الدين

لا تدعْ أحداً يصنعُ لك نكهةَ موتِك!

هل تفكَّرتم في هذه الآية العجيبة “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ” (آل عمران: 185، الأنبياء: 35، العنكبوت: 57)، لماذا عبَّر الله تعالى بـ “تذوُّق الموت” على هذا النحو في ثلاثٍ من الآيات المُحكَمات؟ ما الأسرار وراء هذا التعبير اللافت؟ هذا المقال الصغير يسعى جاهداً لتلمس شيء من ذلك.

نؤمن بأن الألفاظ والمعاني الواردة في القرآن الكريم هي غاية في الإحكام والدقة والبلاغة والحكمة، مما يجعلنا ننقِّب مليَّاً في أسرار هذا اللفظ أو التركيب أو السياق، وفي بواعث هذا المعنى أو المجاز أو السرد؛ لنخرج من ثمَّ بشيء من الحِكَم المتوخاة في هذا النص المقدس العظيم.

ذاقَ الشيءَ، أي اختبر طعمَه  بلسانه (هنالك ما يقارب 10 آلاف برعم تذوق في اللسان وجنبات الفم والبلعوم). جاء في لسان العرب: ذاقَ فلاناً وذاق ما عنده أي خبرَه وجرَّبه (جيداً كان أم سيئاً)، وعليه فإن التذوق يعني اختبار الطعم (حسياً)، والتجربة والاختبار (معنوياً). المعنيان الحسي والمعنوي مفضيان إلى أن التذوق ينقلنا إلى عالم التجربة المعيشة.

الآن، تخيلوا معي صورة: أن الموت شيء نتذوقه. هذا الموت المُهاب سنتذوقه! أطيلوا التأمل في هذه الصورة المجازية البديعة المحلِّقة، واسعوا إلى تمثُّلها وجدانياً وعقلياً وحسياً ما استطعتم إلى ذلك “تذوقاً”، ولو تطلَّب ذلك التوقف عن قراءة هذا المقال لبعض الوقت، قليلاً كان التوقف أم كثيراً.

لاحظوا أن “الموت” جاء مُعرَّفاً في الثلاث آيات، فلم يرد نكرة؛ وذلك أن الموت واحد في جوهره، ليتهادى إلينا المعنى جليَّاً لا غموض فيه ولا لَبْساً: أنتم ستتذوقون “الموت” الذي تعرفونه. وهذا ما يجعلنا نقرر بأن النص جاء من هذه الناحية مغلقاً، فهو لا يحتمل دلالات أخرى، غير الموت الحقيقي الذي نعرفه جميعاً. بيد أن النص بكامله، ليس مغلقاً، بل هو مفتوح تماماً، وقد جاء الفتح من زاوية “ذائقة”، فحينما نكون إزاء تعبير مركَّب بـ “ذائقة الموت”، فهذا يعني نصاً مفتوحاً على دلالات عديدة، وهو ما سنتلمَّسه في فقرات مختصرة متسلسلة.

1- تخيلوا أننا نعيش في مكان واحد، وأن ثمة منْ أمرَ بأن “يتذوق” الجميعُ شيئاً ما، قبل أن يسكنوا في مهجعهم. ربما يقول البعض: أنا لا أريده، أو لا أطيقه! ولكنه أمر قاطع حاسم. هنا ندرك بأن ثمة قوة قاهرة تُملي ما تريد، فتأمر بأن نَطعم جميعاً “الموت المذاق” في الوقت المحدد لنا، فسبحان منْ جعل الموت يُدركنا بإذنه، ولو كنَّا في بروج مُشيَّدة.

2- التعبير القرآني “كل نفس” يخاطب الإنسان الكلي، ليؤكد على أن كل إنسان لا محالة ذائق الموت (بغض النظر عن دينه وجنسه وعرقه وعمره وثقافته)، وأنه ليس ثمة إمكانية أو احتمالية لتعطل حاسة تذوق الموت لأي إنسان كائناً من كان، حتى النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فهم يتذوقونه أيضاً، ولكنه بقالب “الموت الحلو” الخاطف السريع. مما يحفز النفوس إلى الفوز بمثل هذا “التذوق الفاخر للموت”.

3- نعلم جميعاً أن حاسة الذوق لها طعوم مختلفة، فثمة الحلو والمر والحامض والمالح. وهذا ما يستدعي إذن صوراً لـ “موت حلو” ، و”موت مر/حامض/مالح“. لا خيار في تذوق الموت من عدمه، فكل نفس ذائقته حتماً. والكل يُسلِّم بهذا، حتى الملاحدة، يُسلِّمون بالموت ويهابونه كثيراً، وإن تظاهر بعضهم بعدم الاكتراث له، فكيف لو فكروا بـ تذوق الموت؟!

4- نحن نتذوق الأشياء في وقت محدد، إذ قد يطول تذوقُنا لشيء نحبه في الحالات الطوعية، أو لشيء نكرهه في حالات الإكراه، وقد يقصر تذوقنا له. هذه الصورة تحقن في التذوق عنصر الزمن، فليتخيل كل واحد منا مدة تذوق الموت في “حلق روحه“. ونظراً لكون الموت مباغتاً مهاباً، فالكل يروم أن يكون “تذوقه سريعاً خاطفاً“، حلواً لا مراً ولا حامضاً ولا مالحاً.

5- لا يكتمل التذوق إلا بالشم، لدرجة أننا نشمُّ الطعامَ اللذيذ قبل تذوقه (ثمة اتصال في الدماغ بين هاتين الحاستين)، ويزداد اكتماله بالرؤية أيضاً،  فهذه الحواس الثلاث تتعاضد معاً في جعلنا نتذوق الشيء بعمق. كأن هذا يعني أننا لن نتذوق الموت فقط، بل سنشمُّه وسنراه أيضاً، مما يعيَّشنا تجربةً أعمق للموت. عادةً، الطعوم الجيدة مصحوبة برائحة طيبة وشكل باهر، وهذا ما يوجد لنا صورة مركَّبة بديعة: “موتاً حلواً زكياً بهياً“.

6- التذوق لا يتعلق بنوعية الطعم فقط، بل يتأثر بالحرارة الملائمة، فثمة أشياء لا نستسيغها إلا حارة أو دافئة أو باردة أو مثلَّجة. وهذا ما يدفعنا إلى التفكير بدرجة حرارة الموت، أساخن هو أم بارة؟ نميل في العادة إلى استطلاف درجة متوسطة، وهو ما يصوِّر لنا “موتاً معتدلاً لطيفاً“.

7- يتأثر التذوق أيضاً بدرجة تماسك الشيء وصلابته، إذ إننا نلتذ ببعض الأشياء وهي متماسكة صلبة، ونطلب في الأخرى سيلاناً ومرونة. وفيما يخص تذوق الموت، فإنه سيكون مذاقه لطيفاً محبباً، إذا كان “موتاً ناعماً سلِساً“.

8- في العادة، نحب تذوق الأشياء التي نصنعها بأنفسنا أو بإرادتنا، أليس كذلك؟ مؤدى هذا أنه يتوجب علينا أن نصنع موتَنا، لا أن نترك غيرنا يصنع لنا موتاً يحقق له غرضاً أو حاجة. صناعة موتنا بأيدينا هو ما قد يجعله مُستطاباً لنا. ولكي يكون الموت  كذلك، فإنه مفتقر إلى ما يطيَّبه من الإيمان والعمل الصالح. لا تدع أحداً يصنع لك نكهة موتك!

هذه بعض الدلالات المجملة من هذه الآية العجيبة، ولكم أن تتأملوا مرة بعد أخرى في: ” كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ” (آل عمران: 185).

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. فعلا ” وما الحياة الدنيا الإ متاع الغرور ” ما شاء الله تبارك الله مبدع كالعادة سعادة البروف عبدالله
    وزادكم الله من فضله .

  2. اللهم اذقنا برد عفوك وحلاوة حبك ولذة عبادتك …آمين

    لافض فوك ..بهذا المقال صنعت امر لطيف في نفس كل قارئ
    تدبر متقن اشكرك بروف عبدالله تعلمنا ولازلنا نتعلم منك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى