عام

جميعنا حمقى واثقون

مشكلة الجهل أنه يعطي شعورًا بالخبرة، باحث في سيكولوجيا الخطأ البشري يضع الجهل في مكانه الصحيح

  • ديفيد دانينغ
  • ترجمة: ريم الشمري
  • تحرير: محمد صلاح إدريس

في شهر مارس الماضي خلال المهرجان الموسيقي الضخم “South by Southwest” في أوستن، تكساس قام برنامج الحوار المسائي الساهر “Jimmy Kimmel Live!” بإرسال طاقم تصوير ليقوم بالتقاط محبّي الموسيقى السطحيين وهم يتظاهرون بما لا يعرفونه. قال كيمل لجمهوره في الأستوديو “يفخر الذين يحضرون المهرجانات الموسيقية بمعرفتهم المغنّين الذين سيؤدون لاحقًا خلال المهرجان حتى وإن كانوا في الحقيقة لا يعلمون من هم المغنون الجدد”. قام مضيف البرنامج بجعل طاقم التصوير يسأل حضور الحفل عن آرائهم عن فرق موسيقية ليس لها وجود في الحقيقة.

أخبر أحد مذيعي الطاقم رجلًا ذا نظارات سوداء عريضة وقميص غريب الطابع “إنه من أكثر المغنين ضجة مؤخرًا، إن اسمه كونتاكت ديرماتايتس (وهو اسم مرض التهاب الجلد الالتماسي). هل باعتقادك أنه يمتلك ما يلزم كي يصل إلى الشهرة؟”

“بالتأكيد” هكذا رد المُعجب المنتشي.

يشكل هذا المقلب جزءًا من فقرة دورية باسم ” Lie Witness News” حيث يتم سؤال المشاة في الشارع أسئلة مختلفة أساسها كذبة لا وجود لها. في حلقة أخرى، قام طاقم تصوير البرنامج بسؤال المشاة على شارع هوليوود بوليفارد إذا ما يرون أن فيلم “جودزيلا 2014″ غير مراعٍ للناجين من هجمة السحلية الضخمة في 1954 على طوكيو. في سؤالهم الثالث، سأل الطاقم إذا ما كان بيل كلينتون يحصل على ما يستحقه من التقدير لإنهائه الحرب الكورية، وإذا ما كان ظهوره كحكم في برنامج ” America’s Got Talent”[وهو ما لم يحدث قط] يضر باسمه؛ أجابت امرأة على السؤال الأخير بـ “لا، بل سيجعله أكثر شعبية”.

لا يمكن للمرء إلا وأن يتعاطف مع من يقع فريسة لفخاخ كيمل. تجد البعض مستعدا لأن يقول أي شي أمام الكاميرا ليخفي جهله عن الموضوع المتناول (والذي بالطبع يعطي أثرًا عكسيًا). وتجد البعض الآخر متلهفًا للإرضاء، غير راغبين بخذلان المقدم، مقدمين بذلك أكثر الإجابات ملاءمة ومللًا في الوقت نفسه: لا أعلم. ولكن بالنسبة لبعضٍ من الناس قد يكون الفخ أكثر عمقًا. غالبًا ما يعتقد أكثر المشاركين ثقة بأن لديهم خلفية ما عن الموضوع— كما لو أن هنالك معلومة ما أو ذكرى ما أو نوعًا ما من الحدس الذي يؤكد لهم أنّ إجابتهم منطقية.

مرة أخرى قام طاقم البرنامج بالتحدث إلى إمرأة شابة متّزنة الهيئة ذات شعرٍ بني: “ماذا سمعتِ عن فرقة Tonya and the Hardings ؟، هل سمعتِ بأنهم شديدي اللهجة نوعا ما؟” غير منتبهة للتلاعب اللفظي،([1]) بدأت المرأة في إعطاء ردٍ مطول عن هذه الفرقة الخيالية. “نعم، يتحدث الكثير من الرجال عنهم مؤخرًا معبّرين عن إعجابهم الشديد بهم، لا يميلون العادة إلى الفرق النسائية لكن الفرقة تقوم بإيصال رسالة واضحة”. من نسج خيالها، تمكنت المرأة أن تحيك مراجعة ناقدة لفرقة موسيقية غير موجودة وبتضمين حقائق مفصلة: بأنهم حقيقيون وأنهم نساء (أو ربما لا، كون مارلين مانسون وأليس كوبر ليسوا كذلك) وأنهم فرقة قوية محطمة للقيود.

بلا شك أن منتجي برنامج كيمل يتخيّرون المقابلات الأكثر إثارة للضحك لبثّها. لكن برامج التلفاز الساهرة ليست المكان الوحيد الذي تجد فيه الناس يرتجلون في مواضيع لا يعرفون أي شيء عنها. في الحدود الأكثر جدية لمختبر بحثي في جامعة كورنيل، قام علماء النفس ستاف اتير وايملي روزنزويج وأنا بإجراء بحث مستمر يكافئ نسخة مراقبة بدقة ببهرجة أقل عن فقرة جيمي كيمل. في عملنا، نسأل المشاركين في الاستطلاع عما إذا كانوا على دراية بمفاهيم تقنيّة معينة من الفيزياء والأحياء والسياسة والجغرافيا. ادعى عدد لا بأس به الإلمام بمصطلحات حقيقية كقوة الجذب المركزي والفوتونات. ولكن المثير للاهتمام أنهم كذلك يدّعون إلمامهم بمفاهيم مختلقة بالكامل مثل الانزياح الظاهري للأجرام السماوية parallax، والدهون الفوقية ultra-lipid والكولارين. في إحدى الدراسات، ادعى 90 بالمئة معرفتهم بواحدة على الأقل من المفاهيم التسعة المختلقة التي سألناهم عنها. في حقيقة الأمر أنه كلما اعتبر المشاركون أنفسهم ضليعين بموضوع عام، زاد إلمامهم المدّعى بمصطلحات لا معنى لها مرتبطة بهذا موضوع في الاستطلاع.

من الغريب رؤية الناس الذين يدّعون امتلاكهم خبرة في السياسة يؤكدون معرفتهم بكلً من سوزان رايس (مستشارة الأمن القومي للرئيس أوباما) ومايكل ميرينجتن (مجموعة من الأحرف لطيفة على السمع، ولا يوجد سياسي بهذا الاسم). لكن الأمر ليس بمفاجئ. فقد أجريت أبحاث لأكثر من 20 سنة حول مدى فهم الناس للخبرة التي يمتلكونها والتي كانت تعرف سابقًا رسميًا بـ”ما بعد المعرفة metacognition “: مجموعة العمليات التي ينظم من خلالها البشر معارفهم والتفكير المنطقي والتعلم. كانت النتائج بشكل ثابت داعية للتفكر، ومضحكة من حينٍ لآخر، وغير مملة على الإطلاق دائمًا.

كتب المؤلف الأمريكي المأثور ويليام فيذر ذات مره أن كونك شخص متعلم يعني “قدرتك على التمييز بين ما تعرفه وما لا تعرفه”. وكما اتضح الأمر، هذا المفهوم النبيل البسيط ليس من السهل تحقيقه أبدا. على الرغم من أن ما نعرفه يمكننا إداركه غالبًا بسهولة إلا أن الحدود العريضة لما لا نعرفه غالبًا ما تكون خفية بالكامل. إننا نفشل لحدٍ كبير في التعرف على نطاق جهلنا.

في عام 1999 في مجلة الشخصية وعلم النفس الاجتماعي، قمنا أنا وأحد طلابي في الدراسات العليا آنذاك بنشر ورقة بحثية وثّقت كيف أن الأشخاص غير الأكفاء لا يدركون -بل لا يقدرون على إدراك- إلى أي درجة يتسمون بعدم الكفاءة في العديد من مجالات الحياة والتي تشكل ظاهرة أصبحت تعرف بـتأثير دنينغ-كرغر (the Dunning-Kruger effect). يتطلب المنطق نفسه هذا النقص في تبصر الذاتي: حتى يدرك أصحاب الأداء الضعيف عدم كفاءتهم يتطلب منهم امتلاك الخبرة ذاتها التي يفتقرون إليها. حتى يتسع لك معرفة ما إذا كنت متمكنا أو غير متمكن في استخدام قواعد النحو، على سبيل المثال، يتوجب عليك أولًا أن تمتلك معرفة عملية بهذه القواعد، الأمر المستحيل بين غير الأكفاء. يفشل أصحاب الأداء الضعيف -جميعنا أصحاب أداء ضعيف في أمر ما- في رؤية خلل في تفكيرهم أو الأجوبة التي يفتقدونها.

العجيب في الأمر هو في كثيرٍ من الحالات، لا يدفع نقص المعرفة أو عدم الكفاءة الناس إلى حالة من التشوش أو الارتباك أو الحذر؛ بل إن عديمي الكفاءة غالبًا ما ينعمون بثقة بلهاء في قدراتهم، معتمدين على ما يبدو لهم بأنه معرفة.

هذه ليست بنظرية تجريدية تنقصها الأدلة؛ لقد أثبتت مجموعة كاملة من الدراسات التي أجريتها أنا وآخرون أن الذين ليس لديهم الكثير من المعرفة حول مجموعة من المهارات الإدراكية أو التقنية أو الاجتماعية يميلون إلى المبالغة في تقدير براعتهم وأدائهم، سواء كان الأمر متعلقا في التزامهم بقواعد النحو أو ذكائهم العاطفي أو التفكير المنطقي أو ما يخص الأسلحة النارية والسلامة أو النقاش أو المعرفة المالية. يميل طلبة الجامعة الذين يسلمون أوراق الامتحان التي تستحق درجة D وF إلى الاعتقاد أن جهودهم تستحق درجات أعلى. لاعبو الشطرنج ذوو الأداء المنخفض ولاعبو البريدج وطلاب الطب وكبار السن الذين يتقدمون لتجديد رخصة القيادة يبالغون بالمثل في تقدير كفاءتهم لدرجة كبيرة.

من حين لآخر يمكن للمرء أن يرى هذه النزعة في أشدّها في النطاق الواسع للتاريخ. من بين أسبابٍ عديدة، دفع تداعي الفقاعة العقارية الذي أجّجته مكائد الممولين وجهل المستهلكين إلى الانهيار المالي المعروف في عام 2008. تشير الأبحاث الحديثة إلى أن الجهل المالي للأمريكيين يعد أحد أنواع الثقة التي ليست في محلها. في عام 2012، طلب دراسة القدرة المالية الوطنية التي أجرتها هيئة تنظيم الصناعة المالية (مع وزارة الخزينة المالية الأمريكية) ما يقرب من 25000 مشارك لتقييم معرفتهم المالية، ثم انتقلوا إلى قياس المعرفة المالية الفعلية لديهم.

حوالي 800 من المستجيبين الذين قالوا إنهم قدموا إفلاسهم خلال العامين الماضيين أدوا بشكل مؤسف في الاختبار، من ضمن 37 بالمئة كمتوسط. رغم ذلك كانوا قد قيّموا معرفتهم الكلية أعلى وليس أقل مقارنة بالمشاركين الآخرين. كان الفارق بسيطًا ولكن لا مجال للشك عند الإحصاءات: فهناك 23 بالمئة من الذين أفلسوا مؤخرًا أعطوا انفسهم التقييم الأعلى على الإطلاق. فقط 13 بالمئة من بين البقية قاموا بنفس الأمر. لماذا كل هذه الثقة بالنفس؟ مثل ضحايا جيمي كيمل، المشاركون المفلسون كانت لديهم حساسية تجاه قول “لا أعلم”. بشكل واضح، كان المفلسون أكثر ميلًا لادعاء وجود خطأ عندما يخطئون في الإجابة عن سؤال بنسبة 67% عن باقي المشاركين. ومن ثم، بعقلٍ مليء بالـ”المعرفة”، اعتبروا معرفتهم المالية في أتم حال.

كونه من السهل جدًا الحكم على غباء الآخرين، قد تجده مغريًا أن تعتقد أنه لا ينطبق عليك. ولكن مشكلة الجهل غير المُدرك تضربنا جميعًا. وعلى مر السنين، أصبحت مقتنعًا بحقيقة أساسية شاملة عن العقل الجاهل: لا يجب عليك النظر إليه كعقل بلا دراية، بل على الأرجح يجب أن تنظر إليه كعقل ذي معلومات خاطئة.

العقل الجاهل على وجه التحديد ليس وعاءً فارغًا أو صفحة بيضاء، بل هو وعاء مليء بفوضى التجارب الحياتية والنظريات والحقائق والبديهيات والاستراتيجيات والخوارزميات والاستدلالات والاستعارات والأحاسيس التي ليس لها أهمية أو مضللة والتي للأسف لها ملمس ومظهر المعرفة الدقيقة والمفيدة. هذه الفوضى هي نتيجة ثانوية مؤسفة لواحدة من أعظم نقاط قوة النوع البشري. نحن بطبيعتنا نميل للإيجاد والتعرف على الأنماط بشكل عارم وننظّر الأمور بشكل مسرف. غالبًا ما تكون نظرياتنا جيدة بما يكفي لنتعامل مع الأمور الأساسية، أو على الأقل إلى أن نصل لعمر يمكننا فيه الإنجاب. لكن عبقريتنا في رواية القصص الإبداعية، جنبًا إلى جنب مع عدم قدرتنا على اكتشاف جهلنا، يمكن أن تؤدي في بعض الأحيان إلى مواقف محرجة أو مؤسفة أو خطيرة تمامًا — خاصة في مجتمع ديمقراطي معقد ومتقدم تقنيًا يستغل أحيانًا المعتقدات الشعبية الخاطئة للحصول على قوة مدمرة هائلة (كمثال: الأزمة المالية، الحرب في العراق). كما قال الفكاهي جوش بيلينغز ذات مرة: “ليس ما لا تعرفه هو الذي يوقعك في المشاكل، بل ما تعرفه”. (ومن المفارقة أن أحد الأشياء التي “يعرفها” الكثير من الناس حول هذا الاقتباس هو أنه قيل لأول مرة من قبل مارك توين أو ويل روجرز).

بسبب طريقة بنائنا وبسبب الطريقة التي نتعلم بها من بيئتنا، نحن جميعًا محركات للاعتقاد الخاطئ. وكلما فهمنا بشكل أفضل كيف يعمل محركنا البدائي المليء بالأخطاء كان بإمكاننا -كأفراد وكمجتمع- تسخيره نحو فهم أكثر موضوعية للحقيقة.

 

وُلِدتَ لتخطئ

تعود أعمق نتائج حدسنا إلى المهد. قبل عيد ميلادهم الثاني، يعرف الأطفال أنه لا يمكن لجسمين صلبين الوجود في نفس المكان. يعرفون أن الأشياء تستمر بالوجود حتى عندما لا ينظرون إليها، وأنها تقع إذا لم يتم إمساكها. يعلمون أنه يمكن للناس الوقوف والحركة ككائنات مستقلة بينما جهاز الحاسب على المكتب ليس بإمكانه فعل ذلك. لكن ليس جميع نتائج حدسنا المبكر سليمة.

يحمل الأطفال الصغار معتقدات خاطئة ستظل معهم، إلى حد ما، بقية حياتهم. يتسم تفكيرهم، على سبيل المثال، بميل قوي إلى إسناد مختلف الغايات والوظائف والنوايا بشكل خاطئ للكائنات الحية. في عقل الطفل، أهم جانب بيولوجي لدى الكائن الحي هو الدور الذي يلعبه في جميع أشكال الحياة. عندما تسأله لماذا توجد النمور، سيأكد لك الطفل أنهم موجودون “لكي يعيشون في حديقة الحيوانات”.عندما تسأله لماذا تنتج الشجار الأوكسجين، سيقول الطفل إنهم يفعلون ذلك لكي يسمحوا للحيوانات بالتنفس.

سيحاول أي شكل من أشكال التعليم التقليدي في البيولوجيا أو العلوم الطبيعية التصدي لهذه النزعة للمنطق القائم على الغائية. لكن في حقيقة الأمر لا تتركنا هذه النزعة أبدًا. يظهر البالغون ذوو التعليم المحدود تحيزًا مشابها. يبدأ حتى العلماء المحترفون في ارتكاب أخطاء بمنطق قائم على الغائية عندما يكونون على عجلة من أمرهم. أثبتت عالمة النفس في جامعة بوسطن ديبورا كليمين وبعض الزملاء ذلك في دراسة تضمنت 80 عالماً -أشخاص يعملون في وظائف جامعية في علوم الأرض والكيمياء والفيزياء- بتقييم مئة عبارة مختلفة تتعلق بـ”سبب حدوث الأشياء” في العالم الطبيعي، إذا ما كانت صحيحة أو خاطئة. أعطوا بعضًا من العبارات الخاطئة كـ”تتشكل الطحالب حول الصخور من أجل وقف تآكل التربة” و”تحتوي الأرض على طبقة أوزون لحمايتها من الأشعة فوق البنفسيجية.” سُمح للمشاركين في الدراسة بأداء المهمة إما على وتيرتهم الخاصة أو بإعطائهم 3.2 ثانية للإجابة على كل سؤال. تسبب استعجال العلماء في مضاعفة تأييدهم للتفسيرات الخاطئة القائمة على غاية معينة من 15 إلى 29 في المئة.

يتسبب هذا المفهوم الخاطئ الذي تحركه الغاية في إحداث فوضى في محاولات تدريس أحد أهم المفاهيم في العلم الحديث: نظرية التطور؛ حتى الأناس العاديون الذين يشيدون بالنظرية يؤمنون بنسخة خاطئة منها، حيث إنهم ينسبون مستوى من الذاتية والتنظيم غير موجود في التطور. إذا سألت العديد من الأشخاص العاديين عن فهمهم لماذا، على سبيل المثال، يمكن للفهود الركض بهذه السرعة، فسوف يشرحون لك أن السنوريات رأت، تقريبًا كمجموعة، أنه يمكن لها أن تصطاد المزيد من الفرائس إذا كان بإمكانها الركض بشكل أسرع، بالتالي امتلكوا تلك الصفة ونقلوها لأشبالهم. إن التطور، من هذه النظرة، عبارة عن لعبة فصائل استراتيجية.

تغفل هذه الفكرة عن التطور الدور الأساس الذي تلعبه الفروق الفردية والتنافس بين أفراد نوع ما استجابة للضغوط البيئية: الفهود الفردية التي يمكنها الركض بشكل أسرع تصطاد المزيد من الفرائس، وتعيش لفترة أطول، وتتكاثر بنجاح أكبر بينما تخسر الفهود الأبطأ وتموت تاركة الفصيلة تختفي حتى تصبح الفصيلة أسرع بشكل عام. التطور هو نتيجة الفروق العشوائية والانتقاء الطبيعي، وليس الذاتية أو الاختيار الغائي.[2]

لكن من الصعب التصدي لهذا الاعتقاد بقالب “الذاتية” لنظرية التطور. في حين أن تثقيف الناس حول التطور يمكن أن يقودهم بالفعل من كونهم لا يملكون أي معرفة إلى امتلاكهم معرفة جيدة. في بعض الحالات المستعصية ينقلهم إلى فئة الواثقين ذوي معلومات خاطئة. في عام 2014، نشر توني ييتس وإدموند ماريك دراسة تتبعت تأثير دروس علم الأحياء في المدرسة الثانوية على فهم 536 طالبًا للنظرية التطورية في مدرسة ثانوية أوكلاهوما. تم اختبار الطلاب بدقة حول معرفتهم بالتطور قبل دراستهم مقدمة للأحياء ثم مرة أخرى بعد الانتهاء مباشرة. ليس من المستغرب أن ثقة الطلاب في معرفتهم بنظرية التطور ارتفعت بعد التعلم، وأيدوا عددًا أكبر من العبارات الدقيقة. حتى الآن، الأمر يسير على ما يرام.

المشكلة هي أن عدد المفاهيم الخاطئة التي أيدتها المجموعة قد ارتفع أيضًا. على سبيل المثال، تسبب تعليمهم في ارتفاع النسبة المئوية للطلاب الذين يوافقون بشدة على العبارة الحقيقية “لا يمكن للتطور أن يتسبب في تغيير سمات الكائن الحي خلال حياته” من 17 إلى 20 بالمئة. لكنه تسبب أيضًا في ارتفاع نسبة المعارضين بشدة من 16 إلى 19 بالمئة. رداً على عبارة صحيحة أخرى: “التباين بين الأفراد مهم لحدوث التطور”، أدى التعرض للتعليمات إلى زيادة موافقتهم الشديدة للعبارة من 11 إلى 22 بالمئة، لكن الاختلاف الشديد ارتفع أيضًا من 9 إلى 12 بالمئة. بشكل بائن، كان الرد الوحيد الذي انخفضت نسبته بشكل موحد بعد التعلم هو “لا أعلم”.

وليس فقط موضوع التطور هو ما يشوش الطلاب. مرة تلو الأخرى، تجد الأبحاث أن الممارسات التعليمية التقليدية تفشل بشكل كبير في التخلص من عدد من معتقداتنا التي نشأت في المهد. يفشل التعليم في تصحيح الأشخاص الذين يعتقدون أن الرؤية أصبحت ممكنة فقط لأن العين تبعث بعض الطاقة أو المادة إلى البيئة المحيطة. يفشل في تصحيح الأفكار الشائعة حول مسار الأجسام الساقطة. كما أنه فشل في إبعاد الطلاب عن فكرة أن الضوء والحرارة يعملان بموجب نفس قوانين المواد. يبدو أن ما يفعله التعليم في الواقع هو إعطائنا الثقة في الأخطاء التي نحتفظ بها.

 

سوء تطبيق القواعد

تخيل أن الرسم التوضيحي أدناه يمثل أنبوبًا منحنيًا يقع أفقيًا على طاولة:

في دراسة لفيزياء الحدس في عام 2013، عرضت أنا وإليناور ويليمز وجستن كروقر لمجموعة من الناس عدة اختلافات لصورة أنبوب منحني وطلبنا منهم تحديد المسار الذي ستنحني منه الكرة (معلّم في الرسم التوضيحي بـ أ و ب و ج) بعد ما تعبر من خلال كلٍّ من الأنابيب. حصل بعض الناس على علامة كاملة بدوا على دراية بذلك كونهم واثقين بأجوبتهم. البعض الآخر أدى بشكل أقل وعلى نفس الوتيرة، بدوا على دراية بذلك كون ثقتهم كانت منخفضة.

ولكن شيئًا مثيرًا للاهتمام بدأ يحدث ما إن بدأنا النظر في نتائج الناس الذين كان أداؤهم سيئًا للغاية في اختبارنا الصغير. قد تكون قادرًا على التنبؤ بذلك الآن: أبدى هؤلاء الناس ثقة أكبر وليست أقل في أدائهم. في الواقع، الأشخاص الذين لم يجيبوا عن أي منها بشكل صحيح غالبًا ما أبدوا ثقة تماثل ثقة الأشخاص المتصدرين. بالفعل، أنتجت هذه الدراسة أكثر مثالًا مذهلًا قد رأيناه لتأثير دنينغ-كروجر: عندما تنظر لثقة الأشخاص الذين حصلوا على 100% مقابل الأشخاص الذين حصلوا على 0%، تجد على الأغلب من المستحيل التفريق بين من ينتمي لأي من الفريقين.

لماذا؟ لأن كلا الفريقين كان “يعرف أمرًا ما.” كانوا على علم أن هنالك قاعدة صارمة وثابتة يجب على المرء اتباعها للتنبؤ بمسارات الكرات. كانت إحدى المجموعات على دراية بقانون نيوتن الصحيح: أن الكرة ستستمر في الاتجاه الذي تتبع ما إن غادرت الأنبوب والذي هو مسار ب، كونها غير مقيدة بالأنبوب ستستمر بشكل مستقيم.

الأشخاص الذين أخطؤوا في كل مرة أجابوا عادةً أن الكرة ستتبع مسار أ. في أساسها، كانت قاعدتهم قائمة على أن الأنبوب سيؤثر بانحنائه على مسار الكرة والذي سيستمر في تأثيره حتى عند خروجها. من الواضح أن الإجابة غير صحيحة لكن عددًا من الناس أيدوها.

هؤلاء الناس يملكون صحبة طيبة. في عام 1500 ما بعد الميلاد، كانت إجابة المسار أ لتكون مقبولة بين المحنكين المهتمين بالفيزياء. أيد هذه الإجابة كلٌ من ليناردو دي فينشي والفيلسوف الفرنسي جان بوردان. وتبدو في الواقع منطقية. قد تفسر نظرية الزخم الزاوي الألغاز اليومية الشائعة، كسبب استمرار دوران العجلات حتى بعد توقف شخص ما عن دفع العربة أو سبب استمرار الكواكب في مداراتها الضيقة والمنتظمة حول الشمس. مع حصولنا على “تفسيرات” هذه الأسئلة، إنه لمن السهل أن نقوم بنقل هذا التفسير إلى أسئلة أخرى كتلك المتعلقة بالأنبوب.

ما توضحه هذه الدراسة هو طريقة عامة أخرى – بالإضافة إلى أخطائنا الموجودة معنا من المهد- التي من خلالها ما يولّد البشر المعتقدات الخاطئة في كثيرٍ من الأحيان. إننا نقوم باستيراد المعرفة من إعدادات مناسبة إلى إعدادات تكون فيها غير مناسبة.

إليك مثالًا آخر: وفقًا لبولين كيم، الأستاذة في كلية الحقوق بجامعة واشنطن، يميل الناس إلى تقديم استنتاجات حول القانون بناءً على ما يعرفونه عن الأعراف الاجتماعية العاميّة. يؤدي ذلك في كثير من الأحيان إلى إساءة فهم حقوقهم، وفي مجالات مثل قانون العمل، يؤدي إلى المبالغة في تقديرها بشكل كبير. في عام 1997، قدم كيم لحوالي 300 من سكان بوفالو، نيويورك، سلسلة من السيناريوهات المُدانة أخلاقيًا لمكان العمل. على سبيل المثال، طُرد موظف لإبلاغه أن زميلًا في العمل كان يسرق من الشركة – والتي كانت مع ذلك قانونية بموجب نظام التوظيف “حسب الرغبة” (at-will) للدولة. أشار 80٪ إلى 90٪ من البوفالونيين بشكل غير صحيح على أن هذه السيناريوهات الكريهة غير قانونية، كاشفين عن مدى ضآلة فهمهم لمدى الحرية التي يتمتع بها أصحاب العمل في إقالة الموظفين. (لماذا هذا مهم؟ دافع الباحثون القانونيون منذ فترة طويلة عن قواعد توظيف “حسب الرغبة” على أساس أن الموظفين يوافقون عليها بأعداد كبيرة دون السعي للحصول على شروط توظيف أفضل. ما أظهره كيم هو أن الموظفين نادرًا ما يفهمون ما يعطون الإذن له.)

الأطباء كذلك، على دراية تامة بمشكلة نقل المعرفة بشكل غير لائق في تعاملهم مع المرضى. في كثير من الأحيان، ليست الحالة الطبية نفسها هي ما يحتاجه الطبيب للهزيمة، بقدر ما هي المفاهيم الخاطئة لدى المريض التي تحميها. غالبًا ما يرفض المرضى المسنون، على سبيل المثال، اتباع نصيحة الطبيب لممارسة التمارين الرياضية لتخفيف الألم – إحدى أكثر الاستراتيجيات المتاحة فعالية- لأن الألم الجسدي وعدم الراحة الذين يشعرون بهما عند ممارسة الرياضة هو أمر يربطونه بالإصابة والتدهور. وجد البحث الذي أجراه الخبير الاقتصادي السلوكي سينديل مولايناتان أن الأمهات في الهند غالبًا ما يحجبن الماء عن الرضّع المصابين بالإسهال؛ لأنهم يتصورون خطأً أن أطفالهم عبارة عن دلاء متسربة، بدلاً من كونها مخلوقات تعاني من الجفاف بشكل متزايد وفي حاجة ماسة إلى الماء.

 

التفكير المؤدلج

لا تنشأ بعض معتقداتنا الخاطئة الأكثر عنادًا من الحدس الطفولي البدائي أو أخطاء ناتجة عن إهمال بل من ذات القيم والفلسفات التي تحدد من نحن كأفراد. كل منّا يملك معتقدات جوهرية معيّنة -صور عن ذاتنا، أفكار عن النظام الاجتماعي- لا يمكن انتهاكها، إذ مخالفتها ستؤدي إلى تساؤلنا حول تقديرنا لذواتنا نفسها. على هذا النحو، إن هذه الآراء تتطلب الولاء من الآراء الأخرى. وأي معلومات نجمعها من العالم يتم تعديلها -أو تحريفها- أو تقليصها أو نسيانها من أجل التأكد من بقاء هذه المعتقدات المقدسة كاملة وسليمة.

الطريقة التي نتصور بها الجهل تقليديًا -كغياب المعرفة- تقودنا إلى رؤية التعليم على أنه مضاد طبيعي له، لكن الحقيقة أنه يمكن للتعليم أن ينتج ثقة متوهمة.

أحد الاعتقادات المقدسة والشائعة جدًا، على سبيل المثال، هو الآتي: أنا شخص ذو قدرات وطيّب وحنون. أي معلومة تتعارض مع هذا الافتراض قد تواجه مقاومة ذهنية جدية. غالبًا ما تدخل المعتقدات الأيديولوجية والسياسية أيضًا في عالم القدسيّة. تشير النظرية الأنثروبولوجية للمعرفة الثقافية أن الناس في كل مكان يميلون إلى التصنيف الأيديولوجي إلى نظرات ثقافية تتباعد على محورين: إما أن يكونوا فرديين (يفضلون الاستقلالية والحرية والاعتماد على الذات), أو جماعيين (مع إعطاء وزن أكبر للفوائد والتكاليف التي يتحملها المجتمع بأكمله)، أو يكونون إما هرميون (يفضلون توزيع الواجبات والموارد الاجتماعية على أساس ترتيب ثابت للمكانة الاجتماعية), أو داعمون للمساواة (يرفضون فكرة ترتيب الأشخاص وفقًا للمكانة الاجتماعية). وفقًا لنظرية المعرفة الثقافية، يعالج البشر المعلومات بطريقة لا تعكس هذه المبادئ المنظِّمة فحسب بل تعززهم. يمكن لنقاط الإرساء الأيديولوجية هذا التأثير بشكل عميق وواسع على ما يؤمن به الناس، حتى على ما “يعلمون” أنه صحيح.

ربما لا يكون مفاجئًا أن نسمع أن الحقائق والمنطق والمعرفة يمكن أن تتشكّل حتى تتماشى مع وجهة نظر الشخص الذاتية للعالم. فبعد كل شيء، نحن نتهم خصومنا السياسيين بهذا النوع من “المنطق المؤدلج” دائمًا. لكن الحد الذي يمكن لهذا التشكيل أن يصل إليه قد يكون جديرًا بالملاحظة. خلال عمل قائم مع العالم السياسي بيتر إينز، وجد فريق مختبري أن اتجاهات المرء السياسية تؤثر على مجموعات أخرى من المعتقدات المنطقية أو الوقائعية لدرجة أنها تناقض بعضها البعض مباشرة. في استطلاع أُعِد في نهاية عام 2010 بمشاركة ما يقارب 500 أمريكي، وجدنا أن أكثر من ربع الليبرالين (مقابل ستة بالمئة فقط عند المحافظين) أقرّوا صحة كل من العبارتين “سياسات الرئيس أوباما قد خلقت بالفعل انتعاشًا قويًا في الاقتصاد” و”أن القوانين واللوائح التي سنتها الإدارة الرئاسية الجمهورية السابقة جعلت من الانتعاش الاقتصادي أمرا مستحيلا”. كلا العبارتين تُعتبر مرضية من قبل الليبراليين وتحترم الأيديولوجية الليبرالية، ولكن كيف تمكن أوباما من خلق انتعاش قوي وفي نفس الوقت جعلته السياسيات الجمهورية مستحيلًا؟ بين المحافظين، وافق 27 في المائة (مقارنة بعشرة في المائة فقط من الليبراليين) على أن “مهارات الرئيس أوباما الخطابية أنيقة ولكنها غير كافية للتأثير على القضايا الدولية الكبرى” وأن “الرئيس أوباما لم يفعل ما يكفي لاستخدام مهاراته الخطابية للتأثير في سبيل تغيير النظام في العراق”. ولكن إذا كانت مهارات أوباما غير كافية، فلماذا يتم انتقاده لعدم استخدامها للتأثير على الحكومة العراقية؟

يمكن أن يدفعنا تقديسنا لالتزامات الأيديولوجية أيضًا إلى تبني آراء سريعة وحادة حول موضوعات لا نعرف عنها شيئًا فعليًا، موضوعات في ظاهرها، لا علاقة لها بالأيديولوجيا. فلنأخذ مثلا مجال تقنية النانو الحديث، تتضمن تقنية النانو إذا ما عرفناها بشكل بسيط تصنيع المنتجات على المستوى الذري أو الجزيئي التي لها استعمالات في الطب وإنتاج الطاقة والمواد الحيوية والإلكترونيات. مثل أي تقنية جديدة تقريبًا، تحمل تقنية النانو وعودا بفوائد كبيرة (حاويات طعام مضادة للبكتيريا!) ومخاطرة كبيرة لبعضٍ من السلبيات (تقنية المراقبة بالنانو!).

في عام 2006، أجرى دانيال كاهان، الأستاذ في كلية الحقوق بجامعة ييل، دراسة مع بعض الزملاء حول التصورات العامة لتكنولوجيا النانو. وجدوا، كما فعلت دراسات أخرى من قبل، أن معظم الناس يعرفون القليل أو لا شيء عن هذا المجال. ووجدوا أيضًا أن الجهل لم يمنع الناس من التفكير فيما إذا كانت مخاطر تكنولوجيا النانو تفوق منافعها.

عندما قام كاهان باستطلاع آراء غير مطلعين، كانت آرائهم متناثرة. ولكن عندما قدَّم لمجموعة أخرى من المستجيبين وصفًا موجزًا ومتوازنًا بدقة لما تعد به تكنولوجيا النانو ومخاطرها، أصبح مدى قوة المعتقدات المقدّسة العميقة ظاهرًا. بعد قراءة فقرتين فقط من المعلومات المحدودة (لكنها دقيقة) انقسمت آراء الناس حول تكنولوجيا النانو بشكل ملحوظ، وتماشت مع وجهات نظرهم العامة للأمور. وجد الهرميون/الفرديون أنفسهم ينظرون إلى تقنية النانو بشكل إيجابي. اتجه ذو مذهب المساواة/الجمعيون للطريق المعاكس، مصرّين على أن تكنولوجيا النانو تشكل خطرًا أكثر من كونها ذات نفع.

لماذا أصبحت الأمور بهذه الطريقة؟ بسبب المعتقدات الأساسية الكامنة. الهرميون الذين يميلون بشكل إيجابي إلى الأشخاص في السلطة بطبيعتهم، يحترمون قادة الصناعة والعلماء الذين يشيدون بالوعود غير المُبرهنة بتكنولوجيا النانو. من ناحية أخرى، قد يخشى أنصار المساواة من أن التكنولوجيا الجديدة يمكن أن تمتلك أفضلية محدودة لعدد قليل فقط من الناس. وقد يشعر الجمعيون بالقلق من أن شركات تكنولوجيا النانو لن تولي اهتمامًا كافيًا لتأثيرات صناعتهم على البيئة والصحة العامة. استنتاج كاهان: إذا كانت قراءة فقرتين من النص كافيةً لتوجيه الناس إلى مسار الانزلاق نحو الانقسام، فإن مجرد إعطاء عامة الناس مزيدًا من المعلومات ربما لن يساعدهم على الوصول إلى فهم مشترك ومحايد للحقائق بل سيعزز فقط وجهات نظرهم المتحيزة.

قد يعتقد المرء أن من الصعب إيجاد الآراء تجاه تكنولوجيا مقصورة على فئة معينة. من المؤكَّد أنّ معرفة ما إذا كانت التكنولوجيا النانوية نعمة للبشرية أم أنها خطوةٌ نحو هلاك البشرية تتطلب نوعًا من المعرفة لعلوم المواد والهندسة وهيكل الصناعة والقضايا التنظيمية والكيمياء العضوية وعلوم الأسطح وفيزياء أشباه الموصلات والتصنيع الدقيق والبيولوجيا الجزيئية. ومع ذلك يعتمد الناس كل يوم على الفوضى المعرفية في أذهانهم، سواء أكانت رد فعل أيديولوجي أم نظريةً مطبقة بشكلٍ خاطئٍ أم نتاج حدس مولود في المهد، للإجابة على الأسئلة التقنية والسياسية والاجتماعية التي ليس لديهم خبرة مباشرة فيها أو لديهم خبرة قليلة فيها. لسن بذلك البعد من “تونيا والشدائد”.

 

مسايرة القطيع

لسوء الحظ لنا جميعًا، أنّ السياسات والقرارات التي بُنيت على الجهل لديها ميلٌ قويٌ عاجلاً أم آجلاً للانفجار في وجه المرء. فكيف يمكن لواضعي السياسات والمعلمين والبقية منا التعرف على جميع المعارف المزيفة – لنا ولجيراننا- التي تقف في طريق قدرتنا على إصدار أحكام واعية حقًا؟!

الطريقة التي نتصور بها الجهل تقليديًا -كغياب للمعرفة- تقودنا إلى رؤية التعليم على أنه مضادٌ طبيعيٌ له. لكنّ التعليم يمكن أنْ يُنتج – حتى وإن كان مقدّما بمهارة – ثقةً متوهمة. إليك مثالًا مرعبًا بشكلٍ خاصٍ : تميل دروس تعليم القيادة، بالذات الموجهة للتعامل مع الطوارئ، إلى زيادة معدل الحوادث بدلًا من خفضه. يحدث الأمر لأن تدريب الناس للتعامل مع الثلج والجليد على سبيل المثال يعطيهم انطباعًا دائمًا أنهم خبراء دائمون في هذا المجال. في الحقيقة، تضعف مهاراتهم بسرعة بعد انتهائهم من التدريب. وبذلك، بعد أشهر أو حتى عقود، يملكون الثقة ولكن بقايا قليلة من الكفاءة التي كانت لديهم في بداية مشوارهم.

في حالات مثل هذه، قد يكون النهج الأكثر استنارة كما اقترحه الباحث السويدي نيلز بيتر هو تجنب تعليم هذه المهارات من الأساس. بدلًا من تدريب السائقين على المناورة في الظروف الجليدية، يقترح جريجرسن أنه ربما يجب على هذه الدروس إيصال خطرهم المتأصل، أي يجب عليهم أن يثيروا الخوف في الطلبة الغير متمرِسين لإبعادهم عن القيادة في ظروف الشتاء من البداية، وترك الأمر لهذا الحد.

ولكن بالطبع نادرًا ما يكون حراسة الناس من جهلهم من خلال حمايتهم من مخاطر الحياة خيارًا. في الواقع، إقناع الناس بالتخلي عن معتقداتهم الخاطئة مهمةٌ أكثر صعوبة وأكثر أهمية بكثير. من حسن الحظ، علم من العلوم الذي قد يساعد بالظهور من قبل علماء مثل ستيفن ليواندوسكي في جامعة بريستول والريخ ايكر في جامعة ويسترن اوستراليا.

في الصف، بعض من أفضل الأساليب لنزع المفاهيم الخاطئة هي في الأساس لا تختلف كثيرا عن الطريقة السقراطية. للقضاء على المعتقدات الخاطئة الأكثر شيوعًا، يمكن للمدرس أن يفتح درسًا معهم ثم يُظهر للطلاب الفجوات التفسيرية التي تتركها هذه المعتقدات الخاطئة مفتوحة أو الاستنتاجات غير المعقولة التي تؤدي إليها. على سبيل المثال، قد يبدأ المعلم مناقشة التطور من خلال توضيح المغالطة التطورية المدفوعة بالغرض، مما يدفع الفصل إلى التساؤل عنها. (كيف يمكن للفصائل أن تعرف بطريقة سحرية المزايا التي يجب أن تطورها لمنح نسلها؟ كيف يمكنهم أن يقرروا العمل كمجموعة؟) مثل هذا النهج يمكن أن يجعل النظرية السليمة أكثر قابلية للتذكر عندما يتم الكشف عنها، ويمكن أن تؤدي إلى تحسينات عامة في المهارات التحليلية.

 بالطبع، هناك مشكلة انتشار المعلومات الخاطئة في الأماكن التي -على عكس الفصول الدراسية يصعب السيطرة عليها- مثل الإنترنت ووسائل الإعلام. يفضّل عدم تًكرار المعتقدات الخاطئة في أماكن فوضوية مثل هذه. إخبار الناس بأن باراك أوباما ليس مسلمًا يفشل في تغيير آراء الكثير من الناس، لأنهم كثيرًا ما يتذكرون كل ما قيل، باستثناء الكلمة الحاسمة “ليس”. فبالأحرى، لكي نتخلص من معتقد خاطئ ما، يتوجّب علينا أن لا نُبعد المعتقد الخاطئ فحسب, بل أن نملأ الفراغ الذي يتركه خلفه “أصبح أوباما في عام 1988 عضوًا لكنيسة يسوع المتحدة”. إذا كان تكرار المعتقد الخاطئ ضروريًا، وجد الباحثون أنه يساعد في تقديم تحذيرات واضحة ومكرّرة أن الاعتقاد الخاطئ غير صحيح. أكرّر: غير صحيح.

أصعب المفاهيم الخاطئة التي يجب تبديدها بالطبع، هي تلك التي تعكس معتقدات مقدّسة. والحقيقة هي أنه في كثير من الأحيان لا يمكن تغيير هذه المفاهيم. إن وضع اعتقاد مقدّس موضع تساؤل يطرح تساؤلات حول الذات بأكملها، وسيدافع الناس باستمرار عن الآراء التي يعتزون بها. ومع ذلك، يمكن في بعض الأحيان التخفيف من هذا النوع من التهديد لمعتقد أساسي من خلال منح الناس الفرصة لتعزيز هويتهم في مكان آخر. وجد الباحثون أن طلب الناس أن يصِفُوا جوانب من أنفسهم تجعلهم يشعرون بالفخر أو مشاركة القيم التي يعتزون بها يمكن أن تجعل أي تهديد وارد يبدو أقل تهديدًا.

على سبيل المثال، في دراسة أجراها جيفري كوهين وديفيد شيرمان وزملاء آخرون، كان الأشخاص الذين وصفوا أنفسهم كأمريكيين وطنيين أكثر تقبلًا لمزاعم تقرير ينتقد السياسة الخارجية الأمريكية, إذا ما كتبوا مسبقًا مقالًا عن جانبٍ مهم من أنفسهم, مثل إبداعهم أو روح الدعابة أو العائلة وأوضحوا سبب أهمية هذا الجانب لهم بشكل خاص. في دراسة ثانية، تفاوض فيها طلاب جامعيون مؤيدون لحق الإجهاض حول الشكل الذي يجب أن تبدو عليه سياسة الإجهاض الفيدرالية, قدم المشاركون المزيد من التنازلات للقيود المفروضة على الإجهاض بعد كتابة مقالات مماثلة لتوكيد الذات.

في بعض الأحيان، وجد الباحثون أيضًا أن المعتقدات المقدّسة نفسها يمكن تسخيرها لإقناع الشخص بإعادة النظر في مجموعة من الحقائق بأقل تحيز. على سبيل المثال، يميل المحافظون إلى عدم تأييد السياسات التي تحافظ على البيئة بقدر ما يفعل الليبراليون. لكنّ المحافظين يهتمون بالقضايا التي تنطوي على “النقاء” في الفكر والفعل والواقع. إنّ اعتبار حماية البيئة فرصة للحفاظ على نقاء الأرض, يجعل المحافظين يفضلون هذه السياسات أكثر كثير، كما يشير بحث قام به ماثيو فينبرج وروب ويلر من جامعة ستانفورد. على نفس المنوال، يمكن إقناع الليبراليين برفع الإنفاق العسكري إذا كانت هذه السياسة مرتبطة بقيم تقدمية مثل العدل والإنصاف مسبقًا، مثلًا، من خلال الإشارة إلى أن الجيش يقدم للمجندين طريقة للخروج من الفقر، أو معايير الترقية العسكرية تنطبق بالتساوي على الجميع.

لكن هنا التحدِّي الحقيقي: كيف يمكننا أن نتعلم كيف نتعرف على جهلنا ومعتقداتنا الخاطئة؟ كبداية، تخيل أنك جزء من مجموعة صغيرة تحتاج إلى اتخاذ قرار بشأن بعض الأمور ذات الأهمية. غالبًا ما يوصِي علماء السلوك بأن تقوم المجموعات الصغيرة بتعيين شخص ما ليكون الصوت الناقد, الشخص الذي تتمثل وظيفته في التشكيك في منطق المجموعة وانتقاده. في حين أن هذا النهج يمكن أن يطيل نقاشات المجموعة، ويثير غضب المجموعة، ويكون غير مريح، فإن القرارات التي تتوصل إليها المجموعات في نهاية المطاف عادة ما تكون أكثر دقة وأكثر صلابة مما قد تكون عليه.

بالنسبة للأفراد، الحيلة هي أن تكون صوتَك الناقد: أن تفكر مليًا في الكيفيّة التي قد تكون بها استنتاجاتك المفضلة مضللة؛ أن تسأل نفسك كيف يمكن أن تكون مخطئًا، أو كيف يمكن أن تسير الأمور بشكل مختلف عما تتوقعه. من المفيد محاولة ممارسة ما يسميه عالم النفس تشارلز لورد “التفكير في العكس”. للقيام بذلك، غالبًا ما أتخيل نفسي في مستقبل تبين لي فيه أنني مخطئ في اتخاذ القرار، ثم أفكر في أفضل طريق أدى إلى فشلي. وأخيرًا: أطلب النصيحة. قد يكون لدى الأشخاص الآخرين معتقداتهم الخاطئة، ولكن المناقشة قد تكون كافية في كثير من الأحيان لتخليص شخص جاد من مفاهيمه الخاطئة الأكثر فظاعة.

 

التربية المدنية للمتعالمين

في أحد اصدارات “لاي وتنس نيوز” في شهر يناير الماضي، نزلت كاميرات جيمي كيميل إلى شوارع لوس أنجلوس قبل يوم من الموعد المقرر لإلقاء الرئيس باراك أوباما خطابه السنوي عن حالة الاتحاد. سُئل الأشخاص الذين تمت مقابلتهم على غفوة جون بوينر خلال الخطاب ولحظة النهاية عندما تظاهر أوباما بإصابته بنوبة قلبية. تراوحت مراجعات الخطاب الوهمي من “رائع” إلى “قوي” إلى “لا بأس به” فقط. كالعادة، لم يواجه المنتجون مشكلة في العثور على الأشخاص الذين يرغبون في الاستمرار في التحدث عن الأحداث التي لا يعرفون شيئًا عنها.

لدى الكوميديين الأمريكيين أمثال كيميل وجي لينو تاريخ طويل من السخرية من جهل شعبهم, ولدى سليطي اللسان الأمريكيين تاريخ طويل في التحسر عليه. كل بضع سنوات على مدار القرن الماضي على الأقل، أجرت مجموعات مختلفة من المواطنين الجادين دراسات حول الوعي المدني (أو محو الأمية المدنية) يسألون فيها أشخاصًا من العامة عن تاريخ الأمة وحُكامها، ويرون أن النتائج تثير قلقا شديدا بشأن التدهور والاضمحلال الثقافي. في عام 1943 بعد دراسة شملت 7000 طالبًا وطالبة جامعيين مستجدين، وُجد أن ستة في المائة فقط يمكنهم تحديد المستعمرات الثلاث عشرة الأصلية (مع اعتقاد البعض أن أبراهام لينكولن، “أول رئيس” قام بـ “تحرير العبيد”)، أعربت صحيفة نيويورك تايمز عن أسفها الشديد على الشباب “الجاهل بشكل مروع”. في عام 2002، بعد أن أسفر اختبار وطني لطلاب الصف الرابع والثامن والثاني عشر عن نتائج مماثلة، أعلنت ويكلي ستاندرد أن الطلاب الأمريكيين “أغبياء بدرجة حمير”.

في عام 2008، أجرى معهد الدراسات المشتركة بين الكليات استطلاعًا على 2508 أميركيًا ووجد أن 20% منهم يعتقدون أن الهيئة الانتخابية “تدرب أولئك الذين يتطلعون إلى منصب سياسي أعلى” أو “تم إنشاؤها للإشراف على المناظرات الرئاسية المتلفزة الأولى”. تم إثارة الموضوع مرة أخرى حول الوعي المدني. ومن المفارقات، كما كتب المؤرخ في جامعة ستانفورد سام واينبرج، أن الأشخاص الذين يأسفون على جهل أمريكا المتزايد لتاريخها هم أنفسهم غالبًا ما يكونون بنفس عمى الأشخاص الذين سبق لهم أن ألقوا نفس الرثاء؛ نظرة إلى السابق لا تشير إلى تراجع ما في مستوى أساسي للعظمة الأمريكية بل إلى مستوى ثابتٍ إلى حد ما من عدم الثبات مع الحقائق.

إن الدافع للقلق بشأن كل هذه الإجابات الخاطئة يبدو منطقيًا كون الموضوع هو التربية المدنية. قال وزير التعليم الآسف رود بايج بعد اختبارعام 2001 “إن الأسئلة التي حيرت الكثير من الطلاب تتضمن أهم المفاهيم الأساسية لديمقراطيتنا ونمونا كأمة ودورنا في العالم”. يبدو أن أحد الأسئلة الضمنية المخزية هو: ماذا كان سيكون رأي الآباء المؤسسين في هؤلاء الأحفاد الغافلين؟

لكنني أعتقد أننا نعرف بالفعل ما سيفكر فيه الآباء المؤسسون. بصفتهم مواطنين صالحين في عصر التنوير، فقد قدروا الاعتراف بحدود معرفة المرء على الأقل بقدر تقديرهم لمعرفة مجموعة من الحقائق. توماس جيفرسون الذي أعرب عن أسفه لنوعية الصحافة السياسية في عصره، لاحظ ذات مرة أن الشخص الذي يتجنب الصحف سيكون أكثر دراية من القارئ اليومي حيث إن ذلك الشخص “الذي لا يعرف شيئًا على الإطلاق هو أقرب إلى الحقيقة من الذي يمتلئ عقله بالأكاذيب والأخطاء”، وذكر بنيامين فرانكلين أن “الأبله المتعلم أكثر حُمقًا من أي شخص جاهل”. واقتباس آخر يُنسب أحيانًا إلى فرانكلين يقول إن “عتبة بيت الحكمة هي معرفة جهلنا”.

إن الخصائص المضمنة في أدمغتنا وتجارب الحياة التي تتراكم، تملأ رؤوسنا في الواقع بمعرفة هائلة؛ ما لا تضفيه هذه الخصائص هو نظرة ثاقبة لأبعاد جهلنا. وعلى هذا النحو، قد لا تنطوي الحكمة على الحقائق والصيغ بقدر ما تتضمن القدرة على إدراك وصولنا إلى حدود معرفتنا. إن التعثر في كل الفوضى المعرفية لدينا حتى نتعرف فقط على حقيقة “لا أعرف” قد لا يشكل فشلًا بقدر ما يؤدي إلى نجاح يحسد عليه، وهي علامة مهمة توضح لنا أننا نسير في الاتجاه الصحيح نحو الحقيقة.


[1] تونيا هاردينج هي ملاكمة أمريكية مشهورة، وقد تلاعب مقدم البرنامج باللفظ بإضافة the و حرف s.

[2] هذه وجهة نظر الكاتب عن التطور، ولا تعبر بالضرورة عن توجه المنصة. للمزيد انظر: https://atharah.net/التطور-نظرية-فنّدتها-الحقائق

المصدر
psmag

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى