د. عائض بن سعد الدوسري
يُعتبر مارتن لوثر في بداية عصر النهضة الأوربيَّة من أهم الشخصيات الدينيَّة، ودوره المحوري في الإصلاح الدِّيني داخل الديانة المسيحيَّة الأم المتمثلة بالكاثوليكيَّة. لقد واجه مارتن لوثر بقوة وعداء الكنيسة الكاثوليكيَّة والبابا، وشنَّ حربًا شعواء ضدهم، وتسبب لأول مرة في تاريخ أوروبا المسيحيَّة الوسيط في نهاية الوحدة الدينية هناك، وفي انشقاق المسيحيَّة الغربيَّة إلى الأبد.
كان مارتن لوثر في الوقت الذي أكثر فيه من التَّعرُّض للكنيسة الكاثوليكيَّة والبابا، يتعرض للإسلام، والقرآن الكريم، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمسلمين.
فما مصادره في معرفة ذلك؟
يقول مارتن لوثر: “على الرغم من أنني، في حقبة من الزمن، كنتُ أرغبُ بشغفٍ في التعرف على دينِ وعاداتِ المحمديين [=المسلمين]، إلا أنه لم يكن هناك من المراجع ما هو متاح لي، باستثناء كتاب (دحض القرآن)، و كتاب (نقد القرآن)، لنيكولاس كوسانوس (1464م). لقد حاولتُ عبثًا قراءة القرآن نفسه”.
كَتَبَ مارتن لوثر هذا الكلام سنة (١٥٣٠م)، وظل يبحث عن نسخة من القرآن الكريم لسنوات عديدة، وبعد مدة طويلة وتحديدًا سنة (١٥٤٢م) عثر على ترجمة لاتينية للقرآن الكريم. ويؤكد باحثون غربيون أنَّ المصادر الرئيسة لمارتن لوثر عن الإسلام أربعة، وهي:كتابان في الهجوم على الإسلام، وكتاب فيه تاريخ عن الأتراك، وترجمة لاتينية للقرآن. تلك كانت هي كل مراجع مارتن لوثر عن الإسلام ومعرفته!
ومن المهم عند دراسة شخصية كبيرة مثل شخصية مارتن لوثر وعلاقتها بالإسلام، أن يتنبه الباحث إلى ثلاثة أمور: (1) نفسي. (2) تاريخي. (3) أيديولوجي. فالنفسي يتعلق بتركيبة نفسية وشخصية مارتن لوثر، واضطرابه ونزوعه الحَدِّي في التغيرات الجذرية، وعداوته العنيفة والدمويَّة ضد خصومه، وألفاظه الشديدة والشنيعة. أما التاريخي، فهو تطور فكر مارتن لوثر تجاه الإسلام، وانقسامه إلى مرحلتين اثنتين، اتسمتا بالجهل والعدواة معًا، لكن الفترة الثانية كانت أشد وأعنف. وهو ليس تطورًا تدريجيًّا مبنيًّا على التراكم العلمي والخبرة العميقة، فقد كانت مراجعه عن الإسلام في غاية الفقر والقلة والضعف والتزوير.
فالفترة الأولى، كان مارتن لوثر منشغلاً بحربه مع الكنيسة الكاثوليكية، وكراهيته لها، ومطاردتها له، كان ذلك هو شغله الشاغل، وطالما قرن كرهه للبابا والكاثوليك بكرهه للنبي محمد عليه الصلاة والسلام وللمسلمين، لكنَّه كان أحيانًا يتوقف في بعض ما يُقَال عن الإسلام لمعرفته أنها كانت من تزويرات الكنيسة التي جربها وعرفها عن قرب تجاه خصومها.
أما الفترة الثانية، وهي بداية العداء الصارخ والمعلن ضد الإسلام، والقرآن الكريم، والنبي الأعظم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهي المرحلة التي اقتربت فيها جيوش العثمانيين الأتراك من ألمانيا، وكانت قد احتلت فيها جزءًا كبيرًا من أوروبا، وهددت المسيحيَّة وجوديًّا، فهنا كرَّس مارتن لوثر نفسه لعداوة الإسلام والهجوم على النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم بشكلٍ أعنف وأشد. فموقف مارتن لوثر من الإسلام، المتمثل بالجهل والعداء، لم يتغير في المرحلتين من ناحية الاتجاه، بل من ناحية المقدار والدرجة.
ومثال على مرحلته الأولى، فإنَّ مارتن لوثر لم يعرف “علميًا” عن الإسلام شيئًا إلا من خلال كتابين، هما: كتاب (دحض القرآن)، وكتاب (نقد القرآن)، لمؤلفهما نيكولاس كوسانوس (1464م)، الذي لا يعرف عنه مارتن لوثر شيئًا كثيرًا. ففي ذلك الوقت، لم يقف لوثر قط على كتاب إسلامي، ولا القرآن الكريم، ولا حتى ترجمة له، وفي كل حياته لم يقف إطلاقًا على مصدرٍ أصليٍّ إسلاميٍّ!
ومن خلال قراءة مارتن لوثر للكتابين السابقين، خرج بانطباع سلبي عنهما، حيث وجد مؤلفهما قد بذل جهدًا شديدًا في عملية اقتطاعِ ما يحقق أهداف المؤلف، وتجميع كل ما يشوه صورة الإسلام، لإثارة الكراهية في نفوس المسيحيين تجاه القرآن الكريم، والإسلام، ونبي الإسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم. ويعيب مارتن لوثر طريقة المؤلف في كتابيه، لضعفه العلمي وتعمده التركيز على كل ما يشوه ويقبح صورة الإسلام والقرآن أمام القارئ المسيحي.
يقول مارتن لوثر: “الكتابان: إما أنَّهما يمران على فقرات من القرآن دون دحضها، أو يقومان بإخفاء الأشياء الجيدة التي تحتويها”. ولهذا ينتهي مارتن لوثر إلى نتيجة: أنَّ الكتابين قد وقعا في أسر الضعف العلمي والحقد على المسلمين. يقول مارتن لوثر: “والنتيجة أنَّهما حقَّقا قدرًا ضئيلاً من المصداقية أو القوة المقنعة، لأنَّهما كانا يُنْقِصَان من مقدار أثرهما: إما بسبب كراهية المسلمين، أو بسبب افتقارهما إلى قوة الدحض”.
ومع هذا الخلل العظيم المنهجي، والعلمي، والقصدي عند المؤلف في كتابيه، إلا أن مارتن لوثر يلتمس له العذر، فيقول عن المؤلف: “لقد قصد من خلال فَحْصِهِ الوَرِع في كتابيه السابقين، أن يرعب المسيحيين المخلصين، ويبعدهم عن الدِّين المحمدي، ويتثبت قلوبهم على الإيمان بالمسيح”. ومع اعتراف مارتن لوثر بالخلل المنهجي والقصور العلمي في الكتابين، إلا أنه يقول: “ومع ذلك، فيبدو أنَّ مؤلف هذا الكتاب، أياً كان، يعرض قضيته بأعلى درجات المصداقية. وبناءً عليه، فقد حقق معي درجة عالية من التأثير، لذلك أثق في أنَّه يروي الحقيقة بكل صدق وقوة”!
وفي المرحلة الثانية، التي بلغت عداوته للإسلام ذروتها، حرص أن يقف على نسخة مترجمة من القرآن الكريم، وبالفعل بعد مدة وقع على نسخة مترجمة، وصفها بعض كبار العلماء الغربيين المتخصصين في ترجمات القرآن بأنَّها نسخة محرفة وناقصة ومزيدة، تكاد تكون نسخة مختلفة عن أصلها. وهكذا هي حصيلة مراجع مارتن لوثر عن دين الإسلام وأهله، قليلة جدًا وضعيفة وهزيلة وغير حيادية ومزورة لصورة الإسلام.
وهنا يأتي العامل الثالث: الإيديولوجي، وهو عامل ثابت لم يتغير جوهريًا عند مارتن لوثر في المرحلتين، فهو يحمل ترسبات وصور الإسلام النمطيَّة التي زرعها الخيال الدِّيني للقرون الوسطى في الغرب، وعمقها في وجدانه!