عام

مُحاكمة التعاطف

  • حوار شون إيلينغ مع باول بلوم
  • ترجمة: الخنساء باوزير
  • تحرير: ريم الطيار

ما الفرق بين التعاطف والشفقة؟ ولماذا يعتقد عالم النفس في جامعة ييل الأمريكية بأنه عليك أن تتبنى الأول لا الثاني؟

من منا ضد التعاطف empathy؟[1] إن كان حدسنا الأخلاقي يتفق مع شيءٍ ما، ألا يتفق مع كَوْن التعاطف مع باقي البشر حسنٌ ومطلوب؟ فما الضرر الذي قد يحصل من تفهمنا أفكار ومشاعر الآخرين؟

يزعم باول بلوم، أستاذ علم النفس في جامعة ييل الأمريكية، ومؤلف كتاب “ضد التعاطف” أن أكثرنا مخطئ بشأن التعاطف (الشعوري)[2]. يستعين بلوم بالدراسات الإكلينيكية والمنطق البسيط لإثبات أن التعاطف على أنه يكون بحُسن نية هو دليل ضعيفًا للتصرف الأخلاقي.[3] والأسوأ من ذلك هو كلما اعتمد الأفراد والمجتمعات على التعاطف في إصدار أحكام أخلاقية أصبحوا أقل إحساسًا ومبالاة بما يقاسيه أفرادٌ وجماعات كُثر من معاناة حقيقية.

“أريد أن أناقش قيمة التفكير الواعي المتأني في الحياة اليومية، وأن أشير إلى ضرورة استعمال عقولنا بدلًا عن قلوبنا”، هذه هي الحجة التي يُقيمها بلوم في الصفحات الأولى من كتابه.

فيما يلي استعراض للمسالك التي نوقِشت بوضوح حول مخاطر النوايا الحسنة.

تحدثت مع بلوم في جلسةٍ لنا عن قضيته ضد التعاطف، وكنت قد قرأت كتابه ليسري الحوار بوضوح وصراحة تامة، بدأت الحوار والشك يملؤني؛ فلطالما اعتقدت أن التعاطف هو أساس التضامن الإنساني (لأسبابٍ أوضحها أدناه)، فإن اتضح أنه على حقٍ بشأن التعاطف، فهذا يعني أنني كنت مخطئًا طوال حياتي تقريبًا.

وما خلُصت له بعد قراءة كتابه ومناقشته في هذا الحوار أنه (في أغلب ما قال) على حق.

 

– شون إيلينغ: كيف تُعرّف التعاطف (الشعوري) أو الشفقة؟ وكيف يختلف عن التعاطف الإدراكي؟

– باول بلوم: إنه سؤالٌ رائع؛ ذلك لأن كثير من الناس ينفعل بشدة عند قراءة عنوان كتابي، أدركت مؤخرًا أن الناس يقصدون أشياء مختلفة بالتعاطف، فالبعض يقصد به كل ما هو حسن وأخلاقي، أو التعامل الحسن بالعموم، وأنا لست ضد هذا بالتأكيد.

وهناك مقصود آخر متداول له، وهو أضيق من سابقه، فهو يُعنَى بتفهّم الناس، وهو ليس ما أتحدث عنه تحديدًا. كما أعتقد أن تفهّم الناس أمر مهم، ولكنه ليس بالضرورة شيئًا حسنًا يفضي لخير، فقد يفضي لشر أيضًا.

أعني بالتعاطف الشعور بمشاعر الناس وتفهمها، فإن كنت تتألم سأتألم لألمك، وإن كنت متوتراً فسأشعر بالتوتر لتوترك، وإن كنت حزينًا فسأحزن لحزنك-فأنا هنا أتعاطف معك شعوريا.

وهذا يختلف عن التعاطف الإدراكي، فهو يعني إعطاء قيمة ووزن لما أهمّك، فأبالي بك وأهتم، ولكن لا أشعر بالضرورة بما تشعر.

يحسب كثير من الناس أن الاختلاف بينهما لغوي فقط؛ فلذلك لا يهم التفريق بينهما، ولكني زودت القارئ في كتابي بمجموعة أدلة تثبت أن التعاطف الإدراكي والشعوري ينشّطان مواقع مختلفة من الدماغ، والأهم أنهما يختلفان حتى في العواقب.

فإن كنت أتعاطف معك شعوريا، فسأشعر بالألم إن كنت تعاني، وهذا مرهق لي، وقد يفضي لتنجبي رؤيتك ومحاولة مساعدتك، ولكن إن كنت أتعاطف معك إدراكيا فسأكون مدفوعًا لمساعدتك ومحاولة تحسين حياتك.

 

– شون إيلينغ: أفهم كل ما ذكرته للتو، ولكن لا أزال أرى أن التعاطف شعور إيجابي ومفيد إلى حدٍ كبير، كما يمكن للمرء أن يجادل في أن وجود التعاطف الشعوري يفتح الباب لمزيد من التعاطف الإدراكي.

– باول بلوم: مشكلتي هي مع دَور التعاطف الشعوري في اتخاذ القرارات، فللتعاطف ميزات معيّنة تجعل منه شعورًا إيجابيًا في بعض الظروف المحدودة؛ فمثلًا لو اختفى سكان الأرض ولم يبق إلا أنا وأنت، وكنت تتألم، وأستطيع مساعدتك لتخفيف الألم، فسأشعر بالتعاطف معك، وأحاول تحسين حياتك، ففي هذه الحالة قد استفاد كلانا من التعاطف، ولكن العالم الحقيقي ليس بهذه البساطة، وأبرز أوجه التقصير في التعاطف هو تسليطه الضوء عليك، وهذا الضوء الكاشف لا يُسلَط إلا على ما تختار إظهاره، وبذلك يكون التعاطف الشعوري متحيزا.

وقد أُجريت العشرات والمئات من التجارب المعملية التي تثبت تحيز التعاطف. فمثلًا، قد أتعاطف مع رجل أبيض وسيم، كحالك، ولكني لا أتعاطف مع رجل بغيض أو مرعب، وفي الواقع أني لا أتعاطف كثيرًا مع من لا يشاركني ثقافتي ولا لوني ولا لغتي، ولا يمكننا إنكار هذه الحقيقة الفظيعة، فهذا موجود في طباع البشر، وإن لم يكن مما نعيه بإدراكنا، فنحن موقنون بحدوثه.

مشكلة التعاطف الثانية هي التمويه؛ فالتعاطف يصب تركيزنا على حالة واحدة، ولكنه لا يهتم بالفروق بين الواحد والمئة والألف؛ فالتعاطف يجعلنا غالبًا نهتم لشخص بدلًا من مئة أو ألف شخص، أو نهتم بفتاه جميلة وبيضاء تغيبت عن منزلها أكثر من اهتمامنا بألف طفل جائع لا يشبهوننا ولا يعيشون في ديارنا.

فالتعاطف الشعوري قد يجلعنا نشعر بشعور جيد، ولكنه بالتأكيد يجعلنا نتخذ قرارات غبية وغير أخلاقية.

 

– شون إيلينغ: هل التعاطف ضوءٌ مُرّكز كاشف؟ وهل عليه أن يركز على شخص أو شخصين في الوقت ذاته؟ وهل هذا جزءٌ من طبيعة التعاطف أم إنه تجلٍ من تجلياته البارزة ليس إلا؟

– باول بلوم: أعتقد أنه جزء من طبيعة التعاطف؛ فالتعاطف الذي نتحدث عنه هو أن “أضع نفسي مكانك”، والسؤال: لِكم شخص قد تستطيع فعل ذلك؟ قد أستطيع فعل ذلك لك ولشخص آخر في الوقت ذاته، فأنت قد تشعر بشيئين مختلفين وقد أتفهمها نوعًا ما، ولكن هل أستطيع فعل ذلك لعشرة أشخاص أو مئة؟ لا، من يقدر على التعاطف مع كل المخلوقات هو فقط الكائن الخارق؛ أما نحن فنركّز فقط على شخص واحد.

وعمومًا فإن التعاطف مختلف عن الأخلاق؛ فعندما أُصدر حكمًا أخلاقيًا، أضع الأرقام بالاعتبار، فأقول مثلًا: قد يتضرر بفعلي هذا عشرة أشخاص، بينما سيستفيد ألف شخص.

فتتعامل بالأرقام مع كل ما ينطبق على المثال السابق من عناية صحية، أو تحكم بالسلاح، أو أي شيء من هذا القبيل. بيد أن التعاطف بطبيعته يتصرف كضوء كاشف.

 

– شون إيلينغ: فأنت ترى أن التعاطف ليس دليلا ضعيفا للتصرف الأخلاقي فحسب، بل تعتقد أنه يزيد من سوء من حال الناس والعالم؟

– باول بلوم: أعتقد أن التعاطف رائع لمختلف الأمور؛ فإنه مصدر لا ينضب من السعادة واللذة. فستختفي مثلًا متعة القصص الخيالية إن كنا لا نستطيع التعاطف مع شخصياتها، كما ستتلاشى الكثير من الحميمية في علاقاتنا؛ إذ أعتقد أن التعاطف أمر أساسي في الجنس مثلا.

بيد أنه في الجانب الأخلاقي يفضي بنا إلى الضلال، وحالنا أفضل إن تخلينا عنه في هذا الجانب، وكنا عقلانيون متأنون، متحفزون بالتعاطف الإدراكي والاهتمام للغير.

 

– شون إيلينغ: هل بإمكانك التمثيل لموقف من الحياة اليومية يوضح أثر التعاطف السلبي؟

– باول بلوم: سأعطي مثالًا جدليًا وآخر أقل جدليةً منه، أما المثال الجدلي فهو في دور التعاطف في نظام القضاء الجنائي وخاصةً في تصريحات الضحايا؛ يسمحون للضحايا بإدلاء تصريحاتهم في ولايات محدودة، ويتحدث الضحايا في هذه التصريحات عن تفاصيل الحادثة وما قاسوه عند تعرضهم للاعتداء، ومشاعرهم عند تعرض أحد أفراد عائلاتهم للقتل، وعادةً ما ينبني الحكم القضائي على هذه التصريحات.

ولا يمكنني التفكير بصورةٍ لقرارات متحيزة جائرة أكمل من هذه!

فتخيل القدرة التي تمتلكها الضحية إن كانت فتاة بيضاء جميلة، لبقة وفصيحة، والعكس إن كان الضحية رجلاً أسود متجهم لا يحب التحدث عن مشاعره، فأنت هنا تقلب الأسئلة العميقة التي تقتضي البت في طريقة عقاب المجرمين إلى السؤال عن مقدار تعاطفك مع الشخص الذي أمامك، وفي هذه الحالة يصبح التحيز سيد الموقف.

المثال الآخر عن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، غالبًا ما يُصاغ خطاب ترامب حول المهاجرين والمسلمين في بداية حملته الانتخابية بخصوص معاناتهم، وقد يتحدث بالفعل عن قصصهم، بينما قد يحكي في اجتماعاته الجماهيرية قصصًا عن ضحايا الاغتصاب وإطلاق النار، وعن آخرين خسروا وظائفهم. فهو بهذا يلتمس تعاطف مؤيديه الذين قد امتدت اهتماماتهم غالبًا إلى قبائلهم.

لاحظ آدم سميث قبل ثلاث مئة عام أنه عندما تتعاطف مع ضحية استغلال أو اعتداء، يظهر أثر ذلك التعاطف في صورة غضب أو كراهية تجاه المعتدي، وأعتقد أننا نرى هذا دائمًا في الواقع؛ فمثلًا قد يلجأ من يريد منك أن تطرد جماعةً من بلدك أو أن تشارك في الحرب إلى روايةِ قصة مأساوية عن شخصٍ مُعدَم لا يختلف عنك في شيء، ولكنه أصبح ضحية بطريقة ما. قد تكون هذه القصة مُختلقة أو حقيقية، ما يهم هو أنه أُسيءَ استخدام التعاطف في هذه الحالة.

 

– شون إيلينغ: أرى أن مجمل حججك مقنعة، ولكن أعتقد أن نقدك لا ينطبق على مجال العلاقات الشخصية أو علاقة الوالدين بأبنائهما، أوَلسنا ملزمين بزيادة اهتمام بالأحبة والأصدقاء؟ وإن كان هذا صحيحًا، ألا يتطلب هذا الاهتمام شيئًا مثل التعاطف؟

– باول بلوم: هذا سؤال رائع، أتحدث في جزء كبير من كتابي عن البديهيات، ولسان حالي يقول: “هذه هي الحقيقة”، بيد أني كتبت فصلًا كاملًا عن العلاقات الحميمة قد عَنيتُ بتفنيد مسائله للإجابة على مثل هذه الأسئلة.

إنها تأتي على صورتين؛ الأولى: “التعاطف متحيز يفتقر إلى الموضوعية، ويحتمل المفاضلة” ولكن ليست كل التحيزات سيئة، فأنا أحب أطفالي أكثر منك، ولا عيب في ذلك، إذ لا أعتقد أني ارتكبت هفوةً أخلاقية، وليست خطيئة أن يهتم المرء لأمر عائلته وأصدقائه أكثر من اهتمامه بالغرباء.

غير أن الاهتمام للبيض أكثر من السود يعتبر غلطة أخلاقية، ومن منطلق خلو الاهتمام للعائلة والأصدقاء من الغلط الأخلاقي، فإن تحيز التعاطف هنا لا يشكل مشكلة، وإن نزعت التعاطف من دماغي، فإني سأضل أحب أبنائي؛ وذلك لأن المشاعر الأخرى ستذهب في ذلك الاتجاه (الأول)، وفي هذه الحالة لا يُعد تحيز التعاطف مشكلة.

بخصوص الجزء الآخر من سؤالك، فإن الأمثلة التي ذكرناها تصب في السياسة العامة، مثل المشاركة في الحرب وتصريحات الضحايا. فماذا عن التعامل مع أبنائك أو زوجتك؟ ألا تحب أن تتعاطف معهم؟ وأعتقد أن إجابة هذا السؤال متباينة، وأرّجح أن تكون الإجابة غالبًا: لا.

هب أنك قد أتيت لي قلِقًا مذعورًا، هل تريد أن أقلق أنا الآخر؟ هل تريد أن أتعاطف مع قلقك، لا أن أتفهمه فقط، بل أشعر به فأقلق؟ أفترض أنك لا تود ذلك، بل تريدني أن أكون هادئًا لأساعدك. وإن كنت مكتئبًا، لا تريدني أن أكتئب أيضًا، فعندها تستعاني من مشكلتين بدلًا من مشكلة واحدة، وأنت هنا تريدني أن أرفع معنوياتك، وأخرجك من دائرة الحزن، وأضع الأمور في نصابها.

أعتقد أن التعاطف قد يكون إيجابيًا، خاصةً مع مشاعر أخرى إيجابية. فإن كنا أصدقاء وحدث لك أمرًا عظيمًا، فقد تود أن أشاركك فرحتك، ليس فقط أن أكون سعيدًا بكون أمورك جيدة، بل مشاركتك الإحساس بمشاعرك الإيجابية، ولا أرى سوءًا في ذلك.

 

– شون إيلينغ: قد أجدت التفريق بين الشعور والتفّهم، وقد ألمحتَ لهذا الفرق من قبل، لكنني أطمع أن توضح لي الفرق أكثر، هل تقصد كوني متعاطفًا مع أحد يعني أن أشاركه مشاعره، لا أن أتفهّم فقط ما يشعر به؟

– باول بلوم: من أهم ما يتحقق من حجتي هو إدراك أن الشعور والتفهم أمران منفصلان، فالكل يُجمع على أن تفهم الآخرين من أمارات صلاح الإنسان؛ فمثلًا لا يمكنك إعطاء شخصًا ما هدية بدون أدنى معرفة وتفهّم له، كما لا يمكنك إسعاد طفلٍ وأنت لا تفهمه، وكما ذكرنا من قبل، فإن التفهم ضروري عند نية إفساد حياة شخص ما، أو استغلاله وخداعه وتعذيبه أيضًا، ومع ذلك فإن التفهم شرط مهم لفعل الخير للغير.

فبالتالي، إن تأكد التشابك والترابط لجوهر التفهم مع الشعور، عندها لا أستطيع أن أكون ضد التعاطف. ولكنهم غير مرتبطين؛ لسهولة ملاحظة انفصالهم عن بعض.

يتجلى جانب من هذا الانفصال في المريض النفسي المؤهل، فبعض المرضى النفسيين ليسوا بالروعة التي قد تعتقدها، بل إنهم مجرد أشخاص فشلوا في حياتهم، غير أن بعضهم يجيد التعامل مع الآخرين؛ وذلك لأنهم يتفهمون مشاعر الآخرين، فهم يعرفون ماذا تريد، وماذا تحب، ويعرفونك أكثر مما تعرف نفسك، ولكنهم لا يهتمون لأمرك، وقد يتسببوا لك بكثير من الألم دون أن يرف لهم جفن.

 

– شون إيلينغ: هل ترى للتعاطف الشعوري أي فائدة اجتماعية؟

– باول بلوم: أعتقد أنه ينتهي بنا إلى اتخاذ قرارات لا أخلاقية. لكن هذا عادةً ما يرغب به الناس؛ ففي كثير من اللحظات قد يرغبون بوجود من يشاركهم شعورهم. فمثلًا عندما أحتاج إلى مساعدتك في إقراضي بعض المال لإجراء عملية ضرورية لابني، سألجأ للحث الأخلاقي لتتعاطف معي، فبماذا ستشعر عندها؟ حثك لمشاركتي شعوري هو جزء من محاولتي للحصول على مساعدتك.

 

– شون إيلينغ: أفهم نقطتك حول انحياز وعنصرية التعاطف، لكن هل دائمًا ما يكون التعاطف على هذا النحو؟ أم أنه غالبًا ما يكون هكذا مع أغلب الناس في أغلب الأوقات؟ فكّر في راهب بوذي أو شخص يتأمل باستمرار ليصبح عطوفًا ورحيما، التعاطف في هذه الحالتين لا يستهدف أشخاصًا بعينهم، بل أزعم أن التعاطف المُمارس بهذه الطريقة لا يعدو كونه مذهبـًا، لا شعورًا موجـّهًا لأحد أو لشيء.

– باول بلوم: هذان سؤالان مختلفان، ولكن ذكرك لمسألة الراهب مثيرًا للاهتمام، فقد تحدثت عن الرهبان، والتأمل، والبوذية في كتابي؛ فهم يحذروك من التعاطف بشدة، بقولهم: لتدرك ما تتحدث عنه، وتدرك مكانك، عليك التخلص من التعاطف، والاتكال على المحبة والعطف والمودة، ولا تحاول التلاعب بعقول الناس، فهذا سيُجهدك ويسبب كافة أنواع المشاكل.

توجد بعض الأدلة التي تثبت أن ممارسة التأمل تجعل منك شخصًا ألطف، ولا توجد أدلة حتمية على ذلك، إنما تشير الدراسة إلى أن التأمل يجعلك عطوفًا أكثر، فلا تشعر بالألم والمعاناة عند مساعدتك لأحد، وهذا يكون بتقليص التعاطف.

ههنا مقارنة أطرحها: أليس من المؤسف أن يشتد كلف الناس بالأطعمة الدهنية اللذيذة؟ لماذا لا يقدرون على الاستمتاع بأكل مسحوق البروتين أو السبانخ ليلًا ونهارًا؟ هل تقدر على القول باستحالة وجود شخص يكره مثلجات الفواكه وشرائح اللحم، ويحب مضغ مسحوق البروتين؟ هل يستحيل وجود شخص لا ينجذب جنسيًا إلى الأشخاص الجميلين، بل ينجذب جنسيًا إلى الشريفين الفضلاء؟ وهل يستحيل وجود من يغضب ويمتعض من ظاهرة الاحتباس الحراري، ولا يكترث إن نزعت يده من جسده؟ لا أدري، ولكن لا أعتقد أننا كذلك.

قد خضت نقاشًا مع أكاديمي بريطاني عن مسألة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، كان يقول إن المشكلة لا تتلقى الكثير من التعاطف، وأنا أقول إن المشكلة تكمن في التعاطف الزائد، فقال: هل يمكنك تخيل شخص إسرائيلي يتعاطف مع الفلسطينيين كما يتعاطف مع عائلته؟ يمكنني تخيل ذلك، ولكن هذا ليس من طباع البشر عادةً.

 

– شون إيلينغ: لطالما أحسست أن التعرّف على معاناة شخصٍ ما، هو المفتاح للتضامن الإنساني، والتعاطف هو الطريق لإدراك الخبرات المشتركة، وإن أردنا إجراء تحول حاسم من الانغلاق على الذات إلى الوعي الجمعي، ألسنا في هذه الحالة بحاجة إلى شيء مثل التعاطف؟

– باول بلوم: لن أقول بكل ثقة أنك مخطئ؛ يبقى التعاطف كونه الأثر لا السبب، حتى في بعض النواحي التي يصل فيها إلى أقصى ما يمكنه فعله؛ بمعنى: إذا وضعت نفسك مكان رجل في أفريقيا، أو شخص متحول جنسيًا، أو أي شخص لا تنتمي إليه، عليك إلزامًا أن تعترف بإنسانيته، فالتعاطف لا يشكل شيئًا سحريًا.

التعاطف عملية نفسية من التخيل، فأنت تختار القيام بهذه القفزة التخيلية، ولكن الأمر كله يتعلق بالخيار الأخلاقي وليس التعاطف إلا لوناً واحدا منه، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل تحتاج إلى تقنينه وشرعنته؟ وبمعنى آخر هل اتباع التصرف الأخلاقي يجب ربطه بالتعاطف؟ يدعوني هذا إلى التفكير بالثورات الحقوقية في وقتنا هذا…

 

– شون إيلينغ: لعله من الأفضل اعتبار التعاطف أداة ووسيلة لا قيمة أخلاقية. فهو سلاحٌ ذو حدين؛ يعتمد على استخدام المرء له. وكما تقول، فإن المخادعين متعاطفون جدًا، وذلك سبب فعاليتهم، والدالي لاما متعاطف هو الآخر، ولكن تعاطفه يمثل الوسيلة لبلوغ غايات أفضل بكثير.

– باول بلوم: أعتقد أنه من الأفضل عدم ذكر التعاطف عندما يتعلق الأمر بالاستدلال الأخلاقي؛ فلن يزيدك إلا تحيزًا وتمويهًا وارتباك، بيد أنه عندما يتعلق الأمر بالبحث عن دافع أخلاقي، فقد يكون التعاطف وسيلة مفيدة؛ فمثلًا إذا أردتك أن تساعد طفلاً ما، فسألفت انتباهك إلى عائلته لتشعر بألمهم، وإن أردتك أن تقتل السود في جنوب أمريكا، فسأقول لك: انظر للمغتَصَبات من النساء البيض، واشعر بألمهم، اقتلهم! فالتعاطف وسيلة، وما أريد قوله أن هناك عدة وسائل ناجعة وموثوقة.

 

– شون إيلينغ: لقد جادلت في مكان آخر أن للامتياز طريقة في إخفاء المتميزين، وهذا من أكبر الأسباب التي تدفع الناس لعدم التنبّه لدور الحظ في حياتهم، والأهم من ذلك، دور سوء الحظ في حياة الآخرين. ولِهذا، بالطبع، تداعيات سياسية سيئة. ولطالما أدركت أن هذا يُعد من حجج الدفاع عن التعاطف. هل أنا مخطئ في ذلك؟

لم أفكر فيه بهذه الطريقة من قبل، بل أعتقد أن محاولات التعاطف قد تجعل الأمور كارثية. حدث مرة أن قال لي صديق بكل صراحة، وهو رجل أبيض آخر وُلد بامتيازات: “لا أفهم لمَ قد يفعل الفقراء هذا ولا يفعلون ذاك، إن كنت في مكانهم، كنت سأفعل هذا وذاك… ومن هذا الكلام”.

قد تقول إنه لم يتعاطف بقوة كافية معهم، فإن كان يفهم تمامًا ما يعنيه الحرمان من التعليم المناسب وما إلى ذلك، ربما سيفهم عندها. أتساءل عما إذا كان تمييز المصادفة والحظ الأعمى شيء لا يُدرك بالتعاطف إنما بفهمٍ أوسع وأشمل.

لست متأكدًا من إجابتي تمامًا، لكنه سؤال رائع.

شون إيلينغ: لا أتفق مع القلة التي تقول بأنك تبالغ في الإيمان بالعقل المحض كدليل للأخلاق، لكن ألا يتوجب عليك في مرحلة ما أن تُضمّن بعض القيم والمشاعر إلى العقل المحض كدليل للأخلاق؟ ويمكنك بسهولة بعد هذا كله أن تفكر بالمنطق والعقل في علم تحسين النسل أو في أي نظرة سوداوية للعالم.

هنالك فرق، أعتقد أن للعقل يد في كيفية وصولنا إلى استنتاجات، وتحديدًا إلى غايات معينة، يمكن أن تستمد من العقل الغايات التي تسعى لها، بناءً على أهداف أخرى، لكن في النهاية، لا يحدد العقل هذه الغايات. فمثلًا قد أقول إني أريد تحسين العالم، وهذه الطريقة التي سنعتمدها.

ويمكن أن تصعبها علي، وتقول: لماذا تريد تحسين العالم؟ سأجيبك بأن هذه رغبتي، وعلى ذل، لابد للعقل والمنطق أن ينتهي في نقطة ما.

جُل اهتمامي يصب في حالات سعي الناس العقلانيين إلى نفس الأهداف واختلافهم في طريقة تحقيقها، وفي هذه الحالات أعتقد أن العقل يتفوق على المشاعر.


[1] – يفرق المقال هنا بين التعاطف compassionate والشفقة empathy، لكنه يريد أن يبين الخلط الحادث عند الناس بينهما فيسمون empathy تعاطفاً، ولا يسمونه شفقة. (المراجع)

[2] – لأنهم لا يميزون بينه وبين التعاطف الإدراكي. (المراجع)

[3] – الاستدلال الأخلاقي هو العملية التي يحاول خلالها الفرد تحديد التفريق بين ما هو صحيح وما هو خطأ في الموقف الشخصي باستخدام المنطق. المترجمة.

المصدر
vox

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى