- محمد أشرف
- تحرير: مريم بنت مضحي المحمدي
منذ اللحظةِ الأولى التي امتنَ فيها اللهُ سبحانه وبحمده عليّ بالنظرِ في كتابِه الكريم، وأنا أتلمّس كلَّ سبيلٍ إلى الوقوفِ على حقيقة ما وقف عليه العربُ حين نزلَ فيهم القرآن، تلك الحقيقة التي جعلت مشركي العرب يخرون سُجّدًا حين تُليت عليهم سورةُ النَّجم، تلك الحقيقة التي جعلت الوليد – وهو من هو في كفره- يقول للمشركين بعدما سمع القرآن:”واللهِ، ما فيكم من رجلٍ أعلم بالأشعارِ منِّي، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده، ولا بأشعار الجنِّ منِّي، والله، ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، والله، إن لقوله الذي يقول حلاوةٌ، وإن عليه لطلاوةٍ، وإنه لمثمرٌ أعلاه، مغدقٌ أسفله، وإنه ليعلو وما يُعلى، وإنه ليُحطِّم ما تحته”. تلك الحقيقة التي لم يوفِّها حقَها إلا لفظُ “الإعجاز”.
ومن المعروف أن كفارَ قريشٍ التمسوا كلَّ سبيلٍ ليُجهِضوا دعوةَ النبيِّ ﷺ فما كان إلا أنْ أجهدَهم القرآنُ بعزتِه؛ رموه بالسِّحر والكِهَانة فسحرَ القرآنُ نفوسَهم، وقالوا “أساطير الأولين” فجاءَهم القرآنُ بخبرِ الأولين والآخرين؛ بل وجاءهم بخبرِ أنفسِهم التي بين جنبيهم، وقالوا: «لو نشاء لقلنا مثل هذا» [سورة الأنفال: الآية 31] وما أُثر لنا ولو بسندٍ مكذوبٍ أنهم جاءوا بآيةٍ من مثله؛ بل أقرّهم القرآنُ على هذه الحقيقة في حياتهم فقال تعالى:«أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» [سورة يونس: الآية 38] « فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ »[ سورة البقرة: الآية 24]
وقالوا عن شخصِ النبِّي ﷺ شاعر، فأجرى اللهُ ألسنةَ شُعرائِهم وبصراء العربية فيهم بالحقِ كما تقدم في قول الوليد، وكما قال أنيسُ الغِفَاري – رضي الله عنه- وكان يومئذ كافرًاـ وهو شاعرٌ مشهودٌ له ـ قال يصفُ القرآنَ:”لقد سمعتُ قولَ الكَهنةِ فما هو بقولِهم، ولقد وضعتُ قولَه على أَقراءِ الشعرِ – أي على أنواع الشعر وطرقه وأوزانه- فما يلتئم على لسانِ أحدٍ بعدي أنه شعر، والله إنه لصادقٍ وإنهم لكاذبون”.
وإذا كان القرآنُ لا يلتئمُ على أوزانِ الشِّعر وقوافيه فإنه قد جاءَ بغيرِ معانِيه في الكُليِّات التي اعتادَ شُعراءُ الجاهليةِ وصفَها ونظمَ الشعرِ فيها. فحين تُقلّب النظرَ في معاني الشعرِ في موضوعٍ من الموضوعاتِ ثم تعودَ إلى القرآن لتَرى كيف ناقشَ القرآنُ نفسَ الموضوعِ؛ تجد طريقتَه فريدةٌ كلِّ الفَرادة، فالمتكلم بهذا الكلام هو الله سبحانه الذي قد أحاط بكلِ شيءٍ علمًا.
وُلدَ العربيٌّ وعاشَ في بيئةٍ مفتوحةٍ لا حدودَ دوليةٍ ولا فروقَ بين البلدان وبعضِها. الأرضُ كلُّها ملكٌ له، يَضربُ فيها إذا أصبحَ فحيثما حلَّ وانتهى به المطافُ، فثمَّ وطنه، والسماءُ موضعُ بصرِه ومنتهاه. تشغلُه نجومُها ويَرقبُ أمطارَها ويَسترشدُ بكواكبِها ويُديرُ عينيه فيها ليلَ نهارَ، فلا يتجاوزُ فيها حدَّ الوصفِ والتغنِّي بجمالِها وجمالِ ما فيها، أو أنْ يَستعيرَ الصورةَ منها يُجلّي بها الشيءَ في حياتِه. وأما القرآن فقد جاءَهم بخبرِ السَّماءِ والأرضِ كلِّه. كيف خُلقتْ؟ وممَّ خُلقتْ؟ ومَا عددها؟ وما فوقها؟ وما تحتها؟ وكشفَ لهم اللثَامَ عمَّا يجري فيهما. جاءهم بأحوالِ الأرضِ وما يجري في باطنِها، وحالِ جبالها وأوديتِها وبحارِها وأنهارِها، وخبرِ السّماءِ ونجومِها وكواكبِها وشأنِ الليْلِ والنَّهارِ والشَّمسِ والقمرِ فيها، ثم فتحَ لهم زاويةَ الغيبِ ليُخبرهم بمستقبلِ هذه السَّماء كيف تَمورُ مورا؟ وكيف تُطوى كطِّي السّجلِ للكتب؟ وكيف تتناثرُ كواكبُها؟ وكيف تُشرقُ الشّمسُ إشراقَها الأخيرِ من المغربِ؟ وبخبرِ الأرضِ كيف تُلقي ما في بطنِها؟ وكيف تَتخلى عن أبناءِها؟ وكيف تُبدل الأرضُ والسماوات كلُّها. سبحانه وتعالى جاءَهم بما لا قبلَ لهم به.
وانظرْ شأنَ النّساء في أشعارِ الجاهليين تجدَه عريقًا، فتجدُ امريء القيس مثلًا يَتبارى مع نفسِه في الإتيانِ بالصُّورةِ الفريدةِ والتَّعبيرِ المُدهش؛ ليصفَ المرأةَ وشَعرَها وخَصرَها وجيدَها، وهو في كلِّ مرّة يتفوق على نفسِه وغيره فيما يأتي. ثم جاءَ القرآنُ فإذا به يتحدّثُ عن المرأةِ حديثًا مُغايرًا كلَّ المغايرة، وإذا به يَعرضُ نماذجَ نسائية لم يعهدْها العربُ من قبل؛ يحدِّثهم عن امرأةِ عمرانَ وابنته، وعن امرأةِ العزيز وفتاة مدين، وعن امرأةِ فرعونَ وأمِّ موسى وأختِه، وعن امرأةِ لوطٍ وامرأةِ نوحٍ وبلقيس. ولم تكن فَرادة القرآنِ في النَّماذجِ التي عرضَها وحسبْ، وإنَّما راحَ يَضع الأسسَ الأخلاقيةَ في التعاملِ مع النَّساءِ والنظر إليهن، ويُنشئ النمطَ الاجتماعي الفريدِ في العلاقةِ معهن والقيامِ بحقوقهِن. ولم يُغفل أبدًا شأن العواطفِ وإنما أعادَ تهذيبها وصياغتها بما يتناسب مع الفطرةِ ولا يَضرُّ بالمجتمعِ.
وخُذ الجنَّ والشياطين مثلًا وقلّبْ في شعرِ الجاهليين النَّظرَ، تجدُ أنَّها بلغتْ منهم مَبلغًا عظيمًا، فتخيلوها تتمثلُ في صورةِ الحيوان كَالقَطا والثعبان والنعامة، واختاروا لها مواطنَ الرُّعبَ مساكنًا كأجوافِ الصحراءَ وسفوحِ الجبال، وزعمَوا أنَّ لكلِّ شاعرٍ شيطانٌ يُوحي إليه شعره، ثم تَعاظمَ الأمرُ حتى بلغَ بهم مبلغًا عبدوا فيه الجنَّ كما ورد في القرآن. أما القرآنَ فقد جاءَهم بحقيقةِ الجنِّ وخبرَهم وقطعَ القولَ فيهم أنَّهم أحد الثَّقلين، يعبدونَ الله ويسعونَ في الأرضِ ويُحشرون ويُحاسبون، وأنهم كالبشرِ منهم الصَّالحون ومنهم دون ذلك؛ بل وسطَّر لهم كيف تَعامَل الجنًّ مع دعوةِ القرآن حين سمعوه. ولولا أن يطولَ بنا المقامُ أكثر من هذا لعرضنا من القرآنِ والشِّعر ما يتضحُ به الفرقُ، وما تتأكدُ به الفكرةُ، ولعددنا من الموضوعات مالا حصرَ له تبيانًا لهذا الأمر ودليلًا عليه، ونحن نَعِد بذلك ـ إنْ شاء الله ـ في مساحةٍ أخرى.
وخُلاصةُ القولِ التي نحبُّ أن نلفتَ الانتباهَ إليها؛ أنَّ العربَّي الذي أبانَ عن نفسِه بهذا الصدق الباذخ، وأنَّ هذه الحياة التي استنفذ بتصويرِها كلَّ قدرةٍ له على البيانِ في الشِّعر، شاهدانِ على أنَّه إنسانٌ لا يُرخي العنانَ لزمامِ الفكرةِ إلا إذا بلغتْ منه مبلغَ الرأي السديدِ، كيف وهو الأبيُّ الذي لا يَرضى أن يُؤثرَ عنه كذبٌ ولو في عدوه! ولا يَسيغُ ذلك لنفسِه تحت سياطِ التبرير وحبِّ الغلبة. فما كان من اعترافِ العرب بفوقية هذا الكلام أمرٌ لا يُعاد فيه النظر، وأنَّ اتخاذ قرار الإيمان والكفر بعد ذلك كان عن عزيمةٍ واضحةٍ لا يَبقى معها موضعٌ للنفاق، ولعل هذا أحدُ أسبابِ فرادة جيل الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ في الإخلاص والعلم والعمل.
وهذا الذي جاءَ العربَ فأدهشهم، يأتينا أيضًا فيدهشنا حين نُدير الطرفَ في واقعنا، وحين نُمعن النظرَ فيما يُسطره أدباؤنا وشعراؤنا ومفكرينا وأربابُ كلِّ فنٍ يبين عن الإنسانِ وحقيقةِ تصوراته عن هذا الكون وهذه الحياة. يُدهشنا لأننا نجدُ أنَّ أكثر الرُؤى التي نملكها عن هذه الدنيا وما يَدور فيها، هي رُؤى قاصرة عن تفسيرِ تاريخِ البشريةِ السحيق، وعن التنبؤِ بمستقبلِ هذا الكون ومن فيه.
يدهشنا القرآنُ بحقائقِه المدهشة وأدوائِه الناجعة لكلِ مرضٍ دبّ واستشرى في المجتمعات الإنسانية. وتدهشنا أيضا قدرتُه على تفسيرِ الظواهرِ الاجتماعية والأخلاقية التي تطفو كلَّ فترةٍ على سطحِ الأرض. ويدهشنا وعدُه الصارمُ ويقينُه في القدرةِ على إعادة تطهير هذه الأرض من كلِّ دنسٍ تسبب به الإنسان بسوءِ تصرفه وتدبيره.
إنَّ القرآنَ هو “كلام الله” له الدورُ الإعجازي العظيم الذي يقوم به في حياتِنا. إنه كعصا موسى ـ عليه السلام ـ يشقُّ لنا البحرَ لنعبرَ إلى ضِفافِ الأمانِ، وكإحياءِ عيسى ـ عليه السلام ـ للموتى يُحيي مواتَ قلوبِنا وعزائمنا، وكمعجزةِ سليمان ـ عليه السلام ـ يَفهم لغةَ الطيرِ، فنفهمُ نحن به لغةَ الزَمانِ وتَصاريفَ الأقدارِ.
إنه كلام «الله الذي لا إلـٰه إلا هو عـٰلم الغیب والشهـٰدة هو الرحمـٰن الرحیم (22) هو الله الذی لا إلـٰه إلا هو الملك القدوس السلـٰم المؤمن المهیمن العزیز الجبار المتكبر سبحـٰن الله عما یشركون (23) هو الله الخـٰلق البارئ المصور له الأسماء الحسنىٰ یسبح له ما فی السمـٰو ٰت والأرض وهو العزیز الحكیم (24) » [سورة الحشر]
هذا هو القرانُ الكريمُ، كلامُ الله الذي صنع بأمرِ الله تعالى أعظمَ حضارة عرفتَها الإنسانية جمعاء، فكانت خيرَ أمةٍ أُخرجتْ للنَّاس.
كتابة جميلة جداً ما شاء الله، حبيت النص جداً.
الله يوفقك دائماً