- بندر بن عبدالله الفايز
الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على رسول الله، أما بعد:
ففي ظل التقدم التقني الهائل، والتقارب الحاصل بين الناس بسببها، أصبح الاطلاع على ما لدى الآخرين من ثقافة واعتقاد سهل وميسر؛ ونظرًا للاختلاف الحاصل بين الناس في الثقافة والاعتقاد، وسهولة التواصل مع الآخر، وتساهل بعضهم في الخوض في مسائل متعلقة بالعلم الشرعي من غير معرفة كبيرة بالموضوع المراد بحثه، أو عدم مراعاة للمصالح والمفاسد من الدخول في ذلك؛ أدى لوجود مجادلات ومناظرات كثيرة في وسائل التواصل في قضايا تُعد من أصول الدين ومحكماته، وتضخيم قضايا لا تستحق ذلك. ولم يكن الخوض في كثير منها على ما يحقق الفائدة المرجوة منها، لذا وقعت محاذير ومفاسد، كان الأولى بالمهتمين الرجوع إلى فقه السلف في الجدل والمناظرة، ومعرفة منهجهم، والسير على منوالهم، ولأجل هذا كانت هذه الورقة في بيان: (فقه السلف في الجدل والمناظرة)، وقد جعلتها تقوم على مسألتين:
المسألة الأولى: ما ورد عن السلف من النهي عن الجدل والمناظرة
جاءت نصوص كثيرة عن السلف تنهى عن الجدل والمناظرة في المسائل الاعتقادية، أما مسائل الفقه فقد حصل بين السلف فيها جدال ومناظرات[1].
وقد عقد جماعة من العلماء ممن صنف في كتب العقيدة المسندة أبوابًا ذكر فيها جملة من الآثار التي تنهى عن الجدل والخصومة والمناظرة، ومن ذلك: الآجري حيث قال: “باب ذم الجدال والخصومة في الدين”[2]، وابن بطة حيث قال: “باب ذم المراء والخصومات في الدين، والتحذير من أهل الجدال والكلام”[3]، واللالكائي حيث قال: “سياق ما روي عن النبي ﷺ في النهي عن مناظرة أهل البدع، وجدالهم”[4].
ولم يكن سكوت السلف عن الجدل والمناظرة والخوض في المسائل الاعتقادية جهلًا ولا عيًّا، وإنما كان ورعًا، وصيانة للدين، ونظرًا للمصالح والمفاسد، كما يقول ابن رجب: “فمن عرف قدر السلف عرف أن سكوتهم عما سكتوا عنه من ضروب الكلام، وكثرة الجدال والخصام، والزيادة في البيان على مقدار الحاجة، لم يكن عيًّا ولا جهلًا ولا قصورًا، وإنما كان ورعًا، وخشية للَّه، واشتغالًا عما لا ينفع بما ينفع”[5].
وهذا الموقف الصارم من السلف من المجادلة والمناظرة إنما هو لما قد تتضمنه من مفاسد ومحاذير، وذلك من جهات متعددة، منها ما يلي:
الجهة الأولى: طبيعة الجدل والمناظرة
إذ من طبيعة الجدل والمناظرة أنها قد تورث قسوة القلب، وتجلب الضغينة، وتفسد الصداقة، قال الإمام مالك -:”المراء في العلم يُقسِّي القلب، ويورث الضغن”[6].
وقال عبد الله بن الحسين -:”المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحل العقدة الوثيقة، وأقل ما فيه أن تكون المغالبة، والمغالبة أمتن أسباب القطيعة”[7].
وقد يقال إن هذا محمول على الإكثار منه أو الجدال المذموم – وسيأتي بيان أن نهي السلف ليس عامًّا مطردًّا في كل الأحوال-.
الجهة الثانية: المجادِل والمناظِر
فقد تكون المجادلة والمناظرة سببا في إضعاف صاحب الحق عما لديه من الحق؛ وذلك لكونه لم يحسن أو لم يعرف الإجابة عن الشبهة التي ألقاها عليه من يناظره، فكان ذلك سببًا في زعزعة إيمانه، وضعف يقينه، وزرع الشكوك لديه، فلذا كان من دواعي تحذير السلف عن الجدل والمناظرة خشية وقوع مثل هذا الأمر، ومن نصوصهم في ذلك ما قاله أبو قلابة: “لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة، أو يُلبِّسوا عليكم في الدين بعض ما لُبِّس عليهم”[8].
الجهة الثالثة: المجادَل والمناظَر
فقد يكون ضعف مَن يناظره سببًا في تمسكه – وتمسك من انخدع به – بما هو عليه من باطل، وسببًا أيضًا في استطالته على أهل الحق، ومن نصوص السلف في ذلك: ما حكي “عن ابن فروخ أنه كتب إلى مالك بن أنس -رضي الله عنه-: أن بلدنا كثير البدع، وأنه ألف لهم كلامًا في الرد عليهم. فكتب إليه مالك يقول له: إن ظننت ذلك بنفسك خفت أن تزل فتهلك، لا يرد عليهم إلا مَن كان ضابطًا عارفًا بما يقول لهم، لا يقدرون أن يعرجوا عليه، فهذا لا بأس به، وأما غير ذلك فإني أخاف أن يكلمهم فيخطئ فيمضوا على خطئه، أو يظفروا منه بشيء، فيطغوا ويزدادوا تماديًا على ذلك”[9].
الجهة الرابعة: مَن يحضر الجدل والمناظرة
فقد يعلق في ذهنه شبهة ألقاها المخالف ولم يتمكن صاحب الحق من الإجابة عليها إجابة شافية، أو قد يكون فهم الشبهة ولكنه لم يفهم الرد؛ لكون الرد يحتاج إلى مقدمات تأصيلية، ومن نصوص السلف في ذلك: ما قاله جعفر بن عبد الله: “جاء رجل إلى مالك بن أنس، فقال: يا أبا عبد الله ﴿الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ﴾ [طه:5] كيف استوى؟ قال: فما رأيت مالكًا وجد من شيء كموجدته من مقالته، وعلاه الرحضاء، – يعني العرق – قال: وأطرق القوم، وجعلوا ينتظرون ما يأتي منه فيه، قال: فسري عن مالك، فقال: الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فإني أخاف أن تكون ضالًّا، وأُمِر به فأُخرج”[10].
الجهة الخامسة: المسألة المتنازع فيها.
فقد يكون الجدل والمناظرة في مسألةٍ لا يحسن الخوض والتعمق فيها، وإنما الدخول فيها من التكلف، ومن نصوص السلف في ذلك: قول أحمد بن جناب: “سألت عيسى بن يونس عن قول الله ﴿كلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ [الرحمن:26]، حور العين يمتن؟ وذاك أن بعض مَن يتكلم بكلام الجهمية يسأل عن هذا. فغضب عيسى من ذاك غضبًا شديدًا، فقال: لقد بعثرنا الحديث بعثرة ما بعثرها أحد … ما سمعنا أحدًا قط يسأل عن مثل هذا”[11].
وأيضًا قد يكون الجدل والمناظرة مع المخالف في المتشابه من النصوص الشرعية، فلذا نهى السلف عن الجدل لذلك، ومن نصوص السلف في ذلك: ما قاله أيوب السختياني: “لا أعلم اليوم أحدًا من أهل الأهواء يخاصم إلا بالمتشابه”[12].
وقال عون بن عبد الله: “لا تجالسوا أهل القدر، ولا تخاصموهم، فإنهم يضربون القرآن بعضه ببعض”[13].
وأيضًا قد يكون الجدل والمناظرة سببًا في نشر مقالة المخالفين وشبههم، ومن نصوص السلف في ذلك: ما قاله اللالكائي: “فما جني على المسلمين جناية أعظم من مناظرة المبتدعة، ولم يكن لهم قهر ولا ذل أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة يموتون من الغيظ كمدًا ودردا، ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلًا، حتى جاء المغرورون ففتحوا لهم إليها طريقًا، وصاروا لهم إلى هلاك الإسلام دليلًا، حتى كثرت بينهم المشاجرة، وظهرت دعوتهم بالمناظرة، وطرقت أسماع من لم يكن عرفها من الخاصة والعامة”[14].
المسألة الثانية:ما ورد عن السلف من وقوع الجدل والمناظرة مع المخالفين
ما تقدم من نهي السلف عن الجدل والمناظرة لم يكن نهيًا عامًّا دائمًا، وإنما كان نهيًّا مقيدًا بالمصلحة والمفسدة، ولذا لما اضطر المخالفون السلف إلى الجدال والمناظرة، أقدم السلف على ذلك من باب دفع الصائل، إذ ليس هو الأصل عندهم، وإنما هو عارض طارئ اقتضته الحاجة القائمة في ذلك الوقت بحسب الزمان والمكان والحال ونحو ذلك، مع التزامهم بالضوابط الشرعية للجدل والمناظرة، واحتياطهم بما يحقق المصلحة من مثل هذه المجادلات والمناظرات، ونظرهم أن الأولى الإقدام على ذلك.
قال الذهبي: “كانت الأهواء والبدع خاملة في زمن الليث، ومالك، والأوزاعي، والسنن ظاهرة عزيزة، فأما في زمن أحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبي عبيد، فظهرت البدعة، وامتحن أئمة الأثر، ورفع أهل الأهواء رؤوسهم بدخول الدولة معهم، فاحتاج العلماء إلى مجادلتهم بالكتاب والسنة، ثم كثر ذلك، واحتج عليهم العلماء أيضًا بالمعقول، فطال الجدال، واشتد النزاع، وتولدت الشبه – نسأل الله العافية –”[15].
ومن نصوص السلف المبينة لذلك ما يلي:
1- قول عمر بن عبد العزيز: “مَن جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقل”[16].
هذا نص صريح في النهي عن الجدل، إلا أنّ قائله – وهو عمر بن عبد العزيز – قد ناظر غيلان الدمشقي عن قوله في القدر[17]، مما يدل على أن النهي ليس عامًّا، وقد أبان ابن عبد البر عن وجه نهيه عن الجدال مع فعله له حيث قال: “هذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وهو ممن جاء عنه التغليظ في النهي عن الجدال في الدين، وهو القائل: من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقل، فلما اضطر وعرف الفلح في قوله، ورجا أن يهدي الله به، لزمه البيان، فبين وجادل، وكان أحد الراسخين في العلم رحمه الله تعالى”[18].
2- قول ابن عون: “سمعت محمد بن سيرين ينهى عن الجدال إلا رجلًا إن كلمته طمعت في رجوعه”[19].
فهذا النص من ابن عون يدل على أن المجادلة ليست ممنوعة لذاتها، وإنما هي مقيدة بالمصلحة، وهي هنا الطمع باستجابة المجادَل والمناظَر.
3- قول بشر بن الحارث لما “سئل عن الرجل يكون مع هؤلاء – أهل الأهواء – في موضع جنازة، أو مقبرة، فيتكلمون، ويعرِّضون، فترى لنا أن نجيبهم، فقال: إن كان معك مَن لا يعلم، فردوا عليه؛ لئلا يرى أولئك أن القول كما يقولون، وإن كنتم أنتم وهم فلا تكلموهم، ولا تجيبوهم”[20].
فهنا لم يجعل بشر بن الحارث مجرد إثارة الشبهة مسوغًا للرد عليهم، وإنما علق الرد عليهم بوجود مصلحة في ذلك، وهي هنا سماع مَن قد ينخدع بمقالتهم، فلذا كان للرد عليهم مصلحة ظاهرة.
4- قول الإمام أحمد: “قد كنا نأمر بالسكوت، فلما دعينا إلى أمر ما كان بد لنا أن ندفع ذلك، ونبين من أمره ما ينفي عنه ما قالوه، ثم استدل لذلك بقوله تعالى: ﴿وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ ﴾ [النحل:125]”[21].
وهذا فيه إشارة من الإمام أحمد إلى التفريق بين المقامات، وهو أن الأصل عدم المجادلة، وأن المجادلة إنما هي أمر عارض راجع للمصلحة.
5- قول الآجري: “فإن قال قائل: فإن اضطرني الأمر وقتًا من الأوقات إلى مناظرتهم، وإثبات الحجة عليهم ألا أناظرهم؟ قيل له: الاضطرار إنما يكون مع إمام له مذهب سوء، فيمتحن الناس ويدعوهم إلى مذهبه، كفعل مَن مضى في وقت أحمد بن حنبل: ثلاثة خلفاء امتحنوا الناس، ودعوهم إلى مذهبهم السوء، فلم يجد العلماء بدًّا من الذب عن الدين، وأرادوا بذلك: معرفة العامة الحق من الباطل، فناظروهم ضرورة لا اختيارا”[22].
وهذا فيه إشارة ظاهرة إلى وجود مصلحة قائمة في المناظرة، وهي أن المناظَر إمام له تأثير على مَن تحته، فلذا كانت للمناظرة مصلحة ترجع إلى نصرة الدين، ورفع اللبس الذي قد يقع على العوام من تأثير من المناظَر.
ومما سبق يتبين أن الأصل عند السلف هو النهي عن الجدل والمناظرة، وأن الإقدام على ذلك إنما هو منوط بالمصلحة، ولذا لم يكن عند السلف مناظرات كثيرة، رغم كثرة المبتدعة وتشغيبهم ودعوتهم لهم للجدل والمناظرة، وقد تتبع بعض الباحثين المناظرات التي ذكرت في مصنفات السلف خلال القرون الثلاثة الأولى فبلغت عشرين مناظرة[23].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
[1] انظر: الإبانة الكبرى لابن بطة 2/545، جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/948.
[2] الشريعة للآجري 1/429.
[3] الإبانة الكبرى لابن بطة 2/483.
[4] شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي 1/ 128.
[5] بفضل علم السلف على علم الخلف لابن رجب ص 9.
[6] الإبانة الكبرى لابن بطة 2/ 530.
[7] الإبانة الكبرى لابن بطة 2/ 530-531.
[8] الشريعة للآجري 1/ 435.
[9] الاعتصام للشاطبي 1/38.
[10] شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي 3/ 441.
[11] الإبانة الكبرى لابن بطة 1/ 403.
[12] الإبانة الكبرى لابن بطة 2/ 501.
[13] الإبانة الكبرى لابن بطة 2/ 466. وانظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي 1/ 146.
[14] شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي 1/ 19. وانظر: الشريعة للآجري 1/449.
[15] سير أعلام النبلاء للذهبي 8/ 144.
[16] الإبانة الكبرى لابن بطة 2/ 503.
[17] انظر: السنة لعبد الله ابن الإمام أحمد 2/ 429.
[18] جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/ 967.
[19] الإبانة الكبرى لابن بطة 2/ 541.
[20] الإبانة الكبرى لابن بطة 2/ 542.
[21] الآداب الشرعية لابن مفلح 1/ 207. وانظر: نقض الدارمي على المريسي 1/538، السنة للخلال 5/134.
[22] الشريعة للآجري 1/454.
[23] انظر: منهج أهل السنة والجماعة في تدوين علم العقيدة لناصر الحنيني ص 1063.