عام

مأزق الطالب الفوضوي – من العناء إلى الفناء

  • تحرير: عبد الرحمن بن سليمان الميمان

كان همَّام على وشك التخرج من المرحلة الثانوية، وتقاطرت عليه النصائح من كل جانب، لكنَّ أستاذ حلقته أشار عليه باستشارة شيخ معروف ليرسم له مستقبله الدراسي.

التقى همَّام بالشيخ فكان أن نصحه بدخول كلية الشريعة، عسى أن يكون أحد علماء الأمة.

تقبَّل همَّام النصيحة، وسلَك نفسه في عِداد طلاب الشريعة.

ثم بدأ يتلقَّى نصائح المشايخ التي تصوغ بواكير مفاهيمه حول التراتيب العلمية، وكان النصيب الأوفى لأستاذ الفقه الذي ركَز في نفسه (وجوب الانتصار للدليل، ونبذ التقليد)، مع تزييف تقريرات المؤلف بترجيح ما اختاره المحقِّقون!

انضوى همَّام تحت لواء شيخه الترجيحي، وهو يتربَّص بنفسه مليًّا لينقذ المسلمين من وطأة التقليد الجاثمة على صدورهم، ويستنقذهم من الركون إلى أقوال المذهب التي لا دليل عليها!

حلَّت الإجازة الصيفية وأُذيع إعلانٌ عن برنامج للقراءة في تفسير ابن كثير، استهوى همَّامًا هذا الاسم الذي مرارًا لامس جدار الذاكرة.

جدَّ واجتهد وواصل ليله بنهاره ليحقق الحلم الأنيق بقراءة ذلك الكتاب الجليل، ولم تَحِن ساعة الوداع من الإجازة إلا وهو يطوي الصفحات الأخيرة من الكتاب، مع شعور بالامتلاء المعرفي، والثقة بالإنجاز.

عادت مراكب الدراسة إلى سيرتها الأولى، لكن شيخ الفقه الجديد أبدى رأيًا جديدًا في الطلب، فأشاع بين طلابه أن كل طالب لا يحفظ المتن فهو كالمنبَتِّ لا أرضًا قَطَع، ولا ظَهرًا أبقى.

استسْمَنَ همَّام رأي شيخه، ورأى فيه أصالةً وجزالة، وصوَّب همَّه إليه، وصارت الأيام تمتحن بَأْسه الشديد في الصبر على لَأْواء التكرار والمراجعة، وسواري المسجد ألفتْ هَمْهَمَتَه وتَمْتَمَتَه بألفاظ المتن وهو يبلوها تجويدًا وتشييدًا.

وفي ليلة غاب حبيبها وفُقد طبيبها وقد وهن عظمُ الجدِّ من همَّام، لقي شيخًا ذا وقار ومهابة، ألقى إليه همَّام بالسلام، وفاتحه بالكلام، وباح له بما يعتلج في نفسه، تجاه المتن الذي طالما أقعى بين يديه، وشخَص أمام عينيه.

نكَّس الشيخ رأسه مُطرِقًا، ثم رفع رأسه بتثاقُل، وقرَّر بثقةٍ أنَّ الفهمَ أولى مِن الحفظ، وأنَّ العبرةَ بالدليل، وحِفْظُ كلامِ الرجالِ اشتغالٌ عن الوحي المطهَّر!

أفاق همَّام على أزيز هذا التوجيه الذي أباد خَضْرَاءه، وكسَف سماءه، بعدما كان نصَب خيمته في فناء المتن فصلًا حافلًا.

تحيَّر همَّام ساعةً من نهار، ورأى نفسه عالقًا في مضيقٍ غير سالك، استجار بأحد مشايخه من رَمْضَاء الحيرة وعانقه بالسؤال الشهير: “كيف أطلب العلم؟”

استجمع الشيخ أطراف جسمه، وانطلق يُقرِّر الكتبَ المهمة التي لا يستغني عنها طالب العلم، وكيف يُؤسِّس مكتبته على ربوة ذات قرار ومعين.

استطاب همَّام فكرة المكتبة، واستجاد تأسيسها في بيت أبيه المُقْفِر منها، وجعل يتخيَّل مدى انتفاع الناس بها على تَعاقُب الأجيال، وعرَف من الشيخ أسماء بعض الكتب وأنكر بعضها، وطَفِقَ يخصِفُ على غرفته مِن تفاريق الشروح، وأنواع الكتب، وطريف المطبوعات، وكلما سافر إلى أهله استصحب جملةً منها؛ ليأنس بها مدة مقامه عندهم، ويُخفف بها عن كاهل غرفته التي صار الهواء يتزاور عنها ذات اليمين والشمال.

أصبحت غرفة همَّام في مسكنه الجامعي مَبْعَث سَلْوَته، ومَدْفَن وَحْشَته، وربما دعا بعض أصحابه وأحبابه إليها ليتذوَّقوا مشاشةَ النعيم المعجَّل.

ذاتَ يوم لقي همَّام أحد شيوخه فدعاه لزيارته، فاستجاب، أكرمه همَّام، ثم طوَّف به على كتبه التي طرَّز بها حيطان غرفته، وقصَّ عليه ما علَق بكل كتاب مِن حكاية ورواية.

انعقد حاجب الشيخ مدهوشًا مِن معرفة الطالب الصغير بما فاق به شيخه، لكنه مهَر زيارته بنصيحة بيَّن فيها أنَّ همَّامًا الهائم بالكتب ورَّاقٌ مثقفٌ وليس بطالب علم!

وَالَى الشيخُ مَقَامِعَه على رُوح همَّام حتى لم يبقَ فيها ذرَّةٌ مع أختها، وأدرك همَّام أنَّ للعلم أصولًا هي أولى ما عُني بها طالب العلم، ونبَّه الشيخُ تلميذه إلى أن المَسْلَكَ الرشيد في الطلب هو دراسة متون المبتدئين، لكن محلَّها المعاهد العلمية، وهمَّام قد أفلس منها، فهي ثغرة في بنائه، وثلمة في إنشائه.

لَمْلَمَ همَّام نثائر رُوحه قبل أن تَذْرُوها الرياح، وهو يُحدُّ النظر إلى كتبه التي اتخذ منها جليسًا وأنيسًا، واختار لنفسه أن يستدرك ما تبقى من مدة الدراسة الجامعية، فالتحق بدورة لدراسة المتون وضبط شروحها، فكان لكل شيخ طريقته التي يرتضيها، والعبرة -كالعادة- بالبركة لا بالترتيب!

قرَّت نفسُ همَّام للبناء التأصيلي، وفتَح عينيه على أصول العلم ومبادئه التي عزَّ ناصرها، ومات ثائرها، حتى تخرَّج همَّام وذاكرته زاخرة بالمسائل والدلائل، وخزانته موفورة بالنفائس والذخائر.

انكفأ همَّام منعطفًا إلى مَنَابِته الأولى ليحقِّق عزائمَ عقَدها، ومغانمَ في نفسه زوَّرها، وصار تخرُّجه محلَ حفاوةِ أهله، ومَثَارَ سرورهم وحُبورهم.

وكلما استدار محفل صار همَّام هالته، يكرُّ بهم ويفرُّ وهو يتحدث عن عناء العلم، وجفاء الغربة، وما جرى له فيها من بؤس مقيم، وشعور أليم.

واستروح همَّام إلى أنه أضحى في مَأْمَنٍ مِن أسئلة الطلب الفاقرة، لكن الحال كما قال أبو الطيب (وسوى الرومِ خلف ظهرك رومُ)، فقد اهتز همَّام لتحطم طعنة نجلاء تلقاها بصدر عارٍ، وظهر مكشوف، حينما سأله صاحب له: (لم أرَ لحفظ القرآن في حديثك أثرًا، ولا لضبط مذهبك الفقهي خبرًا)!

تهاوَتْ مفاخِرُ همَّام، ونقَّب عن شيخ يفزع إليه ليجتاز مأزقه الأخير، فلم يجد أبرَّ مِن ذلك الشيخ الذي دلَّه على العلم الشرعي، بحث عنه فلم يجده، سأل عنه فقيل: (قطع مجالسه العلمية، وسافر ليعمل في مهنة المحاماة)[1]!


* قصة همام رمزية تشبه الواقع ولا تنتسب لبطل حقيقي.

[1] – كثير ممن راجعوا المقالة قبل نشرها نصحوا بكتابة أخرى تذكر الدواء، فكانت هذه المقالة على الرابط التالي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى