الدين

مدخل إلى الاستشراق

  • محمد السعيد
  • تحرير: عبير الشهري

حاولتُ في هذه المادة أن أعرض القدر الذي لا يسع القارئ العربي أو المسلم جهله، فيما يتعلق بالاستشراق وما يتصل به من قضايا، ومسائل، باختصار وإيجاز شديد، فإن أحسنتُ ذلك فما هو إلا توفيق الله وامتنانه عليّ، أن وفقني لذلك.

  • مقدِّمة: 

لم يكن الاستشراق من الجانب النظري والمعرفي قبل عام 1978 مثله كما كان بعد هذا العام. كان الفارق في صدورِ كتابِ الدكتور إدوارد سعيد الذي أحدث نقلةً نوعية في هذا الباب، من حيث دراسته للموضوع من زوايا وجوانب لم تُدرس، أو ينظر فيها من قبل، بأسلوبٍ علمي ومنهجٍ أكاديمي. كان الكتاب عبارة عن دراسة علمية، تحليلية، تفصيلية لتاريخ ونشأة وتطور الاستشراق، وأثاره السياسية، والاجتماعية، والثقافية على الشرق والغرب.

يقول د. محمد عنداني في تصديره للكتاب -وقد استطاع أن يقدِّم ترجمة فريدة ممتازة له، ينصح بقراءتها لمن يريد مطالعة الكتاب -يقول: اتبع المؤلف في كتابته منهجاً علمياً، وخاطب الغرب بلغته ومنهجه العلمي الحديث فلم يسع الأخير -أي الغرب -إلا أن يقبله.

والكتاب -أو المشروع -كما يقول عنه المؤلف: يرمي إلى وصف نظام فكري خاص -يقصد نظام الاستشراق، وقد أُلحق هذا الكتاب بكتابين آخرين يكمّلان هذا المشروع -قائمٌ على أُسُّسٍ فكريةٍ صلبة، ويدحض النظرة الجوهرية تجاه الشرق التي زيفها الغرب. وأحاول فيه أن أبيِّن كيف أُسيء تصوير الإسلام بصفة جوهرية في الغرب، وهو مستوحى من الثغرة الهائلة التي شعرتُ بها بين حديث المستشرقين أو الغربيين في الخارج، وتجربتي الشخصية في الشرق، إذ لا يوجد أي تطابق بينهما على الإطلاق. كانوا يقولون أشياء عني، وعن آخرين يشبهوني، أشياء لم تعكس واقعنا وتجاربنا أبداً بأي صورة صحيحة ومعقولة.

الحديث عن الاستشراق يعني الحديث عن مشروع ثقافي، سياسي، إمبريالي غربي، موضوع دراسته وما يُعنى به الشرق، وعلى وجه التحديد الإسلام والعرب.

 

  • الاستشراق:

مبحث أكاديمي، ومنهج فكري موضوعه؛ الشرق، استطاع الغرب بفضله -ولا يزال -أن يتناول الشرق بالبحث العلمي بصورة منتظمة، وهو أسلوب يقوم على التَّمييز الوجودي والمعرفي بين ما يسمى الشرق والغرب، يسعى للهيمنة على الشرق، وإعادة بنائه والتسلّط عليه. وجوهر هذا النظام -الاستشراق: التَّمييز المتأصِّل بين التفوق الغربي، والدونية الشرقية، وقد عمَّق ذلك التَّمييز تطوُّر الاستشراق، ومراحله التاريخية، وزاد ذلك العمق صلابة؛ قوة الغرب وضعف الشرق[1].

فهناك الغرب المتقدِّم المتحضِّر المتعلِّم القوي الحديث الذكي، وهناك الشرق المتخلِّف الجاهل الضعيف المعاق ذهنياً وفكرياً، والعاجز -والذي لا يملك القدرة والكفاءة أصلاً -عن القيام بشؤون نفسه ورعاية أهله، لا يعنيه في الحياة سوى إشباع ملذاته وشهواته، يؤمن بدين خرافي مبتدع على يد رجل ادَّعى النبوّة. يعجز عقله عن التفكير والإبداع والاختراع، كالعقل الغربي، يجهل ما تعنيه الحرية والكرامة والحقوق الطبيعية، يستكين للعبودية، والعيش في كنف الطغيان والاستبداد. هذا هو الشرق في الاستشراق، كما صوَّره المستشرقون في كتبهم ونقلوه إلى أهلهم وشعبهم.

باختصار، كان الشرق يوجد باعتباره مجموعة من القيم المنسوبة، لا إلى حقائقِ واقعهِ الحديث، بل إلى سلسلة من الروابط التي بُولغ في قيمتها مع ماضٍ أوروبيٍ سحيق. وهذا مثال خالص للموقف القائم على النصوص والتخطيط المرسوم. كان الاستشراق، من زاوية معينة، معلومات مختزنة في مكتبة أو في قاعة محفوظات، أو أرشيف، يشارك فيها الجميع، وتحظى بعض جوانب هذه المعلومات بالإجماع على صحتها. أما العامل الذي كان يربط المواد الأرشيفية بعضها إلى البعض، فكان أسرة من الأفكار، ومجموعة من القيم التي ثبتت فعاليتها بشتی الأشكال، فكفلت الوِحدة لهذه المعلومات. وكانت هذه الأفكار تشرح سلوك الشرقيين وتنسب إلى الشرقيين عقلية خاصة، ونسبًا ينحدرون منه، وجوًا خاصا بهم، والأهم من ذلك كله أنها سمحت للأوروبيين بأن يعاملوا الشرقيين بل وأن ينظروا إليهم باعتبارهم ظاهرة ذات خصائص منتظمة. ولكن هذه الأفكار الاستشراقية، شأنها في ذلك شأن أي مجموعة من الأفكار، كان لها تأثيرها فيمن يُسمّون شرقيين أو غربيين أو أوروبيين. وبإيجاز، من الأفضل لنا أن نفهم الاستشراق باعتباره مجموعة من القيود والحدود المفروضة على الفكر، أكثر من كونه مجرد مذهب إيجابي[2].

هذا الشرق المختلق والمبتكر في العقول والنصوص، لا كما هو في الواقع، لا بدَّ من معاقبته وتأديبه لوقوعه خارج أوروبا، ويقتضي الواجب وتحتّم المروءة علينا (نحن الغرب) أن نتدخل فيه، لرعايته وتقويمه وتأديبه وتعليمه وتثقيفه، وإخراجه من العبودية إلى الحرية ومن ظلم الديكتاتورية إلى عدل الديموقراطية.

 

  • رجال الاستشراق: المستشرقون

المستشرق: هو كل من يعمل بإجراء البحوث الخاصة بالاستشراق، يجعل عمله ينصب دائماً على تحويل الشرق من شيء إلى شيء آخر، وهو يفعل هذا من أجل ذاته ومن أجل ثقافته، أما المعلومات الإمبريقية عن الشرق أو عن أي منطقة فلا يكاد لها وزن، فالعامل الذي يعتدُّ به بل العامل الحاسم هو ما أسميته الرؤية الاستشرافية وهي رؤية لا تقتصر على الباحث المحترف إطلاقاً[3]. يصف الأستاذ الأديب محمود شاكر -رحمه الله -الجيل الأول من المستشرقين الذين كانوا نِتاج اليقظة الأوروبية بأنهم: أهم وأعظم طبقة تمخَّضت عنها اليقظة، وبفضلهم وحدهم، وبفضل ملاحظاتهم التي جمعوها من السياحة في ديار الإسلام ومن الكتب، نشأت طبقة الساسة وهم الذي عُرِفوا فيما بعد باسم رجال الاستعمار، وبفضلهم وحدهم أيضاً وبفضل ملاحظاتهم نشأت الطائفة التي عُرِفت فيما بعد باسم رجال التبشير.

كان للاستشراق بعض المنافع والفوائد كما كان له من الضَّرر والأذى الشيء الكثير. بعض فوائده وما انتُفع به يذكرها الدكتور الباحث علي نملة، وهي: جمع المخطوطات وترتيبها وتبويبها وحفظها في المكتبات الغربية، فحققها وترجمها، وإنشاء المعاجم والفهارس، وتسهيل تقنية البحث العلمي[4]. لكن الفارق أن الكم المقابل لهذه الأفعال، أعمالٌ وأفعال أكثر ضرراً وأذية وسوء. حتى إن المستشرقين بين بعضهم يختلفون في عملهم داخل الحقل الاستشراقي، وليسوا سويةً في الخبث والمكر وانعدام الأخلاقية وانتفاء الموضوعية عن دارساتهم وأبحاثهم، منهم الصالح والفاسد، والجيد والسيء. المسألة مرةً أخرى تكمن في الكم الكبير من السيء مقابل الجيد، في مقدار الضَّرر والأذى على ضآلة النفع والفائدة. أيضاً -وهنا فيصل الكلام-في المعتمد والرائج، والذي يلقى القبول والاستحسان عند السلطات وجماعات المصالح، فالملاحظ أنه لا يؤخذ إلا بالقول الخبيث، ولا يُرفع ويُصدّق إلا الرأي الكاذب والحكم الفاسد.

 

  • تاريخياً: 

يعتبر الغرب المسيحي أن الاستشراق قد بدأ وجوده الرسمي بالقرار الذي اتخذه مجلس الكنائس في مدينة فيين (Vienne) الفرنسية، بإنشاء سلسلة من كراسي الأستاذية للغات العربية، واليونانية، والعبرية، والسريانية في باريس، وأوكسفورد، وبولونيا، وأفينيون، وسالامانكا[5]. ونحن لا يعنينا في هذا المقام تاريخ نشأته وبدايته، والمادة تأخذ الاستشراق من القرن التاسع عشر حتى اليوم في عرضها واستقصائها له.
نشأ الاستشراق نتيجة علاقة التقارب الخاص بين فرنسا وبريطانيا من ناحية، وبين الشرق من ناحية أخرى، ومنذ بداية القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت لفرنسا وبريطانيا السيطرة على الشرق والاستشراق، وأما منذ انتهاء هذه الحرب فأمريكا هي التي تسيطر على الشرق والاستشراق، وتتبع في ذلك المنهج الذي كانت تتبعه فرنسا وبريطانيا ذات يوم[6].

يشير إدوارد سعيد في كتابه إلى حملة نابليون على مصر (1798 -1801) على أنها “أولى الخبرات التي مكَّنت الاستشراق الحديث من الظهور”. ويمكننا القول أنَّه ومنذ ذلك الحين أخذ الاستشراق يكتسي بطابع الحداثة، والعلمانيَّة، والماديَّة، وأصبحت له أساليب، ومناهج علميَّة، وتقاليد لا يُحاد عنها إلا فيما ندر، كما بدأت مراكز البحث والمجمعات العلميَّة والجمعيات الأكاديمية التي تُعنى بالشرق والإسلام بالظهور والانتشار، بهذا انتقل الاستشراق من النشاط الفردي إلى النشاط الجماعي.

والاستشراق الجديد يقطع مع الاستشراق القديم بتركيزه على بناء تصورات أيديولوجية حول الإسلام والمسلمين، من دون أن يسعى إلى تقديم معرفة نظرية وتطبيقية حقيقية[7]. وإن تطورت أساليبه ومناهجه العلمية، وتنوعت أدواته البحثية والتحليلية ووسائله المعرفية، ورغم أنه تخصَّص في الدراسة أكثر من ذي قبل، وتوسعت نطاقات البحث فيه، رغم كل هذا إلّا أنَّه ما زال مطبوعاً منمَّطاً ومأخوذاً بتصورات وتقاليد الاستشراق القديم.

ونحن إن أخذنا الاستشراق الجديد بمعنى الخبرة الأكاديمية في خدمة القرار السياسي الغربي، فأغلب المجهود اتجه نحو كيفية المحافظة على المصالح في منطقة متقلبة، كما تواصل التركيز على ما يسمى بالحرب على الإرهاب ومحاولة إيجاد مواقع للتأثير في واقع متقلب، كسوريا مثلًا. أما في الغرب فلعل صعود اليمين المتطرف، والخطاب المعادي للهجرة، وبخاصة في البلدان الإسلامية، دليل على قوة الفكر الاستشراقي الجديد وفعله في صنع الرأي العام والقرار[8].

 

  • الهيمنة الثقافية: 

إن الاستشراق رغم أوجه الفشل المذكورة، ورطانته المؤسفة ونزعته العنصرية التي لا تكاد تخفى، وجهازه الفكري الهزيل، يزدهر اليوم، بل إني أرى ما يدعو إلى الانزعاج في انتشار تأثيره إلى الشرق نفسه. والواقع هو أن الإمبريالية الجديدة قد نجحت في تكييف الاستشراق واستيعابه، إذ أصبحت نماذجه الفكرية الحاكمة لا تتعارض، بل وتؤكد المخطط الإمبريالي المستمر للهيمنة على آسيا. إن المستشرق اليوم يحاول أن يرى الشرق باعتباره صورة مقلدة للغرب، ويفترض، مثلما يقول برنارد لويس، بأن الشرق لن ينجح في تحسين أحواله إلا إذا أصبحت نزعته القومية على استعداد للتصالح مع الغرب. وأما إذا حدث وقام العرب أو المسلمون أو العالم الثالث والعالم الرابع بسلوكِ سبل غير متوقعة، رغم كل شيء، فلن نُدهش إذا سمعنا مستشرقاً يقول لنا إن هذا يشهد على عناد الشرقيين، واستحالة إصلاحهم، ويُثبت من ثم أنهم ليسوا أهلاً للثقة[9].

يرى أستاذ جامعة هارفرد صامويل هانتجتون صاحب نظرية صراع الحضارات أنَّه: اليوم وعقب انتهاء الحرب الباردة، ندخل في مرحلة جديدة من التاريخ، حيث أن: الصراع سيكون ثقافيا، تسعى فيه كلّ حضارة وثقافة إلى فرض نفسها وإحكام سيطرتها على الآخر”. العلامة الفارقة في هذا الصراع أن النصر والغلبة لا يكونان بالإكراه والإجبار كما في الحروب العسكرية، إنَّما خضوع وقبول عن رضى، وموافقة من الآخر لثقافة الأول، وما اشتملت عليه من أراء وأفكار وعقائد وتصورات. ولا يكون هذا إلا بتبديل العقول وتغيير النفوس واستمالة القلوب، وإثارة الشبهات حول المسلّمات والثوابت والأصول في العقيدة والثقافة، وما اتفقت عليه الأمة وأجمعت عليه قاطبة، وهذا ما يعمل عليه الغزو الفكري والاجتياح الثقافي.

يُعرِّف الدكتور محمد عمارة -رحمه الله -الغزو الفكري على أنَّه: حرب أفكار، حرب ناعمة، حرب تستخدم الفكر بدلاً من المدافع والسيوف، وهي أخطر منها، لأن حرب المدافع والسيوف تثير مقاومة وحميّةً ومواجهة، أما حرب الأفكار فهي تتسلَّل إلى العقول دون أن تقتل الأجساد، تسيطر عليها، وتقتل المناعة والمقاومة عند الشخصية المغزوَّة فكرياً، تتحول الشخصية هنا إلى شخصية تابعة ومقلِّدة ومعجبة بالغازي.

 واحذر كلَّ الحذر من الانخداع بالقول الخبيث، والرأي المُضلِّل الذي يصف لك ما أسلفنا ذكره بكلمات وتعابير، ما أُريْدَ بها إلا الكذب والخداع. كأن يُقال لك إنما هذا تفاعل ثقافي، أو ثقافة عالمية نشهدها في عصر العولمة، ثقافة مشتركة بين جميع الأمم والشعوب. اِعلم أن “الثقافات متعدِّدة بتعدّد الملل، ومتميزة بتميز الملل، ولكل ثقافة أسلوب في التفكير والنظر والاستدلال منتزع من «الدين» الذي تدين به لا محالة. فالثقافات المتباينة تتحاور وتتناظر وتتناقش، ولكن لا تتداخل تداخلاً يفضي إلى الامتزاج البتَّة، ولا يأخذ بعضها عن بعض شيئا، إلّا بعد عرضه على أسلوبها في التفكير والنظر والاستدلال، فإن استجاب للأسلوب أخذته وعدَّلته وخلَّصته من الشوائب، وإن استعصى نبذْتَهُ واطَّرحته. وأنبِّهك لشيء مهم جداً، هو أن تفصل فصلاً حاسماً بين ما يسمى «ثقافة» وبين ما يسمى «علماً» (أعني العلوم البحتة)، لأن لكل منهما طبيعة مباينة للآخر، فالثقافة مقصورة على أمة واحدة تدين بدين واحد، والعلم مشاع بين خلق الله جميعاً، يشتركون فيه اشتراكاً واحدا مهما اختلفت الملل والعقائد[10]. وإن قالوا لك تفاعلٌ ثقافي، فإنها المداهنة والتزييف، والمكر والخداع. إنما التفاعل الثقافي الحقيقي يكون بإرادة مستقلة، ورغبة خالصة من الأول لطلب الاستفادة والاستزادة من ثقافة الآخر، وفنونه، دون فرضٍ من القوي وإجبار منه.

 

  • ختاماً:

يجب بذل جهود على حمل الأمة الإسلاميّة على ثقافتنا، وعلينا أن لا نملّ من محاولة حملهم على هذه الثقافة.

   المستشرق البريطاني هاملتون غيب (1895-1971)

ما وجد العدو يوماً سلاحاً أعظم أثراً وأشد فتكاً وأقل ضرراً وخسارةً عليه، وأكثر تمكيناً ومعيناً على الحكم والهيمنة، من سيطرته على العقول، والتدسُّس إلى النفوس والقلوب، والعبث والإفساد بكل أصل وثابت في عقيدة الأمة وثقافتها.

لا غَروَ أننا اليوم نعيش احتلالاً ثقافياً ممنهجاً. احتلال ما أرى فيه سعياً من الآخر لفرض ثقافته، إذ لا أعتقد أن للغرب اليوم ثقافة متماسكة يفرضها على الآخر. لقد فقد الغرب ثقافته أو هو في طوره الأخير لفقدانها. فقدها بفقدانه أولاً الأصل الأخلاقي، أو قل العامل الأخلاقي الذي لا بدَّ منه في كل قوم يرجى أن تكون لهم ثقافة، كما فقدها بانتقاله ثانيًا إلى اللامرجعية (إن جاز لنا التعبير بهذا المصطلح) حيث لا مرجعية للمجتمع، أو للدولة والإنسان، سواء كانت مرجعية إلهية، دينية أو عقلية. هنا تفقد كل أسئلة الوجود والغائية قيمتها، ولا يعود لمفاهيم مثل: الخير، الشر، صالح وفاسد أي معنى وقيمة. بالإضافة إلى عوامل وأسباب أخرى تساهم في تفكيك وهدم ما تبقى من ثقافة الغرب، لا يسعفنا الوقت، ويضيق بنا المقام عن ذكرها وتفصيلها.

يمارس هذا الاحتلال سطوته، ويستخدم قوته لتفكيك ثقافة الأمة، وهدم أُسُسها وتقويضها، وطمس معالمها، وتحريف وتزوير تاريخها، لا يعدم في ذلك وسيلةً تضر وتفسد، أو طريقةً تؤذي وتدمِّر. ولا يلام ولا يشجب، بل ولا يذمُ ولا يُعابَ عليه فعله وصنيعه، وضعيف العقل من يفعل ذلك! احتلالٌ قام على قاعدة خرجت من مستودع أفكاره الخبيثة، وآرائه الدنيئة، الغاية تبرّر الوسيلة. ولمّا كانت غايته الحكم ومزيداً من القوة، كانت الوسائل والطرق مبرَّرة بل واجبة محتّمة.

إنَّما يُلام ويشجب من يعين هذا الماكر، ويمدُّ له يد العون بتخليه عن ثقافته وتبرّئِهِ منها ظناً منه أن هذا ما يجعله متحضراً متقدماً عاقلاً، إلا أنه خاب وخسر. وذلك أنَّهُ من تخلَّى عن ثقافته وخرج عنها، خسر بذلك انتماءه، ومن خسر انتماءه وفقد نسبه الثقافي، خسِر ذاته وفقدها. وماذا يكون حال هذا المتحضِر الخاسر لذاته؟ ماذا يبقى له! ما قيمته؟ وما الإنسان بدون ذات؟! فتنبّه لهذا وتأمّل فيه.

واعلم أنَّه لا خير في قومٍ تركوا ثقافتهم للغريب الشرير، يعبثُ فيها كما يريد، كما أنَّه لا خير في الإنسان إن لم يدفع الشر والأذى عن ثقافته، واحذر أن تكون ثغرةً يدخل منها الخصم والعدو.


[1] إدوارد سعيد، الاستشراق، ترجمة د. محمد عنداني

[2] المرجع السابق

[3] المرجع السابق

[4] د. علي نملة، محاضرة بعنوان: استشراق أم استغراب

[5] إدوارد سعيد، الاستشراق، ترجمة د. محمد عنداني

[6] المرجع السابق

[7] صالح فخري، كراهية الإسلام: كيف يصور الاستشراق الجديد العرب والمسلمين

[8] مجلة الفيصل، حوار مع الأستاذ محمد عمري

[9] إدوارد سعيد، الاستشراق، ترجمة د. محمد عنداني

[10] محمود محمد شاكر، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى