- كابيل كوميردي*
- ترجمة: زينب عبد المطلب
- تحرير: محمد عفيفي
رئيس الوزراء (ناريندرا مودي) يلقي كلمة أمام الشعب من “الحصن الأحمر” خلال احتفالات يوم الاستقلال في نيودلهي.
طوال أسبوعين، عاشت كشمير، وهي الولاية الهندية الوحيدة ذات الأغلبية المسلمة، في حالة سريالية من العدمية. منذ أن حَلَّ الولايةَ مرسومٌ رئاسي وألغى استقلالها وقسّمها إلى منطقتين خاضعتين للإدارة الفيدرالية، أُوقِف الإنترنت، وعُطّلت الشبكات الخلوية، وحتى الخطوط الأرضية تم قطعها. وحُظرت التجمعات العامة، وأُخضع المواطنون لحظر تجوال. وتمركز عسكري خارج كل منزل في بعض القرى؛ وبهذا عُزِلَ ثمانية ملايين شخص عن العالم ، وحتى عن بعضهم البعض. بدأت الأدوية تنفد من الصيدليات، والمواد الغذائية تشح في المنازل، والمستشفيات تكتظ بالمتظاهرين الجرحى. يُصرّ رئيس وزراء الهند (ناريندرا مودي) على أن هذا كله لصالح الكشميريين.
نادرًا ما كانت قبضة الهند على كشمير أقوى منها الآن، إلا أن قبضتها على الكشميريين لم تكن قط أكثر وهنٍ أيضًا.
استيلاء (مودي) المفاجئ على كشمير يمثل تَحققًا لتوقٍ أيديولوجي طويل لإخضاع المجتمع ذي الأغلبية المسلمة لرؤيته لأمة هندوسية متجانسة. ويمثل أيضًا وسيلة لإخبار بقية الهند -وهي عبارة عن اتحاد ولايات متنوعةٍ بشكلٍ مذهلٍ- أنه لا أحد مُستثنى من فردوس القوة الهندوسية التي يريد أن يبنيها في شبه القارة الهندية. تمثل كشمير تحذيرًا وأنموذجًا في نفس الوقت: فأي ولاية تنحرف عن هذه الرؤية يمكن إخضاعها لسلطة (دلهي) باسم “الوحدة”.
أولئك الذين يعتقدون أن مثل هذا اليوم لن يأتي أبدًا، وأن المؤسسات الديمقراطية في الهند وحماية الأقليات ستُثبت وجودها؛ لم يعتقدوا أبدًا أن شخصًا مثل (مودي) سيقود البلاد يومًا ما. فقد بدا مصير (مودي) آيلاً إلى الاندثار في التاريخ باعتباره غريب أطوار ومتعصّب. فبصفته رئيس الوزراء المعيّن حديثاً في ولاية (كوجارات)، أشرف على أفظع عمليات إراقة دماء طائفيةٍ في تاريخ الهند الحديث في عام 2002، عندما ذُبح 1000 مسلم، وفقًا لتقديرات مُتحفِظة، على يد هندوسٍ مسلحين بالسيوف في ولايته على مدار عدة أسابيع. اتهم البعض (مودي) بتحريض الحشود، وقال آخرون أنه غضَّ الطرف عنهم. جعلت المذبحة (مودي) منبوذًا وشبّهه الهنود الليبراليون بهتلر، ورفضت الولايات المتحدة مَنحِه تأشيرة دخول، وقاطعته بريطانيا والاتحاد الأوروبي.
لكن (مودي) وسّع نطاق دعوته وعززها بين الهندوس في الهند، فهذه أغلبية دينية مستاءة من الاجتياح الذي تتعرض له من الحكم المسلم عبر القرون، والمُغطّى لعقود بابتذالات من النخب العلمانية في الهند.
استخدم (مودي) ثلاث أدوات قوية لدفع تقدُمه؛
الأولى كانت (الساديّة)، وذلك بالإشارة إلى أن الراديكاليين الهندوس، في ظل حكمه، يمكن أن ينغمسوا في إراقة دماء خاملة.
فبعد مقتل رجل مسلم في حجز الشرطة، على سبيل المثال، تساءل (مودي) في تجمع حاشد عام 2007؛
– “إذا تم العثور على بنادق AK-57 [sic] في منزل شخص … ألا يجب أن أقتله؟”
– هتف الحشد: “اقتلهم! اقتلهم! “
والأداة الثانية كانت (الشماتة). شعورٌ بالنشوة في عذاب الأقليات العُزّل: ففي تجمع سابق في عام 2002، كان (مودي) يفكر في مصير المسلمين الذين نزحوا بسبب أعمال الشغب الأخيرة في (غوجارات)، متسائلاً: “ماذا علينا أن نفعل؟ إنشاء مخيمات إغاثة لهم؟ هل نريد فتح مراكز إنجاب أطفال؟” … انفجر الجمهور بالضحك. قال: “علينا أن نُلقن درسًا لأولئك السكان المتزايد عددهم بمعدل ينذر بالخطر.”
أما الأداة والمؤثر الأخير فهو (الشفقة على الذات)؛ وكتسويغ للهندوس ليعتبروا أنفسهم ضحايا حقيقيين؛ أخبر (مودي) البرلمان أن الهند كانت أمة مستعبدة لأكثر من 1000 عام، وادّعى أن هناك قوات تسعى لقتله.
رابط مقطع فيديو:
وفي هذا السياق حثت الهندُ باكستانَ على مراجعة قرارها بخفض مستوى العلاقات الدبلوماسية في أعقاب سحب المكانة الخاصة بكشمير.
منذ انتخاب (مودي) لمنصب رئاسة الوزراء في عام 2014، عُزز التعصب باعتباره شكلًا صحيًا لتأكيد الذات. أصبحت عمليات الإعدام خارج نطاق القانون للمسلمين -الذين شُيطنوا بتلهُف على أنهم جهاديين متفانين لإغواء النساء الهندوسيات وتحويلهن إلى الإسلام-، من قبل الحشود الهندوس، ممارسةً شائعةً لدرجة أن العشرات من مقاطع الفيديو لجرائم القتل المروعة يتم تداولها يوميًا على مجموعات (واتس آب) يديرها قوميون هندوس. وفي الصيف الماضي، كلّل وزير في حكومة (مودي) بالورود ثمانية رجال أدينوا بإعدام رجل مسلم دون محاكمة.
في هذا العالم، لا يمكن أن تظل كشمير تتمتع بالحكم الذاتي، مكان منيع ضد رغبات أغلبية تسعد برؤية إرادتها تُنفّذ عن طريق العنف. وجرّأت إعادة انتخاب (مودي) هذا العام المؤيدين الذين قام هو بتحريضهم بمكره من قبل. نادرًا ما يعترف رئيس الوزراء بجرائم قتل الأقليات. والأندر من ذلك هي الحالات التي يدينهم بها.
في الواقع، لم يُخلّد لمرة واحدة، بالاسم، ذكرى المسلمين الذين قُتلوا على يد الأصوليين الهندوس. هذا ليس من قبيل الصدفة. إنها خطوة صغيرة من السماح للحراس الهندوس بإخضاع جيرانهم المسلمين إلى إخضاعهم بنفسه، باستخدام سلطة الدولة، كما فعل الآن في كشمير.
تحدث مودي بالرموز عندما زار أمريكا. كان يتحدث إلى قاعدته القومية الهندوسية.
تشكلت صحوة (مودي) السياسية في معسكرات التدريب التابعة لمنظمة التطوع الوطنية، وهي جماعة يمينية شبه عسكرية احتضنت السياسات الحديثة للقومية الهندوسية. تُطلع منظمة التطوع “المتطوعين” الشباب على مجموعة كبيرة من الأشرار المفترضين الذين نهبوا الهند وأضعفوها على مر العصور – الغزاة الإسلاميون في العصور الوسطى، والمتكيّفون مثل (مهاتما غاندي) وحزب المؤتمر الذي قاده، والقوميون المسلمون الذين مزقوا الهند لإنشاء باكستان و سعوا للفرار بكشمير – وتحثهم على التخلص من عجزهم الهندوسي. كان التأثير على عقل (مودي) الشاب قويًا لدرجة أنه اعتبر أن منظمة التطوع عائلته، فتخلى عن زوجته ووالدته، وجال في أنحاء الهند كمُبشّرٍ للقضية القومية الهندوسية.
عن طريق احتلال كشمير، استرضى (مودي) الناخبين من القومية الهندوسية وأثبت نفسه كمؤسس لما يسمونه بفخر ” الهند الجديدة “. كانت كشمير دائمًا على رأس قائمة رغباتهم، والتي تتضمن أيضًا بناءَ معبدٍ في (إيوديا) مكان مسجد عمره نصف ألفية قبل هدمه من قبل الهندوس القوميين في عام 1992، وشطْب الامتيازات الصغيرة الممنوحة للأقليات (مثل دعم حج المسلمين إلى مكة المكرمة)، ووضْعِ حد قانوني للتحولات الدينية من قِبَلِ الهندوس؛ وقمعٍ غير قانوني للعلاقات والزواج بين الأديان، خاصة عندما تكون العروس هندوسية والعريس مسلم؛ وفي النهاية، إعادة كتابة الدستور لإعلان الهند رسمياً دولةً هندوسية.
لكن هل يمكن للهند، المجتمع الأكثر تنوعًا عرقيًا على وجه الأرض، أن تنجو من صعود أغلبية كهذه؟
في خطابه الافتتاحي المثير أمام أول مجلس منتخِب بحرية في كشمير عام 1951، طرح (الشيخ عبد الله) -وهو اشتراكي يتمتع بشعبية كبيرة، وهو الذي دافع عن انضمام كشمير إلى الهند- الخيارات أمام الكشميريين. وأوضح أن التزام الهند بـ “الديمقراطية العلمانية القائمة على العدل والحرية والمساواة”؛ ينفي “الحُجة القائلة بأن مسلمي كشمير لا يمكن أن يتمتعوا بالأمن في الهند”. وقال (عبد الله)؛ أن دستور الهند “رفض أخيرًا بشكل شافٍ مفهوم الدولة الدينية، والذي يمثل عودةً إلى القرون الوسطى”. كما ندد (عبد الله) بباكستان، ورماها بأنها “دولة شبه ثيوقراطية” شنت حربًا عام 1948 للاستيلاء على كشمير، ووصفها أيضًا بأنها “دولة إقطاعية” حيث يمثل الانتماء إلى الدين نهجًا عاطفيًا خاطئًا. لكن رفضه لباكستان كان أيضًا بمثابة تذكير للهند بأن العلمانية شرطًا غير قابلٍ للتفاوض لولاء كشمير، وقال إن الكشميريين “لن يقبلوا أبدًا بحُكم يسعى لتقديم مصلحة أحد الأديان أو الجماعات الاجتماعية على غيرهم”. كانت تلك الجملة موجهة آنذاك إلى باكستان تنطبق في الوقت نفسه على الهند.
كان من الممكن استبعاد الانفصاليين الكشميريين الذين وصفوا الهند ذات مرة بأنها “دولة هندوسية” في ذلك الوقت بوصفهم (شوفينيين)، ويمكن أن تحاجج الهند بمصداقية حول مكانة كشمير ضمن هويّتها متعددة اللغات حيث كان دين الكشميريين غير ذي صلة بمواطنتهم الكاملة للدولة الهندية. لكن ادعاء الانفصاليين الآن ضد الهند له نفس جوهر ووزن ادعاء (عبد الله) ضد باكستان. لكن حجة ” القومية الشاملة ” التي نشرها أتباع (مودي) لإقناع الانفصاليين الكشميريين بالمشاركة في الانتخابات غير متاحة له، كقوميّ متدين.
والهند التي لم تعد علمانية ستفقد إلى الأبد حجتها بشأن كشمير، والهدوء المفروض حاليًا على المنطقة يُخفي غضبًا عميقًا ينتظر الانفجار. إن إساءة استخدام كشمير التي بررها (مودي) على أنها “تكامل” قد تكون -إذا لم تتم مواجهتها وعكس مسارها- بداية النهاية لوحدة الهند.
اقرأ ايضاً: الدم والأرض: الهند تحت حكم مودي
- كابيل كوميردي هو مؤلف كتاب: “الجمهورية الخبيثة: تاريخ قصير للهند الجديدة”