- يوسف عبد الرحمن الخليلي
- تحرير: عبير الغامدي
البلاغة ھی إجاعة اللفظ وإشباع المعنى كما عرّفها ابن المقفع، وإيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من صور اللفظ، إنها تعتمد على الفصاحة في الکلمات والجمل إلى جانب مراعاة مقتضى حال السامع والمخاطب في الكلام. والرجل البليغ أشبه بالرسام؛ فكما أنه يختار للصورة المرسومة على اللوحة ألوانًا تلائمها وتطابقها، فهكذا البليغ ينتقي من أساليب التعبير والبيان ما تلائم مقتضى حال السامع والمخاطب، إن كان ذكيًا فیخاطبه بإيجاز، وإن كان غبيًا فبإطناب، وإن كان متوسطًا بينهما فيجدر به المزاوجة والمساواة.
وموضع علم البلاغة من العلوم العربية موضع الرأس من الإنسان، أو اليتيمة من قلائد العقيان، فهي مستودع سرّها، ومظهر جلالها، فلا فضيلة لكلام على كلام إلا بما يحويه من لطائفها، ولا ترجیح لتعبیر على آخر إلا بما ينفثه من سحرها، ويجنيه من يانع أثمارها.
من ھنا فإن لهذا العلم فوائد كثيرة وعوائد جمة، لايمكن الحصول عليها إلا بعد التعمق في دراستها والتضلع بفنونها وأفنانها. وفيما يلي استعراض موجز لأبرز فوائد دراسة علم البلاغة.
1- تُعين على معرفة إعجاز القرآن الکریم :
لا شك أن القرآن في قمة البلاغة وأوجها، وهو الكتاب الذي لا تنتهي عجائبه ولا تنقضي غرائبه لمن يخوض في بحارها، فيستخرج منها جواهر المعنى ويواقيت البيان، كما ذکر أبو عبيدة أن أعرابيًا سمع رجلًا يقرأ: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين}، فسجد، وقال: سجدت لفصاحته، وكان موضع التأثير في هذه الجملة هو كلمة (اصدع) في إبانتها عن الدعوة والجهر بها والشجاعة فيها، وكلمة (بما تؤمر) في إيجازها وجمعها، فقد بلغ هذا الكتاب في بلاغته حد الإعجاز، وتحدى العرب قاطبة بما فيهم فصحاء عدنان وبلغاء قحطان، فعجزوا عن آخرهم من أن يأتوا بسورة أو آية من مثله، والبلاغة وسيلة إلى معرفة إعجاز القرآن الكريم، فإذا أغفل الإنسان علم البلاغة وأخل بمعرفة قواعدها لم يستطع أن يدرك إعجاز النظم الكريم، ولم يعرف من أي جهة أعجز الله العرب عن أن يأتوا بسورة من مثله.
ھذا سیدنا عمر رضی اللہ عنه حین یسمع آیات من سورۃ طه یقشعر لها بدنه، ویوجل لها قلبه، ویؤثر ذلک فی نفسه، فیسرع الکرۃ إلی النبی صلی اللہ علیه وسلم، ولایتأتی له القرار إلا باعتناق الإسلام علی یده.
وھذا التأثیر البلیغ کله لم يكن إلا لما اشتمل علیه القرآن من جزالة التعبیر ونصاعة البیان، فھی آیة خالدۃ ومعجزة سرمدیة، كما يقول الشاعر:
جاء النبیون بالآیات فانصرمت
وجئتنا بکتاب غیر منصرم
آیاتہ کلما طال المدی جدد
یزینھن جمال العتق والقدم
فمن هذا المنطلق لايتأتى الكشف عن أسرارہ وفهم إعجازه ولایطلع علی کنوزہ وجواھرہ إلا من تضلّع بعلم البلاغة.
2- تکشف القناع عمّا في القرآن الكريم من معانٍ وأحكام وأخبار وقضايا :
لأن الناظر في القرآن والمتصدی لفهم معانیه وأحکامه لابد له من الإلمام بقواعد علم البلاغة لمعرفة ما يدل عليه التكرار، وما ينطوي عليه الحذف، وما يفيده هذا التأويل، وغير ذلك مما يتصل بقواعد هذا العلم.
فالمفسر الذي يتعرض لتفسير آية من آيات الذكر الحكيم لا بد له من الإلمام بقواعد البلاغة، والفقيه المستنبط للأحكام لا بد له من معرفة قواعد البلاغة، والمتعرض لقصص الأنبياء الواردة في القرآن الكريم وما يتعرض لأخبار الأمم وسيرهم، لابد لكل هؤلاء من معرفة قواعد البلاغة وأصولها.
3- تساعد في فهم الأحاديث النبوية وإدراك بلاغتها وروعة أسلوبها :
ويتضح ذلك حين نطالع الأحاديث النبوية بتأمل وإمعان، حيث يستخدم النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأساليب البيانية حسب ما تقتضيه حال السامع وعقليته، من هنا فإنه كان – عليه الصَّلاة والسَّلام – يوصي كلّ مخاطَبٍ بما يصلح لحاله، فمن ذلك ما رواه أبو هريرة – رضي الله عنه – أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَوْصِنِى، قَالَ: “لاَ تَغْضَبْ”، فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: “لاَ تَغْضَبْ”. وذكر العلامة ابن حجر رحمه الله في شرح هذا الحديث قول بعض أهل العلم: “لعل السائل كان غضوبًا، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمر كل أحد بما هو أولى به، فلهذا اقتصر في وصيته له على ترك الغضب”. فالفهم العمیق والدقیق لبلاغة الأحادیث النبویة لایمکن إلا من بعد المران والممارسة الطویلة لعلوم البلاغة.
4- تنمي ملكة الكتابة والتعبير عن المعنى :
إن الكاتب يمتلك بعلم البلاغة ناصية البيان، ويساعده ذلك على الصياغة الجيدة للكلام حسب المناسبات المختلفة، وسترى بونًا شاسعًا وفرقًا واسعًا بين كتابة من استنفد قواه فی تحصیل علم البلاغة وبين من طوى عنه كشحه أولم يتمكن منه تمكنًا تامًا.
فإذا أراد صاحب اللسان العربي أن ينشئ أدبًا، شعرًا كان أو نثرًا، لا يتسنى له ذلك إلا إذا ألمّ بقواعد هذا العلم، وجعله مصباحًا يهدي خطاه ويسدد قلمه بما يعرفه من تركيب الأساليب الرفيعة، وأسباب رفعتها وجمالها، أما إذا فاته هذا العلم المفرق بين كلام جيد وآخر قبيح، وبين شعر بارد وآخر رصين كان ذلك سببًا لأن يمزج الصفو بالكدر من الأساليب، ويخلط بين الرفيع والوضيع، وقد قالوا: شعر الرجل قطعة في عقله.
5- تخلق كفاءات وقدرات على نقد الكلام :
إن هذا العلم يزود الناقد بأدوات النقد الأدبي ويعرف عليه معاييره، فهو يبدأ يميز بين كلام جيد السبك ورائع الأسلوب، كما أنه يطّلع على رداءة كلام آخر لايكون بهذا النوع في أسلوبه ومحتواه.
ولا شك أن علوم البلاغة تُعد من أمضى أسلحة الناقد الأدبي، فهي بلا شك تصقل الذوق، وتنمّي في صاحبها القدرة على التفرقة بين الكلام الجيد والكلام الرديء، فهي تساعد على إدراك الجمال وتذوّق الحسن في ألوان الكلام، فالناقد الأدبي وهو يتعرّض لنتاج أدبي لا يستطيع الحكم على هذا النتاج إلا بمعرفة قواعد علم البلاغة، حتى يمكن إبراز ما تضمّنه هذا العمل الأدبي من أسباب الجودة أو الرداءة.
اقرأ ايضاً: خرائط المتأدبين: خطة مقترحة لتطوير مهارات الكتابة الأدبية
6- تزيد الإحساس بالجمال الفني :
ينمّي علم البلاغة لدى القارئ التذوق الأدبي، فيتذوق اللغة وجمالها، ويتمتّع بقراءة كتبها، ويفهمها فهمًا دقيقًا وعميقًا، لأنه قد سبق له الاطلاع الواسع على المحسنات اللفظية والمعنوية من خلال دراسته علم البدیع، فاعتمادًا علی ھذا العلم یستشعر جمال النصوص الأدبية الماتعة وما تضمنته أشعار العرب من مزایا وبدائع.
فهذه نبذة من الفوائد والعوائد والثمرات لدراسة علم البلاغة والتضلع بها، فمن أراد اقتطاف هذه الثمرات واجتناءها فعلیه أن یضع هذا العلم في سلم اهتمامه ویعطیه مکانه اللائق من العنایة والحفاوۃ حتى یتمتع بجمال أسلوب القرآن الكريم والسنة النبوية ویسعد بقراءة أساليب العرب ویقدر علی محاكاتها فی کتاباته وتدویناته.
اقرأ ايضاً: القراءات القرآنية: مقدمة أساسية