي يُقاس عليه. وقد جرى الشريشيُّ في شرح المقامات على هذه الطريقةِ كذلك فقال: (المروءة هي الأفعال الشَّريفة التي يجب أن يُقال للرَّجل بها مرء، مثل الرُّجولة للأفعال التي يستحقُّ الرجل أن يقال له بها رجل)[8].

وهو مثال مشهور للنعتِ عند النحاة، قال ابن مالكٍ في شرح التسهيل: (ومن المنعوت به في حالٍ دون حال: رجل، فإنه ينعَت به في حالين، أحدهما: إذا قُصِد به كمال الرُّجوليَّة، فقولك (مررتُ بزيد الرَّجل) أي الذي كمُلت رجوليَّته)[9]. وغير هذا كثير.

ومن الغريب أن بعض من ينفي هذا المعنى في اللغة يستدل بمثل قول الحق سبحانه: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ}، وقوله عزَّ وجل {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} ونحو هذه الآيات التي وقعت موقع الذم، قالوا: (فثبت أن لفظ (الرَّجل) لا يتوجَّه إليه المدح والذم، ولا يكون وصفاً إلا للذكر البالغ).

وهذا الاستدلال قبيحٌ بمن زاول العِلم، فإنَّ الآيات لا تدل إلا على أنَّ لفظ (الرجل) يستعمل للذكر البالغ. وهذا أمرٌ لا نزاعَ فيه، فإنَّ لفظ الرَّجل قد يُطلَق ويُراد به الذَّكر البالغ دون ما وراء ذلك من الصِّفات. والآيات جاءت بهذا الاستعمال، ولم يأتِ فيها أنَّ استعمال الرجل بمعنى الشديد الشجاعِ باطلٌ لا وجه له!

وليس هذا الأمر مما يُغفِلُه علماءُ التَّفسير، وإن كان بدهياً في نفسِه، بل تواردوا على الإشارة إليه والتنبيه عليه، كما يقول الراغب الأصفهاني: (الرجل مختصٌّ بالذَكر من النَّاس، ولذلك قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا}. ويقال رَجلةٌ للمرأة المتشبِّهة بالرَّجل في بعض أحوالها، قال الشاعر: (لم يبالوا حُرمةَ الرَّجلة). ورجلٌ بيِّن الرُّجولة والرُّجولية، وقوله {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ}، وقوله {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} فالأولى به الرُّجوليَّة والجلادة).

وقد نبَّه على هذا الاستعمال في القرآن ابنُ عطية وأبو حيَّان وابنُ رجب والبقاعيُّ وابن عادل وغيرُهم[10]، وفسَّروا به كلامَ اللهِ الذي لا يحلُّ لأحدٍ أن يتكلَّم فيه بغير عِلم.

ولو أنَّ ذلك المدَّعي كلَّف نفسَه القراءة في السِّيَر والأخبار لأبصر هذا الوصف حاضراً في أقلام العلماء وألسنتهم، كما يقول ابن الخطيب يصف رجلاً: (كان رحمه الله رجلَ صدقٍ، طيبَ اللهجة، سليمَ الصَّدر، تام الرّجولة)[11]. ويقول الذهبي في سيرة بعض أهل الصَّلاح: (وكان مع كمال رجوليَّته فصيحاً خطيباً سيِّداً مهيبا)[12]. ومرَّ ابنُ جبيرٍ في رحلتِه بقومٍ أعجبَه منهم ما رأى فقال: (وكانوا يدينون بالفتوَّة، وبأمور الرجولةِ كلِّها)[13].

 ولا أظنَّ الذي حمل المنكِر على إنكاره إلا الفرار من أن يُنسَب إلى (الذكورية) ونحوها من المقالات الفاسدة، فضرَب في جهازِه، وفرَّ من الباطل إلى الباطل، وشرُّ دواءِ الإبل التَّذبيح.

وألفاظُ العرب في هذا المعنى، ونصوصُ الأئمة، واستعمالاتُ العلماء، تضيق عنها الطُّروس، وتنضب دونها الأحبار، فنسأل الله أن يتمَّ لنا رجولتنا، ويحفظ علينا مروءتنا.


[1] العين (6/102).

[2] المحكم لابن سيده (7/378)، ولسان العرب لابن منظور (11/267)، والبحر المحيط لأبي حيان (2/438)، والقاموس المحيط للفيروز آبادي (1003).

[3] النوادر (33).

[4] أدب الكاتب لابن قتيبة (342)، والبارع للقالي (621)، والمنتخب لكراع النَّمل (540)، والمخصص لابن سيده (4/336)، وتهذيب اللغة للأزهري (11/24)، ولسان العرب لابن منظور (11/267).

[5] عمدة الحفاظ (2/76).

[6] شرح المشكِل من شِعر المتنبِّي (1/49).

[7] معجز أحمد (95).

[8] شرح مقامات الحريري (3/114).

[9] شرح التسهيل (3/314).

[10] المحرر الوجيز لابن عطية (2/500)، والبحر المحيط لأبي حيان (2/438)، وتفسير سورة الإخلاص لابن رجب (540)، واللباب لابن عادل (18/67)، ونظم الدرر للبقاعي (17/53).

[11] الإحاطة في أخبار غرناطة (3/101).

[12] العبر (1/276).

[13] رحلة ابن جبير (227).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى