- ماريا بوبوفا
- ترجمة: أفنان نويد طيب
- تحرير: عبير الشهري
اللغة ليست محتوى الفكر بل الوعاء الذي يحمل الفكر؛ هذا الوعاء الذي نَصُبُّ فيه تناقضاتنا وتضارباتنا الفكرية لنصل إلى فهم واضح عن هذا العالم.
كلما اتسع الوعاء، ازداد نطاق الأفكار للوصول إلى آفاق أبعد في العقول. “نحن نموت، وهذا ما يعطي معنىً للحياة” هذا ما أكّدته توني موريسون خلال خطابها الرائع الذي ألقته في خطاب قبول جائزة نوبل: “لكننا نستخدم اللغة، وهذا ربما يكون مقياسًا لحياتنا”. ففي اللغة، نقوم بسبر أغوارنا وأعماق حياتنا؛ ونقوم بالتأليف، كما اقتُبس من عبارة ليونارد كوهين الجميلة في “بنية الدولة الداخلية”.
ومع ذلك، فإن اللغة مشدودة بشكل موروث إلى الإقليم الخارجي للدولة، أي إلى القاموس، والمفردات، واللسان الشعبي والمكان.
لاشيء يثري الفكر مثل إجادة عدة لغات، مما يمنح العقل ثنائي اللغة ومتعدد اللغات، ميزات فكرية خصبة. هذا ما كان يحاول الفيلسوف ويليام جودوين (3 مارس 1756-7 إبريل 1836) اكتشافه في باب من كتابه الرائع والذي نشره عام 1797 (المتسفهم: تأملات في التربية، والآداب والأدب)، إن مجموعة المقالات التي كتبها كانت قد أُتمت، في حين كانت شريكته الفيلسوفة ومؤسسة الحركة النسوية، الأم ماري ولستون كرافت، حاملًا بابنتهما، والتي ستؤلف لاحقًا ” فرانكنشتاين”.
قدم جودوين حجة قوية عن كيفية تحرير المعرفة بعدة لغات للعقل، وزيادتها من قوة الروح الإنسانية، قبل قرنين تقريبًا من ملاحظة أورسولا ك لي جوين، أن وظيفة اللغة هي: “إعطاء الناس الكلمات لأجل التعبير عن تجاربهم الخاصة”، وجيمس بلدوين الذي ندب الطبيعة الاستثنائية لأي لغة، والتي ربما لا تعكس تجارب الناس المجبرين على التحدث بها.
(الحساسية المتغيرة للّغة كمرسول للزمان والمكان هي بسبب قراءة جودوين؛ فاستخدامه صيغة المذكر في مخاطبة الإنسانية العالمية، هو انعكاس للأعراف المعجمية في عصره، إذ كان يكتب قبل قرنين من توقف استخدام (هو) كضمير عام، وليست انعكاسًا لمعتقداته، فجودوين كان منحازًا بقوة للمساواة بين الجنسين، وهوالذي تحمّل بشجاعة الخزي الذي أكسبته إياه هذه الآراء، كما أنه صاغ مع وولستون كرافت زواجًا مبنيًا على التساوي، وهو من ربّى بناته على تركيزٍ صارمٍ على العقل والحياة، في عصر كانت فيه الفتيات مستبعدات تمامًا من التعليم الحقيقي وعالم الأفكار).
كمؤيد لتعليم الشباب عدة لغات، يكتب جودوين:
“الذي يعرف لغةً واحدةً فقط، ربما سيبقى إلى الأبد عبدًا لهذه اللغة. سيشعر في بعض الأحيان-بسبب ثقافته غير الكاملة-أنّه في إحدى المرات قد سقط في فخ قولِ مالا يقصده، وفي مراتٍ عديدة سقط في أخطاء من ذلك النوع دون أن يعي الأمر. من المستحيل أن يفهم القوة الكاملة للكلمات، ففي بعض الأحيان سينتج سخريةً في أوقاتٍ كان يقصد فيها إنتاج عاطفة، وسيبحث دون فائدة عن الكنوز المخفية في لغته الأم، ولن يكون أبدًا قادرًا على توظيفها بأفضل الطرق، ولن يكون قادرًا على الإلمام بنقاط ضعفها وقوتها، لن يتعلم عبقريّتها الحقيقية، وملامحها المميزة.
لكن الرجل المؤهل، الذي تدرب على المقارنة بين اللغات، قد أحرز الارتقاء اللائق. فاللغة ليست سيّدته، بل هو سيّدها. وتترتب الأشياء بشكل صحيح في عقله، الأفكار أولًا ثم الكلمات. ويستخدم الكلمات كوسطٍ للتواصل ولإبقاء عواطفه، ويصبح كامل مخزون لغته الأم خاضعًا له”. اهـ
في عصر ما قبل سوزان سونتاغ، كان السائد هو التمسك بأن الكلمات هي أدوات شخصية، لكن جودوين يجادل أن مفرداتنا توفر اللبنات الأساسية لفهمنا، والتي بدورها تثير قدرتنا على العمل الفعال في العالم.
الكلمات ذات أهمية قصوى لفهمنا. تقريبًا جميع الأفكار التي وظفت من قبلنا في المسائل المنطقية قد اُكتسبت بالكلمات.
نحن نفكر أغلب الوقت بالكلمات في تأملاتنا الأكثر انعزالًا، وفي معظم الحالات يمكن معرفة اللغة التي تم التفكير فيها بسهولة، بناء على الاستذكار.
ربما لن نستطيع تسيير قطار الاستنتاج لوقتٍ طويلٍ دون كلماتٍ تُنطَق أو يُفَكّر بها. لهذا فعلم التفكير ليس سوى علم الكلمات. والذي لم يعتد صقل الكلمات، والتفريق بين ظلال معانيها المختلفة، سيفكر بالمنطق بعدُ، بأسلوب غير دقيق، الشخص غير القادر على تسمية فكرته بأسماء متعددة استعيرت من لغات متعددة، سيكون بالكاد قادرًا على إدراك الفكرة بدقة ووضوح، وبلا تشتيت.
اقرأ ايضاً: هل تشكل لغتك كيفية تفكيرك؟