فكر وثقافة

هل تؤدي الديمقراطية إلى الازدهار أو الخراب؟

  • ترجمة: سارة بن عمر
  • تحرير: هياء العيسى

“إن الديمقراطية لا تدوم طويلًا؛ إذ سرعان ما تتلف وتستنزف نفسها ثم تقضي على ذاتها، لم يكن هناك أبدًا ديمقراطية لم تنتحر”  – جون آدامز.

كل عصر له معتقداته الثمينة والمقدسة؛ ولذلك عُدَّ التساؤل حولها بدعة. لعدَّة قرون سالفة كانت عقائد المسيحية لها مكانتها ومنزلتها في الغرب، ولكن على مر القرون القريبة الماضية -ومع تراجع المسيحية- احتلَّت الديمقراطيَّة عرش العقائد؛ لتمثل الشكل النهائي الأمثل للحكومة.

في الدول الغربية يُعلَّم الأطفال منذ نعومة أظفارهم أن الحكم الديمقراطي هو الأسمى من بين كل أشكال الحكومات السابقة له؛ إذ الكثير من الأمور الجيدة التي حدثت في المجتمعات الغربية راجعة إلى الحكم الديمقراطي.

ولكن هل الديمقراطية حقا مرغوب فيها على النحو الذي نُوَجَّه إلى تصديقه؟

يدرس (هانس هيرمن هوبي)- وهو فيلسوف وعالم اقتصاد- الرغبة في الديمقراطية في كتابه: “من الأرستقراطية إلى المَلَكية ثم إلى الديمقراطية: قصة حمق وفساد أخلاقي واقتصادي”، وبدراسته هذه بلغ ما سيعتبره الأغلبية نتيجة مذهلة؛ إذ يرى أن الديمقراطية ليست فقط معيبة بشكل كبير، بل هي في الواقع أدنى منزلة من الحكم الملكي الذي سبقها.

يجب التأكيد على أن هوبي لا يرى أن الحكم الملكي أفضل شكل للحكومة، ولا يرغب أن يقبع تحت سلطة الملوك والملكات، هو فقط يشير إلى أنَّ الحكم الملكي تفوَّق على الحكم الديمقراطي.

عُدَّ هوبي أناركي رأسمالي -رأسمالي فوضوي-؛ لذلك يعتقد أن أفضل صورة للحكم هي التي تقوم على حقوق الملكيَّة الخاصة، حيث تكون الأنشطة النظامية والقضائية خاضعة للسوق الحرة، إلا أن هذا المقال لن يُرَكز على هذا الجانب الفكري؛ بل سيُرَكز بالأحرى على حججه التي أوردها فيما يتعلق بعيوب الديمقراطية. (لأولئك المهتمين بمعرفة كيف يعتقد هوبي أن الأسواق الحرة يمكن أن توفر خدمات الأمن بصورة وافية؛ يمكنكم الرجوع إلى كتابه: الصناعة الخاصة للأمن).

قد يعتقد البعض أن نظرة هوبي للديمقراطية قد تُرفَض؛ إذ لوحظ أن توجه الغرب المتزايد -على مدار القرون الماضية- نحو الديمقراطية  تزامن مع الارتفاع المفاجئ للثروة.

إن هوبي يُقِرُّ بهذه المسألة، ويذكر أنَّ التزامن لا يعني السببية، وأن الارتفاع المفاجئ للثروة يجب ألا يُنسب إلى الديمقراطية، بل إلى عوامل أخرى؛ كالثورة الصناعية وانتشار الأسواق الحرة:

“نعم، إن العالم حاليًا أغنى مما كان عليه الناس في العصور الوسطى والعصر الملكي، لكن هذا لا يعني أنَّ التحول إلى النظام الديمقراطي سبب هذا الغنى، في الواقع.. إن ارتفاع الثراء الاجتماعي والمستويات العامة للمعيشة الذي خبرته البشرية حدث خلال هذه الفترة على الرغم من هذا التطور، بل إن هذا الارتفاع كان سيكون أعظم من ذلك إذا لم يحدث التطور الذي نحن بصدد الحديث عنه” .[1]

إن دراسة هوبي تقدم حجة منهجية فيما يتعلق بتفوق النظام الملكي على الديمقراطي، ولكي نمدكم بشيء من نقده للديمقراطية؛ سوف نتمعن في ثلاثة أمثلة عن سبب اعتباره الديمقراطية نظاما معيبًا.

أما أول هذه العيوب فيتمثل في جانب من جوانب الحكم الديمقراطي -والذي يراه معظم الناس أمرًا إيجابيًا-، وهو الدخول الحر للديمقراطية في النظام السياسي، بعكس الحكم الملكي؛ إذ يقتصر الانخراط على العائلة أو من يرتبط بعلاقة شخصية مع الملك.

يشرح هوبي لماذا عُدّ “الدخول الحر” أمرا سيئًا:

“وحده التنافس في إنتاج السلع هو أمر محمود، أما التنافس في إنتاج الأضرار نحو فرض الضرائب وسَنِّ القوانين أو التشريعات، فهو ليس بالأمر الجيد، بل هو أسوأ من السيء، إنه شر محض؛ فالملوك يصلون إلى مناصبهم عبر فضيلة الولادة (بالوراثة)، قد يكونون هواة غير ضارين أو رجالا محترمين (وإذا كانوا ” مجانين ” سيتم ردعهم بسرعة، وإذا استلزم الأمر؛ يمكن تصفيتهم عن  طريق أحد أفراد السلالة الملكية , المهتمة بممتلكات العائلة المالكة).

على النقيض من ذلك؛ نجد أن اختيار حكام الدولة عن طريق الانتخابات الشعبية يجعل من المستحيل أساسًا على الأشخاص المحترمين وغير الخطرين الصعود إلى القمّة نهائيا، إن الرؤساء ورؤساء الوزراء لا يصلون إلى مناصبهم تلك بفضل منزلتهم كأرستقراطيين طبيعيين كما فعل الملوك الإقطاعيون ذات مرة؛ بل نتيجة لموهبتهم المتمثلة في كونهم غوغائيون (ديماغوجيون) منحلُّون أخلاقيًا، وبالتالي؛ الديمقراطية -عمليًا- تضمن صعود الرجال الخطرين وحدهم لقيادة حكومة الدولة.

إضافة إلى ذلك أصبح التمييز بين الحكام والمحكومين-في ظل الديمقراطية- ضبابيًا، بل قد يبلغ الوهم حد الاعتقاد بأن هذا التمييز لم يعد موجودا؛ إذ صار كل شخص يحكم نفسه، وبالتالي يتم آليًا إضعاف المقاومة الشعبية ضد سلطة الحكومة” . [2]

إن هذه الضبابية في التمييز بين الحكام والمحكومين في النظام الديمقراطي تمثل العيب الثاني الرئيسي الذي سنعالجه. وكما أفصح هوبي في المقطع المقتبس أعلاه، بأن عدم التمييز بين الحكام والمحكومين يضعف المقاومة الشعبية للحكومة. وما يجعل الوضع أسوأ هو أنه في ظل الحكم الديمقراطي يعتقد الناس أنهم المسؤولون بالأساس، إلا أنهم في الحقيقة ليسوا كذلك، وقدرتهم في التأثير على الحكومة محدودة للغاية.

في الواقع تنبثق من الديمقراطية طبقة من الناس، يطلق عليهم هوبي اسم البلوتوقراطيون -وهم أشخاص نافذون بسبب ثروتهم-، وهم المسيطرون الحقيقيون على السلطة, إن البلوتوقراطيين قادرون على العمل بطريقة غير محدودة وعلى نطاق واسع؛ وذلك بسبب أن الجماهير مُغرّر بهم إلى حد الاعتقاد بأن تصويتهم هو ما يحدد في النهاية مسار الأحداث. إن القدرة على التصويت تُسكِّن الجماهير وتمنعهم من توجيه غضبهم نحو المسيطرين الحقيقيين على السلطة -ونعني بذلك البلوتوقراطيون-، في المقابل وفي إطار الحكم الملكي يكون واضحًا من هو المسؤول، وبالتالي عندما يتجاوز الملك أو الملكة حدودهما يعلم الناس جيدا من يُحمّلون المسؤولية.

يشرح هوبي كيف يعمل هؤلاء البلوتوقراطيون  قائلا:

“إن الديمقراطية تتسبب في ظهور نخبة حاكمة جديدة أو طبقة حاكمة، يمثل كل من الرئيس ورئيس الوزراء وقادة البرلمان والأحزاب السياسية جزءًا من هذه النخبة الحاكمة…غير أنه من السذاجة افتراض أنهم الأشخاص الأكثر قوة ونفوذًا على الإطلاق, إن النخبة الحاكمة الحقيقية -والتي تقرر من الذي سينجح في أن يكون رئيسًا أو رئيس وزراء أو قائد حزب أو غير ذلك- هي طبقة البلوتوقراطيون.

إن البلوتوقراطيين ليسوا مجرد الأثرياء ثراءً فاحشًا، أو كبار المصرفيين، أو قادة الشركات والصناعات الكبرى، بل هم طبقة متفرعة عن فاحشي الثراء، إنهم كبار المصرفيين فاحشي الثراء ورجال الأعمال الذين تفطنوا إلى إمكانات الدولة الهائلة باعتبارها مؤسسة قادرة على فرض الضرائب، وسن القوانين لتمكينهم حتى من مستقبل أكثر ثراء، لذلك قرروا إلقاء أنفسهم في أحضان السياسة. لقد أدركوا أن الدولة بإمكانها جعلك أكثر ثراءً بكثير مما أنت عليه؛ سواءً من خلال دعمك، أو منحك عقودًا مع الدولة، أو عبر تمرير قوانين تحميك من المنافسة والمنافسين غير المرغوب فيهم، ولذلك قرروا استغلال ثرائهم للاستيلاء على الدولة واستعمال السياسة كوسيلة تفضي بهم إلى مزيد من الثراء”. [3]

أما العيب الثالث للديمقراطية متعلقٌ بالتأثير الخرافي للحكم الديمقراطي في الحروب. وكما ذكر سابقًا، يسارع المدافعون عن الديمقراطية إلى نسبة كل الأمور الجيدة التي حدثت في الغرب -خلال القرون القريبة الماضية- إلى بزوغ الحكم الديمقراطي، لكنهم نادرًا ما يتطرقون إلى التغير الكبير الذي حصل فيما يتعلق بالحروب خلال هذا الزمن.

يشير هوبي إلى أن الديمقراطية قد ساهمت في الواقع في ظهور الحرب الشاملة والتي تُعرَّف بأنها:

“صراعٌ عسكري يكون فيه المتخاصمون على استعداد تام للتضحية بالأرواح وغيرها من الموارد؛ في سبيل تحقيق انتصار ساحق”[4], ويفسر هوبي ذلك قائلاً:

“لقد حولت الديمقراطية -بصورة جذرية- الحروب المحدودة التي يشنها الملوك إلى حروب شاملة تدعم الديمقراطية، وتطمس الفرق بين الحكام والمحكومين, وما أن تصبح الدولة ملكا للجميع -كما يُروّج له الديمقراطيون زورًا- حتى يصبح من المعقول أنه يتوجب على الجميع القتال من أجل دولتهم، وأن يتم تعبئة كل الموارد الاقتصادية لخدمة الدولة في حروبها. وبما أن الموظفين الحكوميين المسؤولين عن الحفاظ على ديمقراطية الدولة لا يمكنهم أن يصرحوا بمطالبتهم بأراض أجنبية لصالحهم -كما يفعل الملك- فإن الدافع للحرب يصبح أيديولوجيًا على غرار: المجد الوطني، الديمقراطية، الحرية، الحضارة، الإنسانية، أما الأهداف فتكون غير ملموسة وبعيدة المنال -ونعني بذلك انتصار الأفكار والاستسلام غير المشروط-، كذلك التحول الأيديولوجي للمنهزمين (وهذا ما قد يستوجب قتلا جماعيا للمدنيين؛ إذ لا يمكن لأحد أن يتأكد من صدق هذا التحول). كذلك يصبح التفريق بين المحاربين وغير المحاربين مبهمًا، بل يختفي كليًا في ظل الديمقراطية، وتصبح الحروب الشاملة (الحشد للحرب الشعبية والحرب الاستباقية) والأضرار الناجمة عنها ضمن إطار الاستراتيجيات العسكرية”. [5]

هذه ليست إلا نماذج من الحجج التي قدمها هوبي ليعضد رأيه في قصور الديمقراطية, إذا ما قارنّاها بالمَلَكية، وعلى الرغم من أن العديد قد يرفض حجة هوبي لمجرد طبيعتها “المبتدعة” (heretical), إلا أن أنه لو درس أعماله -دراسة جادة- قد يتفاجأ بما سيكتشفه.


[1] من الأرستقراطية إلى المَلَكية ثم إلى الديمقراطية، هانس هيرمن هوبي.

[2] المرجع السابق.

[3] المرجع السابق.

[4] موسوعة بريتانيكا

[5] من الأرستقراطية إلى المَلَكية ثم إلى الديمقراطية، هانس هيرمن هوبي.

المصدر
academyofideas

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى