الدين

يهدي ويُضِل، بالعدل والحق

  • محمد السعيد
  • تحرير: ريم الطيار

(1)

أرسل الله تعالى رسله وأنبيائه إلى البشر يدعونهم للإيمان بالله وحده واتباع أوامره واجتناب نواهيه، وكان خاتمهم محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، أرسله تعالى بالهدى ودين الحق، وأنزل إليه القرآن الكريم، مادة الهداية والتوفيق، وقد بين الله تعالى فيه طريق الحق من الضلال، والطاعة من المعصية، وفصّل ذلك أحسن تفصيل، وترك اختيار الطريق منوطاً بالبشر وما يشاؤون، فأعطاهم الإرادة الحرة لذلك، فمن شاء اختار الهداية ومن شاء اختار الضلال. ولكل منهما أسباب، من أتى بها وعمل بموجبها، أوصلتهُ لوجهتهِ التي اختارها، وعليه فمن أتى بأسباب الهداية وسعى إليها، تولاه الله بعنايته وكرمه وزادهُ هدىً وثبات، قال تعالى (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) [سورة مريم:76] وخلافه كمن سعى في الظُلمات وسُبل الفساد، وكان في الضلالة، بأن رضيها لنفسه، وسعى فيها، فإن الله يمده منها، ويزيده فيها حباً، عقوبة له على اختيارها على الهدى[1]، قال تعالى: ( قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدًّا) [سورة مريم:75] و(نَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [سورة الأنعام: 110].

إنَّ مسألة هداية الله تعالى للعبد وإضلاله له هي قلب أبواب القدر ومسائله، وإنَّ أفضل ما يقدِّره الله تعالى للعبد هو الهدى؛ فهو من أعظم النِّعم والعطايا، وأعظم ما يبتليه به ويقدِّره عليه هو الضَّلال، وقد اتّفقت رسل الله جميعًا، وكذلك كتبه المنزلة على أن الله يهدي من يشاء، ويضلُّ من يشاء، فالهدى والضَّلال بيده [2]، لكنه سبحانه لا يهدي ولا يضلّ إلا بالعدل والحق، لا بظلمٍ أو جوْر، هو أعدل العادلين وأحكم الحاكمين، لا تصدر منه إلا الأفعال العادلة والأحكام المنصفة، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) [النحل: 90] و (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) [الأعراف: 29] (والله يقضي بالحق) [غافر:20]. ومن أسمائه الحسنى العدل، وقد حرّم الله الظلم على نفسه كما جاء في الحديث الذي يرويه أبي ذر الغفاري رضي الله عنه -عن النبي -صلى الله عليه وسلم -فيما يرويه عن ربه عز وجل: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا) [3] وكذا في الآية الكريمة (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّـهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) [آل عمران: 182].

وطلب الهداية والسعي إليها منوطة بالعبد وكسبه؛ ما سيسلكه من طرقٍ ويأتي به من أسباب. قال تعالى (إنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى) [الليل: 12] أي: إن أي إن علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلالة، فالهدى: بمعنى بيان الأحكام[4]، ومن تمام عدل الله وكمال إنصافه أنّه لا يوفق لصراطه ويهدي إليه إلا من أتى بالأسباب وسلك الطرق التي بينها الله ووضّحها في القرآن الكريم، ولو أراد لجعل كل عباده مؤمنين به، قال تعالى (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا) [يونس: 99]. إلا أن حكمته تعالى اقتضت ألّا تُعطى هذه النعمة الشريفة والهدية العظيمة إلّا لمن أرادها بصدق وسعى إليها بإخلاص وسار على المنهج الذي أمر به الله ورسوله.

(2)

إن التحول والتبدّل في الفكر والعقيدة فيما يخص الإيمان وما يعتنقه الشخص ويؤمن به، لهو أمرٌ جلل وشيءٌ عظيم عند أصحاب العقول السليمة والألباب القويمة، فهم لا يقدمون على أمرٍ كهذا إلا بعد تبصّرٍ وتفكّر، ودراسةٍ وتأمّل، وهذا شأن العاقلين ومسلك الباحثين عن الحق والصواب. وكثيرٌ ما استوقفتني تحولات بعض الأشخاص العقدية وانقلاباتهم الفكرية في مسألة الإيمان والكفر واعتناق الإسلام، كالبروفيسور الأمريكي جفري لابنج[5]، والدكتور مصطفى محمود[6] والمفكِّر الفيلسوف عبد الوهاب المسيري[7] وغيرهم.

ولمّا كانت الهداية بيد الله عز وجل كذا الإضلال، فلماذا يهدي الله فلان ويضل آخر، وما السبب في إعطاء الهداية الشرعية لأقوام دون آخرين، بمعنى آخر، ما الذي ميّزهم عن غيرهم حتى اختصّتهم عناية الله وتوفيقه! بذلك وغيره سألت نفسي مراراً وتكرارا. وبحثاً عن إجابة واضحة صحيحة، تقنع العقل وتطمئن القلب وتخلص النفس من الشك المقلق والظن المريب، رحت أنظر في كتاب الله، أتّتبع الآيات التي جاءت في هذا الباب، ولقد جدتُ شيئاً عجباً، فيه تبيان المسألة وتفصيلها بالتمام والكمال، وهذا المقال فيه خلاصة ما وجدت من أسباب هداية التوفيق إلى الإيمان وتوحيد الله:

  1. الاجتهاد والسعي في تحري الحق من الباطل بصدق وإخلاص، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ) [سورة سبأ: 46] أي:  قُلْ يا أيها الرسول, لهؤلاء المكذبين المعاندين, المتصدين لرد الحق وتكذيبه, والقدح بمن جاء به (إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ) أي: بخصلة واحدة، أشير عليكم بها، وأنصح لكم في سلوكها، وهي طريق نصف، لست أدعوكم بها إلى اتباع قولي، ولا إلى ترك قولكم، من دون موجب لذلك، وهي) أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى) أي: تنهضوا بهمة ونشاط وقصد لاتباع الصواب وإخلاص للّه مجتمعين ومتباحثين في ذلك ومتناظرين وفرادى كل واحد يخاطب نفسه بذلك[8] . فمن كان هذا سمته، وتسلّح بالعزيمة والإرادة وتحلى بالصدق والإخلاص والأمانة في تحري الحق وطلبه، فإنه يُرجى له من حضره الله أن يهديه ويشرح قلبه للإيمان، قال تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين) [سورة الحجرات: 17] ومن كان بخلاف ذلك، فإن الله لا يهديه ولا يوفقه، قال عز ذكره:(وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [سورة البقرة:258]، و(إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [المنافقون: 6]، وكذا(أَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) [سورة يوسف:52] و(إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كذاب) [سورة غافر:28] أي: متجاوز الحد بترك الحق والإقبال على الباطل. (كَذَّاب) بنسبته ما أسرف فيه إلى الله، فهذا لا يهديه الله إلى طريق الصواب، لا في مدلوله ولا في دليله، ولا يوفق للصراط المستقيم[9] (وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وأبى ([سورة طه:56]. فمن كان سمته الظلم والفسق والعدوان واتباع الهوى وترك الحق، كأن أبعد من أن يُهدى ويُوَفق لطرق الخير والفلاح.
  2. تتبع الحق وطَلْبه من مصادره الصحيحة وبطرقٍ سليمة محكمة، لا حكم للرأي والهوى عليها، قال تعالى: (قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين) [سورة القصص:49] في هذه الآية خطاب من الله تعالى على لسان رسوله محمد عليه الصلاة والسلام للمشركين، تطالبهم بالإتيان بكتاب من عند الله أهدى من التوراة والقرآن ليتبعه الرسول، وهذا من كمال الإنصاف من الداعي أن قال: أنا مقصودي الحق والهدى والرشد، وقد جئتكم بهذا الكتاب المشتمل على ذلك، فإن جئتموني بكتاب من عند اللّه هو أهدى منهما اتبعته، وإلا فلا أترك هدىً وحقاً قد علمته لغير هدى وحق [10]. وفيها إِشارة ودلالة تحذِّر من اتباع الهوى والاستهتار بالحجج الواضحة والدلائل الصحيحة. قال تعالى: (قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِين) [الأنعام: 56] أي: لا أوافقكم على أهوائكم وأتابعكم عليها، إذ لا تغني عن الحق شيئاً، ولا توردني إلا موارد الضلال والفساد، ونفي الشيء ثبوت لضده كما قال علماء التفسير، فيكون: بل اتبع الحق الذي يقبله العقل السليم وترتضيه النفس السويّة، وبه اهتدي وأوفق لسُبل الخير والسلام. ومن رحمته تعالى بمن طلب
    علم الحقيقة في الأمور المطلوب علمها، وسعى لذلك ما أمكنه، فإن الله يوضح له ذلك[11].
  1. التفكر والتأمل والتدبر في آيات الله الكونية والنفسية والقرآنية، فإن أقصر طريق لمعرفته وأوسع باب ندخل منه عليه، التفكر في خلق السماوات والأرض، وذلك لأنه يضعك وجهاً لوجه أمام عظمة الله[13]، قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [آل عمران: 190] وقال جلّ ذكره (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) [فصلت: 53] ومراده بذلك البيان أن يتبين لهم أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم حق[14].
    إن من أسباب الإيمان ودواعيه، التفكر في الكون، في خلق السماوات والأرض وما فيهن من المخلوقات المتنوعة، والنظر في نفس الإنسان وما هو عليه من الصفات فإن ذلك داع قوي للإيمان، لما في هذه الموجودات من عظمة الخلق الدال على قدرة خالقها وعظمته، وما فيها من الحسن والانتظام والإحكام الذي يحير الألباب[15]. وقال تعالى واصفاً كتابه الكريم: (إِنَّ هذا القرآن يِهْدِى لِلَّتِى هي أَقْوَم) [الإسراء:9] يعني أن القرآن يهدي الناس الطريقة التي هي أقوم من غيرها من الطرق وهي ملة الإسلام، وقال الزجاج للحال التي هي أقوم الحالات، وهي توحيد الله والإيمان برسله[16].

وعليهِ؛ فمن اجتهد وجاهد وسعى في طلب الحق بصدقٍ وإخلاص لا ينوي بذلك إلا الوصول للحق الواضح والبرهان الساطع، وكان سعيه في الطرق السليمة المحكمة، لا يميل مع هوى نفسه ولا رأي قومهِ، وأعمل عقله واستدلّ بفكره ونظر وتأمّل، وتدبّر وتفكّر، فلا يُرجى له إلا التوفيق والسداد في مُبتغاه وسعيه.

(3)

إن مسألة الهداية والتوفيق لها، ومن ثم الثبات عليها، لهي أمرٌ عظيم وشأنٌ جليل، ولكِبَرِ شأنها وجَسامة أمرِها، قد أمر الله عباده المؤمنين أن يسألوه إيَّاها في كل ركعة وصلاة، قال تعالى (اهدنا الصراط المستقيم) [الفاتحة:6] هو دعاء ورغبة من المربوب إلى الرب، والمعنى دلنا على الصراط المستقيم وأرشدنا إليه، وأرنا طريق هدايتك الموصلة إلى أنسك وقربك[17]. وهي كالنهر الثَجَّاج، لا حد لها ولا عد، لا تنضب ولا تَحسر، من طلبها وجدها ومن أرادها أُعطيها وما مُنِع منها ألبتة، بل يُسِّرت له أسباب تحصيلها وسُهِّلت عليه طرق وصولها. ومن كان في قلبه مثقال ذرة من الخير والإحسان، شملته عناية الكريم المنان، وقُذِف في قلبه نور الإيمان وحبَّ الرحمن.


  1. تفسير السعدي
  2. الهداية ومراتبها في كتاب الله عز وجل، مقال للدكتور علي الصلابي
  3. صحيح مسلم
  4. تفسير القرطبي
  5. البروفيسور جفري لابنج، أستاذ الرياضيات في جامعة كانساس، كان نصرانياً، ثم ألحد قبل أن يهتدي للإسلام، يروي قصته د. عمر شريف في هذه الحلقة
  6. الدكتور مصطفى محمود، طبيب مصري جراح، عاش فترة من عمره مرتحلاً بين الشك والإلحاد، قبل أن ينتهي إلى الإيمان، يروي قصته د. عمر شريف في هذه الحلقة
  7. الفيلسوف عبد الوهاب المسيري، كان في مطلع حياته شيوعياً، يؤمن بالماديّة، وانتهت رحلته الفكرية بعد ذلك بالإيمان والإٍسلام، يروي قصته د. عمر شريف في هذه الحلقة
  8. تفسير السعدي
  9. تفسير السعدي
  10. تفسير السعدي
  11. تفسير السعدي
  12. تفسير السعدي
  13. التفكر في آيات الله الكونية والتكوينية والقرآنية، د. محمد راتب النابلسي
  14. أضواء البيان، محمد أمين الشنقيطي
  15. تفسير السعدي
  16. فتح القدير، محمد الشوكاني
  17. تفسير القرطبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى