- اكشات راثي
- ترجمة: محمود مصطفى الحكيم
- مراجعة: الغازي محمد
- تحرير: مريم سالم
(هناك ثلاثة أنواع من الأكاذيب: أكاذيب عادية، وأكاذيب مفضوحة، وإحصائيات). لم يبرع في كشف وتصحيح النوع الأخير إلا القليل من الناس، ديفيد شبيجل هالتر واحد منهم. فقد أصبح الأستاذ المسؤول عن برنامج “وينتون” لتبسيط فهم حسابات المخاطر للعامة بجامعة كامبريدج منذ عام 2007م. (يفضّل شبيجل هالتر أن يقول أن عمله هو تبسيط “الإحصاء” وليس حسابات المخاطر).
التقينا شبيجل هالتر بغرفة فندق تتخللها أشعة الشمس، في العاصمة واشنطن، لنناقش سويًا طبيعة عمله الفريدة، تنوّعت المناقشة بدءًا من الحكمة من تناول لحم الخنزير المقدد (هل تتناول أي مادة مسرطنة أخرى معروفة؟)، مرورًا بجريمة التلاعب بالرسوم البيانية، وصولًا إلى الطريقة الصحيحة للحديث عن الأمراض النادرة المرعبة.
عندما لا يكون شبيجل هالتر مشغولًا بتقويم فهم الناس للأرقام والإحصاءات، ينشغل بالعمل على نشر الأرقام بشكلٍ توضيحي أفضل؛ حتى يتجنب للناس سوء الفهم من البداية.
[هذه المقابلة تمّ تحريرها واختصارها لتحري الوضوح]
كوارتز: تعمل في واحدة من أكثر الوظائف تميزًا؛ ما الذي تنطوي عليه وظيفتك؟
سبيجيل هالتر: معظم الوقت أعمل على فحص الأدلة الكميّة والوصفية. كما ألقي عددًا من الكلمات والمحاضرات، وأؤلف الكتب، كما أوجّه الأشخاص الراغبين في فهم لغة الأرقام. أيضًا تتصل بي وسائل الإعلام للحديث عن الأرقام، وما إذا كنا بإمكاننا تصديقها. وعلى الرغم من كون منصبي (أستاذًا للفهم العام لحسابات المخاطر)، وأفسر ذلك على أنه أستاذ للفهم العام للإحصاء.
فيما يتعلق بالبحث؛ فعملي تعاوني في الأغلب، مع علماء نفس، ورياضيات، وغيرهم، ممن يحاولون إيجاد طرق لفهم المخاطر. على سبيل المثال، مشروعي الحالي هو العمل على موقع للعائلات الذين لديهم أطفال يعانون من أمراض القلب منذ الولادة.
ما نحاول الكشف عنه هو قضايا إحصائية في غاية البساطة، مثل: المخاطر الأساسية، والأخطاء القياسية، ومعدلّات التباين الإحصائية. ومع ذلك يبقى من الصعب للغاية الكشف عنها بوضوح، حتى للأشخاص الذين تلقوا بعض التدريب في مجال الإحصاءات. لذا نقضي الكثير من الوقت مع مجموعات المرضى، ونصيغ البيانات مرّة تلو أخرى، بحيث ينتهي بنا المطاف إلى شيء يمكنهم فهمه دون خطأ بلا حاجة للصياغة التقنية المعقّدة.
أخبرنا عن آخر مثال للتلاعب بالإحصائيات رأيته وأثار حنقك؟
لقد شعرت بالغضب الشديد؛ بسبب رسم بياني رسمي بريطاني لمعدلات حمل المراهقات، والذي بدا ظاهريًا أنه انخفض إلى ما يقرب الصفر. حتى أدركت أن الجزء السفلي من المحور قد قـُطع، الأمر الذي جعل من الاستحالة تصور انخفاض (مبهر جدًا) بنسبة 50% منذ عام 2000.
قلت مرة أن تمثيل البيانات على هيئة رسوم بيانية لا يوصل دائمًا ما نعتقد أنه يوصله. ماذا تقصد بذلك؟
الرسوم البيانية بإمكانها أن تكون مضللة كما الكلمات. فباستخدام حيل معينة، مثل الاجتزاء من المحاور، أو تصغير وتكبير معدلّات القياس، أو تغيير البيانات من الموجب للسالب، وما إلى ذلك. أحيانًا يكون وضع الصفر على المحور y أمر خاطئ. لذا، للتأكد من أنك تكشف عن الأشياء الحقيقية؛ عليك تقييم الرسائل كما ستصل إلى الناس. لا توجد قواعد مطلقة، الأمر يتوقف على ما تريد إيصاله.
بالتأكيد في سنوات عملك هناك بعض الدروس التي بإمكان المشتغلين في عرض وإيصال حسابات المخاطر -الصحفيون، والسياسيون، وما إلى ذلك- استخلاصها. ما هي؟
نعم، بالتأكيد. نحن نعلم على سبيل المثال أن (المخاطر النسبية) تستعمل لكي تكون مبهرة. لكن مع ذلك يبقى ضعف العدد الصغير هو عدد صغير.
نحن نعلم أن التحدّث بالأعداد الصحيحة (عدد من الناس من أصل مائة)، أسهل من التحدث بالنسب المئوية والكسور العشرية، كما نعلم أن التمثيل المرئي إذا تم بشكلٍ صحيح فسيؤدي وظيفة أفضل في شرحٍ الأرقام، خاصةً لمن يقل إلمامهم بالحساب.
لقد استخدمنا هذه المعرفة، وعملنا مع علماء النفس في جميع أنحاء العالم، لبناء إرشادات أفضل للناس لاتخاذ قرارات بشأن المخاطر. لكن لا تزال هناك أمور لم نحصل لها على إجابة جيدة بعد.
على سبيل المثال، نعلم أن الناس يعتقدون أن 30 من 1000 أكبر من 3 من 100. نحن نعلم أننا نجعل الأرقام تبدو أكبر من خلال التلاعب بالمقام.
كإحصائي، فإن تصور الناس للأرقام جديد عليّ، كنت أظنّ أن الناس يمكنهم أن يعرفوا أن 3 من 100، تساوي 3%، تساوي 03.0 لكنهم في نظر الناس مختلفون جدًا.
وخلاصة القول، أن الناس سيئون جدًا في فهم الاحتمالات. فالجميع يجد صعوبة في ذلك، حتى أنا. علينا فقط أن نتحسن في ذلك. وعلينا أن نتعلم اكتشاف التلاعب بعقولنا. تغيير المحاور على الرسم البياني إحدى الطرق، وهناك العديد من الطرق الخفية الأخرى للقيام بذلك.
ماذا لو كان البشر بارعون في فهم الاحتمالات، كيف سيتغير الأمر؟
أوه، سنكون أشخاصًا غريبين، أعتقد. *يضحك*.
وربما لا. خذ على سبيل المثال اليانصيب. الناس يعرفون أن فرصة الفوز فيها ضعيفة. احتمالية الفوز بالجائزة الكبرى للمملكة المتحدة حوالي 1 من 45 مليون. طريقة توضيح ذلك: تخيل حوض استحمام كبير، واملأه حتى حافته بالأرز. هذا حوالي 45 مليون حبة أرز. ثم خذ حبة واحدة من الأرز، و اطلها بالذهب، وادفنها في مكان ما هناك. ثم اطلب من الناس دفع جنيهان استرلينيان، لوضع أيديهم، وسحب تلك الحبة الذهبية من الأرز.
هذه صورة جيدة، وتبدو سخيفة. ولكن الناس يفوزون بالفعل. كان هناك شخصان سحبا الرقم الفائز. لذا يهتم الناس بالفرصة الصغيرة، والحقيقية طمعًا في إحداث تغيير كبير.
وأتمنى لو فهمنا الاحتمالات بشكلٍ كامل، حينها سنكون أقل عرضة للتلاعب من قبل: الناس الذين يحاولون بيع الأشياء، أو إخافة الآخرين، أو حتى طمأنة شخصٍ ما بالباطل. لكن هذا قد لا يغير السلوك. كل الدراسات توضح أنه حتى مع فهمٍ أفضل لاحتمالات المخاطر، فالناس يواصلون القيام بما فعلوه من قبل.
أهذا هو السبب في قولك، أنك من خلال عملك، تريد فقط تعليم الناس، لا تغيير سلوكهم؟
لا أريد تغيير السلوك بشكلٍ خاص. أشعر أنه من الأفضل لو عاش الناس حياة أكثر صحة؛ حتى يتمكنوا من رؤية أحفادهم يكبرون. وهذا أمر من شأنه أن يكون حسناً.
لكن هذا ليس هدفي الأساسي. أملي أن يكون الناس أكثر درايةً بالمخاطر. إذا ما كانوا يفعلون شيئاً ما؛ فهم على معرفة بعواقبه.
هذا الصباح كنت آكل مادة مسرطنة- لحم الخنزير المقدد. تم تصنيفها في نفس فئة التدخين، لكني كنت أتناول لحم الخنزير المقدد بسعادة هذا الصباح. وأدرك أنه إذا تناولت لحم الخنزير المقدد يوميًا بكمية كبيرة؛ فهذا يزيد من مخاطر الإصابة بسرطان الأمعاء، والموت في وقت مبكر.
إذا لم تكن القرارات العقلانية هي النتيجة التي تبحث عنها؛ فلم تزعج نفسك؟
اعتمادًا على ما تقصده بـ(عقلانية). لا أحب هذه الكلمة. يمكنك استخدام كلمات أخرى، مثل (التناسب القيمي)، أي ما يراه الناس قيّمًا بالنسبة لهم. تلك هي القرارات التي سيتخذونها، ولن يندموا عليها في المستقبل. سيتحمل الناس العواقب لو شعروا أنهم بشر مستقلون، وأصدروا قراراتهم بأنفسهم.
لذلك لا أقول “العقلاني” بالمعنى الضيّق الذي يقصد به النتيجة الأفضل منطقيًا، لكن لو قلنا “عقلاني” بمعناه الأوسع، وهو ما تتناسق فيه أفعالك، وعواطفك، وقيمك معًا، في وحدة متماسكة؛ فإنني آمل حينها أن يتخذ الناس قرارات عقلانية بهذا المعنى.
ضعف التواصل بشأن المخاطر أمر يمكن أن يكون له تأثير شديد. على سبيل المثال، الخبر الذي نُشر عن أضرار شرب النبيذ على الجنين جعل واحدة من محررينا تحت ضغط دائم بشأن شربها النبيذ بشكل معتدل أثناء فترة حملها.
أعتقد أنه من عدم المسؤولية القول أن هناك خطر عندما لا يكون معروفًا ما إذا كان في الواقع هناك خطر أم لا؟ هناك شكوك علمية بشأن هذا.
في مثل هذه المواقف من المخاطر المجهولة ، هناك عبارة تستخدم عادة، تقول: “غياب الدليل على وجود شيء ما ليس دليلاً على انعدامه”
أنا أكره هذه العبارة. وأشعر بالغضب الشديد عندما يستعملها الناس. دائمًا ما تستعمل بطريقة مضللة.
ما أودّ قوله هو صحيحٌ أن غياب الدليل ليس دليلاً، ولكن لو بحثت بجدٍّ وراء الأدلة، ستجد أن الأدلة تشير إلى تأثير ضئيل للغاية، أو منعدم.
لذا، فيما يتعلق بمخاطر شرب الكحول أثناء الحمل؛ قالت هيئة الصحة في المملكة المتحدة أنه كخطوة وقائية من الأفضل ألا تشرب. وهذا منصف بما فيه الكفاية. هذه الأمانة مهمة. إذا كنا لا نعرف بالتأكيد ما إذا كان الشرب مضرًا، وحتى نكون آمنين؛ فنقول أنه لا ينبغي علينا القيام بذلك. هكذا يعامل الناس كبالغين، ويسمح لهم باتخاذ قراراتهم الخاصة.
(ليس كذلك، بل أكدّت الهيئة البريطانية NHS وجود “ارتباط-correlation” بين عدد معين من اضطرابات النمو والأمراض التي يولد بها الجنين وبين شرب الأم للكحول-– طبعًا يصعب الجزم في مثل هذه القضايا بالسببية المباشرة Causality لطبيعة تعقد الظاهرة المبحوثة وصعوبة قياس المتغيرات مفردة- ، وأكدته أيضًا هيئة الأوبئة والأمراض الأمريكية CDC، والعديد من الهيئات الطبية الموثوقة حول العالم، وهي توصية معتمدة في الإرشادات الطبية والممارسات حول العالم، وهذا التحذير مدعوم بعدد هائل من الأبحاث والبيانات -ملاحظة من المراجع).
يتغلغل العلم أكثر وأكثر في حياتنا. ما القيود التي تواجه الصحافة العلمية، وكيف يمكن تحسينها؟
صحفيو العلوم المتخصصون الذين أعرفهم مثيرون للإعجاب، ويبذلون مجهودًا كبيرًا في نشر مقالات دقيقة ومتوازنة. تحدث المشكلة هي عندما توضع المقالات العلمية بأيدي غير المتخصصين من الصحفيين العاديين حينها ترى التلاعب السخيف بالأدلة والمقالات. لذا فإن الصحافة المتعلقة بالعلوم تواجه مشاكل؛ خصوصًا عندما لا توضع بأيدي أولئك الذي يعرفون كيف تسير الأمور.
بطبيعة الحال، فإن التحدي الأسمى أن نكون صادقين مع الحقائق، ولكن أيضًا أن نكون ماهرين في إثارة و جذب القدر الكافي من المشاعر لجعل الناس يقرؤون القصة.
إنه أمر صعب للغاية. وهذا ما أعمله الآن. مهمتي هي تحويل الأمور غير المثيرة إلى قصة حية بالقدر الكافي، مثل آثار شرب الكحول، أو تناول سندويتش لحم الخنزير المقدد. وهذا هو التحدّي الحقيقي: إيجاد الدراما في الأمور العادية.
يلعب العالم حاليًا لعبة انتظار الدليل الذي يؤكد ما إذا كان فيروس زيكا يتسبب في عيوب خلقية، أم لا. ما رأيك في تقييم المخاطر في هذه الظروف؟
إنها حالة كلاسيكية حيث تكون التدابير الاحترازية أفضل. أود أن أقول أن هناك أدلة كافية لاتخاذ الاحتياطات اللازمة، مثل عدم الحمل إذا كنت أنت أو شريكك في منطقة متضررة.
إنه إجراء وقائى مؤقت، وهو شكل مناسب من أشكال تقييم المخاطر. في المستقبل، سنكون قادرين على إعطاء رأي أقوى بكثير.
ما تستطيع القيام به هو التسليم بعدم يقينية العلم. لا تحتاج إلى الزعم بوجود علاقة سببية، وتبالغ في تقدير القضية، ولكن هناك من الأدلة ما يكفي لتوخي الحذر.
رغم أننا لا نعرف النسبة الدقيقة للإصابة بصغر حجم الجمجمة، إلا أن لدينا فكرة أن الرقم سيكون منخفضًا. وإلا لكان عندنا الكثير من الحالات [مع كل إصابة بالفيروس]. يتحدث الناس عبر الراديو عن (الخطر الشديد) المتمثل في الحصول على رأس صغير، لكن هذه ليست هي الحالة، صحيح أن الخطر أعلى “احتماليًا” ولكن ارتفاع الاحتمالات لا يعني أنه خطر محقق. هذا النوع من الحديث عن المخاطر سيزيد من قلق الناس دون داعِ.
هذا هو ما نعرفه. وما لا نعرفه.
لا نعرف ما المخاطر. نحن نفعل ذلك لنكتشفها. في غضون ذلك، كي تكون في الجانب الآمن ربما يحسن بك القيام بx,y,z إذا كنت قلقًا من الموضوع، هذا هو التمكين الذاتي. ثم سنعود إليك لاحقًا، وستتغير توصيتنا في المستقبل. إنها استراتيجية تكيفية، ومرنة.
كان هذا هو الحال بالنسبة لمعظم الأوبئة، على سبيل المثال، كثرت المبالغة في حالات الإصابة بمرض أنفلونزا الخنازير عندما بدأت في الانتشار. لم يكن ذلك دون سبب؛ بل كان إجراءًا احترازيًا. لكن من المهم الإعلام أن الأرقام مؤقتة، وسيتم تحديثها عند جمع الأدلة.
اقرأ ايضاً: التضليل باسم العلم