الدين

الشبهات العقديَّة حقيقتها وأنواعها ومصادرها ومآلاتها وكيف نتعامل معها

د. عائض بن سعد الدوسري

مدخل:

يشهد العالم في عصرنا هذا تغيرات كثيرة وسريعة، قيمٌ ومعارف وعادات تذوب في دواماتها، وتنبتُ في المقابل قيم جديدة وأعراف حديثة. وفي هذه التغيرات السريعة أصبح الشباب هم الفئة المستهدفة الأولى والضحيَّة الأولى، وصار كثير منهم يعيش في حقبة عالميَّة هي مرحلة الانفعال، ينتقلون من الذوبان والانصهار داخل دومة إثر دوامة أخرى، ويشعر كثيرٌ منهم بأنَّه يعانون من عطش روحي، وفراغ فكري، يولِّد داخلهم صراعاً وفراغًا، ولهثاً وراء الحقيقة تارة، ووراء السراب تارة أخرى!

وقد أفرز ذلك عندهم جلدًا للذات، وألماً في النفس وضيقها، أو كما وصف أحد الشباب إحساسه بالفراغ الروحي بأنه مثل الذي  يأكل  “الجليد المالح“! وكان من أهم العوامل التي ولدت تلك الدوامة والأزمة الروحيَّة والفكريَّة: رواج الشبهات وكثرة المعلومات المضللة والمغلوطة، في ظل تلاصقٍ معلوماتيٍّ علميٍّ، وسيلٍ هادرٍ من الصور والمقاطع والكلمات، التي لم يعد أحد يستخدم وسائل التواصل الاجتماعية في منأى عنه.

ولهذا بات ضروريًا أن يكون لدى الشباب دراية ومعرفة بكيفيَّة التعامل مع هذه الشبهات، ومعرفة طبيعة هذه الشبهات ومصادرها وأنواعها ومحركاتها، ليس قط من خلال محاضرة عابرة، بل من خلال مراكز متخصصة وحاضرة وفاعلة واقعيًّا على الأرض، ومتفاعلة إيجابيًا مع واقع وحياة الشباب والأفكار التي تمثل لهم هاجسًا، وتقيم حوارًا بناءًا معهم، تقدم فيه الفكرة الصحيحة والمهارة اللازمة في نقد الأفكار وتمحيصها.

وحتى نتعامل مع الشبهات بشكلٍ جيدٍ فلا بُدَّ أن نعرف حقيقتها، ومصادرها وأنواعها وأساليبها، فمعرفة حقيقة الشيء تُمكِّن من كيفية التعامل معه، ومعرفة كيف يؤثر فينا؟ ومن ثَمَّ كيف يمكننا أن نواجهه ونقوم بعلاجه.

التعريفات:

معنى الشبهات، مفردها شبهة، ويعود معناها في اللغة إلى: التشابه والتماثل والالتباس والاختلاط وحصول الإشكال والشك المسبب للتوقف، ومن ثَمَّ الافتتان. والفتنة هي من أعظم تجليات الاشتباه، يقول ابن منظور ناقلاً عن غيره: “والفتنة إذا أقبلت شَبَّهَتْ على القوم، وأَرَتْهُم أنهم على الحق، حتى يدخلوا فيها ويَرْكَبُوا منها ما لا يحل، وإذا أَدْبرت وانقضت بان أمرها؛ فَعَلِمَ من دخل فيها أنه كان على الخطأ، [ثم قال] وأمور مشتبهةٌ: مشكلة، يشبه بعضها بعضًا”.

وفي الاصطلاح: قال الباقلاني: “سُمِّيَتْ الشبهة المُصَوِّرة للباطلِ بصورةِ الحقِّ شبهة”. وقال أبو البقاء الكَفَوِي: “الشبهة الظن المشتبه بالعلم”. و قال المُنَاوي:  “الشبهة مشابهة الحق للباطل والباطل للحق من وجه إذا حُقِّقَ النظر فيه ذهب”. ويقول ابن قيم الجوزيَّة: “الشبهة وارد يرد على القلب يحول بينه وبين انكشاف الحق له”.

وحاصلها: أنَّها حائل يحول دون الوصول إلى الحقِّ بسبب الغموض وعدم الوضح، الذي يصـاحب أمـراً فيمتنـع تمييزه عن غير. ومن ثَمَّ ما كان حاله غامضًا كان الحكم عليه فرع عنه ، ومن هنا فهي إحدى مصادر الفتنة الرئيسة في الدِّين والأخلاق.

وقد وردت ألفاظ الشك والريب والمرية بصيغها المختلفة في القرآن الكريم في مواضع عديدة، ولم ترد في موضعٍ واحدٍ بصيغة المدح بل كلها بصيغة الذم، قال تعالى: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي الله شَكٌّ)، (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ). وإنَّما الذي جاء في القرآن الكريم هو مدح اليقين والإيمان. قال تعالى: (ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)، (اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا).

وهنا تنبيه: يحسن الالتفات إليه وهو أنَّ الغموض والاختلاط الخاص بالشبهات أمرٌ نسبي، أي بالنسبة إلى الشخص نفسه، فما كان شبهة عند أحدهم ليس بالضرورة يكون كذلك عن الآخر، والمعيار في ذلك هو مقدار العلم بالشيء، وكلما زاد علم الإنسان بربه ودينه انكشت عنه معظم الشبهات، فالشبهات ونوعها قرينة بمستوى جهل الإنسان أو علمه.

وهاهنا حديث جامع للحكمة في باب الشبهات:

فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ -وأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ: “إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، والْحَرَامَ بَيِّنٌ، وبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وعِرْضِهِ، ومَنْ وقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، أَلَا وإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وهِيَ الْقَلْبُ“. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فهذا حديثٌ عظيمٌ، وحده يستحق الدراسة التفصيليَّة، فقد بين ماهيَّة الشبهة، ومن الذي يقع فيها، وطريقة الوقوع فيها وسبيل التخلص منها، ومَثَّلَ على ذلك بأحسن الأمثلة، ثم بَيَّنَ منبع صلاح الإنسان وفساده، وهو القلب.

أهم روافد الشبهات:

1-الجهل العام أو الخاص: ولعل ذلك من أهم روافد الشك والشبهات، والمقصود بالجهل العام هو عدم انتساب الشخص إلى العلم الشرعي والعلوم ذات العلاقة كليَّةً، أما المقصود بالجهل الخاص فهو عدم المعرفة بالحيثيَّة الخاصَّة أو المسألة المعينة التي حصل فيها الاشتباه، وقد تكون مسألة متعلق بفرعٍ من فروع العلم الشرعي المحض أو بالعلوم الأخرى المتصلة بالعلم الشرعي، كالعلوم العقليَّة والطبيعية والمادية والكشوفات الحديثة والآثار. وفي هذا يدخل التفاوت بين الناس في الفهم والإدراك والاستيعاب، وكذلك مدى الوثوق من الأصل الدِّيني الذي لديهم، وعدم الانتقال من اليقين إلى الشك لأجل ورود شبهة ما.

2-القراءة العشوائيَّة: وهي الأكثر انتشارًا بين الشباب الذين يحبون القراءة، فعدم المبالاة بالمصادر التي يستقي منها معلوماته، وعدم التمييز بين الصحيح والسقيم منها، تولد إشكالات حقيقيَّة لدى القارئ. فالقراءة الفوضوية بعادتها لا تنتج علمًا، وضريبتها القلق وعدم قبول الأقوال والشك فيها، والتضخم المعرفي مع التشتت، والفوضوي لا يقبل العلم أو يحترمه. ولا شك أنَّ القراءة عادة طيبة وحميدة، لكنها تبقى بدون خلفيَّة معرفيَّة وقائيَّة وسيلة حياديَّة، يمكن أن تتجه إلى الخير، ويمكن أن تتجه إلى الشر وذلك بحسب المادة المقروءة وتوجه المؤلف لها، إذا ليس لدى القارئ خلفية علميَّة يميز بها الصحيح من الخاطئ، فإذا كانت فوضويَّة عشوائية كان ضررها كبيرًا. والسبب في ذلك أنَّ القراءة في أي مجال -يعتمد على البناء الفكري للعقل، أي يعتمد على البناء التصوري التراكمي الذي يبني التصورات ثم القناعات- يحتاج إلى قواعد قبلية يقارن معها الجديد (للمزيد راجع مقالي: سلطان الأفكار، ومقالي: خطوط عريضة في التعامل مع الأسئلة الوجوديَّة الكبرى).

3-إهمال فحص المعلومات: إذا افترضنا أنَّ شخصًا قرأ بشكلٍ عشوائيٍّ وتسربت له شبهة ما، فإنَّ ذلك ليس نهاية المطاف، إلا إذا اتبعها بعدم الاهتمام بتقييم المعلومات التي يتلقاها، فتتراكم في عقله المعلومات الزائفة أو المغلوطة، فتكون لديه تصورات راسخة قد يصعب زعزعتها لاحقًا. (للمزيد راجع مقالي: في نقد الأفكار وفحص المعلومات الجديدة، ومقالي: تأملات في الأفكار ونقدها وتمحيصها).

4-التعرض للشبهات: بأن لا يبالي بالمواد التي يسمعها أو يقرؤوها أو يراها، ولا بالأشخاص الذين يصحبهم، بل يتعمد الاطلاع على تلك الشبهات من باب الفضول والتطفل والتعرف على الأشياء الغريبة، دون وجود حصانة فكريَّة وخلفيَّة علميَّة تحميه من التأثر بهذه الشبهات. وقد يكون الدافع أحيانًا ما في تركيبته النفسية من حب المسائل الشاذة والغرائب، من أجل الظهور والتميز ولفت الأنظار.

5-المواقف النفسيَّة المستعدة: قد تكون الشبهات ضعيفة جدًا في نفسها، أو غير قوية كفاية لتحدث التأثير الجذري في عقل الشخص، لكنَّ استعداده النفسي والعاطفي يمهد ويهيئ لتقبل واحتضان تلك الشبهات، وخصوصًا ما يتعلق بالشبهات الخاصة في باب القدر والحكمة والتعليل وبعض الأحكام التكليفيَّة، مما يدخل في باب: (مشكلة وجود الشر). فهذا الاستعداد النفسي يخلق في النفس ميلاً إلى قَبُول هذه الشبهات.

قال ابن تيميَّة في القصيدة التائية:

وَأَصْلُ ضَلال الخَلقِ مِنْ كُل فِرْقَةٍ
هُوَ الخَوْضُ فِي فِعْل الإِلهِ بِعِلةِ

فإنَّهمو لمْ يَفْهَمُوا حِكْمَةً لهُ
فَصَارُوا عَلى نَوْعٍ مِنْ الجَاهِليَّةِ

فَإِنَّ لهُ فِي الخَلقِ رَحْمَتَهُ سَرَتْ
وَمَنْ حِكَمٍ فَوْقَ العُقُول الحَكِيمَةِ

أمُورًا يَحَارُ العَقْلُ فِيهَا إذَا رَأَى
مِنْ الحِكَمِ العُليَا وَكُل عَجِيبَةِ

وَهَذَا مَقَامٌ طَالمَا عَجَزَ الأُولى
نَفَوْهُ وَكَرُّوا رَاجِعِينَ بِحِيرَةِ

وهذا الباب عظيم القدر جدًا، ويحتاج إلى شيءٍ من البسط والتفصيل، وموارده عديدة وأشكاله مختلفة متنوعة، ولعل من أهمها:

أولاً: الآلام والتجارب الشخصيَّة.

وهنا تجد الأشخاص الذين تعرضوا لمحن وفتن شخصيَّة وتجارب قاسية مختلفة، كمن فقد حبيبه وقريبه، أو صحته، أو مرَّ بتجربة زوجيَّة فاشلة ومؤلمة، فهؤلاء يميلون إلى تصديق المعلومات السلبيَّة التي تنسب ظلم الحياة وفقدها وآلامها وشرورها إلى الخالق سبحانه. وقد بَيَّنَ الحاكم الجُشَمِي أنَّ مسائل الآلام مما يعظم في باب العدالة الإلهيَّة، وأنَّ الجهل بها سبب ضلال طوائف كثيرة، ومنها الدهريَّة التي نفت الصانع، وقالت: لو كان صانع الكون مختارًا لما حسن منه الإيلام.

وهذا الباب يجب عدم تجاهله والتقليل منه، وتجاهل أثر التجارب والخبرات النفسيَّة الشخصيَّة على أنماط تفكير وسلوك الأفراد، ومدى تأثيره على خيارتهم العقليَّة والفكريَّة. والأمثلة في هذا الباب كثيرة جدًا، ومنها:

غريغوري بنفورد عالم فيزياء فلكية في كلية قسم الفيزياء والفلك في جامعة كاليفورنيا، دخلت عليه شبهة بسبب موت زوجته ووالديه، فألحد وكفر. يقول: “حقيقة الموت وتجربة فقدان الأحباء تثقب حتى الحياة الأكثر إرضاءً وتنظيمًا. فلقد توفيت زوجتي في عام 2002م، فانهرت بعد يومين من وفاتها، وبعد ثلاثة أشهر توفي والدي، وبعد عامين آخرين ماتت والدتي أيضًا. أعتقد الآن أنَّ الشر ليس مشكلة يجب حلها، الكون مكان مظلم ومأساوي”.

ويقول عبدالله القصيمي: “إنَّ كل دموع البشر تنصب في عيوني، وأحزانهم تتجمع في قلبي، وآلامهم تأكل أعضائي، لو أردتُ من نفسي وعقلي أن يشكا لما استطاعا، إنهما إثبات للشيء بأسلوب نفيه، وهو أقوى أساليب الإثبات، ولا يعني إلا ما يعنيه الطفل حينما يقول لأمه: لستِ أمي! إنه تعبيرٌ عن الاحتجاج أو الحب العصبي“.

ويعلق حسين مُروَّة، وهو شيوعي بارز، وكان عالم دين شيعي معمم سابق، على حالة القصيمي، فيقول: “لم يكن عسيرًا عليَّ اكتشاف كون عبدالله القصيمي خاضعًا في معظم أفكاره وتأملاته وخواطره إلى عدد من الضغوط النفسية والفكرية العنيفة، التي يصح أن نجعلها كلها في حالة أو وحدة تؤلف ما نسميه بالأزمة، إذا لم نسمها عقدة“.

ثانيًا: وجود العداوة أو المخاصمة الشخصيَّة لفكرة ما في الدِّين أو للمنتسبين إليه، فيجد في نفسه ميلاً لتصديق كل معلومة سالبة ترد عن هؤلاء، وذلك لميله النفسي لقبول كل ما من شأنه أن يضع ويحط من قدرها أو قدرهم. ويدخل في ذلك أيضًا أثر النماذج السيئة والسلبيَّة للتدين على النَّاس، فعامة النَّاس تتأثر أكثر بالممارسات العمليَّة للتدين، وحين يرون المنتسب للتدين يتحلى بالصفات السيئة والقبيحة والممارسات المناقضة لمقتضى تدينه، فذلك يؤثر سلبًا عليهم وعلى أحيانًا موقفهم من التدين نفسه.

وهذا النوع من الأشخاص الذين يتأثرون بذلك لديهم عادة الربط بين الحقيقة والأفراد، والانتقال من الطعن في الأشخاص والسلوكيات والتصرفات الفردية إلى  الطعن في العقائد والإيمان الذي ينتسبون إليه، فيتم إسقاط العقيدة من خلال إسقاط الأشخاص، قال فرعون عن موسى عليه السلام: (قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ). قال الإمام الطبري: “يقول فرعون: إن رسولكم هذا الذي يزعم أنه أرسل إليكم لمغلوب على عقله، لأنه يقول قولاً لا نعرفه ولا نفهمه، وإنما قال ذلك ونسب موسى عدو الله إلى الجِنَّة، لأنَّه كان عنده وعند قومه أنه لا ربَّ غيره يعبد، وأن الذي يدعوه إليه موسى باطلٌ ليست له حقيقة”. وقال ابن كثير: ” أي: ليس له عقل في دعواه أنَّ ثَمَّ ربًا غيري”. وقال الإمام القرطبي: “قال فرعون [ذلك] على جهة الاستخفاف”. أي يريد أن يُسقط كلامه بمجرد إسقاط شخصه أمام الناس، وذلك منهج راسخ لمن أراد أن يرد ويرفض الحقَّ، وهو يعجز عن رده بالحجة والبرهان، فهذه الطريقة طريقة سهلة وسريعة ومؤثرة في نفوس الناس.

ومن الأمثلة المعاصرة على مدى تأثير النماذج السيئة للتدين على الموقف من الدِّين نفسه، ما حصل للفيلسوف الرياضي المنطقي المعروف برتراند رسل، تقول عنه ابنته كاثرين برتراند رسل: “لم أكن أستطيع حتى التحدث مع أبي عن الدين، كان يعرف العديد من المسيحيين العميان عديمي الأخلاق، الذين يدمرون بهجة الحياة ويطاردون معارضيهم، لم يكن يتسنى لأبي أبدًا رؤية الحقيقة التي يخفونها. ففي مكان ما في عقل أبي، في أعماق قلبه، بين تلافيف روحه، كان هناك فراغ، لم يملأه قبل ذلك إلا الإله، ولم يجد شيئًا آخر يملأه به. كان لديه إحساس بعدم الانتماء، كما لو كان شبحًا، لا يمتلك مأوىً في هذا العالم!”.

وهذا هو برتراند رسل نفسه يعترف ويقول: “لا شيء يمكن أن يخترق عزلة قلب الإنسان، إلا أشد درجة من هذا الحب الذي يدعو له المعلمين الدينيين”.

ويقول كولن ولسون: “ترى من أيِّ نوعٍ من النَّاسِ هو المادي الملحد، بصورةٍ عامةٍ؟ إنَّه أحيانًا الإنسان الذي يتحمس ضد الدِّين ويقف منه موقفًا عنيفًا بسبب تجربة كانت قد حدثت له مع رجال الدِّين”.

ويؤكد أليكس ماكفريلاند هذا البعد النفسي المهم، الذي قد يغيب أحيانًا على كثيرٍ من المتصدين لظاهرة الإلحاد والشك، فيقول: “غالبًا ما يكون المتشكك قد تألم كثيرًا من خبرات سلبية مع شخص متدين. ومعظم الملحدين الذين تقابلتُ معهم حكوا لي قصصًا عن الأيام التي كانوا فيها متدينين”.

بلا شك هذا ليس تبريرًا ولا تسويغًا لهم، ولكن هذا يساعد على تفسير وفهم ظاهرة التحول، ومعرفة أحد أسبابها المهمة.

وفي السياق نفسه، يحسن معرفة أن كفر وثورة وتمرد الشعوب الغربية لم تكن موجهة بالدرجة الأولى إلى المسيحية كدِّين، بل كانت وظلت زمنًا طويلاً متوجهة نحو ممارسات رجال الدين، وقد بدأ النقد داخليًا، لكن كان يواجه في الغالب بردة فعل قاسية، وحين طال ذلك الصراع، بدأت المساحة الفاصلة بين الدين نفسه ورجاله تتقلص شيئًا فشيئاً، وسقطت بذلك القدوة الدينية، وتبعها سقوط الدِّين نفسه في أعين كثير من النَّاس في أوروبا.

 يقول أندريه كرِيسون: “كانت الفضائل المسيحية كالفقر والتواضع والقناعة والصوم والورع والرحمة للمؤمنين، أما الأساقفة والشخصيات الكهنوتية الكبيرة فقد كان شيء آخر؛ البذخ والأحاديث المتأنقة مع النساء والشهرة في مجالس الخاصة والعجلات والخدم والأرباح الجسيمة والموارد والمناصب”.

6-ضعف التَّدَيُّن: التدين علمًا وممارسة مثل الحصن المنيع أمام الشبهات، في جميع العلوم والمبادئ فإنَّ ضعف الممارسة العمليَّة لما يؤمن به الإنسان أو يعرفه يؤدي في كثيرٍ من الأحيان إلى ضعف تلك التصورات التي يؤمن بها أو يعرفها. وقد نبَّه على هذه القضية كثيرٌ من السلف، وبينوا أن ضعف العبادة يؤدي إلى ضعف الإيمان، فالإيمان قول وعمل واعتقاد، والشهوات بابٌ على الشبهات. يقول ابن قيم الجوزيَّة: “وَأَمَّا صِيَانَةُ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ السُّنَّةِ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَإِضْعَافُ الْمَعَاصِي لِلْإِيمَانِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالذَّوْقِ وَالْوُجُودِ، فَالْقَبَائِحُ تُسَوِّدُ الْقَلْبَ، وَتُطْفِئُ نُورَهُ، وَالْإِيمَانُ هُوَ نُورٌ فِي الْقَلْبِ، وَالْقَبَائِحُ تَذْهَبُ بِهِ أَوْ تُقَلِّلُهُ قَطْعًا، فَالْحَسَنَاتُ تَزِيدُ نُورَ الْقَلْبِ، وَالسَّيِّئَاتُ تُطْفِئُ نُورَ الْقَلْبِ، فَالْمَعَاصِي لِلْإِيمَانِ كَالْمَرَضِ وَالْحُمَّى لِلْقُوَّةِ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ. وَلِذَلِكَ قَالَ السَّلَفُ: الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ، كَمَا أَنَّ الْحُمَّى بَرِيدُ الْمَوْتِ”.

تزاوج الشبهات والشهوات:

الشبهة أمر يعرض للتصورات والمعلومات والعقائد ولما يؤمن به الإنسان ويعرفه، وغالبًا سببها ضعف العلم، وغالبًا ما تكون غير مقصودة ولا مطلوبة للشخص، بل يقع فيها الإنسان من غير قصدٍ لها، وتزيد عمقًا وصعوبة إذا خالطها الهوى. وهي تختلف عن الشهوات التي هي ميلٌ في النفس لما تعتقد أن فيه لذتها ومتعتها، فهي مقصودة إلى النفس ومرغوب في تحصيلها، لضعفٍ في الإرادة والعزيمة. لكن العلاقة بين الشبهات والشهوات متينة جدًا ومتشابكة بشكلٍ معقدٍ، وهما من الفتن التي يتعرض لها الإنسان، بحيث قد يُنتجان النتيجة نفسها من الإنكار والجحود لليقينيات.

يقول فخر الدين الرازي: “اعلم أنَّ إنكار البعث يتولد تارة من الشُّبهة، وأخرى من الشَّهوة، فأما تولده من الشبهة فهو ما حكاه الله عَزَّ وَجَلَّ بقوله: ﴿أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ﴾، وتقديره: أنَّ الإنسان هو هذا البدن، فإذا مات وتفرقت أجزاؤه، واختلطت بأجزاء التراب، وتفرَّقت بالرِّياح في مشارق الأرض ومغاربها، فيكون تمييزها بعد ذلك محالاً. وهذه الشبهة ساقطة من وجهين: [وذهب الرازي في بيانه الوجهين ثم قال بعد ذلك:] فزال الإشكال، وأما إنكار البعث بناءً على الشَّهوةِ فهو قوله تعالى: ﴿بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾. ومعناه أن الإنسان الذي يميل طَبْعُهُ للشَّهوات واللَّذات، والفكرةُ في البعث تنغصها عليه، فلا جرم ينكره”.

وقال ابن قيم الجوزيَّة: “الفتنةُ نوعان: فتنة الشبهات وهي أعظم الفتنتين، وفتنة الشهوات، وقد يجتمعان للعبد، وقد ينفرد بإحداهما. ففتنةُ الشبهات من ضعفِ البصيرة وقلَّة العلم، ولا سيَّما إذا اقترنَ بذلك فسادُ القصد وحصولُ الهوى، فهنالك الفتنةُ العُظمى والمصيبةُ الكبرى، فقل ما شئتَ في ضلالِ سيءِ القصد، الحاكم عليه الهوى لا الهُدى، مع ضعف بصيرته وقلَّة علمه بما بعثَ اللهُ به رسولَه صلى الله عليه وآله وسلم. وأما النوع الثاني من الفتنة: ففتنةُ الشهوات، وقد جمع سبحانه بين ذكر الفتنتَيْن في قوله تعالى: (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ)؛ أي: تمتَّعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها، والخَلاَق: هو النصيبُ المُقدَّر، ثم قال: (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا)، فهذا الخوضُ بالباطل، وهو الشُّبُهات. فأشار سبحانه في هذه الآية إلى ما يحصُلُ به فسادُ القلوب والأديان من الاستمتاعِ بالخَلاقِ والخوض بالباطل؛ لأنَّ فساد الدِّين: إما أن يكون باعتقاد الباطل والتكلُّم به، أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح؛ فالأول: هو البدع وما والاها، والثاني: فسقُ الأعمال…وأصلُ كل فتنةٍ إنما هو من تقديم الرأيِ على الشرع، والهوى على العقل؛ فالأولُ: أصل فتنة الشبهة، والثاني: أصلُ فتنة الشهوة. ففتنةُ الشُّبُهات تُدفَع باليقين، وفتنةُ الشهوات تُدفَعُ بالصبر، ولذلك جعل سبحانه إمامةَ الدِّين منوطةً بهذين الأمرين؛ فقال: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)، فدلَّ على أنَّه بالصبرِ واليقينِ تُنالُ الإمامةُ في الدين…فبكمال العقل والصبر تُدفَعُ فتنةُ الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تُدفَعُ فتنةُ الشُّبهة”.

أنواع الشبهات من حيث المصادر:

النوع الأول: ما يعود إلى محتوى الشبهات (=جاذبيتها). وهو نوع يؤثر في الإيمان بمجرد محتوها، وإن كان عاريًا عن الدليل، وهذا غالب ما يحصل لعامة النَّاس، بسبب ما يُشاع من المعلومات المرسلة، أو المقاطع الصوتيَّة المؤثرة، أو المشاهد السينمائيَّة المُبْهِرَة، أو ما يقرأ من القصص والروايات والحكايات المرسلة التي تُساق من غير دليل. وخطورتها تمكن -كما قلنا- على عامَّة النَّاس، والسبب في ذلك أنَّ معظم عامَّة النَّاس لا تطلب الدليل، بل تنظر في محتوى الكلام نفسه، فإن كان عذبًا مرتبًا جذَّابًا منمَّقًا، يخاطب الحواس والعواطف والوجدان والغرائز، أثَّرَ فيهم أيَّما تأثير. بل إنَّ المظاهر البرَّاقة والأضواء والشكل والشهرة لها تأثيرها العميق في نفوس عامَّة النَّاس وفي أفكارهم ونظرنهم للأشياء.

يقول الفيلسوف برتراند رَسل: “مصدر الخطأ في السابق هو أنَّ النَّاس قرؤوا في الكتب أنَّ الإنسان كائنٌ منطقيٌ، ثمّ أطَّروا جدلهم ضمن هذه الفرضيَّة. لكنَّنا نعلم الآن أنَّ الأضواء الباهرة، وأبواق الموسيقى الصاخبة، تفعل في الإقناع أكثر مما تفعله أكثر أساليب الكلام تنميقًا وبلاغة”.

وخطورة هذا النوع أنه لا يخلق الإقناع مباشرة، بل بالتدريج، على هيئة قطرات صغيرة لكنها متتابعة، وذلك بكثرة التكرار والإعادة، من خلال مختلف الوسائل المرئية والمسموعة والمقروءة، وهو ما يسمى في (علم نقد الأفكار): غسيل الدماغ، فتكرار المحتوى هو أهم وسيلة من وسائل غسل الدماغ. يقول فلاديمير لينين (1924م)، وهو أهم قائد سياسي شيوعي:  “الكذبة التي تتكرر كثيرًا تصبح حقيقة”. ويُنسب إلى جُوزيف غُوبلز Joseph Goebbels (1945م)، وزير الدعاية النازيَّة في حكومة أدولف هتلر، قوله: “اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس”. وهي استراتيجيته تعتمد على التكرار، حتى يتحول إلى حقيقة في أذهان الناس، لكثرة ما يسمع ويتداول. يقول ماركوس ويكس: “يُمكن أن تُقْبلَ فكرةٌ إذا ما تكرَّرَت بشكلٍ ثابتٍ”. وهذا ما تُؤيده الأبحاث النفسيَّة، حيث قام عالم النفس الاجتماعي روبرت زايونس بإطلاع بعض الأشخاص على رُموزٍ وأشكالٍ مختلفة، ووجد أنَّهم كلما رأوا رمزًا ما أكثر أحبوه أكثر. ولذلك استنتج هذا العالم –كما يقول- “أنَّ التَعَرُّض المُتَكَرِّر لشيءٍ ما، يجعلنا أكثر راحةً بوجوده، ويُغيِّر نظرتنا وموقفنا تجاهه”.

وللمزيد يمكن الرجوع إلى مقالة كتبتها بعنوان: (كيف تَتَغيَّر الأفكار والقناعات؟ وكيف تُكْتَسَب قناعات جديدة؟).

ومصادر شبهات هذا النوع (=المحتوى المجرد) متعددة، ومنها:

1-السخرية: وهو أمر في غاية الخطورة والتأثير في نفوس النَّاس. وقد نَشَرَ الأديب الفرنسي فرانسوا باشومون (توفي 1771م) مذكراته السريَّة قبل موته بثلاث سنوات فقط في عام 1768م، ومما ذَكَرَهُ في أحد فصول ذلك الكتاب الذي يحمل عنوان: (العدوى المُقَدَّسَة)، أنَّه قد “ظهرت في فرنسا منذ بضع سنوات طائفة من الفلاسفة الجريئين”، وهذه الطائفة كان هدفها الرئيس يتمثل في “تنوير العقول بشكلٍ كاملٍ” بزعمهم، لكن كيف؟ كان ذلك من خلال “زعزعة المعتقدات واستئصال الدَّين حتى في أسسه العميقة وركائزه”. لكن كيف يُمكن لهم تحقيق مثل هذا الهدف؟ يقول فرانسوا باشومون: “هم يستخدمون طريقتين لزعزعة هذه العقائد: [والطريقة الأولى هي] أسلوب التهكم والسخرية من رجال الدين وعقليتهم الخرافيَّة”.

وهذا النص مهم جدًا لفهم الغرض الوظيفي من السخرية، وأثرها العميق في تغيير القناعات، فالسخرية إذا كانت منهجًا مستمرًا لأي شخصٍ أو مجموعةٍ فإنَّها في حقيقتها استراتيجية تعمل على الهدم بالتشكيك.  وخطورة السخرية أنها لا تكلف صاحبها الكثير من العمق في العلم والمعرفة، أو البناء والتأسيس، أو التجاوب مع الآراء برؤية نقديَّة هادفة. وإنما تعتمد على التشكيك من خلال هزِّ وتحريك قناعات المتلقي في اعتقاداته بطريقة توحي بالوثوقيَّة العالية، التي يقع ضحيتها السطحي عادة. وقد اهتم القرآن الكريم كثيرًا بموضوع السخرية، وأثره في النفوس.

وللمزيد يمكن الرجوع إلى مقالة كتبتها بعنوان: (السخرية استراتيجية الهدم بالتشكيك!).

2-المعلومات المرسلة: فيكفي هذا النوع من النَّاس أن يُساق الكلام لى عواهنه من دون دليلٍ أو برهانٍ ليؤثر فيهم، فالأحكام المجردة تؤثر فيهم، وتزرع في قلوبهم الشبهات، فسوق الكلام السلبي المجرد عن مثل: قضايا النبوات، أو السيرة النبويَّة الشريفة، أو بعض الصحابة الكرام، أو إثارة نقاشات في مثل: تعدُّد الزوجات، والحجاب، والإرث، وإطلاق الأحكام التَّعَسُّفيَّة عليها بأنَّها تنافي التحضر والمدنية، كافٍ في زعزعة القناعات.

3-المشاعر النفسيَّة والعاطفيَّة: وخصوصًا الغضب، والسخط، والشعور بالحرمان والدونية، وعدم حصول المراد، وبدل أن يصبح الإيمان أو العقل هو الذي يقود التفكير في المحتوى ويطلب الأدلة ويفحص الشبهات، تكون العاطفة هي التي تزود صاحبها بالتصورات وهي التي تتعامل مع الشبهات. وهذا الجانب العاطفي النفسي مرتبطٌ بشكلٍ محوري بمشكلة وجود الشر في العالم والعدالة الإلهيَّة. وهو إما تجربة شخصية أو لا أخلاقيَّة قاساها الشخص نفسه في مرحلة مبكرة من حياته في العادة، أو تجربة غير شخصية في العادة، مرئية ومسموعة لوجود الشر في العالم. وهؤلاء الأشخاص تتصف نفوسهم عادة بالحساسية المفرطة، والعاطفة الجياشة المفعمة بقدرةٍ هائلةٍ على رؤية الآلام وتحسس المآسي وتذوق الأحزان، والقابلية السريعة على اجتذاب الشكوك الخاصة بقضية العدالة الإلهيَّة. فنظرتهم لمآسي العالم المنظور لديها القدرة على تشكيكهم في إيمانهم وزعزعة يقينهم.

يقول الدكتور غاري  هابرماس، أستاذ ورئيس قسم الفلسفة: “إنَّ التعامل مع الشك هو مهمة متعددة التخصصات. ففي حين أنَّ الشك الواقعي/الفعلي قد يتطلب خبرة المجادل الدِّيني أو الفيلسوف، فإن الشك العاطفي أو المتعلق بالحالة المزاجيَّة سيكون له علاقة أكبر بعَالِم النفس أو الطبيب والمستشار النفسي…إنَّه من واقع خبرتي، فإنَّ الشخص الذي يُظهر هذا النوع من الشك سَيُظهر أنَّ هذه القضايا الواقعيَّة ليست سطحية. وإنَّه في هذا النوع من عدم اليقين: فإنَّ المشاعر الكامنة وراء استفسارات الفرد هي التي تحظى بالاهتمام الأساسي”.

فهذه المشاكل النفسيَّة والعاطفيَّة هي محركٌ خفيٌ، لا يُصَرَّح به عادةً، وهو ينبع من تجارب مؤلمة وقاسية تعرض لها هذا الإنسان في صغره أو في مرحلة مبكرة من حياته، وأصبحت تلقي بظلالها على بقية حياته، مع توفر محفزات أخرى كفرط الحساسية ونحوها، إذ هي مرتبطة –مع شدتها وقساوتها- بهشاشة وحساسية النفس التي وقع عليها ذلك الألم وتلك القسوة، وضعف الإيمان وعاطفة السخط.

ولهذا نجد أنَّ عالم النفس المعروف البروفيسور بول فيتز في ورقته التي  نشرها في مجلة (Truth Journal)، بعنوان: علم نفس الإلحاد: (The Psychology of Atheism)، يقول: “أنا مقتنع تماماً أن أغلب الملحدين ليس عندهم أسباب عقلانية للإلحاد، وإنما هي دوافع نفسية”. وقد خصَّصَ البروفيسور (بول فيتز) عالم النفسي الغربي، الذي كان مُلحدًا ثم آمن بوجود الله، كتابه (نفسية الإلحاد) لاستعراض أسماء كثيرٍ من كبار الملحدين والمتشككين الغربيين: كآرثر شوبنهاور، وآرثر رامبو، وفردريك نتيشه، وجان بول سارتر، وديفيد هيوم، ووجد أنَّ المحرك النفسي لديهم يمثل عاملاً مهمًا ورئيسًا.

فمشكلة هؤلاء ليس علميَّة ولا عقليَّة، بل نفسية عاطفيَّة بالدرجة الأولى، وإشكالاتهم العلميَّة وشبهاتهم ليست إلا قناعًا ظاهريًا. وكما تقول أنيت بيرسون: “إنهم يحاولون علاجي عن طريق تغيير أفكار الرأس، بينما المشكلة في قلبي”، وهي فتاة غربيَّة فقدت إيمانها بسبب تعرضها للاعتداء والاغتصاب في صغرها!

4-المخالطة والتقليد: فهذا الصنف من النَّاس يتلقون ويحتضنون أفكار من يخالطونهم تقليدًا لهم، دون فحصٍ وتمحيصٍ لكلامهم. وتأثير الأقران في بعضهم، في الدِّين والأخلاق والسلوك، أعظم من أن يُشار له في نصٍّ أو مقالة.

فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “مَثَلُ الجَلِيسِ الصّالِحِ والسَّوْءِ، كَحامِلِ المِسْكِ ونافِخِ الكِيرِ، فَحامِلُ المِسْكِ: إمّا أنْ يُحْذِيَكَ، وإمّا أنْ تَبْتاعَ منه، وإمّا أنْ تَجِدَ منه رِيحًا طَيِّبَةً، ونافِخُ الكِيرِ: إمّا أنْ يُحْرِقَ ثِيابَكَ، وإمّا أنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَة“.  رواه البخاري. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ“. رواه أحمد والترمذي، وقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

وقيل: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه *** فكل قرينٍ بالمقارن يقتدي

مثال حقيقيٌّ واقعيٌّ: قال الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء: “حَدَّثَ سَلَمَةُ بنُ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ سِيْرِيْنَ، قَالَ: تَزَوَّجَ عِمْرَانُ بن حِطَّان البَصْرِي خَارِجِيَّةً، وَقَالَ: سَأَرُدُّهَا. قَالَ: فَصَرَفَتْهُ إِلَى مَذْهَبِهَا. وَذَكَرَ المَدَائِنِيُّ: أَنَّهَا كَانَتْ ذَاتَ جَمَالٍ”. ففتن بها بعد بالزواج منها، وأعتنق عقيدتها.

وقال الحافظ ابن حجر: “كان عِمْرَان لا يُتَّهم في الحديث. وكان سبب ابتلائه أنَّه تزوج امرأة منهم [=أي الخوارج] فكلموه فيها؛ فقال: سأردها عن مذهبها. فأضلته. وكانت بنت عمه، بلغه أنَّها دخلت في رأي الخوارج، فأراد أن يردها عن ذلك فصرفته إلى مذهبها”.

وقد أشارت دراسات علميَّة عديدة إلى أثر الأصدقاء في أفكار وأخلاق الشخص، فمثلاً: في الدراسة الشامري عام 1409هـ على الأحداث في دار الملاحظة بالرياض، ودراسة المطلق عام 1409هـ على دار الملاحظة بالقصيم، ودراسة القحطاني عام 1414هـ على الأحداث، ودراسة النغيمشي عام 1415هـ على عينة من ‏(‏1560‏)‏ مراهقًا، وجدوا جميعًا أنَّ أثر الأصدقاء والأصحاب حاسمًا في تغيير نسبة كبيرة من تصورات وسلوكيات الشباب الذين يشاركونهم. فالصحبة لوحدها ومشاركة الوقت مع الأصدقاء كفيلة وكافية بحد ذاتها في تغيير أنماط السلوك والأفكار.

5-الشهوات والنـزوات: والشخص هنا يميل إلى ممارسة الشهوات والانجراف نحو نزواته والتحلل من واجباته الدينية ومسؤولياته، والانغماس في الشهوات يقود إلى ضعف الإيمان واليقين وسهولة تمكن الشبهات منه.  أيضًا هو يقبل بمحتوى الشكوك ليس لأنَّ الدليل قام على غثباتها، بل لأنَّ نفسه تميل لتقبل ما يمنحها فسحة في ممارسة ما تجد فيه اللذة والمتعة، فالشهوات هي التي تزين له الشبهات وتقف حائلاً أمام دحضها والتخلي عنها.

يقول بليز باسكال: “يقول الملحد: لو كنتُ أؤمن بالله لتركت في الحال ارتياد الملذة. وأنا أقول له: اترك الملذات تجد في الحال الإيمان بالله”. ويقول جورج هارت: “تخلي الملحد عن الدين ليس من دافع الاعتقاد الراسخ بعدم صدقه ولكنه يمنعه من إشباع تأليهه لنفسه ونزواته وجشعه بدون الشعور بأي ذنب “. ويقول تولستوي: “عندما يقول النَّاس -الذين يحيون حياة شريرة- إنَّ الله غير موجود، فهم على حقٍّ، فالذين يشيحون بأوجههم بعيدًا عنه، ويبتعدون عنه، فالله غير موجود، ولا يمكن أن يكون موجوداً”.

النوع الثاني: ما يعود إلى مصدر الشبهات (=دليلها)، وهذا النوع تأثيره غالبًا في المثقفين والمتعلمين، الذين يعطون المعلومة قيمتها من خلال مصدرها أو دليلها، فليس المحتوى وحده كافيًا بالنسبة إليهم لصناعة القناعة معزولاً عن قيمة مصدره وصحة دليله. لكن هنا يتفاوت هؤلاء النَّاس في تقييم ماهيَّة الدليل والمصدر، والقدرة على فحصه ونقده.

والأدلة هنا التي قد تصنع الشبهات:

دليل الإثبات أو النفي: وهو أن يقوم الأمر المعارض لصحة العقيدة على دليلٍ عقليًّ أو ماديٍّ، يُعارض صحة ثبوت العقيدة في أمرٍ ما، ويظهر للشخص قوة ذلك الدليل مقابل ضعة تلك القناعة الإيمانيَّة.

تعارض الأدلة: أن تكون الأدلة بالنسبة إلى هذا الشخص متضادة ومتكافئة، يعجز عن ترجيح فئة على الأخرى، وهنا يظهر التردد والشك، إذا الشك كما يقول فخر الدين الرازي: “هو أن يبقى الإنسان متوقفًا بين النفي والإثبات”. قال الحافظ ابن حجر: “وحاصل ما فسر به العلماء الشبهات أربعة أشياء: أحدها: تعارض الأدلة كما تقدم، ثانيها: اختلاف العلماء وهي منتزعة من الأولى”. . (للمزيد راجع مقالي: تأملات في الأفكار ونقدها وتمحيصها).

 وهذا الضرب من الشكوك غالبًا لا تعرض لعامة النَّاس لبعد اهتمامهم عن مثل هذه الحقول العلميَّة ودقائق المسائل، قال البيرونيون: “الجاهل على الإطلاق لا يُنَغِّص حياته شك ما”. وقال الجاحظ: “والعوامُّ أقلُّ شكوكًا من الخَواص”. وقال أبو العلاء المعري:

أما اليقينُ فلا يقينَ وإنما أقصى *** اجتهادي أن أظُنَّ وأحْدِسا

فحقل شكوك المثقفين ومن لديه علم، تختلف عن حقل شكوك عامَّة النَّاس، إذ شكوكهم قد تكون في دقائق المسائل والأدلة. يقول العالم المنطقي أفضل الدين الْخُونَجِيّ: “أموت وما عرفت شيئًا، إلا علمي بأن الممكن مفتقر إلى مؤثر، والافتقار وصفٌ سلبي، فأنا أموت وما عرفت شيئًا”. حكاها عنه ذلك التلمساني، وقال: “سمعته منه وقت الموت”. وقال الإخميمي الشافعي: “بلغنا [ذلك] بطريق ظننا صحته عن أفضل أهل زمانه في المنطق، وهو الخونجي”. وكذلك قال المتفلسف شمس الدين الخسروشاهي (652هـ): “والله ما أدري ما أعتقد”.

يقول الإمام القرطبي: “أفضى الكلام بكثير من أهله إلى الشك، وببعضهم إلى الإلحاد”. ويقول ابن الوزير اليماني: “سبب الشك والكفر: هو النظر في المتشابهات التي لم يحط البشرُ بها علمًا، ولا عرفوا تأويلها”.

وأنواع هذه المعارضات المثيرة للشبهات متنوعة، ومن ذلك:

1-تعارض الأدلة الشرعيَّة في المسألة الواحدة، ويدخل فيه خلاف العلماء حولها. وقد أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر.

2-توهم معارضة الدليل العقلي للإيمان الديني: قال ابن تيميَّة: “ما عُلم بصريح العقل لا يتصور أن يعارضه الشرع ألبتة؛ بل المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط. وقد تأملتُ ذلك في عامة ما تَنازع الناسُ فيه، فوجدت ما خالف النصوصَ الصحيحة الصريحة شبهاتٍ فاسدةً يُعلَم بالعقل بطلانها؛ بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشرع”. وقال: “والقول كلما كان أفسد في الشرع، كان أفسد في العقل، فإن الحق لا يتناقض”.

وفي ملاحظة جوهريَّة، يقول ابن قيم الجوزيَّة: “الشكوك القادحة في العقليات أكثر بكثير من الشكوك القادحة في السمعيات”. ولهذا من فتح باب الشكوك لن يسلم له الشرع ولا العقل.

إنَّ أبا حامد الغزالي –مثلاً- وهو العالم والمتبحر في “العلوم العقليَّة” المنطق والفلسفة وعلم الكلام، اختطفته الشبهات حتى فقد القدرة والسيطرة على الاستدلال ليس بالعقليات فقط، بل بالحسيات أيضًا، ولم يعد له اليقين من خلالها، بل بالتضرع إلى الله وحده/ فلم تنفعه الفلسفة ولا المنطق ولا العلوم العقلية في دفع الشكوك ابتداءً، ولا في دحضها انتهاءً. يقول أبو حامد الغزالي: “فلما خطرت لي هذه الخواطر [=الشكوك]، أنقدحت في النفس فحاولت لذلك علاجاً فلم يتيسر..فأعضل هذا الداء، ودام قريباً من شهرين، أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال لا بحكم النطق والمقال.. فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا، ودواعي الآخرة، قريباً من ستة أشهر، وفي هذا الشهر  جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذ أقفل الله على لساني..ثم لما أحسستُ بعجزي، وسقط بالكلية اختياري، التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر الذي لا حيلة له”.

3-توهم معارضة الدليل العلمي التجريبي للإيمان الديني: ولعل هذا من أخطرها في هذا الزمن، وأكثرها تأثيرًا في إحداث الشكوك والشبهات، وهو الأمر نفسه الذي مرت به أوروبا منذ عصور النهضة والتنوير حتى عصر الثورة العلميَّة، وما يستجد في كل لحظة من كشوفات وابتكارات علميَّة، قد تظهر لبعضهم أنَّها تُعارض الحقائق الشرعيَّة.

لكن يجب الحذر من الانتقال من تقديس الدِّين إلى تقديس العلم والقول بعصمته وإطلاقه، تقول الأكاديمية الأمريكية الوطنية للعلوم: “العلم هو وسيلة للمعرفة عن العالم الطبيعي. وهو قاصر على تفسير العالم الطبيعي من خلال الأسباب الطبيعية، لذلك لا يمكن للعلم أن يقول أي شيء عما هو فوق طبيعي. فمسألة وجود الله أو عدم وجوده هي أمر  يقف العلم تجاهها على الحياد”.

والمؤمن بالله لا يقبل مثل هذا التصريح “العلمي” تمامًا، لكنَّ هذا التصريح من مثل هذه الجهة المرموقة والمعتمدة علميًا يدحض تقريرات غلاة الملحدين، الذين يزعمون أن العلم يثبت ويِقَرِّر عدم وجود الله تعالى، وأنَّه يثبت ذلك، ومن ثم يصبح الإلحاد خيارًا علميًا والإيمان خيارًا غير علمي!

إنَّ التسليم أمرٌ لا بد منه عند نقطة معينة في البحث، فهذا ريتشارد دوكينز، داعية الإلحاد الجديد، يقول: “الفيزياء الحديثة تعلمنا أن هناك المزيد من الحقائق التي تفوق ما تراه العين، وتفوق ما يتلقاه كل العقل البشري المحدود جدًا”.

كذلك هنا يحسن الانتباه إلى نقطة في غاية الأهميَّة، وهي التلاعب والخداع الذي يتم في هذا الباب تحت اسم المكتشفات العلميَّة، والدراسات الأكاديمية، والأبحاث العلمية، فكثير مما يصدر تحت هذا الاسم لا يمثل بالضرورة المصداقية والوثوقيَّة، بل هو في الحقيقة من: (العلم الزائف).

ومن ذلك على سبيل المثال: توجيه بعض الواجهات الإعلاميَّة لتقديم ما تصفه بأنه نتائج “الأبحاث العلمية”، التي تؤكد أنَّ الشذوذ الجنسي هو عملية ترجح لأسباب جينية! ومن أشهر الصحفيات اللاتي ضللن الرأي العام آن لاندر، التي أخذت تردد مرارً وتكرارً هذه العبارة: “إنَّ الرجال الشاذين ولدوا هكذا”. ويقول الدكتور جوزيف نيكولوسي، المتخصص في هذا المجال، وله كتاب خاص بعنوان: (الرجولة إنجاز: دليل الأباء لوقاية الأبناء من الشذوذ الجنسي): “لقد بدأت هذه الخرافة في الانتشار عندما تورطت وسائل الإعلام في ترديد مقتطفات مجتزأة من بعض الأبحاث العلمية. ومع الأسف بدأ ملايين الناس حول العالم منذ تلك اللحظة ينظرون للشذوذ الجنسي على أنه طبيعة بشرية أو جزء فطري. وأكد جوزيف نيكولوسي أن الأبحاث التي تزعم أن الشواذ ولدوا هكذا هي أبحاث مسيسة باعتراف أهم أصحابها  مثل: سيمون ليفاي!

ومن أراد الزيادة، فليراجع مقالي: (العلم واليد المؤدلجة الخفيَّة الممتدة: كيف يتم التلاعب بالعلم؟)

وقد نشرت BBC في 27 مارس 2017م، ما نصه: “أشار تحقيق أجرته BBC إلى أن العدد الحقيقي للبحوث الجامعية المزيفة في بريطانيا أكبر بكثير مما هو معلن رسميَّا”.

 وقال ستيفن ميتكالف، رئيس لجنة العلوم والتكنولوجيا في مجلس العموم البريطاني، التي قامت بالتحقيق في هذا الشأن: “من الأهمية بمكان أن يثق الناس في البحوث التي تُمول من الميزانية العامة للدولة، وإن التأثير الكبير للبحوث الزائفة على الرأي العام يتمثل في فقدان الثقة، وما نسعى لعمله هو التحقيق في مدى قوة آلياتنا لضمان أن تتسم البحوث بمعياري الأخلاقية والدقة”. وقالت BBC: :حاولت BBC التواصل مع مكتب هيئة (جامعات بريطانيا) التي تمثل الجامعات البريطانية، للتعليق على هذه البيانات ولكنها رفضت ذلك” .

ونشرت صحيفة الشرق الأوسط في 31 أكتوبر 2021 مـ، تحت عنوان: (خبراء: خمس الدراسات العلمية المنشورة سنوياً مزيفة).

قالت: “أكد عدد من الخبراء أن ما يصل إلى واحد من كل خمسة من أصل مليوني دراسة طبية تنشر كل عام تحتوي على نتائج مزيفة وتفاصيل عن مرضى ليسوا موجودين على الإطلاق، وتجارب لم تحدث بالفعل”.

ونقلت عن: “ريتشارد سميث، رئيس التحرير السابق للمجلة الطبية البريطانية (BMJ)  British Medical Journal  قوله: «هذه المشكلة (معروفة جيداً) في الدوائر العلمية، ومع ذلك، يتم تجاهلها من قبل مؤسسات النشر». وأضاف: «إنه أمر مروع، ولكنه شائع. تم اختراع كثير من هذه الدراسات. لم يكن هناك مرضى والتجارب لم تحدث من الأساس». واقترح سميث أن الطريقة الوحيدة لمكافحة هذا «الاحتيال البحثي» هي أن تنظر مؤسسات النشر إلى جميع الدراسات المقدمة إليها على أنها مزيفة حتى يمكن إثبات العكس”.

و”حذر إيان روبرتس، أستاذ علم الأوبئة في كلية لندن للصحة والطب الاستوائي، من أن هذا الاحتيال قد يمثل تهديداً كبيراً للصحة العامة العالمية، مشيراً إلى أن تجربة هذه الأبحاث في الحياة الفعلية على المرضى قد تعرض حياتهم للخطر. وقال روبرتس إنه في منتصف التسعينات، ادعى طبيب الأورام في جنوب أفريقيا، الدكتور فيرنر بيزودا، أنه عالج نساء مصابات بسرطان الثدي في مراحله المتأخرة من خلال إجراء عمليات زرع نخاع العظم لهن. ونشر بيزودا نتائجه المزيفة في المجلات الطبية الكبرى، ما دفع عدداً من الأطباء إلى تجربتها على الآلاف من النساء، الأمر الذي تسبب في وفاتهن” .

ويُوضح ماركوس ويكس، أنَّ من وسائل تغيير قناعات الناس والتلاعب بها، صناعة (آراء الخبراء) ودراسات تصدر بأسماء يضفى عليها صفات الخبرة والدراية، فمعظم الناس يجدون أنَّ مصداقيَّة الفكرة تكتسب قيمة أكبر وأعلى إذا جاءت من مصدر يُقدم إليهم على أنه “موثوق”، كطبيبٍ أو بروفيسورٍ أو خبيرٍ في أحد المجالات. ولذلك كانت “صناعة الخبراء” هي أحد أهم أدوات “صناعة الموثوقيّة” عند عامة الناس، وسلب رداء الخبرة والعلم، في الجهة المعاكسة، هو أحد أهم أدوات “إسقاط الموثوقيَّة”. والسبب يعود إلى أنَّ الناس ليست لديهم الخبرة والدراية الكافية لتحديد من هو الخبير من عدمه بشكلٍ دقيقٍ وحقيقيٍ. فإذا ما تم النجاح في تقدم شخصٍ ما على أنه خبير متخصص في مجالٍ ما، أصبح الوثوق في كلامهِ وأحكامهِ تابع للثقة في شخصه وعلمه.

توجيهات مهمة في التعامل مع الشبهات:

1- التَّفَكُّر في مآل الشك والإلحاد على دين الإنسان وحياته ونفسيته: إنَّ برد وسلام الإيمان لا يعدله شيء، وجحيم وعذاب الشكوك والشبهات لا يشببها شيء، وقد كنتُ قد أخرت هذه النقطة وجعلهتها الأخيرة، ثم تأملتها فوجدتها حريَّة بأن تكون الأولى، فمن كان في عافية في دينه ونفسه وعقله فالحمد الله، وليحافظ على تلك العافية، وليس من العقل أن يترك الإنسان اليقين وما فيه من نعم عظيمة إلى الشك والشبهات العارضة وما فيهم من جحيم لا يطاق، فإنَّ الشبهات والشكوك والإلحاد لها لوزام ومآلات لا بد أن يدركها المرء جيدًا، ومن تلك اللوازم والمآلات:

أولاً: الحياة التعيسة والبائسة في ظل ضياع الإيمان.

يقول أبو عثمان الجاحظ: “تعرف ما في الشك من الحيرة، وما في الحيرة من القلق، وما في القلق من النَّصَب، وما في النَّصَب من طول الفكرة، وما في طول الفكرة من الوحشة، وما في طول الوحشة من التعرض للوساوس والخفقة”.

ويقو فيودور  دوستويفسكي، في رسالة كتبها لزوجته من سيبيريا: “أود أن أقول لك عن نفسي إنني ابن عصري، ابن الإلحاد والشك، إني لا أعلم علم اليقين. ما أكثر ما عذبني ويعذبني عذابًا مروعًا الشوق إلى الإيمان، إن التذبذب واضطراب العقيدة يمثلان عند إنسان ذي ضمير، عذابًا يبلغ من هوله أن يفضل المرء شنق نفسه”.

ويقول ناثان، وهو شاب أمريكي ألحد يحكي شعوره لحظة إدراكه أنه ترك الإيمان بالله، وكتب ذلك ضمن كتاب عن شهادات الملحدين وتجاربهم، حيث يقول فيه: “كان هناك الكثير من القلق في ذلك الوقت. كان هناك الكثير من الحزن في إداركِ واقعِ أنني الآن في عالَم، عالَم خطير، حيث لم أشعر أنني محمي بأي شيء، حيث كنتُ بمفردي، وكانت الأشياء مجرد نوع من العشوائيَّة”.

ويقول فرانس كافكا الملحد اليهودي المشهور: “لا أستطيع التفريق بين الحياة وبين الكابوس”. ويقول ديفيد هيوم، أشهر الشُّكَّاك الغربيين: “لقد أجهدني وأتعب عقلي هذا التفكر…أين أنا؟ بل ومن أنا؟ ما الأسباب التي أستمد منها وجودي؟ وما الحالة التي سأصير إليها؟ إنني حائرٌ بين كل هذه الأسئلة، وقد بدأتُ أرى نفسي في أتعس حالة يمكن تخيلها محاطًا بظلامٍ حالكٍ، ومحرومًا تمامًا من القدرة على إعمال جميع أعضائي وملكاتي”. ويقول توماس إليوت: ‏”الناس بلا دين سيجدون في النهاية أنَّهم لا يملكون شيئًا يعيشون من أجله”.

وعاش هذا الضنك والضياع الشاعر إيليا أبو ماضي، الذي قال:

جئت، لا أعلم من أين، ولكني أتيت

ولقد أبصرتُ قدامي طريقاً فمشيت

وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت

كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي

لست أدري!

أجديد أم قديم أنا في هذا الوجود؟

هل أنا حر طليق أم أسير في قيود؟

هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود؟

أتمنى أنني أدري ولكني لست أدري!

وصدق الله القائل: (أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم).

ثانيًا: الإلحاد والشكوك تقود إلى التحلل من أي التزامات أخلاقيَّة:

وهذه قضية مهمة جدًا قد اعترف بجانبها العسير برتراند رسل في رسالة كتبها قال فيها: “أنا لا أعرف كيف أتعامل مع هذه القضية الأخلاقية؟! إنها تطاردني”. وحينما سُئل رتشارد دوكينز، الملحد المعاصر، عن إيمانه بالداروينيَّة فأكد ذلك بصورة قطعيَّة، وحينما قيل له لم لا تقبل بأخلاقيات الداروينيَّة، رفض قبول ذلك بشدة لأنَّه يعرف ماذا يعني ذلك من التوحش والعنف واختفاء الرحمة!

يقول فولتير: “إن الملحد الماكر، الناكر الجميل، المفتري، قاطع الطرق، وسفَّاك الدماء يسلك وفق مبادئه إذا كان متأكداً من سهو وعفو البشر”. ويقول ديستوفسكي: “إذا لم يوجد الله، أمكن كل شيء”، أي صار كل شيء مُباحًا، وأقرَّه على ذلك الملحد الوجودي جان بول سارتر.  وقالها لينين صراحة: “لا يستطيع المرء إنكار صدق وإنصاف ملاحظة أنَّ الماركسيَّة ذاتها تخلو من أية بذور أخلاقيَّة من الألف إلى الياء، فهي تجعل النظرة الأخلاقية تابعة لمبدأ السببية من الناحية النظرية، وترجعها وتهبط بها لاتون الصراع الطبقي، وذلك من الوجهة العملية”.

ويقول الملحد الوجودي جان بول سارتر: “الحياة خلو من أي معنى، لا يوجد أي قانون أخلاقی، الإنسان عاطفة لا فائدة منها، العالم تشويش قوي مثير للغثيان. وعندما نتكلم عن الخذلان، وهو تعبيرٌ كان مارتن هيدجر مغرمًا به، إنما نعني أنَّ الله غير موجود، وأنه يتحتم علينا أن نواجه كل ما يترتب على ذلك. و[الملحد] الوجودي يعتقد أنه من المؤلم جدًا ألا يوجد الله، لأنَّ كل احتمال للعثور على قيمٍ يختفي باختفاء الله. وإذا كان الله غير موجود، فلن نجد القيم أو الوصايا التي نلتفت إليها والتي تقنن سلوكنا”.

ويقول فريدريك أنتوني زاكارياس: “إذا أنكرتَ أيها الملحد وجود الله، فحينها لا وجود للقانون الأخلاقي، وإذا ذهب القانون الأخلاقي فلا وجود للخير، وإذا كان الخير لا وجود له فإنَّ الشر لا وجود له أيضًا!”.

ثالثًا: الإلحاد أنانية وعبادة للنفس:

يقول الدكتور مصطفى محمود: “لقد رفضتُ عبادة الله لأني استغرقت في عبادة نفسي، وأعجبت بومضة النور التي بدأت تومض في فكري مع انفتاح الوعي وبداية الصحوة من مهد الطفولة”. ويقول فولتير: “إذا حذف الملحدُ اسم الله من الوجود، فهذا المسخ يكون إله نفسه، فإن يضحي لهواه بكل ما يبتغي أو بكل ما ينتصب عائقاً أمامه”.

رابعًا: الإلحاد والشكوك تقود إلى الانتحار:

ويقول كولن ولسن: “كنتُ قد تغلغلتُ في الإلحادِ، ولكنّي لم أشعر بأية غبطةٍ، وإنما شعرتُ فقط بنوعٍ من التعبِ الذهنيِ، ولم يكنْ في وسعي أن أنام. كنتُ أشعر بالتفاهة، ولقد شعرتُ بأنَّ التفاهة هي أول ما يمكن أن توصف به الحياة الإنسانية، وكانت تلك أسوأ وأشد فترة في حياتي الماضية. كنتُ رأيتُ العدمية، الحياة لا تقود إلى أي شيء، وإنما هي هرب من شيء ما، وهذا الشيء هو الرعب، كنتُ أجد الفراغ الواسع أمرًا يبعث على السأم، وكانت فترات الكآبة تهاجمي دائمًا وتستمر طويلاً، إذ فكرتُ يومًا بالانتحار، فقلتُ لنفسي: يجب أن ينتهي هذا الحال، ولن أستمر على الحياة هكذا”.

ويقول ألبير كامو عن مغزى الحياة ومشكلة الفلسفة: “هناك مشكلة فلسفية خطيرة واحدة فقط، وهي الانتحار. إن الحكم على ما إذا كانت الحياة تستحق العناء أم لا، يعد بمثابة إجابة على السؤال الأساسي للفلسفة: هل يجب أن أقتل نفسي؟”.

وقد بيَّن فيكتور فرانكل أنَّ الانتحار يرتبط بفقدان الأمل، وغياب المعاني السامية من حياة الفرد، وأنه لا بد أن يكون هناك معنى للآلام والمعاناة التي تعرض لها الإنسان. وهناك العديد من الدراسات والإحصائيات الغربيَّة التي تُشير إلى راتفاع نسبة الانتحار بين الملاحدة والشكَّاك.

خامسًا: الإلحاد سوداوية، ونفيٌّ للحياة وللإنسان وللأمل وللتفاؤل وضياع المعنى:

يقول وليَم بروفاين عالم ومؤرخ أمريكي للعلوم والبيولوجيا التطورية، وعلم  في الجينات، (٢٠١٥م)، مُلَخِّصًا نظرة الداروينية الملحدة: “دعني أُلخص رؤيتي عن ماذا يخبرنا علم الأحياء التطورية الحديثة بصوت عالٍ وواضح: لا توجد آلهة، ولا غايات، ولا أهداف قوى موجهة من أي نوع. لا توجد حياة بعد الموت. وعندما أموت فأنا موقن بشكلٍ جازم أنني ذاهب لأموت، وهذي هي نهايتي. ولا وجود لأساسٍ نهائي للأخلاق، ولا وجود لمعنى نهائي للحياة، ولا إرادة حرَّة للبشريَّة”.

وفي مقابلة مع الملحد الغربي الشهير ديفيد ميلز، حين سأله الصحفي: أنت تُشير إلى نفسك بشكلٍ صريح على أنَّك ملحد. ماذا يعني هذا بالتحديد؟ فقال ديفيد ميلز: بشكلٍ أساس، الملحد هو الشخص الذي يرفض مفهوم الإله، وكل الموجودات والظواهر فوق الطبيعية المرتبطة بفكرة الإله، كالجنة والنار، والشياطين والملائكة، والبعث بعد الموت..فسأله الصحفي: إذن عندما تموت، هل ستموت مثل الكلب؟ فأجاب ديفيد ميلز: نعم، هذا ما أؤمن به.

سادسًا: يفشل الإلحاد وتفشل الشكوك والبعد عن الإيمان أن تملأ حياة الإنسان:

يقول ريتشارد سوينبيرن: “يواجه البشر في تجربتهم الخاصة حقيقة أنَّ الملذات الدنيوية مُشْبِعَة بصورة مؤقتة، إلا أنَّ هذا الإشباع ليس دائمًا ولا عميقًا. ونتوصل من خلال التجربة الواقعية إلى حقيقة تقضي بأنَّ الطعام والشراب ووسائل الترفيه، بل وحتى المخدرات، ليست هي الوحيدة التي تفشل في إشباعنا على أعمق المستويات، إذ إنَّ حياتنا الأسرية والوظيفية وانتماءنا إلى المجتمع المحلي، وامتلاكنا هواية تستغرقنا، إلخ، تفشل في ذلك أيضًا”.

وقد أشار برتراند رسل إلى هذه النقطة، وأنَّ الظلمة في الروح لا ينيرها، وأنَّ العطش في النفس لا يرويه إلا الإيمان بالله. ويقول جورج هارت: “يستحيل على المفكر الملحد حل لغز الإنسان: إذ معنى حياة الإنسان ولغز الموت هما الصخرة التي تتحطم أمامها معظم الفلاسفة العَلمانيين”.

2-الوقاية خيرٌ من العلاج: فإذا كان لا يحسن من العاقل أن يُعَرِّضَ نفسه وبدنه لخطر الإصابة بالأمراض والآفات والمعديات، فإنه من باب أولى أن لا يعرض عقله ولا إيمانه لخطر الشبهات والشكوك والإلحاد. قال الحافظ الذهبي: “وأكثر أئمة السلف على هذا التحذير، ويرون أن القلوب ضعيفة والشبه خطافة”.

وقال ابن قيم الجوزيَّة: “القلب يتوارده جيشان من الباطل جيش شهوات الغي وجيش شبهات الباطل، فأيما قلبٌ أصغى إليها وركن إليها تشرّبها، وامتلأ بها، فينضح لسانه وجوارحه بموجبها، فإن أشرب شبهات الباطل تفجرت على لسانه الشكوك والشبهات والإيرادات، فيظن الجاهل أن ذلك لسعة علمه وإنما ذلك من عدم علمه ويقينه. وقال لي شيخُ الإسلام ابن تيميَّة رضي الله عنه، وقد جعلتُ أورِدُ عليه إيرادًا بعد إيرادٍ: لا تجعَلْ قَلْبَك للإيراداتِ والشُّبُهاتِ مِثلَ السفِنْجة، فيتشَرَّبَها، فلا يَنضَحَ إلَّا بها، ولكِنِ اجعَلْه كالزُّجاجةِ المُصمَتةِ، تمُرُّ الشُّبُهاتُ بظاهِرِها ولا تستَقِرُّ فيها؛ فيراها بصفائِه ويَدفَعُها بصلابتِه، وإلَّا فإذا أَشرَبْتَ قَلْبَك كلَّ شُبهةٍ تمُرُّ عليها، صار مَقرًّا للشُّبُهاتِ، أو كما قال. فما أعلَمُ أنِّي انتفعتُ بوصيَّةٍ في دفع الشُّبُهاتِ كانتفاعي بذلك”.

فالعاقل لا يعرض نفسه للشبهات وهو لا يمتلك العلم اللازم، فمثله كمثل المحارب الذي يذهب لساحة المعركة بغير سلاح، فضلاً أن يتصدر لحوار ومناظرة أهل الشبهات.

وفي الحديث صحيح، قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: “من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فيتبعه مما يبعث به من الشبهات“.

وهذه نقطة محوريَّة ومنهجيَّة في الحذر من التعرض للشبهات ثقة في النفس وغرورًا بالعقل. يقول ابن تيميَّة : “يكون فيها من الشبهات ما يلبس الحق بالباطل، حتى لا يتميز لكثير من الناس أو أكثرهم، ويكون فيه من الأهواء والشهوات ما يمنع قصد الحق وإرادته، ويكون فيها من ظهور قوة الشر ما يضعف القدرة على الخير، ولهذا ينكر الإنسان قلبه عند الفتنة، فيرد على القلوب ما يمنعها من معرفة الحق وقصده، ولهذا يقال فتنة عمياء صماء، ويقال فتن كقطع الليل المظلم ،ونحو ذلك من الألفاظ التي يتبين ظهور الجهل فيها وخفاء العلم”.

وقال ابن قيم الجوزيَّة: “دخلت تلك الشبهات في قلوب قومٍ لهم دين، وعندهم إيمان وخير، فعجزوا عن دفعها، فاتخذوها دينًا، وظنوها تحقيقًا”.

وهناك نقطة مهمة جدًا، فإن عامة النَّاس قد تغيرها الشبهات مع كون الدليل نفسه يدحضها ويبطلها. ومن ذلك ملاحظة الشيخ مصطفى صبري للجدل الذي دار بين الأستاذ فرح أنطون صاحب مجلة (الجامعة) وبين الشيخ محمد عبده، وكيف أن جوابات وردود الشيخ محمد عبده كانت أكثر قوة من دعاوى ومزاعم الأستاذ فرح أنطون، ومع ذلك فقد لاحظ تأثر العامة بمزاعم الأستاذ فرح أنطون. يقول الشيخ مصطفى صبري: “أما حصول هذه العقلية المفرقة بين الدين والعقل، ثم بين العقل والفضائل فى أصحاب العقلية العصرية من المسلمين، مثل الأستاذ فريد وجدى، بعد انحياز الرأى العام فى المناظرة الجارية بين الشيخ محمد عبده وفرح أنطون، إلى جانب الأستاذ، فذلك تقليد للمقلد المسيحى وغفلة مضاعفة ناشئة من الجهل بالإسلام وسلامته من الاصطدام بالعقل وسلامة عقله من التهكم على الفضائل”. ولهذا رأى الشيخ مصطفى صبري أهمية تأليف كتاب يدحض فيه مزاعم فرح أنطون بمزيد بيان وتفصيل، فالَّفَ كتابه (موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين ورسله).

3-الإخلاص والتجرد في طلب الحق والتواضع: وذلك لأنَّ من أعظم موانع الحق الكبر والتعالي والغرور، وكذلك من موانع العلم والفهم العوامل النفسيَّة المرتبطة بالمواقف والتجارب الشخصيَّة والعاطفيَّة، ولهذا على الإنسان الذي يريد إصابة الحق وكشف الشبهات أن يكون صادقًا في طلب الحق والدليل والمعرفة. وأن لا يتكل على عقله وفهمه، بل يضع توكله ويقينه بالله، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: “في هذه الآيات (وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا)، دليل على شدة افتقار العبد إلى تثبيت الله إياه، وأنه ينبغي له أن لا يزال متملقًا لربه، أن يثبته على الإيمان، ساعيًا في كل سبب موصل إلى ذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو أكمل الخلق، قال الله له: (وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا)، فكيف بغيره؟”.

وأهمية التواضع في النفس في باب معالجة الشبهات محورية، وذلك لأن الشبهة تمنح أحيانًا النفس إحساساً بالغرور والتفرد والتميز على الأقران، وما تمنحه من الأهمية والعناية الخاصة به والاهتمام برجوعه بين من يحبه ويخاف عليه، فتعمل قوى النفس الخفيَّة وحظوظها على عدم التنازل عن هذه اللذة التي يجدها في داخله ويحس من خلالها بالفرادة، فيعز عليه الخضوع والتراجع عن موقفه المتبني لتلك الشبهات، فضلاً عن داءٍ نفسيٍّ آخر، وهو الكبر والرغبة في عدم الظهور بمظهر الضعيف المنهزم أو المتقهقر أمام الآخرين، فيصر على موقفه، ويتنقل الأمر من شبهة تناقش معرفيًا إلى موقفٍ شخصيٍّ يمس ذاته وكيانه، وكأنه توحد وجدانيًا مع الشبه وصارت تمثله أو تمثل موقفه!

4-فحص المعلومة جيدًا وعدم قبولها والتسليم بها فورًا: بل يطلب الدليل نفيًا أو إثباتًا المتعلق بهذه الشبهة، وطلب التوثيق والتحري للتثبت، وهذا هو منهج القرآن، قال الله تعالى: (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ).

ولن أطيل في ذلك كثيرًا، بسبب وجود ورقتي السابقة عن (تأملات في الأفكار وتمحيصها). وإنما أريد الإشارة إلى أهمية هذه النقطة، فكثيرٌ من المعلومات خاطئة وغير حقيقيَّة كليَّةً أو ملتبسة ببعض الحق والباطل. وهنا سأضرب مثلاً حقيقيًا وليس افتراضيًا، ففي أحد الكتب المطبوعة والمتداولة، قام مؤلفه الذي يريد انتقاد صحيح البخاري بإيراد عدة أحاديث ونسها للإمام البخاري، ومنها حديث: (ابحث عن دينك حتى يقال إنك مجنون). وهذا الحديث موضوع لا وجود له في صحيح البخاري إطلاقًا. وفي مثال آخر: قام المؤلف بدمج عدة أحاديث في حديث واحد، جزء منه بالفعل أصله في صحيح البخاري والباقي في كتب السنن ومن روايات ضعيفة ولا تصح، ثم نسب الحديث كاملاً إلى صحيح البخاري.

ويدخل في هذا الباب أيضًا كثيرٌ من الكتب المترجمة، التي ترد فيها معلومات مزورة أو ناقصة أو مشوهة، عمدًا أو خطأً، ومن ثَمَّ تبنى عليها تصورات خاطئة، وقد أوردت بعض الأمثلة على ذلك في مقالة مستقلة بعنوان: (نظرات نقدية في بعض الترجمات العربية المعاصرة: مع نماذج منها).

ولهذا إذا جوزت لنفسك الشك فيما أنت عليه من الإيمان واليقين فمن باب الأولى أن تشك فيما ورد إليك من الشبهات ولا تسلم بها، وهذا هو منهج العقلاء، لا يدعون ما هم عليه من  اليقين أو غلبة الظن لأجل شبهة واردة أو شكٍ عارض.

5-التحصين والتأهيل والتأصيل الشرعي والعلمي: ومن النقطة السابقة تنبع هذه النقطة، فلا تُزال الشبهات ولا يُرفع الجهل بمثل العلم، ولهذا فإنَّ العَالِم –بعد توفيق الله وحفظه له- هو من أكثر النَّاس استعصاء على المشككين والملبسين، فغالب ما يرد إليه من الشبهات ليست هي (المعلومة الأولى)، بل هو يعرفها من قبل ويعرف جوابها وكيف يدحضها. أو على الأقل يعرف الأصول المبطلة لها والمثبتة لضدها.

6-عدم التصدر للرد على أهل الإلحاد والشباب والزيغ: وليس عند المرء الخلفيَّة العلميَّة الكافية، ولا القدرة الجدلية اللازمة، ولهذا تجد أنَّ كثيرًا ممن ناظر أهل الإلحاد أو حاول الرد على أهل الشبهات والشكوك وهو لا يمتلك الأدوات الكافية، أضرَّ نفسه وأضر غيره، أضرَّ نفسه بالتشبع بالشكوك والشبهات، وأضرَّ غيره بأنَّ خذل الحق ولم ينصره. يقول ابن تيميَّة: “فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم؛ لم يكن أعطى الإسلام حقَّه، ولا وفَّى بموجب العلم والإيمان، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس، ولا أفاد كلامه العلم واليقين”.

7-احترام التخصص والرد إلى أهل العلم والاختصاص: فإذا وردت للعامة الناس او لطالب العلم شبهةٌ في مسألة دقيقة، وجب عليهم الرجوع إلى أهل العلم المتبحرين فيه وإلى أهل التخصص. فهذا منهج شرعي علمي، قال الله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، وقال الإمام أحمد بن حنبل: “الحمد لله الذي جعل في كلِّ زمانِ فترةٍ من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يُحيون بكتاب الله الموتى، ويبصِّرون بنور الله أهلَ العمى، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيَوْه، وكم من ضالٍّ تائهٍ هَدَوْه…ينفون عن كتاب الله تحريفَ الغالين وانتحالَ المبطلين وتأويلَ الجاهلين، الذين عقدوا ألويةَ البدعة، وأطلقوا عِقالَ الفتنة، فهُم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متَّفقون على مخالفة الكتاب، يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علمٍ، يتكلَّمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جُهَّالَ الناس بما يشبِّهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلِّين”.

7-التسليم والثبات على الإيمان: فالعاقل لا يترك ما هو عليه عند كل واردٍ يرد عليه، وإلا ظل طوال حياته متنقلاً من فكرة إلى أخرى بلا استقرار، والعقلاء لا يتركون إيمانهم لأجل شبهة عرضت عليهم، بل يتمسكون بالأصل ويطلبون من أهل العلم الجواب الذي يرفع الإشكال، فمن واجب المؤمن أن يتمسك بعقيدته ويتماسك إيمانه ولا يحسن منه أن ينهار عند كل خاطرة أو واردة إلى عقله وقلبه، فهذا خلل عظيم، وقلة ثقة بما هو عليه، وهذا كله فرع عن الجهل بحقيقة ما يؤمن به وبحقيقة الشبهات أيضًا.

وإلى هذا المعنى أشار الله سبحانه حين قال: (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ). قال أبو حيان الأندلسي: “فيه تنبيه على أنَّ حقَّ المؤمن إذا سمع قَالَةً في أخيه، أن يبني الأمر فيه على ظنِّ الخير، وأن يقول بناء على ظنِّه: هذا إفك مبين، هكذا باللفظ الصريح ببراءة أخيه، كما يقول المستيقن المطَّلع على حقيقة الحال. وهذا من الأدب الحَسَن”. وإذا كان هذا هو الواجب تجاه المؤمن فكيف بالواجب تجاه الربِّ والإيمان والدِّين والقرآن الكريم والرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الكريم.

وأخيرًا، فإنَّ من أعظم ما يثبت القلوب على اليقين والإيمان: الدعاء للنفس، والدعاء للذريَّة، والدعاء لمن تحب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى