عام

أهكذا كل ولد؟!

  • غيداء العويد

لطالما استغرقني التفكير في تفسير مسألة درجة تباين الشعور والإحساس بين بني البشر، في صنوف العواطف الإنسانية المختلفة؛ كالأمومة، والأبوَّة، والبنوَّة، والأخوَّة، والصداقة، والعشق، وسواها، وكنتُ دائمًا أتساءل عن مدى تأثير العوامل الحاسمة والحاكمة مثل: الجينات الموروثة، التنشئة المبكّرة، البيئة المحيطة، البنية النفسية، المرحلة العمرية، الديانة الضابطة، التجارب الصاقلة، وغيرها.

وتتعدد وتتمدد تلك الاستفهامات المعلَّقة في عقلي بلا إجابات واضحة، فأتساءَلُ وكأنني أتتبع جذور العواطف الداخلية: لماذا يعيش أحدنا حَرْسًا وتفوته الكثير من العواطف الإنسانية؟ رغم أنها كانت في غاية البلاغة، لكنه عجز عن تذوق بيانها، فلم يستجلها بعين قلبه، وما كان نصيبه إلا نظرة سطحية بطرف عينه، ولماذا يبلغ إنسان ذروة العاطفة بينما لا يتعدى الآخر أبجدية العاطفة؟ ولماذا يكابد أحدهم شظف العاطفة، أما الآخر فيرفل في ترف العاطفة؟ ولماذا يدَّعي إنسان بأن عاطفته لا تتكرر ولا توجد نسخة أخرى منها، بينما غيره لا يخالجه هذا الظن هُنيهة؟

عند قراءاتي للنصوص بأجناسها المتنوعة، أتوقف لأتأمل وأتقصى معالي المعاني التي تكتنزها الكلمات، فتترجم بذلاقة عن صميم وجدان الإنسان، في محاولة مني لإدراك كنه العواطف البشرية وتداعياتها، خاصة تلك التي لم أعايشها يومًا، أُقلِّبُ بصري وبصيرتي في روح العاطفة التي أنجبت لنا نصوصًا بديعًة، تجعلنا نتوقف لنعاين ضوءها مُشِعًّا من قلب الحروف المرتوية بها، فحين نأتي مثلًا إلى عاطفة الأمومة العلية، فأول ما يلوح في خاطري الأعرابية التي تشرَّبت نفسها بمشاعر الأمومة المدرارة، فأخذت تُرقص ابنها الصغير وتنشد:

يا حبذا ريح الولد
ريح الخزامى في البلد

أهكذا كل ولد؟!
أم لم يلد قبلي أحد؟!

يا إلهي! ما أجلّ العاطفة العميقة التي طغت على كيانها كله، حتى ظنت بأنها تتمتع بفرادة الأمر دون نساء العالمين! فحظِيَتْ بعاطفة خاصة، لم تسبقها إليها امرأة أخرى، وكأني بها وهي تطوف أرجاء المعمورة، تسأل كل من تصادفها من أمهات الأرض عن حقيقة مشاعرها، رغم إدراكي بأن ألفاظ الأم ما كانت إلا رموزًا وصفية محدودة، تعجز عن الإحاطة بحقيقة ما تحمله بين أحنائها.

أما حين ننتقل إلى ميدان الأبوة، فإن أول ما يحضر في الذهن الشاعر: زاهي وهبي، الذي اختار أن تكون هديته الأولى لوليدته: (كنز) قصيدة مشحونة بعاطفته الواسعة، وهو الذي يتخذ من القصيدة رفيقة درب، تشاركه السرَّاء والضرَّاء، وتخفِّفُ عنه وطأة العيش، وأثقال الحياة، فالشعر في منظوره الخاص: أسلوب حياة، وطريقة تعامل مع النفس، ومع الآخرين، مع الوجود ومع الحياة، كما أنه يؤمن -بحسب قوله- أن الكلمات تظل حية ترزق، فلا يبقى بعد انقضاء الأيام سوى الحبر والكلمات، وقد كتب لابنته قصيدة ترتدي جلباب دعاء فقال:” أصلي خلسة كي لا يسمعني أحدٌ سواه، لا يحفظك أحدٌ سواه، كي لا تقع الحرب مرةً أخرى، لتظلً سماؤك ماطرةً وأيامك مشمسةً، ليكلفَ قمرًا آدميًا بحراسة نومك، ليرحلَ الغزاةُ قبل أن تتعلمي المشي، ليسقط الطغاةُ قبل أن تنبتَ أسنانك الحليب”.

أبتسم وأنا أقرأ كلماته، وتتراءى لي صورة شابة تقف في الهزيع الأخير من الليل، بعينين مرتخيتين، في زاوية غرفة شبه معتمة، تهز سرير ابنتها بيد، وبالأخرى تمسك بديوان: (لمن يهمه الحب) وهي تكرر قراءة القصيدة التي خلد والدها عبرها مشاعره على رأس صغيرتها التي ما انفكت تحرك أطرافها الطرية، بوتيرة متتابعة ومتسارعة، ولا تعي من أمرها أي شيء، وأهمس في سري قائلة: نعم، نعم ها هي الهدية لا زالت حية ترزق، تتوارثها الأجيال، ثم أتخيلها تنتقل من يد الحفيدة، إلى يد ابنة الحفيدة، فتتواصل سلسلة التوريث.

أعاود قراءة معاني الأبوة في مفرداته المقطرة من لباب عواطفه، فأسالت نهر القصيدة، ويراودني تساؤل جديد: هل يسبق الأب الشاعر غيره من الآباء بأميال وأميال من الشعور؟ وهل معشر الشعراء مصابون –فعلًا- بتضخم العاطفة؟ فيكون لديهم حينها زخم مشاعري، مقارنةً بغيرهم من الدهماء.

في صبيحة اليوم الرابع عشر من شهر فبراير المنصرم، -وهو يوم ذكرى رحيل الشاعر مريد البرغوثي الأول- وقعْتُ على مرثية مؤثرة لشقيقه الأكبر الشهيد: (منيف) الذي تعمق في وصف رقة شقيقه الشفيفة الشديدة، خاصّةً في علاقته مع والديه، حيث بزغت أمامنا شمس البنوة الساطعة من خلال القصيدة المنظومة، التي أجلتها لنا وكأنها جدول ماءٍ صافٍ انعكست على صفحته أشعة ضوء العاطفة الشاهقة، حتى أن البرغوثي نعته بـ” رجل رؤوم” أما روحه فهي ” الروح الحرير”، وحين نقرأ كلمات القصيدة يبدو لنا وكأن أخاه قد تبادل الحلل مع أبويه، فهو أم أمه، وأم أبيه أيضًا، حيث يقول:

وأخي شهيد جَماله وخصاله
أناْ لم أجد رجلاً يعيش بقلب أمٍّ مِثْلَهُ!

رجل رؤومْ
فَتَكَتْ به لا كفُّ غادره الغليظةُ وحدَها

بل رِقةٌ في النفس مُضْمَرةٌ وباديةٌ
كَضَوْءِ فَراشةٍ غاصت بمخملِ وردةٍ

فيبينُ جزءُ الجزءِ من كلتيهما
ويظل ما يخفى خيالاً لا يبينْ

***

وأخي شهيد خُصومة الروحِ الحريرِ
مع الأنا

وكأن فِطْرتَهُ ترى
أن النعيم الآخرونْ

***

وأخي شهيد جماله وخصالهِ
وهو الحَنونُ ابنُ الحَنونةِ والحَنونْ

وهو الذي يرعى أباه، هشاشةً وترفُّقاً
وكأن والِدَهُ جَنينْ

***

وهو الذي ظلت أُمومتُهُ تُظَلِّلُ أُمَّهُ

ليرى ابتسامتها

ويفزع أن يكون بثوب كنزتِها ولو خَيْطٌ حزينْ

***

يا فجر لما تطل
ملون بلون الفل

يا فجر لما تطل
ملون بلون الفل

***

صحي عيون الكون
محبوبي قبل الكل

محبوبي قبل الكل
بالحي لما تدور

بايدك مشاعل نور
بالحي لما تدور

بايدك مشاعل نور

***

منزل حبيبي زور
محبوبي قبل الكل

منزل حبيبي زور
محبوبي قبل الكل

صحي عيون الكون
محبوبي قبل الكل

أقرأ القصيدة العذبة أعلاه، والتي تنتمي إلى فن الفلكلور السوري، ثم أستمع إلى كلماتها وأتأملها، فترتسم في مخيلتي صورة مكتملة الأبعاد لعاشق عظيم، هجر الكرى أجفانه، فوقف قبيل انبلاج الفجر الأبيض خلف نافذة غرفته، ينتظر وينظر نحو الأفق البعيد، يُرطب صدره المقروح بنسمات هواء نقية بكر، وُلدت للتو من رحم الوجود، لم تمسَّها أصابع عوادم السيارات الملوثة، ولا أدخنة السجائر الخانقة، ولا أبخرة المصانع السوداء، فيما كان يطلق تنهدات عميقة، تنسَلّ من أقاصي روحه، وتكاد تنتزعها أثناء ذلك، لكنه يؤمن يقينًا بأنها لا تذوب وتتلاشى في المدى الواسع، بل تخفق بأجنحتها المستغيثة نحو السماء العالية.

ويستمر في تلك الوقفة، والحسرة تشتعل في عروقه لاستحالة أسباب الوصل، فينادي الفجر الوشيك، ويرتجيه بأن يستفتح رحلته الكونية بزيارة منزل محبوبه، وإيقاظه بكفيه السنيتين قبل أعين العالمين جميعًا، وكأنه يوصي الفجر بأن ينوب مكانه متصبحًا بعيني حبيبه، ناقلًا سلاماته، وقبلاته المتوضئة بماء المودة والرحمة، وتبدو لي حالته تجسيدًا خالصًا لعبارة صادفتُها عَرَضًا قبل أيام:” وكأنه يرمق حبيبه بروح الفجر” ويسهب التفكير في أمر هذه العاطفة الغريبة، التي انهمرت في دمائه، وتغلغلت إلى أعماقه على حين غفلة منه، لكن عقله يعجز عن التحليل والتعليل، وهو الذي كان يكفر بالعشق، ويقهقه مستهزئًا حين تصادفه حكايات صبابات العشاق ومصارعهم، حتى أذاقه الدهر من الكأس ذاته، فأعلن توبته من ذنب الكركرة الساخرة، وكم تمنى لو أدرك السر المحجوب عنه، وأدهشه أنه استعاد حوارًا قديمًا مع صديقه الوحيد، حين أفضى له يومًا بسره الخاص، وكيف أن الدهر حكم عليه بمفارقة فتاة القلب وحرمانه منها، كان يصف ما يجيش في صدره، ويتوغل في وصفه حتى قال: أشعر أن قلبي سوف يجن قريبًا يا صاحبي.

وقد فاجأته عبارته الأخيرة، فقهقه عاليًا وهو يتساءل: هل للقلب عقل كي يجن؟ نظر إليه رفيقه نظرةً تقول: يا لك من رجل محظوظ؛ لا تعلم شيئًا عن جنون القلب، والتمعت في خاطره أوصافٌ قرأها قبل أيام قليلة، ومنها: القلب هو مستقر العقل، وآلة الإدراك، ومنتهى الحواس، وسيد الأعضاء ورأسها، ثم وضع الآخر ساقًا على ساق، ونصحه بضرورة إدارة عواطفه الهوجاء، وحين أتاه صوت مهزوم يعلن الاستحالة، كان رده المباشر: يجب عليك أولًا ضبط إيقاع ضجيج هذه العاطفة البلهاء، وهمّ بأن يكمل في سرد سلسلة الخطوات اللازم اتباعها، ولكنه لاحظ نظرة الانكسار تزداد حدة في عينيْ صاحبه، فاقترب منه محاولًا إقناعه: صدقني يا صديقي، إن الأمر كله مجرد وهم لا أصل له، ولسوف تمضي بك قوافل الأيام، وتتذكر هذه الحكاية السخيفة وتضحك منها أيضًا.

ثم يرفع العاشق طرفه الساهر، ليرقب خيوط النور تتسلل باستحياء إلى أرجاء الأرض رويدًا رويدًا، حتى ينتشر النهار الضاحك حوله، بعد عراك طويل مع الليل، فيناجي المولى بعبراته، ويدعوه بأن يعقد قريبًا بين الفؤادين بالرباط المقدس، فيلتحمان بآصرة تنشأ بداءةً في دنيانا الأرضية، وتمتد حتى النشأة الأخرى، وولوج الجنان معًا بيدين متشابكتين، والأبناء والأحفاد يطوقانهما من كل الاتجاهات.

ما أرقى العاطفة الشريفة حين تسمو بصاحبها، فيسعى جاهدًا في سبيل تأبيدها وتخليدها!

وقد مكثتُ أفكر في مسار حياة علاقة الحب بين المرأة والرجل، منذ بذرة نشوء العاطفة من العدم، وحتى نشوبها في نخاع العظم، وأتساءل ترى ماذا حصل بين النشوء والنشوب؟ أما حين أسمع باضمحلال حكاية حب طويلة بين عاشقين كبيرين، فإني أعمل النظر في المراحل المتسلسلة لنضوج العاطفة، ثم الخطوات الخفية لنضوبها، وأتساءل أيضًا: تُرى ماذا حصل بين النضوج والنضوب؟

وفي الختام، أستعيد قصيدة مذهلة تنطبق عليها مقولة: “إن القصيدة بنت العاطفة” للشاعر السوري بدوي الجبل تحمل عنوان: (البلبل الغريب) حيث تجسَّدَتْ من خلالها عاطفة الجد الكبيرة، كما أنه اختزل لنا عبر أبياتها الطويلة خلاصة رؤيته وفلسفته في الحياة، حيث كانت من أواخر أشعاره.

أقرأ القصيدة مرة بعد مرة، وأكاد أراه يجلس وحيدًا إلى طاولته وكومة أوراقه، يمسك قَلَمًا أسوَدًا بأصابعه المرتعشة، يحبر القصيدة بدموع قلبه وهو يكابد سعير غربته الاضطرارية، لكنه يكتب ويكتب، وكأنه يزحزح بكلماته صخرة الغربة القاسية التي حالت بينه وبين حفيده، وبعد ليالٍ طويلة، ينهي قصيدته التي ما كانت إلا صدى لشوقه وحنينه الكبيرين، فتسافر كلماتها عبر السماوات حتى تصل إلى ديار حفيده المحبوب، وتظل تحوم وتحوم حوله، إلى أن يلتقطها بكفيه الصغيرتين، فيخفف ذلك على الجد كثيرًا.

وسيمًا من الأطفال لولاه لم أخف
على الشيب أن أنأى وأن أتغربا

تود النجوم الزهر لو أنها دمى
ليختار منها المترفات ويلعبا

وعندي كنوز من حنان ورحمة
نعيمي أن يغرى بهن وينهبا

يتذكر الشاعر في هذه الأبيات حفيده الجميل الذي تركه وراءه في أفياء الوطن، ولولا فراقه المضني لما خاف من الغربة وويلاتها الكثيرة رغم كبر سنه، ومن علو مقام هذا الحفيد في نفسه يدَّعِي أن النجوم اللامعة تتمنى لو كانت ألعابًا ودمى كي يختار أجملها ويلعب بها، وكأنه هنا يحاول تسخير الكون لسعادة حفيده.

ويستمر في كلماته متعمقًا في وصف عواطفه الرقيقة الراقية، فيقول: أن صدره ينطوي على منجم يحوي الكثير من الحنان والرحمة، ويعدها كنوزًا ثمينة، وأيم الله أنه صدق حين عدها كذلك، وهل يمكن أن يملك المرء شيئًا أثمن وأغلى من عاطفته النبيلة؟ ثم يستطرد معلنًا عن توقه لأن يغتنم هذا الطفل ويستكثر من تلك الكنوز النفيسة، فذلك بمثابة النعيم للجد.

يزف لنا الأعياد عيدًا إذا خطا
وعيدًا إذا ناغى وعيدًا إذا حبا

كزغب القطا لو أنه راح صاديًا
سكبت له عيني وقلبي ليشربا

ويواصل المضي في قصيدته المضيئة المضنية حتى يقول: أن حفيده ينشر أسراب البهجة والفرحة في أرجاء البيت، في كل مرحلة من مراحل نموه، فكل مرحلة يعدها عيدًا له ولمن حوله، فخطوته عيد، وكلامه الغير مفهوم عيد، وحبوه -أيضًا- عيد، ويشبهه بصغار طيور القطا التي لم ينبت لها الريش بعد، ثم تضج العاطفة في أعماقه، فتتفجر ينابيعها العذبة، وتنسكب الكلمات النابضة بمشاعره الشاهقة، فيقول: لو أن حفيده شَعَرَ بالعطش فلسوف يسكب له من ماء عينه وقلبه ليشرب، فلا يرضى له سقاية إلا من نور عينه ونبض قلبه.

وتخفق في قلبي قلوب عديدة
لقد كان شعبًا واحدًا فتشعبا

ويا رب من أجل الطفولة وحدها
أفض بركات السلم شرقًا ومغربا

ورد الأذى عن كل شعب وإن يكن
كفورًا وأحببه وإن كان مذنبا

وصن ضحكة الأطفال يا رب إنها
إذا غردت في موحش الرمل أعشبا

ويتمادى كاشفًا الستور عن رقة أحاسيسه المنسابة من دواخله الحنونة، فيقول: أنه لشدة حبه لهذا الحفيد فإن قلبه أصبح قلوبًا كثيرة لتتسع لذلك الحب الكبير، وكان في قلبه طريقٌ واحدٌ فقط، ولكنه الآن تَشَعَّبَ وتفرعَ طرقًا عديدة؛ بسبب غزارة عاطفته.

ويكمل نحت الحروف في تحفته الفريدة، فيخبرنا بأن نفسه تفيض بالحنان والرحمة على كل أطفال الكون من أجل هذا الحفيد، فيدعو الله ويسأله بأن يعم السلام والخير على مشارق الأرض ومغاربها، ويسترسل رافعًا أكف الضراعة لخالقه بأن يحفظ ضحكات الأطفال ويصونها، فإنها إذا غردت يطرب لها الوجود، وتبعث الحياة في جديب الرمل، فينبت العشب، وينمو كاسيًا الأرض حلة خضراء، تبعث على الفرح والسرور.

أتمعن في قوة وصف عاطفته في هذه الأبيات، فأتعجب مسائِلةً نفسي عن أول تكونها، وتدرج تبلورها، وعمق تجذرها في كوامن النفس البشرية؟ وما سر قوة العاطفة؟ وما نوع قوت العاطفة؟ وما مصدر قوت قوة العاطفة الرئيسي؟ وكيف تكون عاطفة جدٍّ عيناء عميقة، بينما في المقابل نجدُ جد آخر بعاطفة عمياء عقيمة؟

أمسك قلمًا بيميني، وأرسم عينًا واسعة ذات رموش كثيفة وطويلة، ثم أزينها بالكحل، بعدها بدقائق قليلة أرسم بجانبها عينًا مغمضة برموش متساقطة، لم يبقَ منها سوى ثلاثة رموش فقط، أضع القلم جانبًا وأقلب نظري بين العينين -أو العاطفتين- وأردد: كيف؟ ولماذا؟ ومتى؟ وأين؟ وأكمل فأرسم دموعًا تحت العين المطبقة، لكني أمسحها بعد ذلك؛ لأغير موضعها ناحية العين المُشْرعة، وكأن تلك الأدمع تنطق فتقول: إن شدة العاطفة أحيانًا مبكية ومؤلمة.

ثم أمزق تلك الرسمة المفاجئة، التي أطلقتُ عليها اسم: (عوالم العواطف المجهولة) ويمر في الذهن مقالًا يحكي عن سيرة حياة الأديب الروسي: أنطون تشيخوف، أتذكر –تحديدًا- الوصف التالي له:

“فاضت نفسه عطفًا على النوع الإنساني كله ” توقفتُ أمام هذه العبارة طويلًا؛ لسابق معرفتي بتفاصيل حياة تشيخوف المتقشفة عاطفيًا، حيث لم يتحصل المسكين على نطفة عطف، ونلمس ذلك جليًا من خلال اعترافه ذات مرة لمدير مسرح معروف في موسكو، حيث قال له: ” كانت طفولتي خالية من العطف إلى حد أنني ما زلت أنظر إلى العطف حتى الآن وكأنه شيء لم تكن لي به سابق خبرة”

كم هي مرهفة ومرهقة في الآن ذاته بعض العواطف الإنسانية، حتى تصبح أقصى أمنيات المرء أحيانًا لو أنه كان قطعة حجر لا تشعر ولا تحس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى