الدين

التغني بالقرآن .. يا حامل القرآن!

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد فهذه معالجة سريعة لأحد الإشكالات المعروفة المتعلقة بقراءة القرآن عند قرائنا المعاصرين نوجهها لطلبة القرآن الكريم.

نقول وبالله التوفيق: إن تحسين الصوت عند قراءة القرآن أمرٌ عظيم، جاءت به الشريعة[1] وحث عليه النبي ﷺ وتناقل فضله أهل القرآن جيلًا بعد جيل، وعمدة هذا الأمر ما رواه أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: “ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن“. وما ورد عنه ﷺ من تحسينه لقراءة أبي موسى الأشعري “لقد أوتي مزمارًا من مزامير آل داوود“.

والأدلة في السنة على هذا كثيرة، وأفعال الصحابة والتابعين وأقوالهم في ذلك مشهورة نهاية الشهرة.[2]

وبذل الجهد في تحصيل هذا الفضل مشروع؛ بأن يتدرب القارئ على تحسين صوته وتجميل تلاوته شيئًا فشيئًا، وأن يستمع إلى الدورات والسلاسل المعينة على ذلك من قبل المتخصصين[3]، وأن يحاكي تلاوة القراء المشهورين، ومعلوم أن الإكثار من سماع القراء له أثر كبير في تحسين التلاوة للقارئ بصورة لا إرادية، ثم بعد ذلك يصبح للقارئ طابعه الخاص وأداؤه المميز.

والناس في ذلك متفاوتون، إذ الأصل في حلاوة الصوت أنه رزق ونعمة من الله تعالى، فالنصيحة أن يجتهد الطالب قدر استطاعته دون تكلف، وإن ظن في نفسه سوء صوته فهذا لا يعيبه أبدًا، ولا يمنعه من أن يكون له طابع خاص يخشع له المستمع، فلم نر أحدًا من المشايخ عاب على تلميذه سوء صوته ورفض إجازته ما دام متقنًا ضابطًا، ولكن الذي يعيب القارئ حقيقةً أن يكون مضيعًا لأحكام التلاوة على حساب تحسين صوته غير مستشعر لمعاني الآيات وليس له من سكون القرآن ولا التأدب معه نصيب[4].

فضابطٌ لألفاظ القرآن، متقنٌ، مراعٍ لما حقه الوقف وما حقه الوصل، متذوقٌ لحروفه ومعانيه، فذلك حامل القرآن!

وأجدر به أن يفتح الله له قلوب عباده، ومثال ذلك من كبار الأئمة وأهل الإقراء كثير.

وهنا أود التنبيه على استخدام ألحان الغناء والمقامات الموسيقية[5] في قراءة القرآن، وهذا أمر من أشد ما يعيب صاحبه ويضع من قدره وهيبته، ولا شك أنه سوء أدب مع كلام الله تعالى، وأعني بذلك أن القارئ يتكلف الإتيان بمقام موسيقي معين فيطوع له أحكام التلاوة، بل بعضهم بالغ فجعل لآيات العذاب مقامًا ولآيات النعيم مقامًا وللقصص القرآني مقامًا ولا يخرج عن هذه المقامات وإن أخل بأحكام التلاوة، وعذره في ذلك أن الناس تجد منه تأثيرًا عجيبًا[6]، وقد حكى الإمام النووي عن هذه المسألة فقال: وأما القراءة بالألحان فقد قال الشافعي -رحمه الله- في موضع: أكرهها – وقال في موضع: لا أكرهها. قال أصحابنا: ليست على قولين، بل فيه تفصيل. فإن أفرط في التمطيط فجاوز الحد فهو الذي كرهه، وإن لم يجاوز فهو الذي لم يكرهه.

وقال قاضي القضاة الماوردي في كتابه الحاوي: القراءة بالألحان الموضوعة إن أخرجت لفظ القرآن عن صيغته بإدخال حركاتٍ فيه، أو إخراج حركات منه، أو قصر ممدودًا، أو مد مقصورًا، أو تمطيط يُخِلُّ به اللفظ ويلتبس به المعنى، فهو حرام، يفسق به القارئ، ويأثم به المستمع، لأنه عدل به عن نهجه القويم إلى الاعوجاج، والله تعالى يقول: ﴿ قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ﴾، فإن لم يخرجه اللحن عن لفظه وقراءته على ترتيله، كان مباحًا، لأنه زاد بألحانه في تحسينه. هذا كلام أقضى القضاة.

وأتبع النووي على ذلك فقال: وهذا القسم الأول من القراءة بالألحان معصية ابتلي بها بعض العوام الجهلة، والطَّغام الغشمة الذين يقرؤون على الجنائز، وفي بعض المحافل، وهذه بدعة محرمة وظاهرة يأثم كل مستمع لها، كما قال أقضى القضاة. ويأثم كل قادر على إزالتها، أو على النهي عنها إذا لم يفعل ذلك، وقد بذلت فيها بعض قدرتي، وأرجو من فضل الله الكريم أن يُوَفَّق لإزالتها من هو أهل لذلك، وأن يجعله في عافية.[7]

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومع هذا فلا يسوغ أن يقرأ القرآن بألحان الغناء، ولا أن يقرن به من الألحان ما يقرن بالغناء من الآلات وغيرها، لا عند ما يقول بإباحة ذلك ولا عند من يحرمه، بل المسلمون متفقون على الإنكار لأن يقرن تحسين الصوت بالقرآن الآلات المطربة بالفم كالمزامير، وباليد كالغرابيل. فلو قال قائل: النبي ﷺ قد قرأ القرآن، وقد استقرأه من ابن مسعود وقد استمع لقراءة أبي موسى، وقال “لقد أوتي مزمارًا من مزامير آل داوود” – فإذا قال قائل: إذا جاز ذلك بغير هذه الألحان، فلا يتغير الحكم بأن يسمع بالألحان – كان هذا منكرًا من القول وزورًا باتفاق الناس.[8]

وقال ابن القيم: ‌وكل ‌من ‌له ‌علم ‌بأحوال ‌السلف ‌يعلم ‌قطعًا أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة، التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم أتقى لله من أن يقرؤوا بها ويسوغوها ويعلم قطعًا أنهم كانوا يقرءون بالتحزين والتطريب ويحسنون أصواتهم بالقرآن، ويقرؤونه بشجىً تارة، وبطرب تارة، وبشوق تارة، وهذا أمر مركوز في الطباع تقاضيه ولم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضي الطباع له، بل أرشد إليه وندب إليه وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به، وقال: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن»، وفيه وجهان: أحدهما: أنه إخبار بالواقع الذي كلنا نفعله، والثاني: أنه نفي لهدي من لم يفعله عن هديه وطريقته ﷺ.[9]

وقد أكثر العلماء والباحثون في مناقشة هذه المسألة[10]، ولعلنا نكتفي بذكر مقالة الشيخ عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ في كتابه النفيس (سنن القراء ومناهج المجودين) حيث عقد فصلًا سماه: (القراءة بالألحان) ففيه الكفاية.

وخلاصة القول أن القارئ يجتهد في تحسين صوته، ويقرأ على سليقته دون تكلف، ولا حرج عليه بعد ذلك حتى ولو وافق صوته مقامًا من مقام الغناء والموسيقا، ويثاب عليه بإذن الله كما سبق بيانه.

وأما التكلف والالتزام بمقادير المقامات الموسيقية في تلاوة القرآن فهذا قبيح يليق بأهل الغناء ولا يليق بأهل القرآن.

وما أحسن مقالة الإمام ابن الجزري: ‌ولقد ‌أدركنا ‌من ‌شيوخنا من لم يكن له حسن صوت ولا معرفة بالألحان إلا أنه كان جيد الأداء قيمًا باللفظ، فكان إذا قرأ أطرب المسامع، وأخذ من القلوب بالمجامع، وكان الخلق يزدحمون عليه، ويجتمعون على الاستماع إليه، أمم من الخواص والعوام، يشترك في ذلك من يعرف العربي ومن لا يعرفه من سائر الأنام، مع تركهم جماعات من ذوي الأصوات الحسان، عارفين بالمقامات والألحان لخروجهم عن التجويد والإتقان[11].

وصلى الله على نبينا محمد وآله، والحمد لله رب العالمين.


[1] قال الزهري وابن جرير في قوله تعالى ﴿ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ﴾ يعني: حُسن الصوت. وقُرئَ في الشاذ: ﴿ يَزِيدُ فِي الْحَلْقِ مَا يَشَاءُ ﴾ بالحاء المهملة.

[2] يراجع في هذه المسألة كتاب التبيان في آداب حملة القرآن للإمام النووي ففيه الكفاية.

[3] للشيخ جزاع الصويلح كلام نفيس في ذلك على الشبكة بعنوان: (أثر الصوت على تلاوة القرآن).

[4] وإن رزق من حلاة الصوت ما تحار به العقول، وكم رأينا في زماننا من ضيع أحكام التلاوة مجاراةً لقواعد النغم!

[5] ولسنا هنا في بيان حكم الموسيقا فهو مبثوث في كتب الفقهاء ومعلوم، ويراجع في ذلك كتاب: (المعازف والغناء في ميزان الشريعة الغراء -للنميري محمد عثمان الصبار).

[6] وللأسف واقع تعلم المقامات في قراءة القرآن يندى له الجبين، فالمتعلم ينصرف عن التدبر والتأمل للآيات والالتزام بأحكام التلاوة وينصب اهتمامه على الالتزام بمقادير المقام وحركاته طلوعًا ونزولًا، وكيف ينتقل من مقام إلى آخر في سلاسة دون نشاز، ولا يخفى على القارئ ما انتشر لطفلة رزقها الله حلاوة الصوت ومعها معلم للمقامات يصحح لها التلاوة فيقول: (اقرئي بالدرجة الفلانية من المقام الفلاني، واقرئي الآية التالية بمقام كذا .. إلخ) ويكأنه مايسترو حقيقي يتلو القرآن كما يتلو نوتته الموسيقية!

ويحسن في هذا مقام سماع محاضرة بعنوان: (قراءة القرآن بالمقامات) – الشيخ محمد صالح المنجد، ففيها تفصيل نافع.

[7] التبيان في آداب حملة القرآن.

[8] الاستقامة. (1/246)

[9] زاد المعاد في هدي خير العباد. (1/ 475)

[10] ويراجع في ذلك:

  • الأنجم الزواهر في تحريم القراءة بلحون أهل الفسق والكبائر – ابن الكيال.
  • بدغ القراء – الشيخ بكر أبو زيد، رحمه الله تعالى.
  • التغني – الشيخ لبيب السعيد.
  • البيان لحكم قراءة القرآن بالألحان – الشيخ أيمن رشدي سويد.
  • محاضرة بعنوان: (القراءة بالألحان بين المنع والتجويز والنظرية والتطبيق) – أ.د إبراهيم بن سعيد الدوسري.
  • سؤال على موقع الإسلام سؤال وجواب بعنوان: (تلاوة القرآن على المقامات) – أ.د إبراهيم بن سعيد الدوسري.

[11] النشر في القراءات العشر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى