- نورة الخريف
- تحرير: ريم الطيار
يعد مارتن لوثر كينغ أحد أعظم الرجال الأمريكيين في القرن العشرين، حتى إن الحكومة الأمريكية جعلت يوم ميلاده إجازة رسمية. لكن من هو مارتن؟ ولماذا أحبه كثير من الناس؟ ولماذا كرهه آخرون؟ إن قصة حياة مارتن لوثر كينغ قصة نضال شعب نحو الحرية.
ولد مارتن في الخامس عشر من شهر يناير من عام ١٩٢٩م في مدينة أتلانتا في ولاية جورجيا الأمريكية، كان والده قسًّا في كنيسة هناك، وكانت عائلة كينغ ميسورة الحال، ولديهم ما يكفيهم للعيش بأمان وراحة، وعاش مارتن بين عائلة محبة، وأصدقاء لطيفين.
قبل ولادة مارتن بحوالي أقل من قرن كان السود مستعبدين، وحتى بعد ولادته لم يحظَ السود بنفس الحقوق التي حظيَ بها البيض في المنطقة الجنوبية من أمريكا، فمثلا: لا يجلس الأبيض بجانب الأسود في الحافلة، ولا تقدم المطاعم الأكل للسود، وفي التعليم تختلف مدارس الأطفال السود عن البيض، ومع أنهم عاشوا في نفس البقعة والمكان إلا أنهم لا يختلطون ببعضهم، وهذا ما يسمى بالفصل.
تعرض مارتن لكثير من المواقف العنصرية منذ الصغر، فقد كان له صديق أبيض اسمه وارين يلعبان سويًّا في الحي، وبعد أن بدأت المدرسة بحث عن وارين ولم يجده، فذهب لبيته ليلعب معه، فردته والدة وارين قائلة إنه لا يمكنه اللعب مع ابنها بعد الآن؛ لأن مارتن أسود البشرة!
تأثر مارتن من ردها وعاد إلى منزله باكيًا، وأخبر والدته بما حدث، فردت عليه “لا يهم ما يعتقده الآخرون عنك، أنت شخص طيب تمامًا كأي شخص آخر، لا تنس هذا أبدًا”، ولم ينس مارتن كلمات والدته، كان يعلم أنها على حق، وأنه ولدٌ طيب كأي ولدٍ أبيض، لكن عندما كبر مارتن رأى طريقة معاملة البيض للسود في أتلانتا.
كان مارتن يجيد مهارة الإلقاء والخطابة، وعندما بلغ ١٢ عامًا بدأت المرحلة الثانوية، ونقل مهارته معه، فبدأ يلقي خطابات عن الحاجة إلى التغيير في المنطقة الجنوبية، ففاز بجائزة للخطابة في عمر ١٤ عامًا، وسافر مع معلمه إلى واشنطن لاستلام الجائزة، وفي طريق العودة لأتلانتا بالحافلة ركب معهم رجل أبيض، وكانت المقاعد كلها ممتلئة، فطلب السائق من مارتن إعطاء مقعده للرجل فرفض مارتن، لماذا أعطيه مقعدي؟ فاستشاط السائق غضبًا ونعته بكلمات بذيئة، لم يرغب مارتن بأن يسبب مشكلة لمعلمه فأعطى الرجل مقعده، لم يرد أن يكره البيض، ولكن من الصعب عليه ذلك أحيانا.
فيما مضى أُخذ كثير من الرجال والنساء من بيوتهم للعمل في المزارع، والطرق شمال وجنوب أمريكا، نقلت السفن الأوروبية على الأقل ١٠ ملايين أفريقي وأفريقية ليصبحوا عبيدًا فيما بعد، كان الجو داخل السفينة خانقًا، ولم يوفروا لهم طعامًا ولا شرابًا، مات مئات منهم قبل وصولهم أمريكا.
أما من استطاعوا الصمود والوصول فبيعوا للمزارعين البيض، وإذا كان هناك عبيد من نفس العائلة يفرقونهم ويبيعونهم للمزارعين مختلفين، فيفرق بين الأم وولدها، والزوج عن زوجته.
مزارع الجنوب كبيرة جدا وتحتاج إلى عمل شاق وجاد، فيشترون عبيدًا للقيام بذلك. كانت أجرة العبيد طعامًا وملابساً ومنزلاً، ويبقون في المزرعة طيلة حياتهم، وإذا حاول أحدهم الهروب يُقبض عليه، ويُرجع لصاحبه فيضربه وأحياناً يقتله.
عندما كتب الأمريكان وثيقة إعلان الاستقلال قالوا فيها إنه لابد من الحرية والمساواة بين الرجل والمرأة، لكن الغريب ان من كتب هذه الوثيقة يملك عبيدا! في القرن التاسع عشر اعتنق كثير من السود النصرانية، فأصبحوا يرافقون اصحابهم كل بداية أسبوع للكنيسة ويقرؤون الانجيل معًا والرسالة منه انه لا فرق بين رجل ولا امرأة ولا ابيض ولا اسود فكلهم سواسية عند الله!
يومًا بعد يوم ازداد عدد المعارضين للعبودية، ففي عام 1807م اختفت العبودية في بريطانيا، وبعدها بعام في أمريكا، إلا في المناطق الجنوبية التي رفضت ذلك وأرادوا إبقاء عبيدهم، كانت الولايات الجنوبية على استعداد لخوض حرب ضد من يعارضهم ويطلب توقف فعلهم.
أراد ابراهام لنكون -وهو الرئيس المنتخب آنذاك- في عام ١٨٦٠م إنهاء العبودية في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن سكان الجنوب رفضوا ذلك، فقررت سبع ولايات جنوبية ترك الولايات الأميركية.
اشتعلت الحرب بين الشمال والجنوب عام ١٨٦١م، وانضم كثير من الجنود السود لصالح الشمال ضد الجنوب. استمرت هذه الحرب خمس سنوات، وانتهت بفوز الشمال وإنهاء العبودية في الجنوب.
ومع تلاشي العبودية إلا أن السود مازالوا يعانون من التفرقة آنذاك، فكانت لهم مدارس محددة، ولا يسمح لهم بالاختلاط مع البيض ولا ارتياد مطاعمهم، وكان العنف هو الرد على مطالب السود لحقوقهم.
لازال سكان الجنوب غاضبين حتى بعد خسارتهم الحرب، لم يريدوا للعبودية أن تنتهي، بعد سنتين من الحرب ظهرت منظمة سرية في ولاية جورجيا تحارب السود وحقوقهم في التصويت وغيرها، كان أفراد هذه المنظمة جنودًا بيضًا أطلقوا على أنفسهم اسم كوكلس كلان، يرتدون ثيابًا بيضاء ويغطون وجوههم لكيلا يتعرف عليهم أحد. تمادت أفعالهم من منع السود من حقوقهم إلى طردهم من منازلهم، وقتلهم، وضربهم، وحرق مدارسهم وكنائسهم ومنازلهم، منع الخوف السود من اللجوء للشرطة؛ لأن أكثر رجال الشرطة كانوا أيضًا أفرادًا في هذه المنظمة، وفي مطلع القرن العشرين بلغ عدد أفرادها أكثر من أربعة ملايين فردًا.
هاجر كثير من السود من المناطق الجنوبية للشمالية مثل؛ شيكاغو وديترويت، فهناك كانت حرية السود أكبر، وتوفرت فرص عمل في المصانع، لعب السود دورًا مهمًا في أمريكا آنذاك، فقد افتتحت مدارس وجامعات للسود، وظهرت موسيقى الجاز، وكان حي هارلم في نيويورك مركزًا للموسيقيين السود، وكان بول روبسون مغنيًا وممثلًا شهيرًا في ذلك الوقت، حيث غنى عن معاناة السود، وغضب كثير من البيض بعد أن ظهر ممثل أسود مع ممثلة بيضاء تلعب دور زوجته في مسرحية شكسبير (عطيل).
كان للسود بصمة في عالم الرياضة، كان الملاكم الأسود الشهير جو لويس من عائلة فقيرة في ألاباما، ثم انتقل في عمر العاشرة إلى ديترويت، وأصبح بطل العالم في الملاكمة، أشهر مباراة له كانت انتصاره ضد الملاكم الألماني ماكس، بعد أن هزمه ماكس في مباراة قبلها ولقبه هتلر والقادة النازيون بالبطل، فاز لويس على الألماني في عام ١٩٣٨م وضج السود في أمريكا فرحًا بنصره، وحصل على لقب بطل العالم مرارا بعدها ولم يهزم أبدًا.
حصلت تغيرات كبيرة في حياة السود بعد الحرب العالمية الثانية، حيث شق الانقسام صفوف الجيش الأمريكي إلى قسمين بيض وسود على الرغم من اتحاد الهدف، فلم يعامل السود كالبيض، وعندما اعترض السود على اختلاف المعاملة نشبت النزاعات بينهم.
أدرك الأمريكان أن مجتمعهم عنصري، فأعطوا السود حقهم بالتصويت، وبدأ السياسيون البيض بالاستماع لهم، وبدأت أوضاع السود بالتحسن تدريجيًا، فأنهى الرئيس ترومان التفرقة في الجيش الأمريكي، ثم أتبع ذلك بقرار ينص على دمج البيض والسود في مدرسة واحدة، لكنهم طمعوا بالمزيد، كانوا مستعدين لقائد عظيم ليقودهم للحرية، كانوا مستعدين لمارتن لوثر كينغ.
عرف مارتن بذكائه وكان طالبًا متميزًا، عندما كان في الخامسة عشرة من عمره التحق بكلية مورهاوس وهي الجامعة الأم لكثير من القادة الأفارقة الأمريكان، كان مارتن شغوفًا بالعلم والتعلم، فرفض رغبة والده بأن يكون قسًا وواصل الاستزادة بالأفكار المثيرة والجديدة من أساتذته في الجامعة.
مع مرور الوقت بدأ تفكير مارتن بالتغير تدريجياً، قرر بأن يحذو حذو والده فالتحق بكلية كروزر، وهي كلية للقساوسة في بنسيلفانيا شمالاً، فرح مارتن بمقابلة كثير من الطلاب الطيبين البيض هناك، فأدرك أنه يجب عليهم التعايش سويًا، لكن السؤال هو: كيف يوصل هذه الفكرة للولايات الجنوبية؟ بدأ التفكير جديًا في تغيير فكرهم.
تأثر مارتن في سنته الأخيرة في الكلية بكلام القائد الهندي مهاتما غاندي، حيث قاوم واتباعه الاحتلال البريطاني في الهند وحرروا بلادهم بلا عنف ولا أسلحة! اتبعوا طريقة مختلفة، رفض الهنود الدفع للحكومة البريطانية وجلسوا في الطرق لإيقاف الجيش البريطاني واعتقل الكثير منهم لعصيانهم القوانين الظالمة.
آمن غاندي أن الحب أقوى بكثير من الكره، تأثر مارتن بكلماته وأخذ يفكر: هل يمكن للسود إنهاء الفصل أو التفرقة في الجنوب بلا عنف؟
أكمل مارتن دراسته في جامعة بوسطن وحصل على درجة الدكتوراة، وأصبح فخر عائلته، لكنه شعر بالوحدة في الشمال، وهو يعلم أن عمله في الجنوب، وقع مارتن في حب فتاة شابة تدعى كوريتا سكوت فتزوجها واستمرت زوجته بدعم أفكاره وتعمل معه لمقاومة الفصل في الجنوب.
انتقل مارتن بعد عام من زواجه للجنوب وأصبح قسًا في كنيسة في مونتغمري عاصمة ولاية ألاباما، أدرك مارتن فور عودته التغيرات في المنطقة، بدأ الأطفال السود والبيض بارتياد نفس المدرسة وأنظمة جديدة تمنع الفصل، لكن السكان قرروا التصدي لهذه الأنظمة، من الواضح أن هناك مشكلة قادمة، وتبدأ من موطن كينغ الجديد مونتغمري، ألاباما.
اعتادت روزا باركس ركوب الحافلة للوصول للمتجر الذي تعمل فيه يوميًا، في يوم من الأيام ركبت روزا الحافلة كعادتها وتدريجيًّا امتلأت جميع المقاعد، فبقي بعض الركاب البيض بلا مقاعد، أوقف السائق الحافلة وطلب من السود التخلي عن مقاعدهم للبيض، وتخلى الركاب الثلاثة عن مقاعدهم، أما روزا فرفضت ذلك، ولأنها كانت إحدى أعضاء (ان اي اي سي بي) وهو اختصار للجمعية الوطنية للنهوض بالملونين وحقوق المدنيين السود، فهي واعية بحقوقها ولم تنهض من مكانها.
سألها السائق: لماذا لم تنهضي؟
أجابت: لا أعتقد أنه يجب عليَّ ذلك.
فرد: سأتصل بالشرطة إذا لم تنهضي.
فأجابت: فلتفعل!
وبالفعل أخبر الشرطة، واعتُقلت روزا واُدخلت السجن بسبب هذا الموقف، ومع أن هذه الحادثة أغضبت السكان السود في مونتغومري إلا أنها كانت فرصة للاعتراض على سياسة الفصل في الحافلات، لطالما رغبت الـ(ان اي اي سي بي) بمقاومة سياسية شركة حافلات المدينة، وقد حانت الفرصة المناسبة بالفعل. عُرف مارتن بالصدق، فطلبت المنظمة لقاءه ليقرروا ماذا سيفعلون حيال الأمر، فقد حان الوقت لإنهاء الفصل في حافلات مونتغومري، والتقوا به في الكنيسة، فاقترح كينغ مقاطعة السود للحافلات “ستخسر الشركة أموالها إذا قاطعناهم، وفي النهاية سينهون الفصل في الحافلات” ووافق كينغ على قيادة هذه المقاطعة.
هل ستنجح المقاطعة؟ هل سيوافق السود عليها أصلًا؟ لا يملك كثير منهم سيارات، ماذا لو خسروا أعمالهم؟ قد تضر المقاطعة السود أكثر من أن تنفعهم، تساؤلات كثيرة منعت كينغ وزوجته من النوم جيدًا تلك الليلة.
في صباح اليوم التالي وقف كينغ وزوجته أمام النافذة، وكانت محطة وقوف الحافلات أمام منزلهم، فانتظر قدوم الحافلات، وأخيرًا وصلت الحافلة الأولى وكانت فارغة، وبعدها وصلت الثانية وكانت فارغة كذلك!
وانطبق الأمر على جميع الحافلات في مونتغومري، سار بعضهم لأعمالهم سيرًا على الأقدام، وبعضهم تغيب عن عمله وبقي في المنزل، أما سائقو سيارات الأجرة فتكاتفوا معًا واوصلوا بعضهم لأعمالهم بنفس سعر الحافلة، يبدو أن المقاطعة نجحت!
استمرت المقاطعة لأكثر من عام، اعتقل خلالها كثير من السود من ضمنهم كينغ، اعتقد بعض البيض أن كينغ رجل خطير لدرجة وضع أحدهم قنبلة انفجرت أمام منزل كينغ، ولكن لحسن الحظ لم يتأذ أحد.
تأثرت شركة الحافلات وخسرت كثيرًا من المال بعد المقاطعة، ومع ذلك كابرت الشركة ولم تقبل بتغيير سياستها. امتد أثر المقاطعة حتى وصل المتاجر في مونتغومري، نظرًا لأن السود لم يعودوا يرتادونها، أراد أصحاب المتاجر إنهاء المقاطعة لكن الشركة لا تريد أن تفوز المنظمة.
ذهب قادة المقاطعة لقاضي ألاباما مطالبين بإنهاء الفصل باعتباره أمر خاطئًا، لكن القاضي لم يوافقهم الرأي! فذهبوا لواشنطن لعرض المسألة على أكبر قضاتها، وفي الثالث عشر من نوفمبر ١٩٦٥م أقرَّ القضاة بأن الفصل في الحافلات أمر مخالف للقانون، وبالفعل تكللت المقاطعة بالنجاح.
جعلت هذه الحملة من مارتن لوثر كينغ مشهورًا في أرجاء أمريكا، علم كينغ في قرارة نفسه أن المقاطعة كانت البداية، وليست المعركة الوحيدة التي يجب أن ينتصروا فيها في الجنوب، يجب على السود الاتحاد وتنظيم صفوفهم للفوز بحقوقهم، اجتمع كثير من قادة الكنيسة الجنوبية السود ليناقشوا خطوتهم التالية، ذكر كينغ أنه يجب أن يتحدوا لنيل حقوقهم المدنية، وبالفعل اتحد القادة تحت اسم اتحاد القيادة المسيحية الجنوبية (اس سي ال سي) وأصبح كينغ رئيسًا لها.
ذكر كينغ في كتابه خطوة نحو الحرية تعليمات غاندي، وأوضح أن طريق السلم ونبذ العنف هو الطريق الوحيد للسود للفوز في المعركة، كما حدث في مونتغومري، حيث تعرض المتظاهرون العزل للضرب من قبل الشرطة الذين يحاولون تفكيك هذه المقاطعة بالعنف، ومع أن المتظاهرين لم يردوا العنف بالعنف إلا أنهم انتصروا؛ لأنهم كانوا على حق.
الفصل في المدارس كانت إحدى المشاكل التي تحتاج إلى تغيير في جنوب أمريكا، فيجب على الطفل الأبيض الذهاب لمدرسة للبيض فقط والعكس، ومع أن معظم سكان الجنوب كانوا من السود إلا أن الميزانية التي تصرف لمدارس البيض أكثر بكثير من مدارس السود، لكن بحلول عام ١٩٥٤ صدر قانون يمنع الفصل في المدارس، بدأ التغير يتسلل ببطء في الجنوب، كره كثير من البيض هذا القرار، ورفضوا الانصياع له! ففي بداية العام الدراسي في ولاية اركنساس وفي عاصمتها ليتل روك تحديدًا حاول تسعة طلاب سود الدخول للمدرسة الثانوية المركزية، جعلت هذه الحادثة من ليتل روك المكان الأشهر في قصة معركة الحقوق المدنية، في اليوم الذي سبق العام الدراسي الجديد، أمر أورفال فوبوس (وهو رئيس ولاية اركنساس) الحرس الوطني بالوقوف على الثانوية ومنع أي طالب أسود من الدخول إليها؛ لأنه كان خائفًا من حدوث مشكلة بسبب المتظاهرين. لكن أحد القضاة قال إنه ليس من حق الرئيس استخدام الحرس الوطني في أمرٍ خارج عن القانون، أدخلت شرطة العاصمة الطلاب التسعة للمدرسة محاولين حمايتهم من المتظاهرين البيض الذين هاجموا الشرطة لمنع السود من الدخول! انتشرت كثير من الصور لهذه الحادثة في أرجاء العالم، وصدم كثير من الأمريكان من هذا الهجوم البشع الذي حدث في بلدهم. في اليوم التالي أمر الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور الجيش بالتحرك إلى ليتل روك والوقوف أمام الثانوية لحماية الطلاب التسعة يوميًا أثناء دخولهم من الحشود الغاضبة.
ذكرت إليزابيث وهي واحدة من الطلاب التسعة المرور بين الحشود الغاضبة قائلة: “بحثت عن وجه ودود بين الحشود فوجدت امرأة كبيرة حسنة المظهر وتبدو طيبة، لكن عندما ابتسمت في وجهها بصقت علي” ذكر إرنست وهو أحد الطلاب السود أن الأمور تبدو مختلفة داخل المدرسة، وأن الطلاب البيض ودودون “تغيبت عن المدرسة لثلاثة أسابيع، وتأخرت عن زملائي، لكن طلابًا في صفي ساعدوني بملاحظاتهم لتعويض ما فاتني، كنت مندهشًا من ذلك بعد أن رأيت الحشود خارجًا”.
قرر مارتن لوثر كينغ العودة لكنيسة والده في الجنوب، فقسم وقته بين كنيسته ومنظمة اس سي ال سي. أخذت سياسة كينغ السلمية بالانتشار، ووجد السود طريقة جديدة للتظاهر وهي الاعتصام.
لازال الفصل في المطاعم قائمًا في غرينزبورو في ولاية كارولاينا الشمالية، دخل أربعة طلاب سود لمتجر وولورثس وهو متجر يضم في داخله عدة مطاعم، فطلب الطلاب غداءهم بكل أدب، لكن النادلة رفضت ذلك، وطلبت منهم مغادرة المكان، رفض الطلاب المغادرة، بل واعتصموا حتى أغلق المطعم أبوابه، وفي اليوم التالي انضم لهم عدد من الطلاب، وبعدها انضم للاعتصام عدد من الطلاب البيض، فاعتقل الطلاب بعدها، ولكن الاعتصام لم يتوقف، فكان في الجنوب اعتصامات أيضًا في المطاعم، وسافر طلاب بيض من الشمال للجنوب للانضمام لهذه الاعتصامات.
وأخيرًا وافقت وولورثس أخيراً أن يرتاد السود مطاعمهم، واتبع قرارهم عدة شركات كبرى أخرى، ومرة أخرى انتصرت السلمية في معركة الحقوق المدنية. اعتصم كينغ مع عدد من الطلاب في أحد مطاعم اتلانتا لكن كينغ اعتقل ودخل السجن. لم يندم قط على دخوله السجن، قال غاندي لا يجب عليك إطاعة القوانين غير العادلة، بل إن خرقها صحيح حتى وان كان ذلك يعني دخولك السجن.
كانت عائلة كينغ قلقة عليه أكثر من قلقه على نفسه، فهم يعلمون أن حياته في خطر داخل السجن، فلم يكن قتل سجين أسود صعبًا في ذلك الوقت. ذهبت زوجة كينغ لجون كينيدي الذي كان ضد فكرة الفصل طالبة مساعدته في إخلاء سبيل زوجها، وبالفعل طلب من القاضي إخلاء سبيله وفعل، لكن لم تكن هذه المرة الأخيرة لكينغ في السجن فقد دخله عدة مرات بعد رفضه القوانين الظالمة.
في عام ١٩٦٠م في شهر نوفمبر أصبح جون كينيدي رئيسًا للولايات المتحدة الامريكية، وكان الشعب كله أمل بالرئيس الشاب، ووعده ببداية جديدة، فهل يعني هذا نهاية القوانين الظالمة وحرية السود في الجنوب؟
لكن أغلب البيض في الجنوب لم يريدوا التغيير وكانوا على استعداد لخوض معركة أخرى في سبيل الحفاظ على طريقة حياتهم، كان هناك طريق للحرية لكنه طويل وصعب.
كانت بداية عام ١٩٦٣م سيئة لكلٍ من كينغ ومنظمة اس سي ال سي، خسر كينغ لأول مرة بعد نجاحاته في مونتغومري وجرينسبور، حاولت المنظمة جاهدة الوقوف في وجه حكومة ألباني وشرطتها في ولاية جورجيا لعامٍ تقريبًا، لكن الأمر لم يجدِ نفعًا، فما زال الفصل قائمًا في مدارس ومكتبات وحدائق المدينة، حاول كينغ النهوض مجددًا في مكان آخر فاختار برمنغهام في ولاية ألاباما لتكون المحطة الأولى للبداية.
كانت مدينة برمنغهام المكان الأسوأ للسود، وكان بعضهم يدعوها بومنغهام (وبوم في الإنجليزية تعني قنبلة) نظرًا لكثرة الهجوم بالقنابل على بيوت وكنائس السود، في السنوات الست الأخيرة وصل عدد الهجمات الى ١٨ هجمة ومع ذلك لم يلق القبض على أي من الفاعلين!
عندما نظمت منظمة اس سي ال سي مسيرة للتظاهر أمر رئيس شرطة برمنغهام (ويدعى پول كونر) رجاله بضرب المتظاهرين ومهاجمتهم بالكلاب، وأصيب كثير منهم، واعتُقل الآخرون من ضمنهم بطلنا كينغ.
قرأ كينغ أثناء بقائه في السجن عن بعض قادة الكنيسة البيض الذين دعوا لإيقاف الاحتجاجات، وأن الوقت غير مناسب لذلك، فاشتعل غضب كينغ ورد عليهم في رسالته قائلًا: ‘ قلتم إن الوقت غير مناسب للاحتجاجات، قلتم “انتظروا” لسنوات وأنا أسمع هذه الكلمة “انتظروا”، ولسنوات طوال انتظر السود، وغالبًا ما تعني “انتظروا”: انتظروا “للأبد”.
كانت هناك مشكلة في المظاهرة، وهي أن من يُعتقل من الرجال أو النساء غالبًا ما يفقد وظيفته، لذا كان من الصعب على العائلات السود أن تفقد أحد والديها، ففكر كينغ ” لماذا لا يشارك الصغار في المظاهرة؟” هناك كثير من الصغار الذين يرغبون بالمشاركة في برمنغهام؛ لأن الحرية مهمة لهم بقدر أهميتها عند والديهم، كان بعض القادة السود قلقين أن يتأذى الأطفال من اشتباكات الشرطة، وكان رد كينغ ” الفصل يؤذيهم أكثر”.
في الثاني من مايو سنة ١٩٦٣م سار ١٥ طفلاً تتراوح أعمارهم بين السادسة والثامنة عشرة إلى وسط برمنغهام وألقي القبض عليهم، بعدها انضم ١٥ طفلًا آخر واعتقلوا هم أيضًا، ثم انضمت مجموعة أخرى تتلوها اُخر، إلى أن بلغ عدد الأطفال الذين ألقي القبض عليهم ألف طفل، كانت سجون برمنغهام ممتلئة. في اليوم الأول لم يعرف أفراد الشرطة ما الذي يجب عليهم فعله، لكن في اليوم التالي هاجموهم بالكلاب وخراطيم المياه ذات الدفع القوي، وقد سقط بسبب ذلك الرجال والنساء والأطفال.
هوجم السود بعنف لأنهم أرادوا حقوقًا مساوية للبيض فقط! صدم الأمريكان عندما عرضت المظاهرات والعنف من قبل شرطة برمنغهام على شاشات التلفاز، وبدأ الناس خارج أمريكا يتساءلون عن الحرية هناك: كيف لمثل هذا أن يحدث في بلد الحرية؟ أم أنها للبيض دون غيرهم؟
أخيرًا انتصر السود مرة أخرى ووافقت الحكومة على إيقاف الفصل في المدارس وحافلاتها، جاءت أفضل لحظة لكينغ في صيف ١٩٦٣م، فقد وضع الرئيس الأمريكي كيندي قانونًا جديدًا في الحقوق المدنية، نظم قادة الحقوق المدنية أكبر مسيرة على الإطلاق لدعم الرئيس، وطلبوا من الجميع الحضور للعاصمة واشنطن والمطالبة بالمساواة للسود. وفي شهر أغسطس قَدِم لواشنطن أكثر من ٢٥٠.٠٠٠ شخص وساروا حتى نصب لينكولن التذكاري، حيث كانت الأغاني والخطب. وقف مارتن لوثر كينغ، وألقى أعظم كلمة في حياته: “لدي حلم” وهو أن يتساوى البيض والسود ويعيشون سواسية بسلام، عُرضت كلمته على شاشات التلفاز، وبكى الناس تأثرًا بكلمات كينغ، وكانوا على يقين بحدوث كثيرٍ من التغيرات، ولكن في وقت لاحق من نفس العام عادت الصدمة مجددًا بعنف رهيب!
ازداد العنف في برمنغهام مرة أخرى بعد شهر من خطاب كينغ، القى أحدهم قنبلة على كنيسة للسود راح ضحيتها أربع فتيات صغيرات، صعبت هذه القنبلة مهمة كينغ في إقناع الناس بأن السلم هو الحل. في ٢2 من نوفمبر عام 1963م اُغتيل الرئيس الأمريكي جون كينيدي في دالاس في ولاية تكساس، كان كينغ على معرفة وعلاقة وطيدة بالرئيس الراحل، وتناقشوا لإيجاد أفضل طريقة لفوز السود بحقوقهم، واتفقوا على أن مساواة الحقوق ستحدث قريبًا.
وكأغلب الشعب صدم كينغ بخبر مقتل كينيدي قائلًا:” هذه الدولة مريضة ” في بعض الأحيان كان كينغ يفكر في انه سيُغتال هو الاخر. تساءل عن توجهات الرئيس الجديد ليندون جونسون القادم من الجنوب، ما هي سياسته تجاه الفصل؟ هل يود انهائها او ابقائها؟ لا أحد يعلم.
جعل الخطاب من كينغ مشهورًا في أنحاء المعمورة، وأول اسم يخطر على البال إذا ذكرت معركة الحقوق المدنية في أمريكا، حصل مارتن لوثر كينغ على جائزة نوبل للسلام على عمله في الحقوق المدنية، وكان يبلغ من العمر ٣٥ عامًا فقط،
استمرت أعمال كينغ، في الجنوب انتُخب قلة من السود للحكومة، قبل أن يصوت الناس عليهم بالتسجيل، ونظرًا لصعوبته لم يتمكن من التسجيل إلا قليل من السود فقط. أدرك كينغ أنه على السود التسجيل ثم التصويت، إنها أفضل طريقة لتغيير قوانين الفصل في الجنوب.
التسجيل للسود صعب في كل الولايات، لكن ألاباما كانت واحدة من أسوأ الولايات، أكثر من ٣٠٠ ألف يريدون التصويت لكنهم غير مسجلين، طُلب من كينغ مساعدة السود في التصويت والتسجيل في ولاية ألاباما، وتحديدًا مدينة سلما التي يبلغ عدد سكانها ٣٠ ألف فقط، وأغلبهم من السود، ومع ذلك١ بالمئة منهم فقط من استطاعوا التسجيل للتصويت، وإذا أرادوا التسجيل والتصويت فيجب عليهم اجتياز اختبار قراءة، وأغلبهم يرسب فيه، مع أنهم يقرؤون أفضل من البيض الذين يختبرونهم، وعليهم أيضًا أن يذهبوا لمكتب يفتح مرتين في الشهر، وأصحابه البيض يصلون متأخرين، ويغادرون مبكرين، وإذا حاول السود التسجيل كانوا غالبًا ما يطردون.
خطط كينغ ومنظمة اس سي ال سي لمسيرة احتجاجية تبدأ من سلما وحتى مونتغومري عاصمة ألاباما ومقر بداية معركة الحقوق المدنية بعد اعتقال روزا باركس، بدأت المسيرة في السابع من مارس، وفي الطريق أوقفتهم الشرطة وأمرتهم بالعودة، رفض المتظاهرون ذلك فهاجمتهم الشرطة، ومرة أخرى صدم العالم من عنف الشرطة ضد المتظاهرين المسالمين، وأمر الرئيس ليندون جونسون الشرطة بحماية المتظاهرين، بدأت المسيرة مرة أخرى في ٢١ مارس، لكن هذه المرة بلا عنف واستغرقت خمسة أيام، عند دخولهم مونتغومري كان في استقبالهم ٢٥ ألف متظاهر من البيض والسود، رفض رئيس حكومة ألاباما لقاء المتظاهرين أو الاستماع لمطالبهم، لكن رسالتهم وصلت الحكومة في العاصمة واشنطن، بعدها في نفس العام وقع الرئيس ليندون جونسون قانون الحقوق المدنية بحضور مارتن لوثر كينغ في عام ١٩٦٤م وينص هذا القانون أن للجميع الحق بالتصويت، وكان هذا من أهم القوانين في حياة مارتن لوثر كينغ، صنع هذا القرار تغيرًا كبيرًا للسود في الجنوب، ففي السابق 6بالمئة فقط هم من استطاعوا التسجيل للتصويت، وبعد القانون أصبح ٦٦%، لا يمكن لأحد الآن منع السود من التصويت لقاداتهم.
كانت الستينيات وقت التغيرات العظيمة في أمريكا، لم يؤمن الشباب بدين آبائهم، بل أرادوا التغيير. غنى الشاب بوب ديلان أغنية “الأوقات تتغير” والتي عبر فيها عن أفكار الشباب الأمريكي، ناقشت الأغنية التغيرات السريعة، لم يرد هؤلاء الشباب الانتظار، مع علمهم بجهود مارتن لوثر كينغ إلا أنهم يرونها تغيرات بطيئة، أرادوا القوة لعرقهم بالقوة، ربما كان العنف ضروريًا للتغيير في نظرهم.
ظهر حزب جديد على الساحة بقيادة بوبي سيل وهيوي نيوتن، وأطلقوا على حزبهم اسم حزب النمر الأسود، على عكس كينغ، آمن الحزب بأن العنف ضروري، وأن على السود اقتناء أسلحة لحماية أنفسهم من البيض.
علّق هيوي على قانون الحقوق المدنية بأنه قرار “متأخر جدًا ولا يذكر”، اُعتقل بعدها أثناء اشتباك بين الحزب والشرطة؛ لأنه قتل شرطيًّا أبيضاً، خاف أغلب الأمريكان البيض من هذا الحزب، معتقدين أنهم مجرمون عنيفين. أثمرت جهود الحزب حيث افتتحوا مدارس في أحياء السود الفقيرة، ووفروا الطعام واللباس للمحتاجين من السود، بعدها بسنوات قليلة انقسم هذا الحزب إلى أحزاب صغيرة، ووصلت رسالتهم للشباب السود وأصبحوا يفتخرون بكونهم سودًا، فبدأوا بتعلم الثقافة الأفريقية من شتى نواحيها.
أراد مالكوم اكس أمريكا أخرى للسود، في الماضي كان العبيد يأخذون ألقاب مالكيهم بدلاً من والديهم فقرر مالكوم تغيير لقبه من ليتل إلى اكس كرمز للخلاص من العبودية، وافق مالكوم مذهب النمور السوداء في استخدام العنف، قال مالكوم إن العنف هي اللغة الوحيدة التي يفهمها العنصريون: “لا يمكن التحدث معهم بلغة السلام، سيقسمونك إلى نصفين، إذا كان رجل يتحدث الفرنسية فلا يمكنك التحدث معه بالألمانية، يجب عليك معرفة ما يتحدث به، وإذا عرفت لغته فتعلم كيف تتحدثها، بعدها يمكننا التحدث”.
في الستينات برز العديد من الكتاب والموسيقيين السود في أمريكا، عرض الكاتب جيمس بالدوين وتوني موريسون كيف كانت حياة السود، حذر جيمس في كتابه” الغضب القادم” من العنف الرهيب في قادم الأيام، وأن الحل أن يغير البيض طرقهم. غنى الموسيقي ستيفي ووندر عن الصعوبات في حياة الشباب السود، في إحدى أغانيه غنى عن شاب صغير ولد في الجنوب ثم انتقل لشيكاغو لإيجاد عمل وليكون حرًا، لكنه وجد في الشمال أنه حر ليكون فقيرًا. لماذا دُهش الجميع من غضب الشباب السود؟
ولعل من أبرز الشخصيات من السود في تلك الفترة الملاكم محمد علي، ولد باسم كاسيوس مارسيلوس كلاي، عندما كان شابًا فاز بالميدالية الذهبية في الأولمبياد، وفاز على بطل العالم للملاكمة سوني ليستون. بعدها فاجئ العالم بإسلامه، وغيَّر اسمه لمحمد علي، وقال: ” لا تنادني كاسيوس كلاي، إنه اسمٌ لعبد” كان محمد ذكيًا وفخورًا بنفسه ولا يُقهر. بدأ بالتحدث، والرد على العنصرية، ورفض الانضمام للجيش الأمريكي ضد ڤيتنام، واُدخل السجن جراء ذلك، فأخبروه أنه لم يعد بطل العالم، لكنه استعاد لقبه بعد خروجه من السجن بعد أن هزم جورج فورمان، قال محمد: ” لم أكن بطلاً عندما رفضت الانضمام للجيش، أردت فقط أن أكون حرًا، وأن تكون أمريكا هي أمريكا”.
كانت أواخر الستينات وقت التغير بالنسبة لمارتن لوثر كينغ ايضًا، مع أنه كان دائما ضد العنف، إلا أنه بدأ برؤية جوانب مختلفة من العنف؛ لأنه من الجنوب أراد الحرية والمساواة للسود في الجنوب، لكن حياة السود في الشمال لم تكن أفضل حالاً، يستطيع جميع الطلاب الذهاب لنفس المدرسة، لكن كثيرًا من السود لم يستطيعوا إكمال تعليمهم بسبب الفقر، تركوا تعليمهم ليعيلوا عوائلهم؛ نظرًا لأن كثيرًا من عوائلهم قامت على أحد الوالدين فقط، وعاشوا في مباني قديمة وقذرة ولم يحصلوا على وظائف.
كان الفقر عند مارتن لوثر كينغ أحد أوجه العنف، فبدأ بالتفكير بالحقوق التي يجب أن يمتلكها الجميع، ومع أن السود يمكنهم التصويت والأكل في نفس المطاعم إلا أن التناول الطعام في المطعم شيء، والحصول على وظيفة تمكنك من الأكل هناك شيء آخر، قال كينغ: إن قليلًا من الأغنياء يحصلون على كثير من المال، وملايين الفقراء يحصلون على القليل، لذا أراد أن ينهي الفقر، بمعنى أن يأخذ شخص المال من الأغنياء ويعطيه للفقراء، كانت فكرة قوية وخطيرة لدرجة أن كثيرًا من أنصاره كانوا مترددين بشأنها.
قاد كينغ مسيرات ومظاهرات إلى أكبر مدن الشمال، مدينة شيكاغو، أراد أن يُري أمريكا كيف عاش السود في مدن الشمال، لم يعرف الفقر أسود ولا أبيض، فأراد كينغ توحيد صفوفهم معًا للقضاء على الفقر:” اتحدوا وقاتلوا سودًا وبيضًا”، هاجمت الشرطة المظاهرات في شوارع شيكاغو، وفي بعض الأحيان كانوا أسوأ من الجنوب، فضُرِب المتظاهرون بالعلب والعصي، وبالفعل كينغ قرر فعل ذلك، وخطط أن يقود مسيرة الفقراء إلى العاصمة واشنطن.
كانت الستينات في أمريكا عبارة عن حرب ڤيتنام، اشترك فيها أكثر من نصف مليون جندي أمريكي، وكان معظمهم من الفقراء السود، في نهاية الحرب قتل حوالي ٥٨ ألف جندي أمريكي، وكثير من القتلى والجرحى الڤيتناميين فقدوا منازلهم وأراضيهم، كانت حربًا مروعة على كلا الطرفين.
وكحال كثير من الأمريكيين كان كينغ ضد هذه الحرب، كان قلقًا حيال ما تفعله دولته، لذلك قرر الخروج عن صمته، والتحدث عن ذلك، ومع تحذير زملائه له إلا أنه ألقى خطابًا هامًا عن ڤيتنام، قال الناس: إن السلام ليس من شأنه، وأنه يجب أن يركز على الحقوق المدنية فقط، لكن كينغ قال: “هؤلاء الأشخاص لا يعرفونني ولا العالم الذي يسكنونه” بعدها هاجم الحكومة الأمريكية، وأنه يجب إيقاف الحرق والتفجيرات، وقتل الڤيتناميين.” أتحدث بصفتي ابنًا للرب، وأخًا للفقراء، ومواطنًا أمريكيًّا، الڤيتناميون إخوتي وأخواتي أيضًا. يجب على الحكومة إيقاف العنف ضد الڤيتناميين، الحرب ليست الحل.”
هوجم كينغ لخطابه هذا، ونشرت الصحف أنه يدعم الحكومة الڤيتنامية بينما يُقاتل ويُقتل الجنود الأمريكان هناك، لكن زادت الاحتجاجات ضد الحرب الڤيتنامية، آثار طلاب الجامعات الذين رفضوا الانضمام للجيش أعمال الشغب، واشتبك المتظاهرون في جميع أنحاء أمريكا مع الشرطة، أطلق الحرس الوطني النار على أربعة طلاب بيض من جامعة كينت بولاية أوهايو واردوهم قتلى، قال طالب أبيض: “أدركنا الآن شعور أن تكون أسود”.
بدأ كثير من الذين أرادوا تغيير أمريكا بالتساؤل عن سياسة مارتن لوثر كينغ المعتمدة على نبذ العنف، هل من الممكن تغيير أمريكا بسلام؟ لم تؤمن مجموعة النمور السوداء، ولا مالكوم اكس بهذا المبدأ، بل إن الحل مع العنف الأبيض هو العنف الأسود، كانت هناك أعمال شغب في أحياء السود في المدن الأمريكية الكبيرة، والتحق الشباب السود بعصابات لحماية أحيائهم من العصابات الأخرى ومن الشرطة، تسببت حرب العصابات في مقتل العديد من الشباب السود.
أحزنت هذه القتالات مارتن وكره رؤيتهم يتقاتلون، تفهم كينغ غضبهم لكنه مازال يؤمن بأن السلمية هي الحل، حاول إقناعهم بأن يقاتلوا الحكومة التي لم تنتشلهم من الفقر بدلاً من قتال بعضهم بعضا، قليل منهم فقط هم من أرادوا الإنصات له، بالنسبة للفريق الآخر فكان مارتن هو رجل الماضي ولا يفهم موقفهم.
قضى مارتن لوثر كينغ أكثر من ١٢ عامًا من حياته في إلقاء الخطب، وقيادة المظاهرات، والمسيرات الاحتجاجية، وانتصر في كثير من المعارك، كان السود أكثر حرية من ذي قبل، لكن مارتن يعلم أن هناك معارك أخرى تنتظر نصره، فما زال السود أفقر وأقل نجاحًا من البيض في المدارس، وقليل منهم يشغلون مناصب مهمة، الشباب السود الصغار لم يشهدوا معارك مارتن لذا أرادوا مزيدًا من التغييرات العاجلة.
اضرب مجموعة من العمال في مدينة ممفيس عن العمل احتجاجًا على قلة الرواتب، وأغلبهم كانوا سودًا، فطلبوا مساعدة مارتن لوثر كينغ في مظاهرتهم ولم يتردد في مساعدتهم، أرادوا مظاهرة سلمية، ولكن العصابات السود لم ترد السلم، فهاجموا المسيرة وكسروا المحل والنوافذ، واشتبكوا مع الشرطة؛ نتج عن ذلك وفاة شاب. بعد المسيرة أوضح مارتن للعصابات خطته، وأن الطريقة الوحيدة للفوز هي المسيرة السلمية، وأخيرًا تمكن من إقناعهم بالانضمام للمظاهرة مع العمال في الخامس من أبريل بلا عنف.
عاد كينغ لممفيس في الثالث من شهر أبريل، وألقى خطابًا مليئًا بالأمل” كنت على قمة الجبل، ورأيت الأرض الواعدة، من المحتمل ألا أكون معكم هناك لكننا بوصفنا شعبًا سوف نصل هناك”.
في اليوم التالي الموافق ٤ أبريل خرج مارتن من غرفته في الفندق ليستنشق بعض الهواء، وفجأة سمع أصدقاؤه صوت إطلاق نار، فهرعوا خارجًا ليجدوا مارتن ممددًا على الأرض، فهرع صديقه الشاب جيسي جاكسون به للمستشفى، لكنه فارق الحياة بعدها بساعة بعمرٍ يناهز ٣٩ عامًا.
نزل خبر وفاة كينغ كالصاعقة على الأمريكيين السود، لم تلبث الصدمة حتى تحولت لغضب عارم، وصاح أحد القادة السود بالحشود في العاصمة الأمريكية:” اذهبوا لمنازلكم، وأحضروا أسلحتكم” وبدأت أعمال الشغب في كل مدن أمريكا الكبرى، تخللتها اشتباكات مع الشرطة، وأدت لمقتل ٤٦ شخص أسود.
اُعتقل الأمريكي الأبيض جيمس إيرل راي بتهمة قتل مارتن لوثر كينغ، لم يصدق كثير من الناس أن جيمس تحرك لوحده، بل اعتقدوا أن السياسيين البيض دفعوا له ليقتل كينغ، ومن ضمن من اعتقد ذلك كوريتا زوجة كينغ.
دفن مارتن لوثر كينغ في كنيسة والده في أتلانتا، وبعدها نقل الى جانب أجداده، كُتب على قبره آخر كلماته في أهم خطابٍ له:” حرٌ أخيرًا، حرٌ أخيرًا، الحمدالله تعالى أنا حرٌ أخيرًا”.
أراد الناس أن يخلدوا مارتن لوثر كينغ بطريقة ما، فكتب المغني ستيفي وندر وغنى “عيد ميلاد سعيد” تقول الأغنية: إن يوم ميلاد كينغ يجب أن يكون يوم عطلة في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالفعل في عام ١٩٨٣ ظهر قانون جديد بأن يوم الاثنين الثالث من يناير يوم مارتن لوثر كينغ هو يوم إجازة في سنة ٢٠٠٠ للمرة الأولى احتفلت جميع الولايات الأمريكية بعطلة ذكرى ميلاد مارتن لوثر كينغ.
ماذا حدث لبقية الشخصيات في قصة مارتن لوثر كينغ؟
ترشح جيسي جاكسون للانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام ١٩٨٤ و١٩٨٨م، وعمل لاحقًا مع الرئيس كلينتون، وزار كثيرًا من الدول للعمل من أجل السلام. أما بوبي سيل فلا زال يعمل لصالح الحقوق المدنية؛ لكنه تخلى عن إيمانه بالعنف والأسلحة، أما مالكولم اكس فقد اُغتيل أثناء إلقائه خطابًا في أحد اللقاءات. بعد أن خرج هيوي نيوتن من السجن ذهب للعيش في كوبا، وعندما عاد منها خرج من حزب النمر الأسود بعد مشاكل مالية، وقُتل في تبادل إطلاق نار بسبب المخدرات.
أما جيمس إيرل راي فحكم عليه بالسجن ٩٩ عامًا، ومات وهو في العقد السابع من عمره، وكان لا يزال ينكر قتله لمارتن، انتقلت روزا بارك إلى ديترويت واستمرت في العمل لصالح الحقوق المدنية، واُعطيت وسام الحرية الرئاسي وتوفيت بعمرٍ يناهز ٩٣ عامًا، وافتتحت كوريتا سكوت مركز كينغ للتغيير الاجتماعي السلمي، وهي منظمة غير ربحية لتكمل ما بدأه زوجها، وعملت أيضًا للسلام والحقوق المدنية، حضر جنازتها أربع رؤساء أمريكيين، تولى إدارة المركز ابنهم ركستر سكوت كينغ حيث نُقل مارتن هناك ودفنت زوجته بجانبه.
ماذا عن مارتن؟ ما الذي يمكننا قوله اليوم بعد ٤٠ عامًا من وفاته؟ هل تحقق حلمه؟
يشغل الآن كثير من السود مناصب مهمة أكثر من ذي قبل، وأكثر من ٣٠٠ مدينة يحكمها قادة سود وظهر كثير من المذيعين السود على شاشات التلفاز، وفي عام ٢٠٠١م أصبح كولين باول أول وزير دولة أمريكي أسود للشؤون الخارجية، وتحدثت في لقاء للأفارقة الأمريكيين عن ماذا عنت لها أفكار مارتن:” آمن الأمريكيون السود والأفارقة الأمريكان بأمريكا حتى في أحلك الظروف، آمنوا بها في حين لم تؤمن بهم، قال مارتن لوثر كينغ لأمريكا: إنه يجب أن تكون صادقة مع نفسها، وأخيرًا فعلت أمريكا الصواب بفضل الأفارقة الأمريكان”.
لم يتحقق حلم مارتن بعد، فمازال الشباب السود يدخلون السجن، وغير قادرين على إيجاد وظائف أو يموتون بسبب عنف الشوارع، بالمقابل فإن هذه الحوادث تحدث لشخص واحد أبيض مقابل خمسة سود، وقد شرح أحد الكتاب السود الوضع:” كونك أسودًا في أمريكا كأنك ترتدي حذاء لا يناسبك، يمكنك أن تعتاد عليه لكنه غير مريح، هكذا كان الحال دائمًا وسيظل دائمًا.”
كان لمعركة الحقوق المدنية كثير من القادة والأشخاص الذين يعملون بهدوء في تلك المعركة، لم تعرف أسمائهم إلى الآن، لكن مارتن كان صوتهم لأكثر من ١٠ سنوات، كان متحدثًا بليغًا مؤثرًا، ففي حادثة مقاطعة الحافلات في مونتغومري قال أحد أنصاره:” دكتور كينغ لديك الكلمات التي نفكر فيها ولا نستطيع قولها”.
لهذا لا زلنا نتذكر مارتن لوثر كينغ حتى اليوم.