الدين

القرون الأخيرة والمعيار العام لمطالعة القرآن وتدبره

  • مولانا أبو الكلام آزاد – رحمه الله -*
  • ترجمة: حماد بن محمد يوسف

لأسباب مختلفة ليس هذا محل بيانها، نشأت منذ قرون أسباب ومؤثرات استترت بسببها تدريجياً المقاصد الحقيقية للقرآن، وقامت شيئاً فشيئاً معايير بعيدة كل البعد عن إصابة معاني القرآن الحقيقية ومطالعته، لم يكن هذا الانحطاط في المعاني والمطالب فحسب، بل في كل شيء حتى لم يبق لِلِسانه، وألفاظه، وتراكيبه، وبلاغته موضعٌ رفيع للفهم والنظر.

إن المصنف في كل عصر يكون ابن البيئة الفكرية في عهده، ولا يستثنى من هذه القاعدة إلا تلك العقول التي مازتها منحةُ الذوقِ والنظرِ الاجتهاديِّ الطبيعيةُ عن الصف العام. ولذلك نرى أن المفسرين الذي وُجدوا منذ القرون الإسلامية الأولى إلى القرون الأخيرة، ليست طريقة تفسيرهم إلا سلسلة حلقات من المعيار والفكر المؤذِن بالزوال، كل حلقة أخرى أدنى من أولاها، وكل سابقة أرفع من لاحقتها. وكلما صعدنا في هذه السلسلة، برزت الحقيقة أكثر وضوحا، وأكثر سموا، وفي شكلها الفطري الطبيعي، وكلما نزلنا فيها نرى الحالة تنعكس شيئاً فشيئا.

كانت هذه الحالة في الحقيقة نتيجةً طبيعية للتنزل الفكري العام عند المسلمين، فلما رأوا أنهم لا يستطيعون أن يواكبوا القرآن في رفعته وسموه، حاولوا أن يهبطوا بالقرآن من درجته الرفيعة هبوطا يساند انحطاطهم.

فإذا ما أردنا أن نرى القرآن في شكله ونوعه الحقيقي، لَزِمَنا أن نرفع تلك الحُجب ونكشف الأستار التي أسدلتها المؤثرات الخارجية على وجه القرآن في مختلف الأزمان ومختلف الأنحاء، ثم نتقدم ونبحث عن حقيقة القرآن في صفحات القرآن نفسه.

 

بعض الأسباب والمؤثرات المانعة من فهم الحقيقة:

هذه المؤثرات المخالفة التي تراكمت واحدة تلو الأخرى، ليست اثنتين أو أربع، بل لا تعد ولا تحصى، وهي منتشرة في كل ناحية، ولا يمكن أن تُبيَّن باختصار، لكني حاولت في مقدمة التفسير أن أستوعبها تحت بعض الأصول والأنواع، والنقاط التالية في هذا الصدد جديرة بالتأمل:

1- إن القرآن الحكيم في وضعه، وأسلوبه، وطرز بيانه، وطريق خطابه، ومنهج استدلاله، وباختصار، وفي كل شيء منه = ليس بمتقيد بطرقنا الوضعية والصناعية، ولا ينبغي له أن يتقيد بها، بل له في كل شيء طريقتُه الفطرية الخالية من كل شوب، وهذه هي الميزة الأساسية التي تُميز طريقَ هداية الأنبياء الكرام -عليهم السلام- عن الطرق الوضعية للعلوم والحِكم.

عندما نزل القرآن، كان الرعيل الأول من مخاطبيه كذلك أيضا، إذ لم تكن عقولهم قد تقولبت في قوالب التمدن الوضعية والصناعية، بل كانت قانعة بالحالة الفكرية الفطرية الساذجة، ولذلك نزل القرآن في قلوبهم كما كان، بشكله ومعناه، ولم يحسوا أية صعوبة في فهم القرآن ومعرفته، فقد كان الصحابة الكرام يسمعون الآية أو السورة من القرآن، ويدركون حقيقته فورَ سماعه.

ولكن لم يكد دورُ الصدر الأول أن ينتهي حتى شرعت رياح التمدن تهب من الروم وإيران، ثم بدأت تراجمُ العلوم اليونانية دورَ العلوم والفنون الوضعية، مما أدى إلى ازدياد ذوق الوضعية، وأصبحت النفوس تستوحش من أساليب القرآن الفطرية، وشيئا فشيئاً أتى على الناس زمان طفقوا يصوغون كلَّ ما في القرآن في قوالب الطرق الوضعية والصناعية، ولما لم تكن تلك الأمور لتنصاغ في تلك القوالب، نشأت بسبب ذلك صنوف من التعقيدات، ولم تزدها محاولات حلّها إلا تعقيدًا.

عندما تبتعد الطبائع عن الفطرية، ويطرأ عليها الاستغراق في الوضعية = لا ترضى أن تنظر إلى شيء ما في حالته الساذجة الطبيعية، ولا يمكن لها أبدا أن تتصور الحسن والعظمة مع السذاجة، فإذا ما أرادت إعلاء شأن أمرٍ ما حاولت أن تنشئ -قدر المستطاع- اعوجاج الوضعية والصناعية، وهذا ما حصل مع القرآن، فلم تكن طبائع السلف قد تقولبت في الطرق الوضعية، ولذلك كانت تدرك حقيقة القرآن البسيطة المباشرة فوراً، ولكن عزَّ على طبائع الخلَف أن يظهر القرآن في صورته البسيطة، ولم يكن حبهم للوضعية ليقنع بها، ولذلك شرعوا يُفصِّلون لباس الوضعية لكل ما في القرآن، ولما لم يكن ذاك اللباس ليتأقلم مع القرآن تكلَّفوا في إلباسه، وكانت النتيجة أن لم يعد اتزان الحقيقة باقيا، بل أصبح كل شيء غير مُتَّزن ومعقَّدًا.

كان الدور الأول لتفسير القرآن عندما لم تكن بدأت كتابة العلوم الإسلامية وتدوينها، ويليه الدور الثاني الذي يبدأ بالتدوين والكتابة، وينزل في مختلف العصور والطبقات. ونحن نشعر أنه ما أن بدأ الدور الثاني حتى بدأ تفصيل لباس الوضعية للقرآن، ولكن بلغ ذلك منتهاه في العصر الأخير لترويج العلوم والفلسفة وإشاعتها، وهذا هو العصر الذي كتب فيه الإمام فخر الدين الرازي –رحمه الله- التفسير الكبير، وحاول جاهداً أن يُزين القرآن بلباس الوضعية المصنوع، ولو أن هذه الحقيقة كانت في نظره، لذهب يقينًا ثلثا تفسيره سُدًى -إن لم يكن كله-.

على كلٍّ، ينبغي أن نتذكر أنه كلما تحطَّمت قوالبُ الوضعية، برزت حقيقة القرآن واضحة جلية. وكل المشكلات التي واجهت الناس حول أسلوب البيان في القرآن، ما كانت إلا بسبب الاستغراق في الوضعية، وعدم سلامة المعرفة الفطرية.

وكل الإشكالات حول المناسبات والروابط بين الآيات والأجزاء المختلفة من القرآن، هي بسبب الابتعاد عن الفطرة وتمكن الوضعية منا، فنحن نريد أن نرى القرآن مرتبا أيضا في كتاب كما نرتب نحن كتبنا. وكل الجدالات التي ركُمت حول لسان القرآن ولغته، ليست إلا لأنه لم تبق لدينا أهليةٌ لفهم الفطرة.

ما أيسر مسألة بلاغة القرآن لوجداننا! فلماذا تصعب على أذهاننا إلى هذا الحد؟ ﻷن بأيدينا ميزانُ الوضعية المصطنع لا غير، ونحن نريد أن نزِن بها بلاغةَ القرآن الكريم أيضًا.

لماذا لا يتبيّن طريق استدلال القرآن؟ ولمَ احتجبت دلائل القرآن وبراهينه التي يُعبِّر هو عنها بالحجة البالغة؟ لأن الاستغراق في الوضعية قد منحنا قالبَ المنطق، ونحن نريد أن نصوغ دلائل القرآن وبراهينه فيها.

والغرض أنك سترى هذا الأصل في أي ناحية ذهبت.

2- عندما ينشأ تساؤل حول كتاب ما، ما معناه؟ فمن الطبيعي أن يُرجَّح فهمُ أولئك الذين فهموا بأنفسهم معاني الكتاب من صاحبه، والقرآن الكريم قد نزل مُنجَّما في ثلاث وعشرين سنة، وقد كان الصحابة يسمعون ما نزل من القرآن، ويكررونه في صلواتهم، ويسألون الرسول r نفسه ما أرادوا سؤاله، وقد امتاز بعضهم في فهم القرآن، وشهد لهم الرسول r بنفسه. فمن البديهي -وليس بناءً على حسن الاعتقاد الديني- أنه كان ينبغي أن يُرجَّح فهمهم على فهم من بعدهم. ولكن لم يعتقد -لسوء الحظ- ضرورةٌ لذلك، بل شرع الناس من بعدهم محاولاتٍ جديدة تحت المؤثرات الفكرية لعصورهم، وأقدموا على مخالفة تفسير السلف الصريح في كل ناحية، حتى قيل: “إن إيمان السلف أقوى، وعلم الخلف أقوى”[1]. مع أن السلف كانوا أنفسهم قد أعلنوا بأنهم: “أبرُّهم قلوبا، وأعمقهم علما”. ونتيجة لذلك، استترت الحقيقة يوما فيوما، وأصبحت الحقيقة الواضحة في أكثر النواحي غيرَ قابلة للحل بعد الاستشكالات المتتالية.

وازداد الأمر سوءا أنهم اختاروا أولاً وجها ضعيفا، ثم تقدموا شيئا فشيئاً حتى ابتعدوا عن الحقيقة، حتى إذا واجهتهم المصاعب، شرعوا يُشيدون عمائر من المباحثات والمحاولات الجديدة، وراجت طريقة المتون والشروح والحواشي والمنبهات والتعليقات هنا أيضاً، مما زادها تعقيدا على تعقيد، وتراكمت في بعض الصور طيَّات من الحجب، كلما رفعتَ واحدة تلو الأخرى بدت لك ظلماتٌ بعضها فوق بعض.

إذا أردت أن تعرف هذا حق المعرفة، فاختر موضعا من القرآن، ثم ابحث عن تفسيره في روايات الصحابة والتابعين، ثم توجه إلى من بعدهم من المفسرين، يتبين لك جليا أن الأمر كان واضحا في تفسير الصحابة والسلف، ثم استحال عن حقيقته بعد استكناه من بعدهم دقائقَ في غير محلها، وتولدت إشكالات عديدة.

رُوي مثلا عن عبد الله بن عباس وابن مسعود -رضي الله عنهما- في الآيات الابتدائية لسورة البقرة أن المراد بقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ…﴾ إلخ، هم مؤمنو أهل العرب، والمراد بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ…﴾ إلخ، هم أهل الكتاب. واختار الإمام ابن جرير -رحمه الله- هذا التفسير أيضا، ولكن لم يقنع المفسرون من بعدهم بذلك، وأنشأوا مباحثات عجيبة غريبة بلا جدوى. ونتيجة لذلك، اختل بناءُ معنى قوله تعالى: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، ثم ضاع الحسن كله والحقيقةُ التي كان القرآن أكد عليها في تقسيمه الناس إلى ثلاث جماعات.

3- بدأت تنتشر قصص وروايات الأقوام الحديثة العهد بالإسلام من أول يوم، ولطالما حاول المحققون تنقية الإسرائيليات (أي قصص اليهود وخرافاتهم) منها، لكن الحقيقة أن الآثار المخفية لتلك العناصر قد كانت سرت إلى حدود بعيدة، وبقيت ملتصقة دائما بجسم التفسير.

4- حصل التغافل عن روايات الصحابة والسلف من جانب، وأحدث الجامعون لروايات التفسير الغير محتاطون آفة مختلفة من جانب آخر، وظُنَّ كلُّ تفسير وُصلت أطرافه بأحد التابعين بأنه تفسير السلف.

5- كانت أكثر النتائج المؤسفة لهذه الحالة أن ضاع طريق استدلال القرآن في دقائق بلا جدوى. ومن الظاهر، أن محور جميع بيانات القرآن ومركزه هي طريق استدلاله. وبه تبرز وتتيبن إرشاداته وبصائره، وقصصه وأمثاله، ومواعظه وحكمه، ومقاصده ومهماته. فما أن ضاع هذا الشيء حتى ضاع كل شيء. (شعر فارسي 7)

ہمیں ورق کہ سیہ گشتہ، مدعا ایں جاست!

لم يكن طريق استدلال الأنبياء الكرام أن يرتبوا المقدمات النظرية على الطريقة المنطقية، ثم يُعقِّدوا المخاطَب في تلك الجدالات، وإنما كانوا يسلكون الطريقة الفطرية للتلقين والإذعان التي يتلقاها كل دماغ في وجدانه، ويقبلها كل قلب بطبيعته، لكن الانهماك في الفلسفة والمنطق لم يجعل مفسرينا قابلين لأن يروا الحقيقة ويقبلوها في شكلها البسيط، ورأوا الفضيلةَ كلَّ الفضيلة للأنبياء أن يجعلوهم مناطقة، وأبصروا عظمة القرآن كلَّها في أن تكون أجزاؤها مصوغة في قالب المنطق الأرسطي، ولم تكن لتنصاغ فيه، مما أدى إلى ضياع جمالية وجاذبية دلائل القرآن وبراهينه في مختلف التصنعات، وكانت الحقيقة قد ضاعت سالفا، ولكنهم لم يستطيعوا أن يبنوا ما كانوا يريدونه، بل افتتحت أبواب لا تحصى من الشكوك والإيرادات، وكانت يد الإمام الرازي سريعة في فتحها، ولكنه لم يستطع أن يبرهن على قدرته على غلقها[2].

6- لم تطرأ هذه الآفة في طريق الاستدلال فحسب بل انتشرت في جميع النواحي، فقد أنشأت مباحث المنطق والفلسفة مختلفَ المصطلحات الجديدة، وبدأ استعمال ألفاظ اللغة العربية في تلك المعاني المصطلحة، ومن البديهي أن موضوع القرآن ليس الفلسفة اليونانية، ولم تعرف اللغة العربية تلك المصطلحات وقت نزول القرآن، فأينما وردت تلك الألفاظ في القرآن، لم يمكن أن تكون معانيها تلك التي استقرت بعد وضع المصطلحات، لكنهم أخذوا يريدون بها تلك المفاهيم، ونشأت بناءً عليه أصنافٌ من المباحثات العقيمة. فالخلود، والحدية، والممثلية، والتفصيل، والحجة، والبرهان، والتأويل، وغيرها من الألفاظ أحدثت تلك المعاني التي لم تخطر على قلبِ سامعٍ من الصدر الأول.

7- وآتت هذه الأوراق والبذور أكلها حتى ظُنَّ أنه ينبغي أن يواكب القرآن التحقيقات العلمية للعصر، فحاولوا أن يلزقوا النظام البطليموسي به، تماماً مثل ما هي طريقة باعة الفكر في زماننا في التفسير أن يلزقوا مسائل علم الهيئة الحالي بالقرآن.

8- ما من كتاب وتعليم إلا وله مقاصد مركزية، تدور جميع تفاصيله حولها، فكما أنه لا يمكن أن نفهم أمور الدائرة ما لم نفهم المراكز، كذلك حال القرآن، له بعض المقاصد والمهمات المركزية، ودون أن نفهمها فهما صحيحا، لا نستطيع أن نفهم شيئا من القرآن فهما صحيحا.

ولما لم تبق المقاصد المركزية للقرآن واضحة للأسباب المذكورة أعلاه = كان من الطبيعي أن تتأثر كل ناحية من نواحيه. ولم يبق بيان، ولا تعليم، ولا استدلال، ولا خطاب، ولا إشارة، ولا إجمال، محفوظا من هذا التأثر. ومن المؤسف أن اقتضاء الاختصار مانع من ضرب الأمثلة، ولا يمكن أن تتضح الحقيقة بدون مثال. انظر مثلا تفسير آية سورة آل عمران: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ [(3): 161]. ألم يجادلوا فيها جدالات عقيمة؟!. ألم يخرجوا إلى نواح بعيدة في تفسير قول اليهود: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [سورة المائدة 64]؟، وكيف تجاهلوا الاقتضاء البيّن لمحل البيان والسياق والسباق؟!.

9- إن الذوق الصحيح للغة العربية وآدابها شرطٌ أول لصحة فهم القرآن، ولكن -لأسباب مختلفة يحتاج بيانها إلى تفصيل- ضعُف هذا الذوق حتى جاء ذاك الوقت حين حصلت تعقيدات لا تحصى في مطالب القرآن، لا لشيء إلا لعدم بقاء الذوق السليم للعربية، وللابتعاد الكلي عن محاورات ومدلولات اللغة التي كان القرآن نزل فيها.

10- كانت المؤثرات الفكرية في كل عهد تشغل دورها في التفسير مثل سائر العلوم والفنون. ولا شك أن تاريخ الإسلام سيذكر دائماً هذه الواقعة الجديرة بالافتخار بأن علماء الحق لم يضعوا أسلحتهم أمام المؤثرات السياسية في زمانهم، ولم يرضوا أبداً أن تتأثر عقائد الإسلام ومسائله بها، ولكن تأثير العصر لا يلج من باب السياسة فقط، بل لمؤثراتها النفسية أبواب لا تحصى، فإذا انفتحت تلك الأبواب لم تنغلق بإغلاق أحد، وقد كان يمكن أن تُحفظ العقائد والأعمال من استيلائها، وحفظها علماء الحق، ولكن لم تكن لتُحفظ منها العقول، ولم تُحفظ. وهذا يحتاج إلى ضرب الأمثلة، ولكن أمثلتها تتطلب التفصيل، ولا يسمح لي اقتضاء الاختصار.

11- انتهى بعد القرن الرابع الهجري دورُ الاجتهاد في تاريخ العلوم الإسلامية وأصبحت الطريق العامة هي طريق التقليد سوى الشواذ والنوادر، وقد سرى هذا الداء العضال في جسم التفسير سراية تامة، فكان كل من يُقدم على التفسير يضع نصب عينيه أحد المتقدمين، ثم يعمي بصره، ويقتفي أثره. فإن أخطأ مفسر من القرن الثالث، كان لزاما أن يصل ذلك الخطأ إلى تفاسير القرن التاسع نقلا بنقل، ولم يحس أحد ضرورة أن يهجر التقليد لمحاتٍ ويحقق حقيقة الأمر، ثم فترت الهمم في كتابة التفسير حتى أضحت لا تتجاوز كتابة الحواشي على أحد كتب التفسير المتداولة، وانظر حواشي البيضاوي والجلالين، كم ضاعت قوة التصنيف في ترميم وإصلاح عمائر مبنية؟!

12- ساعد سوءُ ذوقِ الزمان في كل زيغ وانحراف، فنرى أنه في القرون الأخيرة قُبلت للدرس والتداول تلك التفاسير التي كانت خالية من محاسن القدماء تماماً، وقد كان سوء انتخاب العصر جاريا في كل علم وفن، فالعصر الذي كان يرجح السكَّاكي على الجرجاني، والتفتازاني على السكَّاكي[3]، كان يقينا أن لا تُمنح في بلاطه شهادةُ حسن القبول إلا لتفسير البيضاوي والجلالين!

13- اعمد إلى التفاسير المتداولة وانظر فيها، حيثما وجدت أقوالا عديدة في تفسير موضع، تراهم يرجحون غالبا من الأقوال أضعفها وفي غير محلها، ويكون القول الأحسن موجودا في الأقوال التي ينقلونها لكنهم يتجاهلونه.

14- انفتح باب كبير من الإشكال والموانع بسبب التفسير بالرأي، الذي كانت تضطرب أرواح السلف خوفاً منه.

وزل الناس في فهم المراد بالتفسير بالرأي، لم يكن المقصود بالمنع من التفسير بالرأي ألّا يُعمل العقل والبصيرة في فهم مطالب القرآن؛ لأنه إن كان هذا هو المراد لأصبحت دراسة القرآن ومطالعته دون جدوى. مع أن القرآن من أوله إلى آخره إنما هو دعوة إلى التعقل والتفكر، ويطالب في كل حين: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [سورة محمد (47): 24]. فإذن الرأي في عبارة “التفسير بالرأي” ليس في الحقيقة في معناه اللغوي، وإنما هو الرأي في اصطلاح الشارع، والمقصود به ذلك التفسير الذي لا يُفسَّر ليُعرف ما يقول القرآن، بل لإثبات مطابقة ما يريده رأينا الذي رأيناه مع القرآن بعد لَيِّه بأي طريقة.

لما بدأت الجدالات في باب العقائد مثلا، نشأت المذاهب الكلامية المختلفة، وسعى مُناظر كل مذهب أن يصوغ النصوص القرآنية على مذهبه، فلم يكونوا يتحرون ما يقول القرآن؟ بل كانت جميع محاولاتهم في أن يثبتوا القرآن مؤيدا لمذهبهم بأية طريقة. ومثل هذا التفسير، تفسير بالرأي.

أو لما اضطرمت عواطف التحزب والتشيع لدى مقلدي المذاهب الفقهية مثلاً شرعوا يتجاذبون الآيات القرآنية في مناكفات مسائلهم، ولم يكونوا يفكرون فيما تدل عليه المعاني الجلية للغة العربية، والاقتضاء الفطري لأسلوب البيان، والحكم الصريح للعقل والبصيرة؟ وكان الجهد كل الجهد في أن يروا القرآن بطريق أو بآخر موافقا لمذهب إمامهم. وطريقة التفسير هذه تفسير بالرأي.

أو خرجت جماعة من الصوفية مثلاً إلى حد بعيد في تحري الأسرار والبطون، وشرعت تصوغ القرآن على العقائد والمباحث التي وضعتها بنفسها، ولم يسلم من التحريف المعنوي أي حكم في القرآن، ولا عقيدة، ولا بيان. وهذا التفسير تفسير بالرأي.

أو إلباس طريق استدلال القرآن لباسَ المنطق مثلاً، أو إلصاق مسائل علم الهيئة اليونانية حيثما وردت ألفاظ السماء والكواكب والنجوم. إنه لَتفسيرٌ بالرأي.

أو ما سلكه مثلا بعض مُدعي الاجتهادِ والنظر في الهند ومصر من إثبات “أصول العلم والرُّقِيّ” للعصر الحاضر من القرآن، أو استنباط التحقيقات العلمية الجديدة منها، وكأنّ القرآن ما نزل إلا لينفث في أسماع الدنيا قبل عدة قرون في صورة ألغاز ما اكتشفه كوبرنيكس، ونيوتن، أو دارون، وويلس بلا نظر في فلسفة كتاب إلهامي، ثم لا يفهمه العالم لقرون عديدة حتى نشأ مفسرو زماننا الحاضر ويحلوا ألغاز ما قبل ثلاثة عشر قرنا. وإن طريقة التفسير هذه لتفسير بالرأي تماماً.

 

البحث عن الحقيقة:

هذه بعض الإشارات التي أودعتها القلم على اقتضاء الاختصار، وضيق المحل والمقام، وإلا فشرح هذا الأمر طويل جدا. (شعر فارسي 8)

تو خود حدیث مفصل بخواں ازیں مجمل!

يمكن بهذه الإشارات المجملة -على الأقل- تصور حال المشكلات والموانع في الطريق، وكيف أنه علينا أن نكشف الحُجب عند كل خطوة، وأن نواجه العقبات في كل شبر، ثم إن العقبات ليست في ناحية واحدة فحسب، والمشكلات لم تأت من باب واحد فقط، بل ينبغي أن نجوب في كل واد، وننظر ونسعى في كل ناحية وزاوية، وعندئذ يمكن أن نهتدي إلى الحقيقة الضائعة.


  • مولانا أبو الكلام آزاد: هو العالم الجليل، والمفسر النحرير، إمام الهند، محيي الدين، أحمد بن خير الدين، المكني بأبي الكلام، الملقب بـآزاد (1305-1375هـ / 1888-1958م). أحد أبرز قادة حزب المؤتمر الوطني، وأول وزير للتعليم في الهند بعد الاستقلال. من آثاره: (ترجمان القرآن)، و(التذكرة)، و(غبار الخاطر).
  • هذه المقالة جزء من مقدمة كتاب: (ترجمان القرآن)، لإمام الهند مولانا أبو الكلام آزاد –رحمه الله-، (1/45-52)، طبعة الأكاديمية الإسلامية.

[1] لعله يشير إلى قولهم: مذهب ‌السلف ‌أسلم، ومذهب ‌الخلف ‌أعلم. (المترجم)

[2] لعله يشير إلى قولهم: إنه يورد الشبهة نقدا، ويحلها نسيئة. (المترجم).

[3] هذه الكتب هي: أسرار البلاغة للجرجاني (ت471هـ)، ومفتاح العلوم للسكاكي (ت626هـ)، والمطول لسعد الدين التفتازاني (ت 793هـ). وانظر مسألةَ تفاضل هذه الكتب الثلاثة، في مقدمة الأستاذ رشيد رضا على كتاب أسرار البلاغة للجرجاني، ثم تعقُّبَ الأستاذ محمود شاكر عليه في مقدمته على الكتاب ذاته.  (المترجم)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى