عام

إلى أي مدًى يجب أن نثق بالتقنية؟

لا يمكننا أن نشك دائمًا في كلّ تقنية نستخدمها؛ فثمن التيقظ الدائم هو الإنهاك الذهني، ولكن علينا أن نسعى لندرك مدى ضعفنا

  • ثي نيجوين*
  • ترجمة: جواهر بنت محمد
  • تحرير: أناغيم بن محمود الحمد

في أحد الأيام انحرفت سيارة في الطريق الجبلي السريع، واصطدمت مقدمتها بمقدمة سيارتي فتدمرت سيارتي بالكامل، لم يستغرق تعافي جسدي سوى بضعة أشهر، ولكن تعافي علاقتي العاطفية بالقيادة لم يكن بهذه السهولة، لم يفارق صوت تهشم الحديد أذنيَّ، ولم أتمكن من الانغماس مجددًا في حالة الرخاء الذهنية، حيث كنت أقود بتلقائية دون أي صعوبة، والآن ما ينفك القلق يساورني: هل ستنحرف تلك السيارة باتجاهي؟ أم تلك؟ أدركت حينها أن ثقتي قد تلاشت.

بيّنت لي تلك اللحظة كم كانت ثقتي عمياء قبل الحادث، كتبت آنتي بايرعددًا من الأعمال التأسيسية في الفلسفة عن الثقة، حيث صاغتها بهذه الطريقة: الثقة كالهواء، تتخللنا تمامًا حتى أننا ننسى وجودها، لم أكن مدركًا كم كانت ثقتي كبيرة بسائقي السيارات الآخرين، وبكل التفاصيل المادية التي تشملها القيادة، كنت أثق بكل سيارة في الطريق، وكنت أثق بخطّ لا نهائي من المكابح والأحزمة وكابلات التوجيه المعزز، كنت أثق بتزامن إشارات المرور واستواء الطرقات، لقد استأمنت جسدي وحياتي لكل تلك الأمور ولآلاف المرات في اليوم ولم أكن مدركًا لذلك حتى وقع الحادث.

يرى معظم الفلاسفة أن الثقة شأن اجتماعي بالكامل، فعرّفوها بأنها سلوك نتخذه تجاه الأشخاص فقط، وفقًا لباير فالثقة هي أن تعتمد على النية الحسنة للشخص الآخر، أما بالنسبة للفيلسوف كارين جونز فالثقة هي الاعتماد على استجابة الآخر لاحتياجاتك، بينما عدّتها الفيلسوفة كاثرين هاولي أنها معرفتك بمدى تقيُّد الآخرين بالتزاماتهم، يعتقد البعض أن الثقة ليست سوى علاقات أخلاقية فقط(1) وهذا يفسّر ردود أفعالنا الحانقة عندما تتحطم ثقتنا، في حين قالت آنتي بايرعن الثقة أنها وليدة الخيانة المحتَمَلة.

ولكن لا يمكن أن نختزل الثقة على العلاقات فقط، فنحن نثق أيضًا بالأدوات وبالتقنية وبالسيارات وبالطرق الوعرة وبمحركات البحث، وعادة ما نشير إلى هذا في أحاديثنا اليومية.

هنا يتحدث عالم الاجتماع مايكل كيرل عن تجربته في الحرب:

يعاني المحارب أيضًا من مشاكل في الثقة، فهي اللبنة الأساسية التي شُيدت عليها الحياة الاجتماعية بأكملها، ولكن واقع الحياة المدنية الذي نعيشه كل يوم يجعلنا نغفل عن الكثير من الأمور، ففي حين أن دماثة الخلق تتطلب الإيمان بحسن نوايا الآخرين، تجرّدنا الحرب من هذه الثقة، فلا يستطيع المرء أن يثق بالأرض التي يمشي عليها أو بالهواء الذي يتنفسه وبالطبع لا يمكنه أن يترقب واثقًا رؤية شمس الغد مجددًا.

وفي تجربة أخرى وصفت الكاتبة والطبيبة النفسية بيتي بيرزون انفعالها العاطفي بعد حدوث زلزال عنيف بقولها: أن تخونك الأرض التي تمشي عليها لهو شعور بخيانة عظمى أخذت مني أسابيعَ حتى أستعيد اتّزاني.

فقد كيرل وبيرزون ثقتهما بالأرض والهواء، ولكن هذا لا يعني أنهما توقفا عن الإيمان برحابة الأرض أو نقاوة الهواء، إنما فقدا أمرًا لم يلحظاه وربما لا يخطر على بال أحد، ألا وهو حالة السلام الذهني واستقراره.

تبيّن لنا هذه التجارب وجود نوع آخر من الثقة وهو نوع مختلف تمامًا عن الثقة بين الأشخاص، هذا النوع من الثقة يجعلنا نتخلى عن شكوكنا فنلقي بشيء من حذرنا داخل حفرة معتمة في حياتنا؛ ما يجعلنا نثق ببعض الأمور ثقة عمياء لا حذر فيها.

نحن البشر نشعر بالريبة التي لاضرر منها تجاه معظم الأمور في العالم، فنفكّر مليًا قبل أن نثق بشخص أو بإعلان أو إن كان علينا تحميل هذا التطبيق المجاني أم لا، ولكن في بعض الجوانب الأخرى من العالم نتخلى عن شكوكنا، فعندما أمشي على الرصيف لا أرتاب عادةً في خطواتي ومن فرط الثقة أمشي وذهني مشغول بأمور أخرى، لقد قمنا بتهيئة عقولنا لتستأمن مثل هذه الأمور، عندما أثق بأداة أستخدمها ببساطة، وعندما أثق بالهواء أتنفسه باطمئنان، وعندما أثق بمصدر معلومة ما أصدقها بلا ريبة.

لماذا نتبنى مثل هذا السلوك المحفوف بالمخاطر؟ ألا يجب أن نكون حذرين على الدوام؟ إنّ ثمن التيقظ الدائم هو الإنهاك الذهني، فإذا كان علينا أن نشك في كل أداة نستخدمها وإذا كان علينا أن نقلق حيال صحة كل سطر نقرؤه في كتاب وكل مدخل موسوعة معلوماتية وكل سيارة وكل تطبيق فسنكون عاجزين عن أداء أي مهمة بسيطة أثناء يومنا؛ ولهذا علينا أن نتبنى مثل هذا السلوك المستأمَن في بعض الأمور على الأقل لنحافظ على طاقتنا الذهنية.

فكروا بعلاقتنا مع أجسادنا وعقولنا، عادةً لا أشك في ذاكرتي أو ما تراه عيناي أو حيال قدرتي على السيطرة على يدي، وهذا يصنف ثقتنا بأجسادنا ضمن الثقة المُستأمَنة.

عندما أَهَيّئُ ذهني على استئمان بعض الأمور الخارجية فحينها أكون قد أنشأت علاقة بيني وبينها شبيهة بعلاقتي مع أجزاء جسدي، وبهذه الثقة نقلل من عامل الريبة والتشكيك ونأذن لذلك الشيء بالتسلل إلى منطقة الأمان داخل عقولنا.

نَمُرُّ كثيرًا بحالة الثقة المطلقة وخاصةً مع التقنية، عندما أجد في تقويم هاتفي أن لدي اجتماعًا في ظهيرة اليوم فإني أذهب إليه مباشرةً، قد أقول إني أثق بتقويم هاتفي كما أثق بذاكرتي ولكن في الواقع هذا غير صحيح، فثقتي بتقويم هاتفي أكثر بكثير.

على سبيل المثال أحتفظ أنا وزوجتي بقائمة تسوق في مستند جوجل مشترك حيث يتيح لكلينا الإضافة على القائمة، فعندما يذهب أحدنا للتبضع يقوم بشراء كل ماهو مكتوب في القائمة مباشرة وفي معظم الأحيان أقوم بشراء ما تحويه القائمة حتى إن لم أتذكر من منا قام بإدراج هذا الغرض أو ذاك، وذلك لثقتي بزوجتي وبالتقنيات التي هيأت لنا تلك القائمة.

ولنستوضح هذا الأمر من الجانب الفلسفي أكثر: تسمح إعدادات ثقتي لزوجتي بإدخال الأشياء في الإجراءات المتعلقة بتحركاتي، وبالثقة بالنظام أقوم بوضع تفكيرها على قدم المساواة مع تفكيري لتحديد طريقة تسوقي، وبالثقة بتقنية مستندات جوجل أساوي هذه المستندات بذاكرتي كنظام يحفظ نتائج تفكيري السابق.

وتعد هذه إحدى قوى الثقة المستأمَنة حيث تجعلنا ندمج العمليات الخارجية مع ذواتنا فتقوم بفتح بوابات فعالة وخطيرة وغير محمية داخل عقولنا.

وهذا قد يفسر سبب توصلنا إلى مفهوم الخيانة في بعض المواضيع، إن الخيانة لا تقتصر على الأشخاص وحسب، إنما نشعر بها عندما تخوننا أجسادنا فتتوقف عن العمل بسلاسة وكفاءة، كأن أفقد سيطرتي على يديَّ أو أفقد ذاكرتي فجأة، إن مفهوم الخيانة يبدأ بالظهور عند المرور بتجربة أودُّ أن أطلق عليها “تجربة الانسلاخ” التي تحدث عندما تدرك أنّ ما ظننته جزءًا لا يتجزأ منك يبدأ فجأة بالاستقلال بنفسه، ويمتنع عن الاستجابة لأوامرك.

وفي نفس السياق يتعاظم الشعور بالخيانة عندما تنحرف سيارتي التي أبقيتها تحت سيطرتي حتى أنها اتحدت مع تحركاتي عن المسار الذي أريد، وحين يعيد حاسوبي الشخصي تعيين إعداداته من تلقاء نفسه.

حاول بعض الفلاسفة أن يصفوا هذه العلاقات الحميمية بأنها “امتداد لعقولنا” في العالم(2)، وهذه الصورة قد تكون صحيحة في بعض الأحيان، خصوصًا عندما تكون الأشياء بسيطة ومنظمة، ولكن الأمور تختلف تمامًا مع التقنيات المعقدة والمبهمة التي من الصعب أن نستوعبها تمامًا بمجرد أن نثق بها ونسمح لها بالولوج إلى عقولنا، فبدلًا من أن نتبنى هذه التقنيات ونسيطر عليها تمامًا نقوم بتعهيد جزء من سيطرتنا إلى عملية متغيرة يتحكم بمكنونها شخص آخر.

إن الأمر لا يقتصر على خذل التقنيات لنا بل إنها قادرة على تغيير طريقة عملنا أيضًا، وتعد ثقتنا العميقة بمحرك بحث جوجل مثالًا على ذلك، فعلى الرغم من أن محرك بحث جوجل يعمل على تعديل إعدادات عملية البحث باستمرار إلا أننا نسمح له بتوجيه انتباهنا لنتائج البحث التي يرتبها بنفسه وبذلك نكون قد عهدنا بسيطرتنا الذهنية إلى خوارزمية يتحكم بها غيرنا.

ويمكن لبعض التقنيات أن تقتحم عقولنا أكثر من ذلك، كالساعات الذكية مثل ساعة فيتبيت (Fitbit) التي نعتمد عليها لتحفيز قدراتنا الرياضية حين نقبل بلا مقاومة تقييمها لنظام اللياقة الصحي الذي يجب أن نتَّبعه حتى إن أردنا اتّباع نظام مختلف، وبهذه الطريقة نسلم زمام اختياراتنا لهذه الساعة.

دائمًا نقلق من أن يستغفلنا الآخرون، ولكن لابد أن نقلق أيضًا من استغفال التقنية لنا، وأن نعي خطورة ثقتنا المطلقة بها التي قد تؤثر علينا دون أن ندرك.

هناك دائمًا ثقة عميقة وأبدية خلف تفاعلنا مع التقنيات البسيطة كقيادة السيارة والبحث باستخدام جوجل، ولا شك في أنَّه لا غنًى لنا عن الثقة، ولكن علينا أن نعرف مدى متانة أو ضعف حصانتنا قبل أن نعكف على كل شيء جديد وجذاب ونغرسه في ذواتنا.


• ثي نجوين هو أستاذ مشارك في تخصص الفلسفة في جامعة يوتا، وهو مؤلف كتاب Games: Agency as Art

[1] –  العلاقات التي يكون الصدق والالتزام فيها حتمي. (المترجمة)

[2] – بناءً على نظرية العقل الممتد التي تفيد أن التقنية الجديدة أصبحت جزءًا لا يتجزأ من عقولنا، فقد تكون بعض الأمور خارج جسدنا لكنها متصلة بعقولنا حتى أصبحت جزءًا منها. (المترجمة)

المصدر
newstatesman

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى