عام

ماذا يحدث لنا عند الموت؟ العقل البشري وتجربة الموت

  • أسامة محمد
  • تحرير: فضيلة المازن

العقل البشري هو ذات الإنسان (أفكارك، إدراكاتك، مشاعرك، ذكرياتك ..) يوجد نظرتان مختلفتان عن منشأ هذه الكينونة.

– الفلسفة المادية Materialism: العقل ما هو إلا منتج من نشاط المخ الكهروكيميائي.

– الفلسفة الثنائية Dualism: العقل كينونة غير مادية ليست منتجة من المخ بل تتفاعل معه فقط، فأيهما الصحيح؟

من الحس العام الفلسفة الثنائية هي الصحيحة لأن ملكات العقل (الأفكار، الذكريات ….) ليست أشياء مادية في ذاتها، الفكرة مثلاً ما هي الخصائص الفيزيائية للفكرة؟ ما لونها؟ ما شحنتها؟ ما طاقتها؟ ما أبعادها المكانية؟ لا يوجد أي خواص مادية لها فهي شيء مجرد Abstract ليس مكون من ذرات أو جسيمات، بالرغم من أن الحس العام يشير إلى لا مادية العقل إلا أن الفلسفة المادية الإختزالية Reductive Physicalism تقول بالرغم من أنه ملكات العقل ليست أشياء مادية في ذاتها إلا أنه يمكن إختزالها في المادة، فهي ليست مادة لكنها منتجة من المادة (المخ) وهذه هي معضلة الوعي الصعبة التي لم يتمكن أحد من علماء الأعصاب لحد الساعة من حلها لم يضع أحد آلية يمكن من خلالها أن يتحول النشاط الكهروكيميائي (المادي) إلى تجارب شخصية لا مادية كالتفكير، والذاكرة أي الوعي أو العقل البشري [1].

من التجارب التي تكررت عبر التاريخ وتتكرر إلى الآن بإستمرار في كل أنحاء العالم ”تجربة الإقتراب من الموت“ وهي تجربة روحية Mystical Experience تتميز بالعديد من الخصائص من رؤية أقاربك الذين ماتوا قبلك إلى الإحساس أن ذاتك خرجت من جسدك إلى رؤية نفسك في نفق نهايته ضوء يرحب بك، يمر بها كثير من الناس عندما يقتربون من الموت لكن الآن وبفضل التقدم الطبي أصبحت تجربة ”الإقتراب من الموت“ تجربة ”موت فعلية“ كما يقول الطبيب سام بارنيا المتخصص في دراسات الوعي أثناء السكتة القلبية وخبير الإنعاش القلبي الرئوي في مقال علي أكاديمية نيويورك للعلوم ليس كل الحالات التي تمر بهذه التجربة تكون ”قد إقتربت من الموت فقط“ يوجد العديد من الحالات تكون ”ماتت بيولوجياً فعلاً بمعنى سكتة قلبية Cardiac Arrest يعقبها سكتة مخية Brain Arrest“ ثم تعود من فترة الموت البيولوچي بتقنيات مثل الإنعاش القلبي الرئوي Cardiopulmonary Resuscitation فمصطلح إقتراب من الموت ليس دقيق لأنه لا يصف كل الحالات [2].

الآن هذه التجارب يمكنها أن تشارك في حل سؤال هل المخ هو ما يخلق العقل البشري؟ أم هل العقل البشري كينونة منفصلة تتفاعل مع المخ فقط لكن ليست منتجة منه؟ لأنه كما قلنا في هذه التجارب يوجد حالات المخ يتوقف فيها عن العمل فحسب تنبؤات الفلسفة المادية (المخ يخلق العقل) بتوقف المخ عن العمل يجب أن يتلاشى العقل من الوجود أما حسب الفلسفة الثنائية (المخ ليس هو ما يخلق العقل) سيظل العقل موجود بدون عمل المخ فماذا أثبتت الدراسات الأكاديمية التي جرت علي الناجيين من السكتة القلبية؟

يوجد حوالي 6 دراسات أكاديمية تمت في هذا المجال وكلها أثبتت نفس الشيء ”العقل البشري لا يموت عندما يتوقف المخ عن العمل“ الدراسة الأولى للطبيب Pim Van Lommel منشورة في دورية The Lancet الشهيرة [3]، الدراسة الثانية لعالم النفس والأعصاب السلوكية Bruce Greyson منشورة من دار نشر Sciencedirect الشهيرة [4]، الدراسة الثالثة للطبيب Sam Parnia ولعالم النفس والأعصاب Peter Fenwick منشورة في دورية Resuscitation المتخصصة في هذه الدراسات [5]، الدراسة الرابعة للطبيبة Janet Shwaninger منشورة على Springer الناشر الألماني الشهير [6]، الدراسة الخامسة والسادسة للطبيب Sam Parnia مع مجموعة من أطباء وعلماء الإنعاش القلبي الرئوي والأعصاب والنفس واحدة منشورة في دورية Resuscitation وواحدة من الجمعية الأمريكية للقلب AHA هنا [7] وهنا [8] على التوالي.

طبعًا لم تسلم نتائج هذه الدراسات من محاولة تفسيرها ماديًا التفسيرات المادية المقترحة تترواح ما بين إعتبار هذه التجارب هلوسات Hallucinations تحدث بسبب إنقطاع الدم/الأوكسجين عن المخ Anoxia، كثير من المواد الكيميائية (النواقل العصبية) في المخ تم الزعم أنها هي ما تخلق هذه التجارب مثل الإندورفينات Endorphins، حركة العين السريعة REM-intrusion أيضًا تم ربطها بهذه التجارب، تم ربطها بنوبات الصرع Seizures، تم ربطها بخلل في عمل فص من فصوص المخ مثل الفص الأمامي المخصص لعملية الإنتباه Frontal Lobe و الفص الصدغي Temporal Lobe حيث زعم عالم الأعصاب Olaf Blake أن تحفيز هذا الجزء من المخ يخلق تجارب مشابهة لتجربة الإقتراب من الموت، تم ربطها بالأدوية المهلوسة مثل الكيتامين Ketamine ومادة DMT، تم القول أنها نتاج نشاط كهربي متبقي في المخ بعد توقف القلب بدقائق أو ثواني، إلا أن عالم النفس والأعصاب السلوكية Bruce Greyson وضح في ورقة [9] راجع فيها كل التفسيرات المادية المقترحة أنه ولا أي واحدٍ منهم يصلح لتفسير تجربة الإقتراب من الموت فمثلاً

– تجربة الإقتراب من الموت يمكن أن تحدث تحت الضغط النفسي Emotional Stress فهي يمكن أن تحدث بدون أن ينقطع الدم عن المخ إذًا يمكن إستبعاد تفسير أنها هلوسات تنتج بسبب إنقطاع الدم عن المخ.

– تجربة الإقتراب من الموت يمكن أن تحدث تحت تأثير التخدير العام الذي يوقف حركة العين السريعة إذًا يمكن إستبعاد تفسير حركة العين السريعة.

– الأدوية المهلوسة ونوبات الصرع والخلل في عمل فصوص المخ دائماً ما تكون مترابطة مع إحساس بخوف، وأوهام، وتفكير مشوش عكس ما يحدث في تجارب الإقتراب من الموت التفكير يكون واضح جدًا Lucid، ويكون هناك إحساس براحة وسلام Peacefulness، ويوجد في هذه التجارب أيضًا إدراكات واقعية Veredical Perceptions وليس أوهام وخيالات معنى الإدراكات الواقعية أنه يمكن لأشخاص موتى أي مصابين بسكتة قلبية وسكتة مخية أن يدركوا الأحداث الواقعية الحقيقية التي حصلت حول جسمهم الميت (مثلاً يدركون محادثات فريق الإنعاش والطريقة التي تم إنعاشهم بها ويحكونها للأطباء عندما يتم إنعاشهم) بل يوجد أشخاص يدركون أحداث حقيقية حصلت في الواقع في مكان بعيد عن جسمهم وحواسهم وهم في حالة لاوعي (مثلاً حدث في مكان آخر من المستشفى أو حدث خارج غرفة الإنعاش)  ووصفهم للأحداث يكون دقيق جدًا، فلا يمكن إعتبار وصف حدث حقيقي بدقة أنه هلوسة وتوهم، أيضًا الأوهام التي تنتج من الأسباب المذكورة أعلاه تحدث دائمًا والعين مفتوحة وتختفي عندما تغلق عينيك عكس تجارب الإقتراب من الموت تحدث وأنت مغلق العينين بشكلٍ عادي، وكل ما ذكر أعلاه يحتاج عمل المخ والقلب أساساً خلل في عمل فصوص المخ معناه أنه المخ ما زال يعمل، الدواء يحتاج دورة دموية حتي يجري في جسمك، نوبات الصرع معناها أن المخ ما زال يعمل يوجد حالات القلب والمخ فيها لا يعملان أساسًا سام بارنيا يعلق علي هذا ويقول في حالة السكتة القلبية لا يمكن أن تقول إن هذه هلوسات وأوهام المخ يخلقها بسبب خلل فيه كيف تدعي أن المخ يخلق هلوسة وهو لا يعمل أساسًا [10].

– أخيرًا يوجد من يقول أن النشاط الكهربي في المخ يستمر لدقائق بعد السكتة القلبية لكن كما وضح Bruce Greyson هنا [11] لا يمكن أن تجادل بهذا، لأن الوعي البشري حسب الفلسفة المادية هو ظاهرة إنبثاقية، فهو نتاج التفاعل بين أجزاء المخ المختلفة مع بعضها البعض في نفس الوقت، بمعنى آخر ليس أي نشاط كهربي من أي نوع يمكن أن ينتج وعي وتجارب شخصية يجب أن يكون هناك نشاط كهربي من نوع خاص نشاط بين كل أجزاء المخ بين القشرة المخية وجذع المخ والأعضاء الداخلية تحت القشرة المخية مثل الثالامس لو حصل والقشرة المخية مثلاً لم تعد تعمل وما زال جذع المخ والأعضاء تحت القشرة المخية في حالة عمل المفترض حسب الفلسفة المادية أن لا تكون واعيًا، لو جذع المخ توقف عن العمل والقشرة المخية ما زالت تعمل المفترض لن تكون واعيًا، فالنشاط الخاص اللازم وجوده لتكون واعٍ حسب الفلسفة المادية يتدمر بالسكتة القلبية، ففي حالة السكتة القلبية يستحيل أن تكون واعيًا، فما بالك بشخص وعيه يصبح أعلي من وعي الحياة العادية حيث كان قلبه ما زال يعمل، بل ويدرك أحداث واقعية حول جسمه الميت – ربما أشهر حالة هنا هي حالة المريضة Pam Reynolds التي بوصف الطبيب Michael Sabom لحالتها [12]

“she met all the accepted criteria for brain death and yet described accurately many specific and unexpected details of her surgery”

أي ”أنه تم تشخيصها بالموت المخي ومع ذلك وصفت بدقة أحداث حقيقية حصلت حول جسمها“ – وأحياناً أيضاً أشخاص يدركون أحداث حتي بعيدة عن حواسهم الفيزيائية وهم مثلاً تحت التخدير العام، أحداث ما كنت لتدركها وأنت حي لأنها بعيدة عن حواسك وفي مكان بعيد عن جسمك [13]،[14] بقايا نشاط مخي لا يمكن أن تفسر هذا.

لذلك وكما يقول سام بارنيا ملخصًا نتائج هذه الدراسات [15] أنها بإختصار تدعم الفلسفة الثنائية الإنسان (عقل + مادة) والعقل مترابط مع المادة فقط لكن ليس منتج منها، بعد الموت المادة (خلايا جسمك) ستتحلل طبيعياً لكن ذاتك أو عقلك لا يموت بتوقف هذه الخلايا عن العمل.

– السؤال الذي قد يأتي في ذهن أي شخص الآن إن كان المخ ليس هو ما يخلق العقل لمَ عندما يتأثر المخ تتأثر القدرات العقلية؟ الجواب بسيط لم ينكر أحد دور المخ في عمليات الوعي، لكن العلاقة بين المخ والوعي علاقة ترابط Correlation وليست تسبيب Causation، المخ ضروري لعمليات الوعي في العالم المادي لكن ليس هو ما ينتج أو يسبب هذا الوعي، ما يؤكد أن العلاقة بين المخ والوعي علاقة ترابط وليست علاقة تسبيب أنه كما يؤثر المخ في العقل البشري، العقل البشري (الأفكار، المشاعر، …) أيضاً يمكنه أن يؤثر في مادة وكيمياء المخ، الأدلة على هذا لا يمكن دحضها هذا الكلام مثبت بكثير من الأبحاث التجريبية، كتاب عالم الأعصاب والنفس Jeffery Schwartz العقل والمخ: الليونة العصبية وقوة القوي العقلية [16] فيه بعض من هذه الأبحاث، تأثير البلاسيبو Placebo Effect (عقلك يمكنه أن يؤثر في كيمياء مخك ويشفي جسدك من دون أن تأخذ دواء فيه مادة فعالة)، العلاج الإدراكي السلوكي Cognitive Behavioural Therapy (تغيير أفكارك وأسلوب حياتك) يغير من كيمياء المخ ومن نشاط الخلايا العصبية فيه، التأمل Meditation (تركيز حالتك العقلية في شيء معين) يغير من حجم الخلايا المخية ثبت أنه يزيد من حجم خلايا القشرة المخية ويؤخر شيخوختها، كيف يمكن للعقل أن يؤثر في خلايا المخ ومواده الكيميائية إن كان العقل ناتجٌ من المخ؟ هذا مثل القول أن ظل جسم معين يمكنه أن يؤثر في الجسم نفسه، فالعلاقة علاقة ترابط العقل يؤثر في المخ والعكس وليست علاقة تسبيب المخ يخلق العقل.

اقرأ ايضاً: الجلطة التي أنارت بصيرتها


[1] https://www.nature.com/articles/nrn783

 

[2] https://www.nyas.org/news-articles/academy-news/is-there-life-after-death/

 

[3] https://www.thelancet.com/journals/lancet/article/PIIS0140673601071008/fulltext

 

[4] https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0163834303000422?via%3Dihub

 

[5] https://www.resuscitationjournal.com/article/S0300-9572(00)00328-2/fulltext

 

[6] https://link.springer.com/article/10.1023/A:1015258818660

 

[7] https://www.resuscitationjournal.com/article/S0300-9572(14)00739-4/fulltext

 

[8] https://www.ahajournals.org/doi/10.1161/circ.140.suppl_2.387

 

[9] https://www.mdpi.com/2076-0787/4/4/775/htm

 

[10] https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0300957201004695

 

[11] https://psycnet.apa.org/record/2010-03251-005

 

[12] http://www.revistas.usp.br/acp/article/view/17128

 

[13] https://psycnet.apa.org/record/2000-16249-003

 

[14] https://iands.org/news/news/front-page-news/914-study-finds-nde-memories-are-not-of-imagined-events.html

 

[15] https://academic.oup.com/qjmed/article/110/2/67/2681812

 

[16] https://psycnet.apa.org/record/2002-18935-000

مقالات ذات صلة

‫4 تعليقات

  1. Pam Reynolds عادت من الموت الدماغي كيف؟ لتحكي تجربتها؟ كل المراجع الطبية تعرف الموت الدماغي علي أنه الفقدان الغير قابل للعكس لوظائف الدماغ، الشخص الذي يتم تشخيصه بالموت الدماغي قانونيا وطبيا ميت ولا يمكن إرجاعه مرة أخري، انا لست معترض علي محتوي المقال ككل، لكن لتكون أكثر دقة يجب أن تقول أنه من الناحية ((الوظيفية)) الموت الاكلينيكي (توقف القلب) مشابه للموت الدماغي الفعلي في الحالتين الدماغ لا يعمل لكن في الحالة الأولي خلايا الدماغ لم تتدمر بطريقة غير قابلة للعكس لما تعيد تشغيل القلب الدماغ يرجع للعمل مرة أخري أما في الحالية الثانية فالخلايا تدمرت بطريقة غير قابلة للعكس ولا يمكن الرجوع منها، وبالفعل وجود وعي أثناء الموت الإكلينيكي في فترة الدماغ لا يعمل فيها بتحدي المادية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى