الدين

غُرَر اللَّيالي

إنَّما تزكو النُّفوسُ ويُصقَلُ جوهرُها، وتسمو الأرواحُ وتصفو من أَوْضارها؛ كلَّما أقبلتْ على اللهِ، واطَّرَحَتْ ما سِواهُ، وازدَلَفَتْ إليه، واهْتَبَلَتِ الفُرَصَ كلَّها لبلوغِ رضوانِه، والحُظوةِ عندَهُ بالدَّرَجاتِ العُلى، والنَّعِيمِ المُقيمِ؛ فاتَّجهتْ إليه بقلوبٍ عامرةٍ بالإيمانِ، نابضةٍ باليقينِ، خاليةٍ من صوارف الدُّنْيَا، وجواذبِ المادَّةِ، محقِّقةٍ مقامَ الإحسانِ الذي عَنَاه رسولُ الله ﷺ بقوله: «الإِحْسَانُ: أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ؛ فَإِنْ لَـمْ تَكُنْ تَراهُ؛ فَإِنَّهُ يَرَاكَ». متفق عليه[1].

وعلى هذا المبدأ العظيم –مبدأ الإحسان والمراقبة– دَرَجَ رسولُ اللهِ ﷺ وصحابتُه مِن بعدِه، وصالِحُو الأُمَّةِ في أعقابِ الزَّمَنِ، فكان لهم في كلِّ مسلكٍ إحسانٌ، وكان لهم في كلِّ عملٍ وفي كلِّ تَرْكٍ مراقبةٌ للهِ، وتوجُّهٌ إليه.

وكان ذلك يبدو جليًّا واضحًا أتمَّ الوُضُوحِ وأظْهَرَهُ في مَوَاسِمِ الخَيْر حينَ تُقْبِلُ، وفي الأزمنةِ الفاضلةِ حين تُظِلُّ.

وإنَّ من أرْفعِ هذه المواسِمِ قَدْرًا: هذه العَشْرَ الأخيرةَ من هذا الشَّهْرِ العظيم؛ فإنَّها من أيامِ اللهِ المباركةِ الشَّريفةِ، التي مَنَّ بها سُبحانَهُ على عباده؛ ليَسْتَبِقُوا فيها الخيراتِ، ويَعْظُمَ فيها تَنَافُسُهم في الباقيات الصالحاتِ، ويستدركوا ما فَرَطَ وفاتَ، فتكونَ لهم العُقْبى، وحُسْنُ المآبِ، وتكونَ لمن فَرَّطَ وأضاعَ الحسْرَةُ والخُسْرانُ.

وقد كانَ لهذهِ العَشْرِ المبارَكةِ في حياةِ رسولِ اللهِ ﷺ موقِعٌ مُتَفَرِّدٌ، وخُصُوصِيَّةٌ امتازَتْ بها، وسَمَتْ على غيرها، حيث كان -صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليه- يجتهدُ فيها ما لا يَجتهد في غيرها، كما جاءَ في صحيح مسلم[2] عن عائشةَ-رضي اللهُ عنها- أنَّها قالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ يَجْتَهِدُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ».

وقد أوضحتْ -رضي اللهُ عنها- أيضًا أنواعَ اجتهادِهِ ﷺ في هذه العَشْرِ؛ فقالت: «كَانَ النَّبِيُّ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ: شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ». أخرجه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري[3].

وفي رواية لأحمد في مسنده[4] عنها -رضي الله عنها- أنها قالت: «كان رَسُولُ اللهِ  يَخْلِطُ العِشْرِينَ بصلاةٍ ونَوْمٍ، فإذا كانَ العَشْرُ يعني الأخِيرَ شَمَّرَ، وشَدَّ المِئْزَرَ».

فهذه ثلاثةُ أنواعٍ من الاجتهاد، خَصَّ بها النَّبِيُّ ﷺ العشرَ الأواخرَ من رمضانَ.

الأولُ: شدُّ المئزر: وهو اعتزالُ النِّساءِ على الصحيح، وبذلك فسَّره السلف والأئمة المتقدمون، كما جزم به سفيانُ الثوريُّ، ونقله عنه عبد الرزاق[5]، واستشهد سفيانُ بقول الشاعر:

قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ
عَنِ النِّسَاءِ وَلَوْ بَاتَتْ بِأَطْهَارٍ
[6]

ونقل ابنُ أبي شيبةَ عن أبي بكرِ بن عيَّاشٍ نحوَ هذا[7].  بل ورد ذلك صريحًا من حديث عائشة وأنس -رضي الله عنهما- كما حكاه الحافظُ ابنُ رجبٍ رحمه الله[8].

وقيل: يَحتمِل أنْ يُرَادَ به الجدُّ في العبادة، كما يقال: شَدَدْتُ لهذا الأمر مئزري أي: شمَّرْتُ له[9].

وفُسِّرَ –أيضًا-: بأنَّه لم يَأْوِ إلى فراشِهِ حتَّى يَنْسَلِخَ رمضانُ، واستُشهِدَ له بحديث أنس رضي الله عنه وفيه: «وَطَوَى فِرَاشَهُ، وَاعْتَزَلَ النِّسَاءَ»[10].

والثاني: إحياءُ اللَّيْلِ.

ويَحتمِلُ أن تُريدَ بإحياءِ ليلِهِ: أنَّه كانَ يُحْيي اللَّيْلَ كُلَّه في ألوانٍ من العبادة؛ كالذِّكر، والقراءة، والقيام، والاستعداد لذلك، والسَّحور، وما شابه ذلك؛ فلا يعارض ذلك ما جاء في صحيح مسلم[11] وسنن النسائي[12] عنها -رضي الله عنها- أنها قالت: «لَا أَعْلَمُ نَبِيَّ اللهِ قَرَأَ القُرْآنَ كُلَّه في لَيْلَةٍ، وَلَا صَلَّى لَيْلَةً إِلَى الصُّبْحِ، وَلَا صَامَ شَهْرًا كَامِلًا غَيْرَ رَمَضَانَ»؛ لأنَّها نَفَتْ أنْ يكونَ إحياءُ اللَّيْلِ كلِّه بالقيامِ فقط، أمَّا إذا اجتمعَ معَهُ غيرُه من أنواع العبادة؛ فلا يدخلُ تحتَ هذا النَّفي[13].

ويَحتمِلُ أنْ تريد بإحياء لَيْلِه: أنَّه كان يقومُ غالبَهُ[14]، ونظيرُ هذا قولها -رضي الله عنها: «كَانَ النَّبِيُّ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا»[15].

وقد نقلَ التِّرْمذيُّ عن ابن المبارك، أنَّه قال: «جائزٌ في كلامِ العَرَبِ إذا صام أكثرَ الشَّهْرِ أنْ يقولَ: صامَ الشَّهْر كُلَّهُ، ويقال: قامَ فلانٌ ليلَهُ أجمعَ، ولعلَّه قد تعشَّى واشتغلَ ببعض أمره»[16].

وذكر الحافظُ ابنُ رجبٍ -رحمهُ اللهُ- أنَّهُ رُوِيَ عن بعض المتقدمين من بني هاشمٍ أنه فسَّرَ قولَها: «أَحْيَا لَيْلَهُ»: بإحياء نصف الليل، وقال: من أحيا نصف الليل فقد أحيا الليل[17].

والثالثُ: إيقاظُ الأهْلِ: والمراد: أنَّه ﷺ كان من هَدْيِهِ إذا دَخَلَ العَشْرُ الأواخِرُ إيقاظُ أهلِه للصلاة.

وقد روى محمد بن نصرالمروزي بإسناده[18]، عن زينب بنت أم سلمة، أنها قالت: «كانَ رَسُولُ اللهِ إِذَا بَقِيَ مِنَ الشَّهْرِ عَشْرَةُ أيَّامٍ لَمْ يَذَرْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ يُطيقُ القِيَامَ إِلَّا أَقَامَهُ»[19].

ومن المعلوم أنَّه ﷺ كان يُوقِظُ أهلَهُ لقيامِ اللَّيْلِ في غير العَشْرِ الأواخرِ من سائرِ العام أيضًا، كما في صحيح البخاري[20] عن أم سلمة رضي الله عنها، أنَّ النبيَّ ﷺ  استيقظ ليلةً فَزِعًا؛ فقال: «سُبْحَانَ اللهِ، مَاذَا أُنزِلَ اللَّيْلةَ مِنَ الفِتْنَةِ؟! مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الخَزَائِنِ؟! مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الحُجُرَاتِ؟ يريد أزواجه لِكَيْ يُصَلِّينَ؟ رُبَّ كَاسِيةٍ فِي الدُّنْيا عَارِيَةٌ فِي الآخِرَةِ» ؛ أي: من الحسنات.

وفي صحيح البُخَاري[21] أيضاً عن عائشة -رضي الله عنها- أنَّها قالت: «كَانَ النَّبِيُّ يُصَلِّي وَأَنَا رَاقِدَةٌ مُعْتَرِضَةٌ عَلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ أَيْقَظَنِي؛ فَأَوْتَرْتُ».

كما جاء عنه -صلواتُ الله وسلامُه عليه- الحثُّ على إيقاظ الأهل لصلاة اللَّيْل؛ ففي سنن أبي داود[22] بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول ﷺ : «رَحِمَ اللهُ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ؛ فَصَلَّى، وَأَيْقَظَ امْرَأتَهُ، فَإِنْ أَبَتْ؛ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الماءَ، وَرَحِمَ اللهُ امْرَأةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ، فَصَلَّتْ، وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا، فَإِنْ أَبَى؛ نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الماءَ».

لكنَّ هذا كلَّهُ لا يُعارِضُ ما تقدَّمَ؛ فإنَّ إيقاظَ أهلِهِ في هذه العَشْرِ للصلاة -ونحوِها مما يَحْصُلُ به الإحياءُ- مُتَأكِّدٌ تأكُّدًا خاصًّا؛ بحيث كان لا يتركه أبدًا، بخلاف الإيقاظ في غير هذه العشر.

وهو -بكلِّ حالٍ- لونٌ مُتَفَرِّدٌ من ألوانِ التَّرْبِيَةِ النبويَّةِ للأسرة المسلمة، ومَنْهَجٌ فذٌّ من مناهجها، وسبيلٌ من سُبُلِ الهدايةِ والتَّوْجيهِ إلى أقوم المسالك، استمسك به السَّلَفُ الصالحُ من الصحابة والتَّابعينَ، ومَنْ بَعْدَهُمْ، كما جاء في مُوَطَّأِ مالكٍ[23]: «أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللهُ، حَتَّى إَذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ؛ أَيْقَظَ أهْلَهُ للصَّلَاةِ، يَقُولُ لَهُمْ: الصَّلاةَ الصَّلاةَ! ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الآيَةَ: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ) [طه: ١٣٢]».

ولهم في هذا أخبارٌ كثيرةٌ، وأنباءٌ عجيبةٌ، لا يتسع لها المقام، فحَرِيٌّ بالأُمَّةِ في أعْقَابِ الزَّمَنِ أنْ يستمسكوا بهذا الهديِ، ويَنْهَجوا هذا النَّهْجَ.

– وممَّا كان يفعله -أيضًا- في هذه العَشْرِ: الاعتكافُ؛ ففي الصحيحين[24] عن عائشة -رضي الله عنها- أنَّ النبيَّ ﷺ: «كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ تَعَالَى؛ ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ».

والاعتكاف في المساجد؛ لعبادة الله تعالى، والازدلافِ إليه، والإقبالِ عليه، وقَطْعِ كلِّ ما يَشْغَلُ عنه، هو مِنْ أنواع القُرَبِ العظيمة في هذا الشهْر، التي تدلُّ على أنَّ منْ خصائصِ هذا الشَّهْرِ المباركِ، ومنْ دلائلِ تميُّزِهِ على غيره: تنوُّعَ ألوانِ القُرَبِ فيه، وتعدُّدَ أنواعِ الطَّاعَاتِ المستغرقةِ لأيَّامهِ ولياليه، ممَّا يَعْنِي أنَّ الأبوابَ الموصلة إلى رضوان الله فيه كثيرةٌ، وأنَّ منافذَ الرَّحْمةِ الرَّبَّانِيَّة فيه وَفِيرَةٌ، فَمَنْ فَاتَهُ نَوعٌ مِنْها حَظِيَ بآخرَ، وَمَنْ عَجَزَ عن بعضها فلنْ يَعْجِزَ عن الجميع.

– ومعنى الاعتكاف -في اللُّغة-: لزومُ الشيءِ، وحَبْسُ النَّفْسِ عليه[25]. ومنه قولُ الله تعالى:(إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) [الأنبياء: ٥٢].

وقولُه: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ) [الأعراف: ١٣٨].

– وأما معناه في الشرع؛ فهو: المُكْثُ والإقامةُ في المسجدِ من شخصٍ مخصوصٍ، بصفةٍ مخصوصةٍ. وسُمِّيَ بذلك؛ لملازمة المسجد. قال الله تعالى: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) [البقرة: ١٨٧][26].

وهو قُرْبةٌ مستحبة؛ قال الله تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة: ١٢٥].

فالعاكفُ في البيتِ أحدُ المتعَبِّدِينَ الذينَ أمر اللهُ خليلَهُ u بتطهير البيتِ لأجلهم.

وأخرج الشيخان في صحيحيهما[27] عن عروة عن عائشة –رضي الله عنها– «أَنَّ رَسُولَ اللهِ كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهَ تَعَالَى، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ».

وأخرج ابنُ ماجه في سننه[28] عن ابن عبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عن النبيِّ ﷺ أنه قال في المُعتكِفِ: «هُوَ يَعْكِفُ الذُّنُوبَ، ويُجْرَى لَهُ مِنَ الحَسَنَاتِ كَعَامِلِ الحَسَنَاتِ كُلِّهَا». وفي إسناده فَرْقَدٌ السَّبَخِيُّ، وهو ضعيف.

ونقل ابنُ قُدامةَ والعِراقيُّ إجماعَ أهلِ العِلْم على استحباب الاعتكاف وأنَّه سنةٌ[29].

قال ابن قدامة: «وممَّا يدلُّ على أنه سُنَّةٌ: فعلُ النبيِّ ومداومتُه عليه؛ تقرُّبًا إلى الله تعالى، وطلبًا لثوابه، واعتكافُ أزواجِه معَهُ وبَعْدَهُ.

ويدلُّ على أنَّه غيرُ واجبٍ: أنَّ أصحابَه لم يعتكفوا، ولا أَمَرَهم النبيُّ به إلَّا مَنْ أراده، وقال : «مَنْ أَرَادَ أنْ يَعْتَكِفَ؛ فَلْيَعْتَكِفِ العَشْرَ الأَوَاخِرَ»[30]، ولو كان واجبًا لَمَا علَّقَه بالإرادة»[31].

لكنْ يجبُ إذا نذَرَهُ؛ لقولِ رسول الله ﷺ : «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ؛ فلْيُطِعْهُ». أخرجه البخاري[32].

ولما أخرجه الشيخانِ في صحيحيهما[33] عن عمرَ رضي الله عنه أنَّهُ قال: يا رسول الله: إني نذَرْتُ في الجاهلية أنْ أعتكِفَ ليلةً في المسجد الحرام، فقال النبيُّ : «أَوْفِ بِنَذْرِكَ».

والحكمةُ من مشروعيتِه: أنَّ فسادَ القَلْبِ إنَّما يكونُ بما يَرِدُ عليه من الشَّوَاغِلِ، والصَّوارِفِ، والمُلْهِيَاتِ، وفُضُولِ المآكلِ والمشارِبِ، والمنَاكِحِ، والصُّحْبَةِ، والنَّوْمِ، وغيرها، مما يُفرِّقُ جَمْعِيَّةَ القلبِ على الله وذِكرِهِ وشُكْرِهِ، ويُشَتِّتُ أمْرَهُ، ويَذْهَبُ بأنوارِهِ؛ فشُرِعَتْ ألوانُ القُرُباتِ، وأنواعُ الطَّاعاتِ؛ لحمايةِ القَلْبِ منْ أَوْضَارِ الشَّوَاغِلِ، واستصلاحِ ما فَسَد منه بسببها.

ففي الاعتكاف في المسجد: توفُّرٌ على الطَّاعة، وإقبالٌ على القُرَبِ، بتَرْك الفُضُولِ، وقَطْعِ العَلائقِ. قال الحافظ ابن رجب رحمه الله[34]: «وإنَّما كان يَعْتَكِفُ النَّبيُّ في هذه العشر التي كان يطلبُ فيها ليلةَ القَدْرِ؛ قطعًا لأشغالِه، وتفريغًا لباله، وتَخَلِّيًا لمُنَاجاةِ ربِّه، وذِكرِهِ، ودُعائِه، وكانَ يحتجِرُ حصيرًا يتخلَّى فيها عن الناسِ، فلا يخالطُهم، ولا يشتغلُ بهم؛ ولهذا ذهب الإمام أحمد إلى أنَّ المُعْتَكِفَ لا يُستحبُّ لهُ مخالطةُ النَّاسِ حتَّى ولا لتعليمِ علمٍ، وإقراءِ قرآنٍ، بل الأفضلُ لهُ الانفرادُ بنفسِهِ، والتخلِّي بمناجاة ربِّه، وذكرِهِ ودعائِهِ، وإنَّما يكونُ في المساجد؛ لئلا يَترُكَ به الجُمَعَ والجماعاتِ؛ فإنَّ الخلوةَ القاطعةَ عن الجُمَعِ والجماعاتِ منهيٌّ عنها؛ فالخلوة المشروعة لهذه الأمة، هي الاعتكاف في المساجد، خصوصًا في شهر رمضان، خصوصًا في العشر الأواخر منه كما كان النبي يفعله. فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله وذِكْرِه، وقَطَعَ عن نفسه كلَّ شاغلٍ يشغله عنه، وعكف بقلبه وقالبه على ربِّه وما يُقَرِّبُه منه، فما بقي له هَمٌّ سوى اللهِ وما يُرضِيه عنه. فمعنى الاعتكاف وحقيقتُه: قَطْعُ العلائقِ عن الخلائقِ؛ للاتصالِ بخدمة الخالق، وكُلَّما قَوِيَتِ المعرفةُ بالله، والمحبَّةُ له، والأُنسُ به؛ أَوْرَثَتْ صاحبَها الانقطاعَ إلى الله تعالى بالكُلِّيَّةِ على كلِّ حالٍ».

ولا يصحُّ من الرجل إلَّا في مسجدٍ تُقَام فيه الجماعة، حتى لا يُفضِيَ اعتكافُه في غيره إلى خروجه منه، وتكرُّرِ ذلك الخروجِ مع إمكان احترازِهِ من ذلك؛ فيكون منافيًا للاعتكاف الذي هو لزومُ المُعتكَفِ، والإقامةُ على الطَّاعةِ. وإذا اعتكف في مسجدٍ تُقامُ فيه الجُمُعَةُ؛ فهو أفضل.

– وفي اعتكاف أزواج النبي ﷺ في المسجد في حياته وبعد وفاته: دليلٌ على إباحة الاعتكاف للنساء في المساجد، وعلى استمرار هذا الحكم وأنه لم يُنْسخْ.

ويجوز الاعتكافُ بغير صومٍ. وهو المشهور في مذهب أحمد[35]، وبه قال الشافعي[36]؛ لما في حديث عمر رضي الله عنه المتقدمِ: أنَّه سأل النبي عن نَذْرِه في الجاهليةِ أنْ يعتكفَ ليلةً في المسجد الحرامِ؛ فأمره بالوفاء بنذره. ولو كان الصومُ شرطًا، ما صحَّ اعتكافُ اللَّيْلِ.

وأمَّا صومُه ﷺ حينَ اعتكافه في شهر رمضان؛ فإنما كان للشهر؛ لأنَّ الوقتَ مستحِقٌّ له، ولم يكن للاعتكاف.

وذهب بعضُ أهلِ العلم إلى: اشتراط الصوم لصحة الاعتكاف. وهو مذهب أبي حنيفة[37]، ومالك[38]، ورواية عن أحمد أيضًا[39].

– وإذا نذر الاعتكافَ في مسجدٍ، جاز له أن يفعله في غيره؛ لاستواء المساجد في الفضيلة، إلَّا المساجدَ الثلاثةَ؛ فإنه إذا نذر أن يعتكف في المسجد الحرام، لزمه، وإن نذر الاعتكاف في المسجد النبوي، جاز له الاعتكاف في المسجد الحرام، وإن نذر في المسجد الأقصى، فله أن يفعله في أيِّهما أحبَّ[40].

ويدخلُ مَنْ أرادَ اعتكافَ العَشْرِ الأواخِرِ منْ رمضانَ الْمُعْتَكَفَ قبل غروب شمس ليلة الحادي والعشرين، وإلَّا لم يكُنِ اعتكفَ عَشْرًا. وبه قال الأئمةُ الأربعةُ.

وأمَّا حديثُ عائشةَ -رضي الله عنها– في «الصحيحين»[41]: «كَانَ رَسُولُ اللهِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ، صَلَّى الصُّبْحَ ثُمَّ دَخَلَ مُعتَكَفَهُ» فالمراد به عند-جمهور العلماء-: أنَّهُ دخلَ الْمُعْتَكَفَ، وانقطع فيه، وتخلَّى بنفسه، بعد صلاتِهِ الصُّبْحَ، وليسَ معناهُ: أنَّه ابتدأ وقتَ الاعتكافِ، بل كان منْ قبل المغرب معتكفًا لابثًا في المسجد؛ فلمَّا صلَّى الصُّبْحَ؛ انفرد. ذكره العراقي في «طرح التثريب»[42].

ولأنَّ العَشْر هي: اللَّيالي لا الأيَّام، وأوَّلُ اللَّيالي: ليلة إحدى وعشرين.

ولا يجوز للمعتكِف أنْ يخرجَ من مُعتكَفِه إلَّا لِمَا لا بُدَّ منه؛ لما أخرجه الشيخان في صحيحيهما[43]  عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ إِذَا اعْتَكَفَ يُدْنِي إِلَيَّ رَأْسَهُ فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةِ الإِنْسَانِ».

ولقولها رضي الله عنها: «السُّنَّة عَلَى المُعْتَكِفِ أَلَّا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ» أخرجه أبو داود[44]. وقد قيل: إنَّه من قول الزُّهْريِّ رحمه الله[45].

وقد أجمع أهل العلم على أنَّ له الخروجَ للغائط والبَوْل، كما نقله ابن المنذر[46].

وله الخروج كذلك إلى ما أوجبه الله -تعالى- عليه، كمن اعتكف في مسجد لا جمعة فيه.

وإذا خرج إلى ما لَهُ منه بُدٌّ؛ بَطَلَ اعتكافُه.

ولا يعودُ مريضًا، ولا يشهدُ جنازةً إلَّا إذا اشترط ذلك؛ لقول عائشة -رضي الله عنها: «السُّنَّةُ عَلَى المُعْتَكِفِ أَلَّا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدَ جَنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأةً، وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ»[47].

فأمَّا إذا خرج لحاجةٍ، فسأل عن المريض في طريقه ولم يُعَرِّجْ؛ جاز له ذلك؛ لأنَّ النبيَّ ﷺ فَعَلَهُ؛ كما حكت عنه عائشة-رضي الله عنها- قالت: «كَانَ النَّبِيُّ  يَمُرُّ بِالمَرِيضِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَيَمُرُّ -كَمَا هُوَ فَلَا يُعَرِّجُ- يَسْأَلُ عَنْهُ»[48].

ولا يجوزُ له غِشْيَانُ أهْلِهِ؛ فإنْ فَعَلَ مُتَعَمِّدًا؛ أفسد اعتكافَهُ بإجماعِ أهل العلم[49].

ويُستَحَبُّ له: الاشتغالُ بالصلاةِ، وتلاوةِ القرآنِ، ونحوِ ذلك من الطَّاعاتِ المحضَةِ، ويجتنبُ كلَّ ما لا يَعنيهِ من الأقوالِ والأفعالِ، ولا يُكثِرُ الكلامَ.

ولا بأسَ أنْ يَتَنَظَّفَ، ويُرَجِّلَ رأسَه، وقد ثبت أنَّ النبيَّ ﷺ فَعَلَهُ. أخرجه الشيخان في صحيحيهما[50].

ويُستحبُّ لمنِ اعتكفَ العَشْرَ الأواخِرَ مِن رمضانَ: أنْ يَبِيتَ ليلةَ العِيدِ في مُعْتَكَفِهِ؛ فقد رُوِيَ عن جماعةٍ من السَّلَفِ استحبابُ ذلك. وقال إبراهيم النَّخَعِيُّ: كانوا يحبُّونَ لمن اعتكف العَشْرَ الأواخِرَ من رمضانَ أنْ يَبِيتَ ليلةَ الفِطْرِ في المسجد، ثم يغدو إلى المصلى من المسجد[51].

اللهُمَّ اجمعْ قلوبنا عليك، واجعلْها عاكفةً على طاعتك، منصرفةً عن معصيتِكَ، متخلِّيةً عمَّا سواك، مُؤْثِرَةً الأُنسَ بقُرْبِك، والخلوةِ بك. اللهمَّ آمينَ!


[1] – أخرجه البخاري (50، 4777)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم (8، 9، 10) من حديث أبي هريرة، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما.

[2] – صحيح مسلم (1175).

[3] – صحيح البخاري (2924)؛ وصحيح مسلم (1174).

[4] – مسند أحمد (25136).

[5] – انظر: مصنف عبد الرزاق (7702).

[6] – البيت للأخطل، وهو في ديوانه، (144).

[7] – انظر: مصنف ابن أبي شيبة (9544).

[8] – انظر: بغية الإنسان في وظائف رمضان، (ص69).

[9] – انظر: فتح الباري (4/269).

[10] – انظر: لطائف المعارف، لابن رجب (ص342).

[11] صحيح مسلم (746).

[12] – سنن النسائي (1641).

[13] – انظر: مجالس شهر رمضان، للعثيمين، (ص155).

[14] – انظر: لطائف المعارف، (ص339).

[15] – أخرجه مسلم (1156)، والنسائي (2179)، وابن ماجه (1710).

[16] – سنن الترمذي (737).

[17] – انظر: بغية الإنسان في وظائف رمضان، (ص66).

[]18 – مختصر قيام الليل للمروزي (ص247).

[19] – انظر: فتح الباري (4/269).

[20] – صحيح البخاري (115، 1126، 3599، 5844، 6218، 7069).

[21] – صحيح البخاري (997).

[22] – سنن أبي داود (1308).

[23] – موطأ مالك (389).

[24] – أخرجه البخاري (2026)، ومسلم (1172).

[25] – انظر: المصباح المنير (2/424)، مادة (عكف).

[26] – انظر: المغني (3/186)؛ كشاف القناع (3/347).

[27] – صحيح البخاري (2026)، وصحيح مسلم (1172).

[28] – سنن ابن ماجه (1781).

[29] – انظر: المغني، لابن قدامة (3/ 186)، طرح التثريب، للعراقي (4/ 167)، الإجماع، لابن المنذر، (ص50)، الإقناع في مسائل الإجماع، لابن القطان، (1/243).

[30] – أخرجه مالك في الموطأ (1139).

[31] – المغني (3/186).

[32] – صحيح البخاري (6696).

[33] – صحيح البخاري (2032، 6697)، وصحيح مسلم (1656).

[34] – بغية الإنسان، (ص74)، لطائف المعارف، (ص349)

[35] – انظر: مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه (3/1257)، المغني (3/188)، كشاف القناع (2/348).

[36] – انظر: روضة الطالبين، للنووي، (2/393).

[37] – انظر: المبسوط، للسرخسي (3/115)، بدائع الصنائع (2/109)، الهداية (1/129).

[38] – انظر: المدونة (1/290)، الكافي، لابن عبد البر (1/352)، بداية المجتهد (2/80)، الذخيرة، للقرافي (2/536).

[39] – انظر: الهداية، للكلوذاني (ص167)، المغني (3/188)، المحرر (1/232).

[40] – انظر: المغني (3/211).

[41] – صحيح البخاري (2033)، وصحيح مسلم (1172)، واللفظ له.

[42] – طرح التثريب (4/168).

[43] – صحيح البخاري (296، 301، 2028، 2030، 2031، 2046)، وصحيح مسلم (297)، اللفظ له.

[44] – سنن أبي داود (2473).

[45] – انظر: سنن الدارقطني (2363).

[46] – انظر: الإجماع، لابن المنذر، (ص50).

[47] – أخرجه أبو داود في السنن (2473).

[48] – أخرجه أبو داود في السنن (2472).

[49] – انظر: الإجماع، لابن المنذر (ص50)، الإقناع، لابن القطان (1/244).

[50] – صحيح البخاري (296، 301، 2028، 2030، 2031، 2046)، وصحيح مسلم (297).

[51] – انظر: المغني (3/208)، الشرح الكبير (3/130).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى