- أحمد نصار
قد يفترض بعضٌ ممن ليسوا على درايةٍ كفاية بالتاريخ الفكري والعلمي الإسلامي أن معظم علماء المسلمين الأوائل كانوا جميعًا من العرب، بل قد يتفاجأ آخرون عند معرفة أن العديد من هؤلاء العلماء الأوائل كانوا عبيدًا في الأصل. لذا، سنلقي الضوء على الدَين الذي تدين به العلوم والدراسات الإسلامية للعبيد المحررين والعلماء ذوي الأصول غير العربية، ومصطلح “المَوالي” الذي يشير إليهم وكيف نشأت هذه الفئة نتيجة الحياة القبلية في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام.
يجادل كثيرون بأن عدد العلماء غير العرب فاق عدد أقرانهم من العرب بشكل كبير، وهو افتراض ليس دقيقًا على الرغم من لعب العلماء غير العرب دورًا رئيسيًا في الدراسات الإسلامية، حيث أظهرت عينة عشوائية لأكثر من ألف عالم توفوا منذ بداية التقويم الهجري وحتى القرن الرابع للهجرة، أن 51% من العلماء من العينة كانوا عربًا والبقية من غير العرب، لكن، بحلول القرن الرابع ارتفعت نسبة العلماء غير العرب إلى 65%.[1] كما نرى، لعب العرب دورًا أساسيًا للغاية في الدراسات الإسلامية، لا سيما في الفترة المبكرة، عندما كانت الغالبية العظمى من المسلمين من العرب، ومع مرور الوقت، أصبح غير العرب يشكلون الأغلبية، فالهيمنة الأولية للعرب في الإسلام لم تخالف التعاليم الإسلامية القائلة بأن التقوى والمعرفة هي التي تحدد مكانة العالم وليس العرق أو الخلفية، وهو ما مهدّ لمشاركة جميع الأعراق والخلفيات في المعرفة والعلوم الإسلامية منذ المجتمع الإسلامي المبكر.
كيف كانت العبودية بجزيرة العرب في القرن السابع الميلادي؟
اليوم، يُنظر إلى الكثير من الظواهر التاريخية [ومنها العبودية] من خلال العدسة الأمريكية، فالعبودية الأمريكية والتي ترتكز على القمع الشديد والسخرة والتنكيل المبني على أساس عرقي في المستعمرات المختلفة، لا تمثل الأشكال العديدة والمتنوعة التي اتخذتها العبودية عبر التاريخ وعبر المجتمعات المختلفة. لذا، من الضروري أن يُذكر الاختلاف بين العبودية الأمريكية والأوروبية والشكل الذي اتخذته في المجتمع الإسلامي وما قبله.
لم تكن العبودية في شبه الجزيرة العربية عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم في القرن السابع ميلاديًا مبنيةً على لون البشرة أو العرق، بل كانت تحمل شكلًا واحدًا وهي أن يصبح المرء عبدًا بعد أن يتم أسره كأسير حرب أو في غارة. في العصر الحديث، عندما يتم أسر جنود جيش معادِ، يكون المصير هو السجن، وهو ما يناقض حال أسرى الحروب في المجتمع ما قبل الإسلامي، لذلك، وُجد عبيد من كافة الأعراق والخلفيات في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، بل كانت النسبة الأكبر من العبيد من العرب أنفسهم! ولم يكن هؤلاء ]على النمط الحديث[ يسكنون بعيدًا عن أصحابهم، أو يُجبر أغلبهم على العمل في الحقول وفي الأعمال الشاقة، بل كانوا أفرادًا وجزءًا من أسر أصحابهم، وأكد النبي صلى الله عليه وسلم على أهمية توفير الكساء والطعام والمسكن والمعاملة الحسنة للرقيق ونهى عن ضربهم كما روى عنه المعرور بن سويد رضي الله عنه:” رَأَيْتُ أَبَا ذَرٍّ وَعليه حُلَّةٌ، وعلَى غُلَامِهِ مِثْلُهَا، فَسَأَلْتُهُ عن ذلكَ، قالَ: فَذَكَرَ أنَّهُ سَابَّ رَجُلًا علَى عَهْدِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَعَيَّرَهُ بأُمِّهِ، قالَ: فأتَى الرَّجُلُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذلكَ له، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إخْوَانُكُمْ وَخَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فمَن كانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدَيْهِ، فَلْيُطْعِمْهُ ممَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ ممَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ، فإنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فأعِينُوهُمْ عليه”.
حتى بداية عصر إلغاء العبودية [قانونيًا] في القرن التاسع عشر الميلادي، كانت العبودية حقيقة دنيوية حاضرة في كل الحضارات، وعلى الرغم من الإسلام لم يحرم العبودية بشكل قاطع، إلا أنه اقترب كثيرًا من الحكم، فقال سبحانه وتعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً)، وجعل عقوبة الحنث في اليمين تحرير رقبة فقال: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، وجعل عقوبة من يظاهر زوجته تحرير رقبة فقال: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)، فالقرآن والسنة مليئين بأمثلة تشجع بقوة على تحرير العبيد كعمل صالح وكدليل على التقوى، وكان العبيد أيضًا قادرين على الحصول على الحرية من خلال عقد العتق ]المُكاتبة[، حيث يمنح العبد حريته بعد فترة من العمل أو بدفع مبلغ متفق عليه من المال.
في المجتمع الإسلامي، نادرًا ما بقيَ العبد عبدًا مدى حياته، حيث كان يتم تحريرهم في مرحلة ما من حياتهم، وهو ما يعني أنه لم تكن هناك فئة ثابتة من العبيد في المجتمع، ذلك لأن المسلمون الأوائل أخذوا بالتوجيه القرآني لتحرير العبيد، على الرغم من كون العبودية فعلًا أخلاقيًا ومقبولًا آنذاك حيث كان لكل عائلة من الطبقة المتوسطة وأعلاها عبيد، إلا أن التوجيهات القرآنية إضافة إلى حقيقة أن النبي صلى الله عليه وسلم عتق كل عبد كان موهوبًا له، لعبتا دورًا هامًا في التخلي عن العبودية، فعلى الرغم من أن الإسلام لم يحرم العبودية، إلا أنه لم يشجعها.
من هم الموالي؟
لم يكن في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع أي دول أو حكومات رسمية، كما لم يشمل المجتمع أية أداة من أدوات حفظ النظام الحديثة كالشرطة والمحاكم. بدلا من ذلك، كانت هناك بنية اجتماعية قبلية حيث كان على الفرد الانتماء إلى قبيلة ما من أجل التمتع بالأمن، فعلى الرغم من الفارق الكبير، إلا أنه بإمكاننا وصف دور القبيلة في شبه الجزيرة العربية بدور العصابات في عالمنا الحديث، حيث يدين الأفراد بولاء مطلق وأعمى لقبيلتهم، ذلك لأنها مصدرهم الرئيسي للبقاء على قيد الحياة، لذلك شاع عند العرب قبل الإسلام مقولة “انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا” وهي حديث صحيح ورد عن النبي ﷺ وشرحه، أراد به العرب – لعصبيتهم القبلية – نصرة بعضهم وإن ظلموا، وأراد به النبي منع المسلم لأخيه عن الظلم والبغي وفي ذلك نصرةً له. بذلك، تحدى الإسلام النظام القبلي بإصراره على أن جميع البشر متساوون أمام الله وأن على المرء أن يقف مع العدل وإن كان في ذلك مخالفة لأقرب البشر نسبًا له، قال تعالى في سورة النساء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَنْ تَعْدِلُوا ۚ وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا).
عانت النساء والأيتام والعبيد في النظام القبلي قبل الإسلام، وهو ما أتى بنقيضه الإسلام الذي احتوى في صلبه على دعوات المساواة والعدالة فعَنِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أنَّهُ قالَ:”يا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ، إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ، إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي، فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ، ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا”، كما أتى كلام الله مؤسسا لنظام يكفل العدل والحقوق الأساسية للجميع، حتى لغير المسلمين، ممثلًا في السلطان والذي سُمي في قول النبي “ولي من لا ولي له”، وعلى الرغم من محورية المساواة في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فإن التحول من نظام قبلي يفضل قبائل معينة على قبائل أخرى إلى مجتمع مسلم لم يحدث بين عشية وضحاها، فكانت عملية تدريجية حدثت على مدى عدة سنوات.
كان مصطلح الموالي في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع، يعني الأشخاص خارج النظام القبلي الذين اندمجوا فيه أو تم تحريرهم من العبيد، فكانت هناك طريقة لدمج الغرباء في النظام القبلي، حيث تمكّن الأجانب والعرب الذين انتقلوا من مناطق أخرى، وغيرهم من الأفراد غير المرتبطين بقبائل أن يصبحوا تابعين (موالي) لقبيلة، وعندما يحرر أحد أفراد قبيلة عربية عبده، يصبح العبد تابعاً للقبيلة، ولا ينتمي العبيد المحرّرون في الأصل والنسب إلى القبيلة لكنهم يحتفظون بالانتماء إليها، وهنا يتضح الاختلاف بين النظام القبلي الجاهلي وما أتت به الدعوة الإسلامية في معاملة الموالي وأحوالهم أثناء الرق وبعد العتق.
مع توسع المسلمين خارج شبه الجزيرة العربية، بدأ المزيد من الناس من خارج شبه الجزيرة العربية في اعتناق الإسلام، فقام المسلمون بدمجهم في نسيج المجتمع العربي الإسلامي باستخدام نظام الموالي، فعندما دخل المسلمون أراضي الفرس والروم، كانت العبودية لفترة طويلة جزءًا مهمًا من الاقتصاد وكانت تجارة الرقيق منتشرة بكثرة، لذلك، وجد الفاتحون المسلمون عددًا هائلًا من الرقيق، وكان عدد العبيد أكبر بكثير مما عاصروه في شبه الجزيرة العربية، وبعد توجيه القرآن والسنة، حرر المسلمون الأوائل العديد من عبيدهم، خاصة أولئك الذين اعتنقوا الإسلام، وبالتالي كان جزءًا كبيرًا من طبقة الموالي الجديدة من المسلمين عبيدًا سابقين في بلادهم. فعلى سبيل المثال، كان سليمان بن يسار (المتوفى 107هـ/725مـ)، من أصل فارسي وكان مولى آخر زوجة للنبي ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها، ثم أصبح في النهاية أحد فقهاء المدينة السبعة المشهورين، جنبًا إلى جنب مع أحفاد العرب مثل أبو بكر وابن مسعود رضي الله عنهما، وسُمّيّ ” فقيه جيل التابعين، وإمام المدينة وعالمها ومفتيها”.
الموالي بين الأمويين والعباسيين
اختلف المؤرخون على حال الموالي في عهد بني أمية، فالفكرة الشائعة التي أذاعها فون كريمر، وفان فلوتن، ورددها كما هي جرجي زيدان، وفيليب مانسيل، ونقلها بعض المؤرخين المحدثين، مثل: حسن إبراهيم حسن، وعلي حسني الخربوطلي، وغيرهما، أن بني أمية كانوا متعصبين ضد الموالي، وأنهم استغلوهم واضطهدوهم واحتقروهم، والتي يؤيدها سياسات الأمويين تجاه الموالي (أو بعض طبقاتهم) فعلى الرغم من أنهم مسلمون، إلا أنهم كانوا أقل مكانة من العرب المسلمين، كما أجبرتهم الدولة على دفع الجزية حتى بعد اعتناقهم الإسلام تساويًا مع غير المسلمين الذين كانوا يدفعون الجزية التي أعفتهم من أي التزامات عسكرية، اعترض العلماء والمسلمون الأتقياء على هذه السياسة وقالوا إن العرب وغير العرب متساوون، حتى أنهى الخليفة الأموي الورع عمر بن عبد العزيز (توفي 101هـ/720مـ) القوانين التي تميز ضد الموالي.
أدَّت العصبية العربية لدى الولاة الأمويين الأوائل ضد الموالي إلى وقوع البغضاء والكره لبني أمية، وقد اتبع الموالي في خراسان الدعوة العباسية للتخلص من التمييز الاجتماعي والسياسي الذي مارسته ضدهم الدولة الأموية، وهو ما ترجم لاحقًا إلى دعم الموالي العباسيين في القضاء على الدولة الأموية، وعندما تولّت الأسرة العباسية الخلافة، سرعان ما ألغت جميع السياسات المتبقية التي تميز بين العرب والموالي، وألغيت النظرة التي تعتبرهم طبقة أدنى من المجتمع، وذلك بعدة طرق كفلت لهم تحقيق المساواة الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية مع العرب، كاتخاذ العلماء موقفًا مضادًا لفكرة تفوّق العرب المسلمين على غيرهم، وإعادة تعريف أطفال النساء المستعبدات الأجانب لأنفسهم على أنهم عرب مسلمون تمامًا، بذات الطريقة التي يُعرّف بها أبناء المهاجرين أنفسهم على أنهم أمريكيو الأصل، وليسوا من مواطنهم الأصلية، واستخدموا إتقانهم العلوم الشرعية والعربية على حدٍ سواء للحصول على مناصب سياسية ودينية في الدولة. مع استمرار الدولة العباسية، اختفى اعتبار الفروق العرقية والقبلية مقياسًا لتصنيف المسلمين، وأصبحت الهوية الإسلامية هوية مشتركة للجميع.
كيف أسهم الموالي في العلوم الشرعية؟
لعب الموالي أدوارًا هامةً في نشر العلوم الشرعية، وتولي المناصب بداية من عهد الخلفاء الراشدين، ويذكر من ذلك مواقف كثيرة، ومنها ما رواه عامر بن واثلة أبو الطفيل:” أنَّ نافعَ بنَ عَبدِ الحارثِ لقيَ عُمرَ بنَ الخطَّابِ بعُسفانَ، وَكانَ عمرُ، استَعملَهُ على مَكَّةَ، فقالَ عُمَرُ: منِ استَخلفتَ على أَهْلِ الوادي (أي مكّة)؟ قالَ: استَخلفتُ علَيهم ابنَ أُبزى، قالَ: ومنِ ابنُ أُبزى؟ قالَ: رجلٌ مِن موالينا، قالَ عمرُ، فاستخلفتَ عليهم مولًى، قالَ: إنَّهُ قارئٌ لِكِتابِ اللَّهِ تعالى، عالمٌ بالفرائضِ، قاضٍ، قالَ عمرُ: أما إنَّ نبيَّكم صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: إنَّ اللَّهَ يرفعُ بِهَذا الكتابِ أقوامًا، ويضعُ بِهِ آخرينَ”، وعبد الرحمن أبن أبزى من الرواة، ونقل ابن الأثير في تاريخه أن الخليفة علي بن أبن طالب رضي الله عنه استعمل عبد الرحمن بن أبزى واليًا على خراسان.
ازداد دور الموالي حتى في عهد الأمويين، ولكنه ازدهر جدًا في عهد الدولة العباسية، حيث كان العديد من كتبة الحكومة العباسية من الفرس، لعب الكتبة، المعروفون باسم الكتّاب، دورًا مهمًا في المجتمع وكان لهم قدر كبير من التأثير السياسي والاجتماعي، فيقال إن الكتابة في دواوين الدولة قديماً هي (أشرف مراتب الدّنيا بعد الخلافة)، نظراً للمكانة السامقة، والمنزلة العليّة، التي يتبوّأها الكتّاب في إدارة سياسة الدولة وقضايا الحكم، وكانت الكتابة، في كثيرٍ من الأحيان مَرقاة للوصول إلى منصب الوزارة، وسرعان ما أصبح الموالي الغالبية الكبرى من العلماء المسلمين والطبقة السياسية آنذاك، وهو ما ذكر في كتابات كثيرين من المسلمين وغيرهم كابن خلدون في مقدمته، و ما نقله جوناثان براون في كتابه العبودية والإسلام عن ابن شهاب الزهري، والمستشرق اليهودي إينياس جولدزيهر، الذي كان يتخذ من إثبات دور الموالي وإسهامهم تاريخيًا بابًا للهجوم على الإسلام ونقده، وسواء فاق عددهم عدد العلماء العرب أم لا، فإن علماء الموالي كانوا كثيرين، والأهم من ذلك، أن تأثيرهم كان كبيرًا.
يتّضح تأثير الموالي في العلوم الشرعية بشكل جليّ بالنظر إلى الكتب الستة وهي: الصحيحان -البخاري ومسلم-، وسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والتي كُتبت جميعها بيد علماء كانوا من غير العرب، وكان نصف الرواة تقريبًا في هذه المؤلفات النبوية من الموالي، وهو ما يدل على أن كون المرء عبدًا سابقًا أو أجنبيًا، لم يمنعه من لعب أدوار مهمة في الحفاظ على السنة النبوية، المصدر الأساسي الثاني للإسلام، والسبب في ذلك أن العديد من الذين اعتنقوا الإسلام جاءوا من أماكن تدرب فيها عامة السكان على القراءة والكتابة، بينما كان يتعلم العرب المسلمون الأوائل الإسلام بشكل أساسي من النبي ونقلوا تعاليمه إلى الآخرين، حيث ذهب العديد من الصحابة إلى أجزاء أخرى من العالم الإسلامي لقيادة الجيوش أو لشغل المناصب ونشروا ما تعلموه هناك، ويتضح حرص المجتمع العربي على ذلك من حقيقة أن العرب الأوائل كانوا يدعون من يقرؤون بالـ”القرّاء”، وهو وصف أطلق لتمييز من باستطاعته القراءة والكتابة عن غيره، آنذاك.
كان للموالي تأثيرًا كبيرًا على العلوم الشرعية والإسلامية، حيث ساهموا في الفقه والحديث والتفسير وقواعد اللغة العربية وغيرها، وهو نتاج دعوة الإسلام للمساواة والعدل، التي أوجدت بيئة استطاع فيها الجميع المساهمة في المعرفة، بغض النظر عن العرق أو الوضع الاجتماعي.
اقرأ ايضًا: الإسلام والرِّق
نماذج للعلماء من الموالي وغير العرب:
– عكرمة مولّى بن عباس: كان عبدًا سابقًا لصاحب النبي ابن عباس رضي الله عنهما ومن أصل بربري، وكان أيضًا راويًا للحديث، وفقيهًا، وعالمًا في التفسير.
– طاووس بن كيسان: التقى بأكثر من خمسين من أصحاب النبي، كان من أشهر تلاميذ ابن عباس، وكان مدرسًا للخليفة عمر بن عبد العزيز.
– سليمان بن يسار: أحد فقهاء المدينة السبعة، وهو من أصل فارسي، ومولى زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم الأخيرة ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها.
– محمد بن سيرين: والده سيرين كان أحد العبيد المحررين لصاحب النبي أنس بن مالك رضي الله عنه، وابن سيرين من العلماء البارزين في التفسير والحديث والفقه وتفسير الأحلام.
– عطاء بن أبي رباح: كانت والدته تعمل في نسج السلال، وكان والده أفريقيًا أسودَ، يُعد عطاء عالمًا في الحديث وفقيهًا وشغل منصب مفتي مكة المكرمة ودرّس في المسجد الحرام.
– عمرو بن عثمان: يشتهر عمرو باسم “سيبويه”، وكان فارسيًا ونحويًا رائدًا في البصرة، وقد كتب أول كتاب في قواعد اللغة العربية والذي يسمى “الكتاب”، والواقع في خمسة مجلدات، وقال عنه الجاحظ أنه «لم يكتب الناس في النحو كتاباً مثله»
– عبد الله بن المبارك: والده مبارك من خراسان وكان من الموالي، عُرف عبد الله بن مبارك بأنه أمير المؤمنين في الحديث، ودرس مع كل من الإمام أبي حنيفة والإمام مالك.
– الإمام أبو حنيفة النعمان: مؤسس المذهب الحنفي الذي يتبعه ما يقرب من ثلث العالم الإسلامي اليوم، ينحدر من أصل فارسي.
[1] See: Ideas, Images, and Methods of Portrayal: Insights Into Classical Arabic Literature and Islam