عام

هل تشكل لغتك كيفية تفكيرك؟

  • غاي دويتشر
  • ترجمة: عقيل بن حامد الزماي

مقدمة المترجم: لقد نشرتْ هذه المقالة في مجلة النيويورك تايمز بتاريخ 26/8/2010م[1]. ومؤلفها باحث حصل على درجة الدكتوراه في اللسانيات في جامعة كامبردج، وعمل باحثا في الجامعة نفسها بعد ذلك في مجال اللسانيات التاريخية، ثم أستاذا للسانيات في قسم اللغات والثقافات القديمة للشرق الأوسط في جامعة ليدن، بهولندا. وهذه المقالة بمثابة الملخّص لكتاب صدر له بعد ذلك بعنوان: ’عبر منظار اللغة: لم يبدو العالم مختلفا في لغات أخرى؟‘. وقد ترجم الكتاب إلى العربية، وصدر عام 2015م، ضمن سلسلة عالم المعرفة التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآدب بالكويت، بترجمة: حنان عبدالمحسن مظفر. وهذه المقالة ممتعة وطريفة جدا، وتتضمن تلخيصا لبعض مزاعم ’النسبية اللغوية الحديثة‘ التي تجدّد الاهتمامُ بها بدءا من تسعينيات القرن الماضي، بعد سقوط دعاوى الوورفية الكلاسيكية في عقود سابقة. ورغم أن المؤلف يبدأ مقالته هذه بنقد للورفية الكلاسيكية وما بني عليها من تخرّصات وادعاءات متنوعة وغريبة، فإنه من ناحية أخرى يرى أن للنسبية اللغوية وجها آخر يمكن الدفاع عنه. وملخصه أن اللغات لا تمنع متحدثيها من التفكير بأشياء معينة أو تصورها كما كان يدّعى سابقا، ولكنها تغرس لدى متحدثيها على نحو جامع عادات ذهنية معينة تجعلهم ينظرون للعالم بطريقة مختلفة عن غيرهم. والحق أن هذا الادعاء لا يبتعد كثيرا عن الوورفية الكلاسيكية التي ينتقدها، علاوة على عدم وجود ما يؤيده. ولذلك فقد تصدّى لتفنيد هذه المقالة، وما يشبهها من كتابات تنتمي إلى ’الوورفية الجديدة‘، جون مكوورتر – أستاذ اللسانيات في جامعة كولومبيا بنيويورك –  في كتابه ’خدعة اللغة: لم يبدو العالم متماثلا في كل لغة؟‘ الذي صدر ضمن منشورات جامعة أكسفورد عام 2014م. وقد ترجمته إلى العربية، وفيه بيان مفصل لعدم صحة ادعاءات النسبية اللغوية من ناحية، ولخطورتها من ناحية أخرى، بالإضافة إلى تعليقات ذكية بشأن الأجواء الثقافية والفكرية العامة التي تجعل مثل هذه الادعاءات محببة للجمهور العام، وتحظى برواج إعلامي كبير، رغم ما فيها خلل واضح. وقد ترجمتُ الكتاب إلى العربية، وسيصدر قريبا عن دار تشكيل بالتعاون مع الموسوعة العالمية أدب، وترجمتُ ضمن ملحقات الكتاب هذه المقالة التي يردّ عليها الكتاب. وربما يكون البدء بقراءتها قبل قراءة الكتاب مفيدا للقارئ لتكوين فهم أوضح لما يتضمنه الكتاب من حجاجٍ يردّ ضمنا على ما تتضمنه المقالة من ادعاءات.


المقالة: لقد نشرتْ مجلةٌ علميةٌ شهيرة منذ سبعين عامًا – في عام 1940م –  مقالة قصيرة أدت إلى انطلاق واحدة من أكثر الفورات الفكرية رواجا في القرن العشرين. ولم يكن في المقالة فيما يبدو للوهلة الأولى شيء يبشّر بما حصلت عليه من احتفاء لاحق. فلم يكن عنوانها ’العلم واللسانيات‘، ولا المجلة التي نُشِرَت فيها ’أم آي تي تكنولوجي رفيو/ M.I.T.’s Technology Review‘[2] مغريين لمعظم الناس. ولم يكن المؤلف، الذي كان يعمل مهندسا كيمائيا في شركة تأمين، ويعمل بدوام جزئي محاضرا في الإناسة في جامعة ييل، مرشحا محتملا للنجومية العالمية. غير أن بنيامين لي وورف قد أطلق فكرة فاتنة بشأن سطوة اللغة على العقل، فأغرت كتابتُه المتحمسة جيلا كاملا بأن يعتقدوا أن لغتنا الأم تقيّد ما يمكن أن نفكر فيه.

فقد أعلن وورف بشكل محدد أن لغات الأمريكيين الأصليين تفرض على متحدثيها صورة للواقع تختلف تماما عن الصورة التي نملكها، ومن ثم لن يتمكن متحدثوها من فهم بعض تصوراتنا الأساسية، مثل تصورنا بشأن جريان الزمن أو بشأن التمييز بين الأشياء (كـ”الحَجَر”) والأفعال (كـ”سَقَط”)[3]. ولقد أبهرت نظرية وورف لعقود من الزمن الأكاديميين وعامة الناس على حد سواء. وقدّم آخرون متبعين أثره طائفة متنوعة من الادعاءات الخيالية بشأن القوة المفترضة للغة، بدءا من التأكيد على أن اللغات الأمريكية الأصلية تغرس في متحدثيها فهمًا بديهيًا لمفهوم أينشتاين عن الزمن باعتباره بعدا رابعا[4]، وصولا إلى النظرية القائلة بأن طبيعة الدين اليهودي متحددة بحسب نظام الزمن في العبرية القديمة[5].

ولقد اصطدمت نظرية وورف في نهاية المطاف بالحقائق الثابتة والحس العام السليم، عندما تكشّف أنه لم يكن هناك أبدا أي دليل يدعم مزاعمه العجيبة. وكان رد الفعل شديدًا لدرجة أنه، على مدار عقود من الزمان، كانت أي محاولات لاستكشاف تأثير اللغة الأم على أفكارنا تستبعد بسبب ما طالها من سوء السُّمعة. ولكن الوقت قد حان بعد مرور سبعين عاما لتجاوز هذا الهلع من وورف. فلقد كشفت أبحاث جديدة في السنوات القليلة الماضية أننا عندما نتعلم لغتنا الأم، نكتسب في نهاية المطاف عادات فكرية معينة تشكل تجربتنا بطرائق مهمة وغالبًا ما تكون مفاجئة.

إننا نعلم الآن أن وورف قد ارتكب أخطاء كثيرة. وقد كان أخطرها هو أن لغتنا الأم تقيد أذهاننا وتمنعنا من أن نفكر بأفكار معينة. وقد كان الهيكل العام لحججه هو الادعاء بأنه إذا لم يكن في لغة ما كلمة لمفهوم معين؛ فإن متحدثيها لن يكونوا قادرين على فهم ذلك المفهوم. فإن لم يكن مثلا في لغة معينة زمن نحوي يدل على المستقبل، فإن متحدثيها بكل بساطة لن يتمكنوا من تبيّن مفهومنا عن الزمن المستقبل. ويبدو أنه من العسير فهمه أن هذا النوع من الحجاج كان يمكن أن يحقق ما حققه من نجاح، نظرا إلى الأدلة المتكاثرة المخالفة لذلك التي تطالعك أينما توجهت. فهل تشعر حينما تسأل في إنجليزية عادية تماما، وفي الزمن الحاضر: Are you coming tomorrow?”[6]” بأن قبضتك على مفهوم المستقبل تتفلت منك؟ وهل يجد متحدثو الإنجليزية الذين لم يسمعوا أبداً بالكلمة الألمانية Schadenfreude”[7]” صعوبة في فهم مفهوم الاستمتاع بسوء حظ شخص آخر؟ أو فكّر في الأمر على هذا النحو: إذا كان مخزون الكلمات الجاهزة بلغتك يحدد المفاهيم التي يمكنك فهمها، فكيف تتعلم أي شيء جديد؟

وبما أنه لا يوجد أي دليل على أن أي لغة تمنع متحدثيها من التفكير في أي شيء، فإننا لا بد أن ننظر في اتجاه مختلف تمامًا لاكتشاف كيف أن لغتنا الأم تشكّل حقًا تجربتنا في العالم. ولقد أشار العالم اللساني الشهير رومان جاكبسون، منذ حوالي خمسين عامًا، إلى حقيقة مهمة بشأن الاختلافات بين اللغات بمبدأ صقيل: “تختلف اللغات أساسًا فيما يجب أن تعبر عنه، لا فيما يمكن أن تعبر عنه”. ويمنحنا هذا المبدأ مفتاحا لفك مغاليق القوة الحقيقية للغة الأم: فإن كانت اللغات المختلفة تؤثر في أذهاننا بطرق مختلفة، فإن ذلك ليس بسبب ما تسمح لنا اللغةُ بالتفكير فيه، بل بسبب ما تُلْزِمنا اللغةُ عادةً في التفكير فيه.

واعتبر ذلك في هذا المثال. لنفترض أنني قلت لك بالإنجليزية ” I spent yesterday evening with a neighbor”[8]. وقد تتساءل عما إذا كان مرافقي ذكراً أم أنثى، غير أنه من حقي أن أخبرك بشيء من التأدب بأن الأمر لا يعنيك. أما إذا كنا نتحدث اللغة الفرنسية أو الألمانية، فإنني سأفقد إمكانية المواربة بهذه الطريقة، لأنني سأكون ملزماً بما يلزمني به النحو من الاختيار بين ’ voisin‘ أو ’ voisine‘ [في الفرنسية]، وبين ’ Nachbar‘ أو’ Nachbarin‘ [في الألمانية][9]. فهاتان اللغتان تجبرانني على أن أخبرك بجنس مرافقي سواء أشعرت أم لم أشعر أن هذا الأمر يعنيك. وهذا بطبيعة الحال لا يعني أن متحدثي الإنجليزية غير قادرين على فهم الاختلافات بين الأمسيات التي تقضيها مع الجيران الذكور أو الإناث، ولكنه يعني أنه ليس عليهم أن يأخذوا في الحسبان جنس الجيران والأصدقاء والمدرسين ومن عداهم في كل مرة يتحادثون فيها، في حين أن متحدثي بعض اللغات ملزمون بذلك.

من ناحية أخرى، تُلزمك اللغة الإنجليزية بأن تحدد أنواعا معينة من المعلومات مما يمكن أن يُتْرَك للسياق في لغات أخرى. فإن أردت أن أخبرك بالإنجليزية عن عشاء لي مع أحد الجيران، فإنه قد لا يتعين علي ذكر جنس الجار، لكن علي أن أخبرك بشيء عن توقيت الحدث: فيجب أن أقرر ما إذا كنا قد تعشينا ’we dined‘ أو ما إذا كنا قد تعشينا للتو ’we have been dining‘، أو ما إذا كنا نتعشى الآن ’we are dining‘، أو ما إذا كنا سنتعشى ’we will be dining‘، ونحو ذلك[10]. وأما الصينية فإنها لا تلزم المتحدثين بها بتحديد الحدث تماما على هذا النحو، إذ يمكن استخدام صيغة الفعل نفسها للأعمال الواقعة في الماضي أو الحاضر أو المستقبل. وأكرر أن هذا لا يعني أن الصينيين غير قادرين على فهم مفهوم الزمن. ولكنه يعني أنهم غير ملزمين بالتفكير في التوقيت كلما وصفوا حدثا ما.

وعندما تلزمك لغتك بشكل روتيني بتحديد أنواع معينة من المعلومات، فإنها تفرض عليك أن تكون متنبها لتفاصيل معينة في الوجود، ولجوانب معينة من الخبرة، مما قد لا يكون من اللازم لمتحدثي لغات أخرى أن يفكروا فيها طوال الوقت. وبما أن عادات الكلام هذه تُزْرع منذ بدايات العمر، فمن الطبيعي أن تتمكن من الترسخ على شكل عادات للذهن تتجاوز اللغة ذاتها، لتؤثر على خبراتنا وإدراكاتنا وتداعياتنا ومشاعرنا وذكرياتنا وما لدينا من توجهات نحو العالم.

ولكن هل هناك أي دليل على حدوث ذلك في الواقع؟

لنأخذ الجنس مرة أخرى. لا تُلزمك لغات كالإسبانية والفرنسية والألمانية والروسية بالتفكير في جنس الأصدقاء والجيران فحسب، بل إنها تُسند أيضا جنسا مذكرا أو مؤنثا لطائفة متنوعة من الأشياء غير الحية بطريقة تعسفيّة نوعا ما[11]. فما المؤنث تحديدا في لحية الرجل الفرنسي مثلا ’ la barbe‘؟ ولماذا يكون ’الماء‘ في الروسية مؤنثا، ولماذا يصبح المؤنث مذكرا بمجرد أن تغمس فيه كيسا من الشاي؟ لقد تحسر مارك توين كما هو مشهور في مقالته “اللغة الألمانية الفظيعة” على ما يشبه هذه الطريقة المضطربة من إسناد الجنس في الألمانية كما في إسناد التأنيث لنبات ’اللفت‘، وإسناد الجنس المحايد ’للبنات‘[12]. ورغم دعواه بوجود اختلال خاص في نظام الجنس في الألمانية، فإن الإنجليزية هي في الواقع غير العادية، بين اللغات الأوروبية على الأقل، في عدم إسنادها التذكير والتأنيث لما يشبه نبات اللفت وكؤوس الشاي. واللغات التي تتعامل مع الشيء الجامد باعتباره مذكرا أو مؤنثا تجبر متحدثيها على أن يتحدثوا عن ذلك الشيء كما لو كان ذكرا أو أنثى. وكما سيخبرك أي شخص يوجد في لغته الأم نظام للجنس، بمجرد أن تترسخ هذه العادة، يصبح من المستحيل تقريبا التخلص منها. فعندما أتحدث الإنجليزية قد استعمل الضمير ’it‘ للقول بأن السرير لين جدا، ولكنني أشعر في الحقيقة باعتباري ناطقا أصليا بالعبرية أن السرير مؤنث. فيلازمني ضمير المؤنث من الرئتين حتى فتحة المزمار ولا يتحول إلى ضمير محايد إلا حينما يصل إلى طرف اللسان[13].

ولقد أظهرت تجارب متعددة في السنوات الأخيرة أن الجنس النحوي يمكن أن يشكّل مشاعر المتكلمين وما لديهم من تداعيات بشأن الأشياء من حولهم. فلقد قارن، على سبيل المثال، علماء النفس في التسعينيات من القرن الماضي ما لدى متحدثي الألمانية والإسبانية من تداعيات. فهناك الكثير من أسماء الجوامد التي تكون أجناسها متغايرة في اللغتين. فالجسر في الألمانية مؤنث ’ die Brücke‘، على سبيل المثال، ولكنه مذكر في الإسبانية ’ el puente‘؛ والشيء نفسه ينطبق على الساعات، والشقق، والشّوَك، والصحف، والجيوب، والكتفين، والطوابع، والتذاكر، والكمانات، والشمس، والعالم، والحُب. أما ’التفاحة‘ فمن المذكر بالنسبة للألمان، ولكنها مؤنث في الإسبانية، وكذلك الكراسي، والمكانس، والفراشات، والمفاتيح، والجبال، والنجوم، والطاولات، والحروب، والمطر، والقمامة. وعندما طُلب من المتحدثين تصنيف الأشياء المختلفة بحسب مجموعة معينة من الخصائص، ذهب الإسبان بصورة أكبر إلى أن الجسور والساعات والكمانات ذات “خصائص رجولية” كالقوة، أما الألمان فكانوا يميلون أكثر إلى النظر إلى ما فيها من نحافة أو أناقة. وكان الأثر معكوسا، بالنسبة إلى أشياء من قبيل الجبال أو الكراسي، مما يعد مذكرا في الألمانية، ولكنه مؤنث في الإسبانية.

وطُلِب من متحدثي الفرنسية والإسبانية في تجربة أخرى إسناد أصوات بشرية لأشياء مختلفة في برنامج للرسوم المتحركة. وعندما رأى متحدثو الفرنسية صورة لشوكة ’ la fourchette‘، أراد معظمهم أن يجعلوها تتكلم بصوت نسائي، أما متحدثو الإسبانية، الذين تُعد الشوكة ’ el tenedor‘ مذكرا لديهم، ففضلوا أن يكون صوتها ذكوريا أجش. بل قد أظهر علماء النفس مؤخرا أن “اللغات المجَنْوَسَة” تطبع السمات الجنسية للأشياء بقوة في الذهن، مما يجعل تلك الارتباطات تعرقل قدرة المتحدثين على إيداع المعلومات في الذاكرة[14].

وكل ذلك لا يعني بطبيعة الحال أنه يفوت على متحدثي الإسبانية أو الفرنسية أو الألمانية فهم أن الأشياء غير الحية ليس لها في الحقيقة جنس أحيائي – فنادراً ما تخلط المرأة الألمانية بين زوجها والقبعة، وليس معروفا عن الرجال الإسبان أنهم يخلطوا بين السرير ومن قد يكون مستلقيا فيه. ومع ذلك، فإنه بمجرد أن تُفْرض الدلالات الحافة للجنس على الأذهان الغضة اللدنة، فإنها ستقود أصحاب اللغات الأم المجَنْوَسة لرؤية العالم غير الحي من خلال عدسات مخضّبة بتداعيات واستجابات شعورية يجهلها تماما متحدثو الإنجليزية – العالقون في صحراء ’it‘ أحادية اللون. هل كان لجنسي “الجسر” المتعاكسين بالألمانية والإسبانية، على سبيل المثال، تأثير على تصميم الجسور في إسبانيا وألمانيا؟ وهل للخرائط الشعورية التي يفرضها نظام الجنس تبعات سلوكية ذات مستوى أعلى بالنسبة لحياتنا اليومية؟ وهل تشكل الأذواقَ والموضات والعادات والتفضيلات في المجتمعات المعنية؟ إن ذلك في ظل معرفتنا الراهنة عن الدماغ ليس شيئا يمكن قياسه بسهولة في مختبرات علم النفس. ولكن سيكون من المستغرب إن لم يكن لها ذلك التأثير.

إن المجال الذي ظهرت فيه أكثر الأدلة إثارةً للدلالة على تأثير اللغة على الفكر هو لغة الفضاء المكاني – أي الكيفية التي نصف بها توجه العالم من حولنا. لنفرض أنك تريد توجيه شخص ما ليصل إلى منزلك. قد تقول: “بعد إشارة المرور، خذ اللفّة الأولى على اليسار، ثم اللفّة الثانية على اليمين، ثم سترى منزلاً أبيض أمامك. بابنا على اليمين”. غير أنه يمكنك من الناحية النظرية أن تقول أيضا: “بعد إشارة المرور، اتجه شمالًا، ثم في التقاطع الثاني اتجه شرقًا، وسترى منزلاً أبيضَ مباشرةً إلى الشرق. بابنا هو الباب الجنوبي”. ربما تكون هاتان المجموعتان من التوجيهات وصفا للمسار نفسه، ولكنهما تعتمدان على نظامين مختلفين من الإحداثيات. إذ يستخدم الأول إحداثيات أَنَوَيّة[15]، تعتمد على أجسامنا: محور اليسار واليمين ومحور الأمام والخلف المتعامد معه. ويستخدم النظام الثاني الاتجاهات الجغرافية الثابتة، والتي لا تستدير معنا حيثما درنا.

ونحن نجد أنه من المفيد استخدام الاتجاهات الجغرافية عندما نتنزه في الريف المفتوح مثلا، ولكن الإحداثيات الأنوية تسيطر على خطابنا تمامًا عندما نصف الفضاءات المكانية ذات المساحة الصغيرة. فلا نقول: “عندما تخرج من المصعد، امش جنوبًا، ثم ادخل الباب الثاني إلى الشرق”. والسبب الذي يجعل النظام الأنوي هو الغالب في لغتنا هو أننا نشعر أنه أكثر سهولة وأكثر طبيعية. فنحن على أية حال نعرف دائمًا أين يقع ما هو ’أمامنا‘ وما هو ’خلفنا‘. ولا نحتاج إلى خريطة أو بوصلة لتبين ذلك، بل نشعر به فحسب، لأن الإحداثيات الأنوية تعتمد اعتمادا مباشرا على أجسامنا وعلى مجالنا البصري المباشر.

بيد أنه قد برز لسان ناء من ألسنة السكان الأصليين في أستراليا، وهو لسان ’غوغو إمذر‘[16]، في شمال كوينزلاند، وصحبه الاكتشاف المذهل بأنه ليس كل اللغات تمتثل لما كنا نعتبره دائما هو الأمر ’الطبيعي‘ تماما. فلسان ’غوغو إمذر‘ في الحقيقة لا يستخدم الإحداثيات الأنوية على الإطلاق. فلقد بين الإناسي جون هافيلاند ثم اللساني ستيفن ليفينسون بعده أن لسان ’غوغو إمذر‘ لا يستخدم كلمات مثل “يسار” أو “يمين”، ولا “أمام” أو “خلف” ، لوصف موضع الأشياء. فحتى في الأماكن التي نستخدم فيها النظام الأنوي، يعتمد لسان ’غوغو إمذر‘ على الاتجاهات الأساسية. فحينما يريدون منك أن تُفْسح لهم قليلا في مقعد السيارة، سيقولون “تحرك قليلاً إلى الشرق”. ولكي يخبروك أين تركوا شيئًا ما بالضبط في منزلك، سيقول أحدهم: “لقد تركته على الحافة الجنوبية للطاولة الغربية”. أو قد يحذرونك قائلين: “احترس من تلك النملة الكبيرة شمال قدمك تماما”. بل إنهم، حتى حينما يعرض عليهم فيلم على التلفاز، يقدمون الأوصاف استنادًا إلى اتجاه الشاشة. فإذا كان التلفاز متجهًا شمالًا وكان ثمة رجل يقترب على الشاشة، فإنهم يقولون إنه “يتجه شمالًا”.

لقد أدت هذه الخصائص الفريدة في لسان ’غوغو إمذر‘، حينما كُشِف عنها، إلى مشروع بحثي واسع النطاق في لغة الفضاء المكاني. وقد تبين أن ’غوغو إمذر‘ ليست مجرد فلتة عجيبة؛ فاللغات التي تعتمد اعتمادا أساسيا على الإحداثيات الجغرافية متناثرة في أنحاء العالم، من بولينيزيا إلى المكسيك، ومن ناميبيا إلى بالي. وقد يبدو لنا من المنافي للعقل تماما أن يقول معلم للرقص: “الآن ارفع يدك الشمالية وحرك ساقك الجنوبية شرقًا”. ولكن ثمة من لن يدرك النكتة: فيتذكر عالم الموسيقى الكندي الأمريكي ’كولن ماكفي‘، الذي أمضى عدة سنوات في بالي في الثلاثينيات من القرن الماضي، فتى أظهر موهبة كبيرة في الرقص. وبسبب عدم وجود مدرب في قرية الطفل، نسّق له ماكفي ليُقِيْمَ مع مدرب في قرية أخرى. ولكنه عندما جاء للتحقق من تقدم الصبي بعد بضعة أيام، وجد الصبي مغتمّا والمعلم ساخطا. فلقد كان من المستحيل تعليم الصبي أي شيء، لأنه ببساطة لم يفهم أيًا من التعليمات. فعندما يُطْلَب منه اتخاذ “ثلاث خطوات شرقًا” أو “الانحناء باتجاه الجنوب الغربي”، لم يكن يعرف ما يجب فعله. لم يكن لدى الولد أدنى مشكلة في هذه الاتجاهات في قريته، ولكن نظرًا لأن المشهد في القرية الجديدة لم يكن مألوفًا تمامًا، فقد أصيب بالارتباك والحيرة. فلماذا لم يستخدم المعلم تعليمات مختلفة؟ من المرجح أنه كان سيجيب بأن قول: “اتخذ ثلاث خطوات إلى الأمام” أو “انحن للخلف” سيكون منافيا للعقل.

ولذا فإن اللغات المختلفة تجعلنا بكل تأكيد نتحدث عن الفضاء المكاني بطرق مختلفة للغاية. ولكن هل يعني هذا بالضرورة أننا مضطرون للتفكير بالفضاء المكاني على نحو مختلف؟ يجب أن تومض الأضواء الحمراء الآن، لأنه حتى لو لم يكن في لغة ما كلمة للدلالة على معنى “وراء”، فإن هذا لا يعني ضرورةً أن متحدثيها غير قادرين على فهم هذا المفهوم. وإنما يجب أن نبحث عن التبعات المحتملة لما تجبر اللغاُت الجغرافية متحدثيها على التعبير عنه. فيجب على وجه الخصوص أن نرصد العادات الذهنية التي قد تنمو بسبب ضرورة تحديد الاتجاهات الجغرافية طوال الوقت.

فلكي تتحدث لغة مثل لغة ’غوغو إمذر‘، يلزمك أن تعرف الاتجاهات الرئيسية في كل لحظة من لحظات حياتك. فتحتاج إلى وجود بوصلة في ذهنك تعمل طوال الوقت، ليلا ونهارا، من دون استراحة ولا إجازة، لأنك من دون ذلك لن تتمكن من نقل المعلومات الأساسية ولا فهم ما يقوله الناس من حولك. بل يبدو في الحقيقة أن متحدثي اللغات الجغرافية لديهم شعور شبه خارق بالاتجاه. فبغض النظر عن ظروف الرؤية، وعما إذا كانوا في غابة كثيفة أو في سهل مفتوح، وسواءً أكانوا في الخارج أم في الداخل أو حتى في الكهوف، وسواء أكانوا متحركين أم ثابتين، فإن لديهم إحساسًا فوريًا بالاتجاه. فهم لا ينظرون إلى الشمس ويتوقفون لبرهة ليفكروا قبل أن يقولوا: “هناك نملة شمال قدمك”. فهم يشعرون بكل بساطة بالشمال والجنوب والغرب والشرق، تمامًا كما يشعر الأشخاص ذوو الشعور التام بالحدة بالنوتات الموسيقية من دون حاجة لحساب الفواصل الموسيقية[17]. وهناك مجموعة وافرة من القصص عما قد يبدو لنا وكأنها مآثر لا تصدق في معرفة الاتجاه، ولكنها مجرد شيء طبيعي بالنسبة إلى لمتحدثين باللغات الجغرافية. فلقد ذكر أحد التقارير أن أحد المتحدثين بلغة تزيلتال[18] في جنوب المكسيك قد جرى تعصيب عينيه ولفه قريبا من عشرين مرة في منزل مظلم. فاستطاع من دون تردد، رغم أنه لا يزال معصوب العينين ويشعر بالدوار، تحديد الاتجاهات الجغرافية.

فكيف يحدث ذلك؟ إن أعراف التواصل ذات الإحداثيات الجغرافية تُلْزم المتحدثين منذ مرحلة عمرية مبكرة بالانتباه إلى دلائل البيئة المادية (مثل موضع الشمس والرياح ونحو ذلك) في كل ثانية من حياتهم، وبإنماء ذاكرة دقيقة تخص توجهاتهم المتغيرة في كل لحظة معينة. لذا فإن التواصل اليومي بلغةٍ جغرافية يوفر أكثرَ تدريب مكثّف يمكن تخيله على الاتجاه الجغرافي (فلقد قُدّر أن كل عشر كلمات من محادثة عادية في لغة ’غوغو إمذر‘ تتضمن كلمة “شمال” أو “جنوب” أو “غرب” أو “شرق”، وغالبًا ما يكون ذلك مصحوبًا بإشارات يدوية دقيقة). فيتم تشرّب هذه العادة المتمثلة في الوعي المستمر بالاتجاه الجغرافي منذ الطفولة المبكرة تقريبا: فأظهرت الدراسات أن الأطفال في مثل هذه المجتمعات يبدؤون في استخدام الاتجاهات الجغرافية منذ أن يبلغوا سنتين من العمر، وببلوغهم سن السابعة أو الثامنة يكونون قد أتقنوا هذا النظام تماما، إذ سرعان ما تصبح هذه العادة، بهذا التدريب المكثف والمبكر، طبيعة ثانية، تلقائية وغير واعية. فعندما سُئل متحدثو لغة ’غوغو إمذر‘ عن كيفية معرفتهم بمكان الشمال، لم يتمكنوا من شرح ذلك أكثر مما يمكنك شرح الكيفية التي تعرف بها موقع “وراء” بالنسبة لك.

ولكن ثمة ما هو أكثر من ناحية الآثار المترتبة على تحدث لغة جغرافية، لأن الشعور بالاتجاه لا بد أن يمتد في الزمن امتدادا يتجاوز الحاضر المباشر. فإذا كنت تتحدث لغة من نمط لغة ’غوغو إمذر‘، فإن ذكرياتك عن أي شيء قد ترغب في الإبلاغ عنه لا بد أن تُخَزّن مصحوبة بالاتجاهات الأساسية بوصفها جزءا من الصورة. ولقد جرى تصوير أحد متحدثي لغة ’غوغو إمذر‘ وهو يخبر أصدقاءه بقصة انقلابه حينما كانا شابا في مياه مليئة بأسماك القرش. إذ عَلِق هو وشخص أكبر منه في عاصفة قلبت قاربهما. فقفزا معا إلى الماء وتمكنا من السباحة لثلاثة أميال تقريبا حتى وصلا الشاطئ، ليكتشفا أن المبشّر الذي كانا يعملان عنده كان قَلِقا على فقدان القارب أكثر من ارتياحه لهروبهما المعجز. وبغض النظر عن المحتوى الدرامي، فإن الجدير بالملاحظة بشأن القصة هو أن تذكّرها كلها قد جرى بحسب الاتجاهات الأساسية: فقفز المتحدث في الماء على الجانب الغربي من القارب، ورفيقه على الجانب الشرقي منه، ورأيا سمكة قرش تسبح شمالا، وهلم جرا. وربما تكون الاتجاهات الأساسية قد اصطُنِعَتْ فقط لهذه المناسبة فحسب؟ حسنا، لقد تم تصوير الشخص نفسه، بالصدفة، بعد عدة سنوات وهو يحكي القصة نفسها. فكانت الاتجاهات الأساسية متطابقة تماما في الروايتين. بل إن الأكثر إثارة للانتباه هو إيماءات اليد التلقائية المصاحبة للقصة. فلقد كان، على سبيل المثال، يشار إلى اتجاه انقلاب القارب بالاتجاه الجغرافي نفسه، بغض النظر عن الاتجاه الذي كان المتحدث يواجهه في الفيلمين.

ولقد أظهرت التجارب النفسية أيضًا أن متحدثي اللغات من نمط ’غوغو إمذر‘ يتذكرون، في ظل ظروف معينة، “الواقعة نفسها” بشكل مختلف عنا. وكان ثمة سجال محتدم بشأن تفسير بعض من هذه التجارب، ولكن من الاستنتاجات التي يبدو أنها مقنعة الاستنتاج القائل بأننا حينما نتدرب على تجاهل استدارة الاتجاه عند إيداع المعلومات في الذاكرة، فإن متحدثي اللغات الجغرافية يتدربون على عدم ذلك. ومن الطرق التي تساعدك على فهم ذلك أن تتخيل أنك مسافر مع متحدثٍ للغة من هذا القبيل، وتقيمان في فندق من الفنادق الفخمة، ذات الممرات المتطابقة تماما في مظهرها وأبوابها. ويقيم صاحبك في الغرفة المقابلة لغرفتك، وعندما تذهب إلى غرفته، سترى نسخة طبق الأصل من غرفتك: باب الحمام نفسه على اليسار، وخزانة الملابس ذات المرايا نفسها على اليمين، والغرفة الرئيسية نفسها بالسرير نفسه على اليسار، والستائر المنسدلة نفسها في الخلف، والمكتب نفسه بجانب الحائط على اليمين، وجهاز التلفزيون نفسه في الزاوية اليسرى من المكتب، والهاتف نفسه على اليمين. باختصار، لقد رأيت الغرفة نفسها مرتين. أما حينما يأتي صاحبك إلى غرفتك، فإنه سيرى شيئًا مخالفا تماما لذلك، لأن كل شيء سيكون معكوسا من الشمال إلى الجنوب. فالسرير في غرفته كان في الشمال، بينما هو في غرفتك في الجنوب. والهاتف الموجود في غرفته في الغرب هو الآن في الشرق، ونحو ذلك. ولذا ففي حين أنك ستشاهد الغرفة نفسها وتتذكرها مرتين، فإن المتحدث بلغة جغرافية سوف يرى ويتذكر غرفتين مختلفتين.

ليس من السهل بالنسبة لنا أن نتصور الكيفية التي يعايش بها متحدثو لغة ’غوغو إمذر‘ العالم، مع تقاطع الاتجاهات الأساسية المفروضة على كل صورة ذهنية وكل جزء من الذاكرة التصويرية. وليس من السهل التكهن بشأن الكيفية التي تؤثر بها اللغات الجغرافية على مجالات الخبرة الأخرى غير التوجه المكاني – أي ما إذا كانت مثلا تؤثّر على الشعور بالهوية لدى المتحدث أو ما إذا كانت تؤدي إلى نظرة للحياة أقل تمركزا على الذات. ولكن هناك دليل واحد معبر جدا: فإذا رأيت متحدثا بلغة ’غوغو إمذر‘ يشير إلى نفسه، فمن الطبيعي أن تفترض أنه يقصد لفت الانتباه إلى نفسه. والحق إنه يشير إلى اتجاه رئيسي اتفق أنه موجود خلف ظهره. ففي حين أننا دائما ما نكون في مركز العالم، ولا يطرأ لنا أبدا أن الإشارة إلى صدورنا قد تعني أي شيء آخر غير لفت الانتباه إلى أنفسنا، فإن متحدث لغة ’غوغو أمذر‘ يشير من خلال نفسه، كما لو كان هواء، وليس لوجوده أي أهمية.

وهل من طرق أخرى قد تؤثر بها اللغة التي نتحدثها على معايشتنا للعالم؟ لقد بُيّن مؤخرا في سلسلة من التجارب العبقرية أننا ندرك أيضا الألوان من خلال عدسة لغتنا الأم. فثمة اختلافات جذرية في الطريقة التي تقطّع بها اللغات طيف الضوء المرئي. فالأخضر والأزرق مثلا لونان متمايزان في اللغة الإنجليزية، ولكنهما يعدان تدرّجين للون واحد في العديد من اللغات. وقد تبين أن الألوان، التي تُلْزمنا لغتُنا أن نتعامل معها باعتبارها متمايزة، يمكن أن تصقل حساسيتنا البصرية الخالصة تجاه بعض الفروق اللونية الموجودة في الواقع، إذ تتدرب أدمغتنا على تضخيم المسافة بين الظلال اللونية إن كان لتلك الظلال أسماء مختلفة في لغتنا. وبقدر ما يبدو في ذلك من غرابة، فإن تجربتنا لرسومات شاغال تعتمد في الحقيقة إلى حد ما على ما إذا كان في لغتنا كلمة دالة على اللون الأزرق[19].

وربما يكون الباحثون قادرين في السنوات القادمة على الكشف عن تأثير اللغة على مناطق من الإدراك أكثر لطفا. فبعض اللغات، كلغة ماتسز[20] في البيرو، على سبيل المثال، تلزم المتحدثين بها بأن يحددوا -مثل المحامين المدققين – كيف عرفوا بالضبط الوقائع التي يوردونها. فلا يمكنك أن تقول بكل بساطة، كما هو الحال في اللغة الإنجليزية، ” An animal passed here/مر حيوان من هنا”[21]. بل عليك أن تحدد، باستخدام أشكال لفظية مختلفة، ما إذا كنت قد واجهت ذلك بشكل مباشر (أي رأيت الحيوان يمر)، أو استنتجته (أي رأيت آثار أقدام)، أو خمّنته (لأن الحيوانات تمر عموما من هناك في ذلك الوقت من اليوم)، أو سمعت به، وما إلى ذلك. وإذا أُورِدَت العبارة بواسم للتوثق[22] غير صحيح، فإن ذلك يعد كذبة. ولذا فإنك إن سألت رجلا من متحدثي لغة ماتسز عن عدد زوجاته مثلا، فإنه، مالم يكن يرى زوجاته حقا في تلك اللحظة بعينها، سيتعين عليه أن يجيب باستعمال صيغة الزمن الماضي، ويقول شيئا من قبيل: “كنّ اثنتين في آخر مرة تحققت من ذلك”. فنظرا لكون الزوجتين غير حاضرتين، فإنه على أية حال لا يمكن أن يكون على يقين تام بأن إحداهما لم تمت، أو لم تهرب مع رجل آخر منذ رآهما آخر مرة، حتى لو كان ذلك منذ خمس دقائق فقط. ولذا فإنه لا يمكنه أن يورد ذلك باعتباره حقيقة يقينية في الزمن الحاضر. فهل الحاجة إلى التفكير المستمر في هذا الجانب المعرفي بهذه الطريقة المتروية والمتطورة توجه نظرة المتحدثين نحو الحياة أو تؤثر في إحساسهم بالصدق والسببية؟ عندما تكون أدواتنا التجريبية أكثر حدة، يمكن لهذا الأسئلة أن تكون طيّعة للدراسة التجربية.

لقد زُعِم لسنوات عديدة أن لغتنا الأم ’سجن‘ يقيد قدرتنا على التفكير. وبمجرد أن تبين أنه لا يوجد دليل على هذه المزاعم، تم اعتبار ذلك دليلاً على أن الناس من جميع الثقافات يفكرون بالطريقة نفسها. بيد أنه من المؤكد أنّ من الخطأ المبالغة في تقدير أهمية التفكير المجرد في حياتنا. فكم من القرارات اليومية التي نتخذها، على أية حال، على أساس المنطق الاستنتاجي، مقارنة بتلك التي يوجهها الشعور الغريزي، أو الحدس، أو العواطف، أو الهوى، أو المهارات العملية؟ فعادات الذهن التي غرستها ثقافتنا فينا منذ سن الطفولة تشكل توجهاتنا نحو العالم واستجاباتنا الشعورية للأشياء التي نواجهها، وربما تتجاوز تبعاتها ما تم تجريبه حتى الآن؛ فقد يكون لها أيضًا تأثير ملحوظ على معتقداتنا وقيمنا وأيديولوجياتنا. وربما لا نعرف حتى الآن كيفية قياس هذه التبعات على نحو مباشر ولا كيفية تقييم إسهامها في سوء الفهم الثقافي أو السياسي. غير أنه من الجيد كخطوة أولى باتجاه فهم بعضنا لبعض أن نكف عن التظاهر بأننا نفكر جميعا على نحو متماثل[23].


[1] يمكن الوصول لها من هنا

[2] مجلة مملوكة لمعهد مساشوستس للتقنية (أم آي تي)، مخصصة لاستعراض المسائل المتعلقة بالعلم والتقنية.

[3] يشير هنا إلى ما ذكره إدوارد سابير عن كون لغة ’نوتكا‘ تشتق للدلالة على سقوط الحَجَر فعلا من اسم الحَجَر نفسه، فلا يقال في هذه اللغة ’سقط الحجر‘ أو ’يسقط الحجر‘، بل يقال ’يَحْجُر‘. وقد بني على ذلك ادعاءات من قبيل أن متكلمي هذه اللغة لا يفرقون بين الشيء والفعل الذي يتعرض له. ولكن لا يوجد في ذلك أي دلالة على هذا الادعاء فهو يشبه في لغتنا اشتقاق الفعل ’تمطر‘ من اسم ’المطر‘ نفسه للدلالة على ’سقوط المطر‘، رغم أننا نميز بين الأمرين.

[4] المقصود بذلك هو كاتب أمريكي يدعي ستوارت تشيس، وقد ذكر هذا الادعاء في كتاب له بعنوان ’أشياء جديرة بالمعرفة: دليل غير المتخصص للمعرفة المفيدة‘! انظر: ’عبر منظار اللغة‘ ص 163، من الترجمة العربية.

[5] المقصود بذلك هو الناقد الأدبي المعروف جورج شتاينر في كتابه الشهير ’بعد بابل‘. انظر: ’عبر منظار اللغة‘ ص 164، وفيه مناقشة أوسع لادعاءات أخرى مشابهة لذلك. ومما يشبه هذه الادعاءات التي ينتقدها المؤلف هنا ما ذكره محمد عابد الجابري في كتابه ’بنية العقل العربي‘، ص 188، عن مفهوم ’الزمن‘ في العربية، وأثره على العقل البياني لدى المتكلمين! وانظر ما كتبه حمزة المزيني في التعليق على ذلك في كتابه ’التحيز اللغوي‘ ص 70.

[6] يقصد هنا استعمال بناء الحاضر المستمر للدلالة على المستقبل. وهذا يشبه في العربية استعمال اسم الفاعل للدلالة كما في قوله تعالى “إني جاعل في الأرض خليفة”. فالبناء في الحالتين دال على الوقوع، ولكن المعنى هو الحدوث في المستقبل لا في زمن التكلم. ومن ذلك ما ورد في قصة طريفة أوردها أبو حيان التوحيدي في كتابه ’البصائر والذخائر‘ (5/203) حينما سأل الكسائيُ القاضيَ أبا يوسف عن رجلين قال أحدهما ’أنا قاتلُ غلامِك‘، وقال الآخر ’أنا قاتلٌ غلامَك‘، أيهما قتله؟. والجواب الصحيح هو أن القاتل هو الأول لأن إضافة اسم الفاعل تعبر عن شيء حدث في الماضي، في حين أن تنوين اسم الفاعل في الجملة الثانية يدل على أن القائل يتهدد بشيء سيحدث في المستقبل.

[7] كلمة في الألمانية معناها في العربية هو ’الشماتة‘، ولا يوجد في الإنجليزية كما يقول المؤلف كلمة واحدة مخصصة لهذا المعنى.

[8] ترجمة الجملة هي ’أمضيت البارحة مع جار لي‘ والجملة الإنجليزية تحتمل أن يكون هذا الجار ذكرا أو أنثى على حد سواء، لأنه لا يوجد فيها تفريق يخص الجنس في هذه الحالة، بخلاف العربية إذ تلزمك اللغة بالتصريح لأنها تفرق بين المذكر ’جار‘ والمؤنث ’جارة‘.

[9] والعربية مثلهما كما ذكرنا في الهامش السابق.

[10] والعربية مثل الإنجليزية في هذا إجمالا، رغم ما بينهما من اختلاف في بعض التفاصيل.

[11] والعربية كذلك، ومن ذلك مثلا أن ’الشمس، والأرض، والسماء‘ مؤنّثة، ولكن ’القمر، والكوكب، والفضاء‘ مذكّرة.

[12] الكلمة الدالة على كلمة ’بنت‘ في اللغة الألمانية وهي ’Mädchen‘ ليست من قبل المؤنث، بل تتصرف تصرّف المحايد، لأسباب تاريخية، انظر مثلا: ’هل بعض اللغات أفضل من بعض‘ لروبرت ديكسون، ترجمة: حمزة المزيني، ص 36.

[13] مقصد المؤلف أنه يشعر في طوية نفسه أن ’السرير‘ مؤنث لأن لغته الأم هي العبرية، وكلمة ’السرير‘ فيها من قبيل المؤنث، ولكنه يستخدم الضمير المحايد لفظا فقط حينما يتحدث الإنجليزية. و’السرير‘ في العربية مذكر، ولكنني لا أشعر بهذا الشعور الذي يذكره المؤلف، رغم أن متحدثي اللغة الأجنبية قد يخطئون في هذا بسبب ’النقل اللغوي‘ لا بسبب أنهم يشعرون أن الشيء المتحدث عنه مذكر أو مؤنث، بل إن الأمر في هذا الصدد – لأنه اعتباطي بحت – قد يختلف داخل اللغة الواحدة بحسب اختلاف اللهجات، والعوامل المتعلقة بالتطور اللغوي، وللاطلاع على مناقشة مفصلة لبعض الجوانب المتعلقة بهذا الموضوع، انظر: ’المؤنث المجازي ومشكلات التقعيد‘ لعيسى الشريوفي.

[14] وضّح المؤلف ما يقصده هنا في كتابه ’عبر منظار اللغة‘ (انظر ص 233 من الترجمة العربية)، فهو يشير إلى تجربة أعطي فيها المبحوثون قائمة بأشياء معينة، ومعها تسميات لها بحسب أسماء الأعلام المستخدمة للبشر (مثل: زينب، محمد..إلخ)، فكان المبحوثون أقدر على تذكر تلك الأسماء حينما تكون مطابقةً في جنسها لجنس الأشياء المسمّاة (كأن يسمى ’الكرسي‘ محمدا مثلا)، وأما حينما تكون مخالفة لذلك (كأن يسمى ’الكرسي‘ زينب مثلا) فإن تذكّر الأسماء يكون أصعب.

[15] أي متمركزة حول الأنا أو الذات.

[16] لغة غوغو إمذر/ Guugu Yimithirr من لغات السكان الأصليين في أستراليا، وهي أول ما كتب منها، وتنتمي لهذه اللغة كلمة ’كنغارو‘ التي دخلت في اللغات جميعا للدلالة على الحيوان المعروف. ولم يبق ممن يتحدثها حاليا في بعض التقديرات سوى 700 شخص تقريبا.

[17] أو كما يشعر ذوو الموهبة الشعرية بالبحور من دون حاجة لحساب التفاعيل.

[18] لغة تزيلتال/ Tzeltal إحدى لغات شعوب المايا في أمريكا الوسطى، ويتجاوز عدد متحدثيها حاليا 350 ألف شخص في جنوب المكسيك. وتستعمل طريقة غريبة جدا في تحديد الاتجاهات، ويوجد شيء من التفصيل بهذا الخصوص في كتاب ’خدعة اللغة‘.

[19] يوجد تعليق مطول في كتاب خدعة اللغة على هذه العبارة، وبيان ما فيها من مبالغات لا يوجد أي دليل يسندها.

[20] لغة ماتسز/ Matses لغة يتكلمها قريب من 2000 شخص على الحدود بين البرازيل والبيرو.

[21] والعربية كالإنجليزية في هذا الصدد.

[22] واسمات التوثّق/evidential markers هي العلامات اللغوية التي تستخدم لبيان ما إذا كان العلم بمضمون القول حاصلا بالمشاهدة أو بالسماع أو بالاستنتاج من قرائن ومؤشرات أخرى. وفي حين أن جميع اللغات تملك أساليب اختيارية معينة للتعبير عن ذلك، فإنه يوجد في بعض اللغات لواحق صرفية إلزامية لا بد من استعمالها للدلالة على هذه الجانب، كما ذكر المؤلف. ويوجد في كتاب ’خدعة اللغة‘ حديث مفصل عن هذا الموضوع.

[23] انظر كيف ختم مؤلف كتاب ’خدعة اللغة‘ كتابه، وقارنه بما ختم به المؤلف مقالته هنا.

المصدر
nytimes

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى