- خوسه أنطونيو مارينا
- ترجمة: زياد الأتاسي
لطالما أثار الغباء اهتمامي. وبالنظر إلى وجود نظرية علمية عن الذكاء، فلا بد أن توجد نظرية علمية عن الغباء أيضاً. بل إنني أعتقد أن تعليمها بوصفها موضوعاً أساسياً في جميع المستويات التعليمية سينتج عنه فوائد اجتماعية جمَّة. وأول هذه الفوائد -سأسمح لنفسي بالتمادي في تفاؤلي- هو تلقيحنا ضد الحماقة، وهي وقاية صحية ذات ضرورة ملحة، إذ إنه داء قد تصيبنا عدواه جميعاً.
ما نسميه في العامية ‘الغباء’ هو في الحقيقة سلسلة من إخفاقات الذكاء. يُخْفِقُ الذكاء عندما يكون عاجزاً عن التكيف مع الواقع، وعن فهم ما يجري، أو ما يحدث لنا، وعن حل المشكلات العاطفية أو الاجتماعية أو السياسية؛ عندما يخطىء منهجياً، ويُقْدِمُ على أهداف غير عقلانية، أو يصر على استخدام وسائل غير فعالة؛ عندما يفوِّتُ الفرص؛ عندما يقرر تكدير الحياة؛ عندما يتردى في القسوة أو العنف؛ عندما يرفض قبول الدليل والبرهان.
لا يقتصر الإخفاق على الذكاء الفردي وحسب، وإنما على الذكاء الجماعي أيضاً. وفي هذه الحالات، يتسبب التفاعل نفسه في abaissement du niveau mental، أي انخفاض مستوى أداء العقل.
كل واحد من الزوجين أو من أفراد الأسرة أو من أعضاء الشركة أو الحزب أو الأمة يمكن أن يكون مبَرِّزاً ومتحمساً وفطناً عندما يكون وحده، ولكنّ قدْرَهُ ينحطُّ في صحبة الآخرين. فهناك بعض الديناميات الجماعية التوسعية والانبساطية، وثمة أخرى مثَبِّطَة ومنغلقة. وقد تكون المجتمعات ذكية أو غبيةً وفقاً لأسلوب حياتها، أو القيم المقبولة عندها، أو مؤسساتها، أو الأهداف التي تعزم عليها.
إن تمجيد عرق أو أمة أو حزب ما، والتعطش إلى السلطة، والتشوش الجماعي، وتلك الجدية المتحذلقة، وذلك التكلُّف الشديد والسخيف، وشلال الفظاعة، كل ذلك يجب أن يُعَدَّ إخفاقات للذكاء. نحتاج إلى باستور Pasteur جديد يكتشف لقاحاً ضد هذا الغضب الاحتفالي، إلى علم تربية خاص بالذكاء يمنع مثل عمايات القلب القاتلة هذه، أو لا يحتفي بها على الأقل.
ما سبق هي مقتطفات من كتابي الذكاء الفاشل La inteligencia fracasada- 2004. منذ أن كتبتُهُ لم أنفك عن التفكير ملياً في الموضوع. فإخفاقات الذكاء لها جوانب شبيهة بمرض معدٍ. وقد وصفتُ قبل عشرة أعوام مرضاً مجتمعياً سميتُه “متلازمة نقص المناعة الاجتماعية”. فالمجتمعات، حالها حال الأفراد، لها نظام مناعي يدافع عنها أمام هجوم العناصر المسببة للأمراض مثل التعصب، والفساد، والكراهية. لكن هذا النظام لا يعمل جيداً في بعض الأحيان، فلا يتعرف على مولّدات الضد ولا ينتج الأجسام المضادة اللازمة. ذلك كان المرضَ الذي اكتشفتُهُ في إسبانيا. ومن جديد كنتُ أحلم بلقاح يحمينا منه.
المناعة الثقافية
لقد حان الوقت. ولهذا، أريد أن أقدِّم لكم علماً جديداً: علم المناعة الثقافية. كما تعلمون، إن علم المناعة هو العلم الذي يدرس النظام المناعي، أي مجموعة العمليات التي تسمح للكائن الحي بالحفاظ على توازنه الداخلي (homeostasis) بمواجهة الاعتداءات الخارجية، سواء كانت من طبيعة بيولوجية (العوامل المُمْرِضَة) أو فيزيائية كيميائية (ملوثات، إشعاعات) أو داخلية (الخلايا السرطانية، مثلاً)؛ تتعرف على ما هو ضارّ وتقوم بالرد. من منظورنا في علم تطور الثقافات، نرى الحاجة إلى أن نوسِّعَ المجال وإلى أن نضع ونطور علماً للمناعة الثقافية، جنباً إلى جنب مع علم المناعة البيولوجية (ما نعرفه حتى الآن)، يضطلع بمهمة التعرف إلى العوامل المَرَضِيَّة الثقافية (المعرفية، والعاطفية، والأخلاقية)، وبحمايتنا منها. نحن كائنات هجينة من البيولوجيا والثقافة، وكل واحد من هذه الجوانب له آليات الحماية الخاصة به. ومن المثير للاهتمام أن يعتبر عالم أعصاب محترم للغاية مثل أنطونيو داماسيو Antonio Damasio أن الثقافة أيضاً تنشغل بالحفاظ على التوازن الاجتماعي، ما يعني الاعتراف بمولِّدات الضد التي تهاجمه.
العوامل المُمْرِضة الثقافية قد تكون معرفية، أو عاطفية، أو أخلاقية. ولقد أثارت اهتمامي بدايةً تلك العاطفيةُ منها، عند قراءتي نص مارتن سيليغمان Martin Seligman، الذي كان رئيساً للجمعية الأمريكية لعلم النفس. يروي سيليغمان أن الدكتور سولك Salk، مكتشف اللقاح ضد شلل الأطفال، سأله ذات مرة عما إذا كان ممكناً إيجاد نوع من اللقاح لمواجهة مشكلات مثل الاكتئاب. يقول سولك: “ولو أنني كنتُ عالماً شاباً في هذه اللحظة لكنتُ واصلتُ تكريس جهودي للتلقيح/التحصين. لكن بدلاً من تحصين الأطفال بدنياً، كنت سأفعله على نحو آخر: كنت سأحصنهم نفسياً. وكنتُ سأتحقق مما إذا كان أولئك الأطفال المحصنون نفسياً سيكونون قادرين على مواجهة الأمراض النفسية/العقلية بشكل أفضل؛ وكذلك مواجهة الأمراض البدنية”. لقد اعتقد سيليغمان أن العالم كان يواجه وباءَ اكتئاب وأنه سيتفاقم، وفي سبيل وقفه أطلق مع المتعاونين معه برنامج بنسلفانيا للوقاية: “إن برنامج التحصين الشامل الذي كان الدكتور سولك قد تخيله تحقق أخيراً: تقنيات معرفية بغية تمكين الأطفال من محاربة الاكتئاب وتقنيات اجتماعية بغية تجنب الرفض والإحباط في سن البلوغ”. (Seligman M., Reivich, K., Jaycox, L., & Gilham, J., 1995). هذا البرنامج يمكن أن يعد لقاحاً، بشكل عام، لأنه يطور “مواطن قوة” في الجهاز النفسي Mental organism. وتحاول برامج أخرى الشيء نفسه، كبرنامج Donald Meichenbaum، الذي يطلق عليه بشكل معَبِّر “التلقيح ضد الضغط النفسي”.
التحصين النفسي
على الرغم من الصدى الذي تحدثه هذه “اللقاحات العاطفية”، إلا أنني أعتقد أن القدْرَ الأكبر من التقدم حصل في مجال الإخفاقات المعرفية، أي في دراسة الأفكار والاعتقادات والتحيزات التي تغير تغييراً خطراً الحياة الشخصية أو التعايش الاجتماعي. في عام 1960، تنامى القلق في الولايات المتحدة الأمريكية من إمكانية أن يعاني العسكريون المأسورون من قِبَلِ العدو أثناء الحرب الفيتنامية من “غسيل دماغ” على أيدي العدو. وهذا ما حمل ويليام ماغواير William McGuire، عالم النفس الاجتماعي، على البحث في الطريقة التي يمكن للناس أن يتعلموا بها مقاومة تقنيات الإقناع. وتمثل واحد من اقتراحاته في “لقاح ضد غسيل الدماغ”، وبكلمات أخرى: “التحصين النفسي”. بالطريقة نفسها التي تطلق فيها جرعةٌ صغيرة من المضادات antigens إنتاجَ الأجسام المضادة في اللقاحات، فإن لقاحاً ضد الإقناع سيستحث إنتاج الأجسام المضادة النفسية/العقلية.
لقد لفت تفاقمُ الأخبار المزيفة والتضليل الإعلامي في الآونة الأخيرة خلال جائحة كوفيد 19 الانتباهَ من جديد إلى إمكانية هذا “اللقاح”. فقد سَّهلت الشبكات الاجتماعية انتشار الشائعات، وفي الواقع إن كلمة viralization تستخدم اسماً للدلالة عليه. وهاكم مثالاً: الانتشار الواسع viral لـ QAnon – فكرة أن مجموعة من عباد الشياطين المشتهين للأطفال pedofhiles يحكمون الأمة-. ووفقاً للمنتدى الاقتصادي العالمي2018 World Economic forum فإن المعلومات المضللة تمثِّلُ تهديداً عالمياً شاملاً. وتشير اليونسكو إلى أن المواطنين ينبغي عليهم تحسين معارفهم ومهاراتهم ومواقفهم لتقييم المعلومات على شبكة الانترنت on-line. فالتدابير التعليمية، والقوانين، والمُرَشِّحَات/filters التي أدخلتها بعض شبكات التواصل الاجتماعي، أو تدقيق الحقائق fact-checking، لم تعط النتائج المرغوبة. ووفقاً لـ ‘PolitiFact’، فإن حوالي 70% من تصريحات دونالد ترامب بشأن الوقائع أثناء حملته الرئاسية الأولى كانت كاذبة، وإن ذلك لم يكن مهماً بالنسبة لمن صوَّتوا له. لذا، يعمل الباحثون على اكتشاف وسائل أخرى. وهنا تظهر من جديد اللقاحات النفسية/العقلية.
لا تسمى هذه اللقاحات على هذا النحو، وإنما تستخدم كلمة pre-bunking، بمعنى الكشف الوقائي عن الشائعات والبروباغندا المخادعة والوسائل التي يستخدمها المتلاعبون، ومن الممكن مقارنتها باللقاح لأنها تسمح باكتشاف مولدات المضادات antigens وتحَصِّنُ دفاعات الفرد تجاهها. على سبيل المثال، إن إظهار الكيفية التي تنتشر بها الشائعة وكيفية العمل كجدار ناري للحيلولة دون انتشارها -كما يفعل الرسم الآتي- يعزز الوعي والتدخل الإيجابي. (الخطوط الحمراء هي ناشرات الفيروس/الشائعة).
لقد تم التحقق من فعالية ألعاب صممت كلقاحات. الأولى كانت Bad News، التي ابتكرها Roozenbeck و Van der Linden في جامعة كامبردج، حيث على اللاعبين فيها أن يوسعوا نطاق نشر شائعةٍ إلى أقصى حد ممكن باستخدام إحدى الاستراتيجيات الست الشائعة المستخدمة من قبل ناشري الأخبار المزيفة: انتحال الشخصية؛ المؤامرة؛ الاستقطاب؛ نزع مصداقية المصادر؛ التصيُّد؛ الاستفزازات العاطفية. والفكرة هنا هي أن اكتشاف كيفية صنع الفخاخ يحول دون وقوعك ضحية لها. تبعتها لعبة Harmony Square، التي رعتها جامعة كامبردج، وGo Viral .
ليس ما سبق هو المحاولة الوحيدة لتقوية الدفاعات بمواجهة العوامل المرَضِيَّة المعرفية. لقد خصص ستيڤن بنكر Steven Pinker لذلك آخر كتبه – العقلانية Rationality-. وكان قد حدد عدة “أجسام مضادة نفسية” في كتاب آخر هو – The Better Angels of Our Nature. فبعد أن يشرح في خمسمائة صفحة السبب الذي يدفعه لاعتبار أن البشرية تقدمت، يحدد بعض “الملائكة الطيبين” الذين سهلوا ذلك: الدولة، والتجارة، وتأنيث المجتمع،[1] واتساع نطاق التعاطف والعقلانية؛ التي يمكن اعتبارها أجساماً مضادةً فعالة. كما لخص اندي نورمان Andy Norman قسماً من هذه الأبحاث في كتابه الأخير المناعة العقلية: الأفكار المعدية وطفيليات العقل والبحث عن طريقة أفضل للتفكير Mental Immunity: Infectious Ideas, Mind-Parasites, and the Search for a Better Way to Think, وسأتحدث عنه في المستقبل.
إلى الأمراض والإخفاقات العاطفية والمعرفية ينبغي أن تُضَافَ تلك التي تؤثر على القواعد الأخلاقية. لقد درستُ في كتابي سيرة اللاإنسانية Biografía de la inhumanidad، كيف تضعف العوامل المرَضية الحواجز الثلاثة الحامية من الفظاعة وهي: المشاعر الاجتماعية، والقواعد الأخلاقية، والمؤسسات. أما الآن فينبغي أن أنحي هذا الموضوع جانباً.
لقد اكتمل المخطط العام لعلم المناعة، وذلك اللقاح الذي تقتُ إليه عند دراسة الغباء البَشَريّ يبدو ممكناً. فلعلنا نستطيع تطويره بالفعالية والسرعة نفسيهما اللذين تحققا في تطوير لقاح كوفيد 19؛ وعسى أن نقبل جميعاً بتلقيه.
[1] – يفضل الاطلاع على هذا المقال حول ستيفن بينكر: https://atharah.net/the-worlds-most-annoying-man/