عام

الشذوذ والغرب

  • عبد الله الحربي
  • تحرير: أسامة خالد العمرات

استطاع الشّواذ من خلال حَمْلاتهم المدعومة إعلاميّاً ومهرجاناتهم الإيحاءَ بأنّهم قد اختطفوا شهر يونيو ليجعلوه رمزاً لهم ودالّاً عليهم، وليست هذه المرّة الأولى، ولن تكون الأخيرة التي يختطف فيها منتَج غربي عنصراً مطلقاً كالزمن، فالمنتجات الغربيّة دائماً ما تختطف المعاني والمفاهيم وعناصر الزمان والمكان، وتُعيدُ تشكيلها كمعايير عالميّة مطلقة، يفترض أن تنقاد البشرية لها وتعامِلَها مُعاملة المعايير الفطريّة الرّاسخة طوال التاريخ، وليس من مثالٍ أبرزَ من اختطاف الّليبرالية لمفهوم الحريّة المجرّد، وكيف جعلت نفسها تعبيراً مُطلقاً عنه، بدل كونها فهماً خاصّاً له ضمن سياق اجتماعي وتاريخي معين.

وعوداً على ما بدأناه، فالمتجوّل في أمريكا وأوروبا، بل في كثير من أنحاء العالم خلال شهر يونيو، سيُصعَق من هذا الاحتفاء الهائل بالشذوذ الذي يسمُّونه تلطّفاً: “مثليّة” كتَسْمية الخمر بغير اسمها تزيِيناً لها، وسيصعق ليس فقط من هذا الكمّ الهائل للمهرجانات والاحتفالات التي تملأ الشوارع بهذه المُسوخ البشرية؛ ولكن بمقدار الاحتفاء الذي تمارسه جميع المنافذ والماركات الرأسمالية.

فهذا علم الشّواذ يغطّي لوحات ستاربكس، وهنا علم آخر تتلفّع به مطاعم الوجبات السريعة، كمكدونالدز وبرجر كنج، وهذه سلاسل مشهورة لدور عرض الأزياء تلوّن مداخلَها بألوان الشّذوذ وهلمَّ جراً.

ليقدح في ذهن المرء سؤالٌ عويص ومهم: لماذا كل هذا الاحتفاء والاحتفال؟ ولماذا تدعم المنظومات الإعلامية والرأسمالية والسياسيّة الغربيّة أجندات كالشّذوذ والنسويّة دعماً مطلقاً لا محدوداً؟

وما هي الغاية والفائدة من وراء ذلك كله؟

يستطيع المرء أن يتقبّل إتاحة المجال لها من باب حريّة الرّأي والتعبير والتوجّه كما هو متعارفٌ عليه غربيّاً، لكن المسألة تتجاوز ذلك لشكل من أشكال الفرض بالقوّة، وإعادة تشكيل الوعي الجمعيّ لقَبول الشواذ.

الحقيقة أنّ السّاحة مليئة بإجابات وصفيّة وتاريخيّة لموضوع الشّذوذ، إجابةً لأسئلةٍ من قبيل: كيف بدأ؟ ومتى كان؟ وكم هو معدل الانتشار؟ ومقدار التّزايد؟

لكن يبقى سؤال “لماذا” معلقاً أحياناً كثيرةً، تتوزّع إجابته هنا وهناك، والسّبب -بكل بساطة- كما قلنا إنّه سؤال معقد، والإجابة عليه مركّبة لأنّها تتعلق بأبعاد عدة.

وهنا تفكير بصوت عالٍ، ودعوة للتأمل حول هذه المسألة، ذلك التأمّل الذي لم ينفكّ عني منذ زيارتي لإحدى دول أمريكا الجنوبية قبل عام في شهر يونيو، ورؤيتي كيف تسعى قطعان الرأسماليّة الغربيّة لفرض أجندة الشّذوذ على تلك المجتمعات البسيطة والمسكينة.

وبما أنّ الإجابة -كما قلنا- تتعلّق بأبعاد عدة متداخلة؛ فلنأخذها تباعاً، وهي حقيقة تجليات وتمظهرات متعدّدة لجوهر واحد:

 

  • أولا: بُعدٌ فلسفيّ

الفكر الغربي لم يصل لما هو عليه اليوم إلا بعد مروره بتدرجّات عدة، جعلت تَنزع منه المركزيّة والقدسيّة من كل ما يؤمن به رويداً رويداً. فمن تحييد تحكّم الإله بالكون وجعله مجرّد خالق لا مُتَحَكِّم، إلى تحييد مركزيّة الإله نفسه بكونه خالقاً، ونقلها إلى الإنسان بكونه مُريداً مسيطراً.

انتقل الفكر الغربي بعد ذلك في آخر مراحِلِهِ، وفيما يُسمى بحقبة ما بعد الحداثة إلى نَزْع المركزيّة والقدسيّة من الإنسان نفسه، فلا مركزيّة لشيء بعد اليوم ولا مُقَدَّس إلا مبدأ عدم التّقديس، والانعتاق من كل معيار وضابط أيّاً كان مصدره، سواءً كان إلهياً أو إنسانيّاً.

وتدرج هذا الانعتاق على الصعيد الاجتماعي كمثال من كل ضابط، عبر الانفصال عن منظومة الأسرة والزواج والارتباط العائلي، لينتقل من ثَمَّ لمرحلة المعاشرة بين ذكر وأنثى، لكن دون عقد زواج، وكلّ ذلك كان مُناسباً في وقته، لكنّه ظلّ عالقاً بعوالق فطريّة ونفسيّة كالوفاء والمحبة وما بذره الله من ارتباط وتجاذب فطريّ بين الذكر والأنثى، مما يستلزم تحطيم هذه الرابطة أيضاً وتحقيق ما هو أعلى منها في الابتعاد عن كل ما هو متجاوز، وهنا يأتي دور الشّذوذ، فهو ذُروة الاستسلام للمتعة والّلذة دون أي مرجعية، إلّا مرجعية الهوى، ولا ضابط غير ضابط الرغبة، ففي الشّذوذ ليس هناك إلّا الجنس والجنس فقط، الذي هو أعلى الملذّات، لذلك نجد فيلسوف ما بعد الحداثة الشّاذ ميشيل فوكو يحتفي بالشّذوذ أيَّمَا احتفاء؛ لأنّه يراه قمّة الانفصال عن كل ما هو مركزيّ وثابت، فليس هناك إلّا رغبتُه وجسدُه فقط الذي يتحكّم فيه.

ومن أبرز تجلّيات تحطيم المركزيّة والثوابت وإعادة توزيعها لتصبح مراكز عدّة متشظّية في حقبة ما بعد الحداثة، هو غزو المجال الخاص للعام، كما يقول زجمونت باومان، ولا تجد تجلياً أكثر لهذه النقطة من الحضور العنيف والمكثّف لأجندات الشّذوذ في وسائل التواصل خصوصاً السناب شات الذي لا يتحكّم فيه ويوجّهُهُ إلّا المجال الخاصّ لحيواتِ النّاس وطريقة عيشهم.

 

  • ثانياً: بُعدٌ اقتصادي

كما ذكرنا أنّ الشذوذ هو ذروة التّمركز حول الّلذة وتبعاً لهذا، فهو من أخلص الخدّام للمنظومة الاقتصاديّة الرأسماليّة التي تسعى في تشييء الإنسان وجعله مجرّد أداة وجسد يتبع أهواءه بما يخدم الاستهلاك لأبعد حدّ، وبأقصى طاقة.

وقد يقول قائل: إنّ الرأسماليّة تستطيع تحقيق ذلك بوجود مؤسسات الزواج وعلاقات المعاشرة، فنقول: نعم، بل كان الأمر كذلك، لكنّ إشكاليّة هذه العلاقات أنّها غير مستسلمة تماماً لعنصر الّلذة، وتوجد لديها -كما مرّ بنا- بقايا عوالق معنويّة وروحيّة، تمنع من الانسياق التّامّ لعنصر المتعة ومكينة الاستهلاك، كالحبّ والوفاء والألفة، وكل هذه المعاني التي لايمكن قبض ثمنها وإعادة تصنيعها وعرضها كسلع لتصبح منتجات قابلة للبيع ومن ثم الربح.

أمّا الّلذة وذروتها الجنس، فهي قابلة لكل ذلك ولأن تخلق لها خطوط إنتاج تخدمها، لذلك يتزايد نموّ اقتصاد الشّذوذ ومعدّلات مساهمته بالنّاتج المحليّ الغربيّ عاماً بعد عام.

وهنا نجد تقاطعاً مع الأجندات النّسويّة، فدعم التوجّه النّسويّ يساهم في تفكيك منظومة الأسرة وإلحاق النّساء بسوق العمل، مما يعني زيادة الضرائب والاستهلاك؛ لأنّ المرأة النسويّة بالنّهاية لا تقودها إلا مركزيّتها المبنيّة على الفردانيّة والّلذة كالشّاذ تماماً.

 

  • ثالثاً: بُعدٌ سياسي

وهنا نتذكّر مقولة غربيّة تلخّص هذا البُعد أيّما تلخيص، وهي:

behavioral freedom against political freedom

وتعني: الحرية السّلوكيّة مقابل الحريّة السّياسيّة، فليس هناك ما يخدم النّخب الحاكمة ومراكز رأس المال وأذرعها الإعلاميّة كإشاعة حريّة تفكير مقنّنة مُسبقاً.

حرية تفكير سلوكيّة تتعلق بالأعراق والأجناس والتوجهات الجنسيّة، بعيدةً كلّ البُعد عن أيّ حريّة سياسيّة وفكريّة تستهدف صُنّاع القرار ومحتكري الثروة، الذين يَتَحَكَّمُ 2٪ منهم بـ 50% منها.

هنا يتداخل ويتخادم السّياسيّ مع الاقتصاديّ، ويعمل الإعلام بكل قوّته لترسيخ ذلك، وبالنهاية يظنّ النّاس أنّهم يتمتّعون بحريّة تعبيرٍ واختيارٍ، لكنّها حريّة موجّهة بعيداً عن الأهداف الحقيقيّة والمُهمّة، فيتظاهرون ويتجمّعون، ولكن ليس ضدّ تَفْرقة اقتصاديّة عموديّة، ولكن ضدّ تَفْرقة اجتماعيّة أفقيّة مصطنعة، وهذه ما أكَّدَتْه النّسويّة السّابقة: جلوريا ستاينمن، وكيف كانت جهات حكوميّة أمريكيّة تدعمها، ومن بينها وكالة الاستخبارات.

وهنا نتذكّر مفارقة مضحكة، وهي أنّ كثيراً من رموز الاشتراكيّة الاجتماعيّة -إن لم تكن كلها- كانت ولا تزال تدعم أجندات الشّذوذ والنّسويّة بدعوى حريّة الاختيار، وبنفس الوقت تَنقُد المنظومة الرأسماليّة والأوليغارشيّة السياسيّة أيّما انتقاد كتشومسكي مثلاً.

لكنّهم من حيث لا يشعرون يخدمون هذه المنظومات أيّما خدمة بدعمهم الّلامحدود لهذه الأجندات، وقد يكون ذلك تحقّقاً عمليّاً لما تنبّأ به بعض المفكّرين من أنّ الرأسماليّة والاشتراكيّة سيندمجان بالنهاية، ويذوبان في بَوتقة واحدة.

 

  • رابعاً: بُعدٌ اجتماعي

وكما ذكرنا أنّ جميع هذه الأبعاد ترتبط ببعضها ارتباطاً وثيقاً، وتَتَمظهر بأشكال مختلفة؛ فعلى الصّعيد الاجتماعي حين تكون الحقبة هي حقبة انفكاك عن كلّ ما هو مركزيّ وثابت في الحياة، وكل ما يهم هو ثابت الّلذة والفرديّة لا غير؛ نجد كما ذكرنا سابقاً أنّه لا شيء يحقق ذلك أكثر من الشّذوذ والتوجّهات النّسويّة، فهي الّلذة والّلذة فقط، دون أدنى حمولة اجتماعيّة أو مسؤوليّة، والأمر يتجاوز المسؤوليّة تجاه الأسرة والأبناء، إلى مسؤوليّة الفرد نفسه تجاه نفسه، لأنّه في سياق نسويّ أو شاذّ لا يحتاج أن يضبط المرءُ ذاته لأجل أيّ التزام خارجي كالأسرة أو الزّوج أو شريك الحياة، فليس هناك إلّا الرّغبة الفرديّة، والمهمّ هو إشباعها لتصبح السرديّة الحاكمة هي سرديّة الهروب من المسؤوليّة مهما صغرت.

 

  • خامساً: بُعدٌ أُخْروي

استمراراً لمسلسل هروب الإنسان في حقبة ما بعد الحداثة المائعة من كل مطلق؛ نجده حين يهرب من خالقه ومن كل ما يُمثله؛ يكتشف أنّه في الحقيقة يهرب من نفسه ذاتها، فالشذوذ والنسويّة بكونها انعتاقاً وتنصّلاً من كل ثابت، حتى الثّوابت الفطريّة والعقليّة والمبادئ الأخلاقية التي تحدّد ماهيّته وكونه إنساناً مكرّماً، والمزروعة فيه من خالقه وموجده تعني أنّ مُعتَنِقَها لا يهرب من ربّه فقط، بل من نفسه. وهنا غاية العبث والّلامعنى والعدميّة، ولا يطمع الشيطان بأكثر من هذا (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) ولو أنّ للشيطان قدرات خارقة تجعله نِدّاً للإله كما في الثقافة الغربية المسيحية؛ لما تردّدنا لحظة بالقول إنّه يقف وراء خطّة كونيّة لتدمير الإنسان نفسه، لكنه، رغم كيده الضعيف، نجح في الوسوسة والوسوسة فقط، وتزيِيْن الشّهوات في أن يجعل الإنسان يسير في طريق تدميره الذاتيّ اختياراً.

وبالنهاية، ومع كل هذا التّحطيم لكل ما هو ثابت ومركزي، فأنا أظنّ، بل أقطع، أنّ الشّذوذ والنّسويّة لن يكونا نهاية هذا الضّياع الوجوديّ والعبث، بل ستليهما ضياعات أخرى نرى إرهاصاتها اليوم رغم أنّها مستنكرة حتى غربيّاً، كموضوع التّمتّع الجنسيّ بالأطفال (ولا أحبذ استخدام مصطلح بيدوفيليا رغم انتشاره مؤخراً؛ لأنّه يجعلنا نرى الأمور من منصّة غربية، ونتقمصها وننساق لحلولها، وهذه خطورة الاستخدام المنفلت للمصطلحات دون خطام).

أقول: لن يكون كل ذلك نهاية المطاف، بل سنرى جريمة جنس الأطفال تناقش كما يناقش الشّذوذ والنّسويّة اليوم، وليس لأحد الاعتراض، فما هو الضّابط والمعيار القطعيّ الذي يمنع من كل ذلك وسط هذه الميوعة والتحطيم لكل ثابت في حياة الإنسان؟

طبعاً هذا التّوقع هو في حالة وجود المجتمع الإنسانيّ مستقبلاً، لأنّ النهاية الطبيعية لأجندات الشّذوذ والنّسويّة هو انقراض العنصر البشري، وهنا نجدها تعمل ضد آخر منظومات الأيدولوجيا الفكريّة الغربيّة، منظومة الداروينيّة والبقاء للأصلح، ولهذا حديث آخر.

اقرأ ايضاً: بالدليل: التحول الجنسي لا يجدي نفعا

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. السؤال الذي بات يحيرني , لماذا يسعون جاهدين لتفكيك ثوابت الحياة , وإبعاد الإنسان عنها ؟ وإن كان السبب دوافع اقتصادية , فبعد تحقيق مرادهم كيف يكون الإنسان سعيد إذا تجرد من نفسه وأصبح هوى فقط ؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى