- جمانة ثروت كتبي
لا أظن المتابع لواقعنا المعاصر -بشعور ديني- يخفى عليه أن من جُملة المشكلات التي يعاني منها المسلمون في القرن الخامس عشر للهجرة، مشكلة “ضعف التعلق القلبي بالله عز وجل”، وهي مشكلة قد يزيدها عِظَمًا عدم دراية المسلم أنه يعاني منها! فلا يدري أن أداءَه للصلاة قيامًا وقعودًا كحركات روتينية ليس هو المطلوب وحده، ولا يدري أن تلاوته للقرآن بمجرد قراءة الكلمات وتجويدها ليس هو نهاية المأمور تجاه القرآن، ولا يدري أن الحج شُرع لغير مجرد التعبد بالسفر والتنقل بين المشاعر في أماكنها وأوقاتها الواجبة! وقس على ذلك بقية العبادات التي يقوم بها الفرد مجرِّدًا قلبه عن عبادة التعلق بالله! علما أنّ الأعمال جميعها لا تتفاضل بصورها وعددها! وإنما تتفاضل (بتفاضل ما في القلوب) [1].
الذكر خصوصًا من العبادات التي يتمايز فيها الناس أجرًا؛ بحسب استحضار المعاني القلبية، فأفضل الذكر ما تواطأ عليه القلب واللسان، وهو الذكر الذي يثمر معرفة الله ومحبته وكثرة ثوابه[2]. وعامة المسلمين -كما أحسب- يقومون بترديد الأذكار النبوية كعبادات قولية تردد باللسان، دون أن يكون للقلب نصيب من تعقّل معانيها والتفكّر فيها.
ورغم أن عبادة الذكر في شريعتنا تشمل جميع الأوقات والأحوال؛ لتجعل المسلم في عامة يومه وليلته مع الله، إلا أن التقصير فيها من حيث “الوقوف والتأمّل” تقصير كبير؛ ذاك أن ما يحفظه اللسان ويُكثر من ترديده يقلّ تأمّلُه له، واستشعاره لأهميته! ألا ترى أنك إذا صليّتَ بعقل في مكان آخر، قرأت الفاتحة وقمت بكل الأقوال والأفعال دون أن تشعر؟ فكذلك الأذكار النبوية التي تحفظها فترددها في يومك وليلتك! عند الاستيقاظ والخلاء، عند اللباس وتناول الطعام، عند الخروج من المنزل ودخوله، عند الوضوء والصلاة وبعدها، وعند النوم…. وغيرها من المواطن، تقولها بلسانك دون وعي؛ طالما اعتدّتَ قولها ببساطة!
مَن يرددون الأذكار من حفظهم عن ظهر قلب أصابوا خيرًا، ولكن المطلوب هنا أعظم خيرًا، وأعلى درجة، وهو الانتقال لتعقّل معاني الأذكار ليحصل (التعلق القلبي بالله تعالى)، ولا يستطيع المرء استيعاب ما يُكثر ترديده إلا بأمر زائد عن الترديد، وهو “الاستحضار”!
فإذا علَت همة كل فرد منا؛ حرِص على التفكّر في معاني هذه الكلمات التي يتعبّد الله بترديدها، وكلما زاد تفكره زاد استحضاره لعظمة الله تعالى.
ومما يعين على استحضار “عظمة الله تعالى” أثناء قول الأدعية والأذكار النبوية: الوقوف على معاني صفاته سبحانه وتعالى الواردة فيها. فتحصيل القلب لمعاني أسمائه الحسنى المتضمنة للصفات العُلى يملأ القلب بأجلّ المعارف وأنفعها، يقول الشيخ السعدي -رحمه الله- عن هذه المعرفة: “لا يحصِّل العبد في الدنيا أجلّ ولا أفضل ولا أكمل منها، وهي أفضل العطايا من الله لعبده، وهي روح التوحيد وروحه ومَن انفتح له هذا الباب انفتح له باب التوحيد الخالص، والإيمان الكامل الذي لا يحصل إلا للكُمّل من الموحدين.” [3]
وفي محاولة لولوج باب هذه المعرفة العظيمة، وفي سعي للمساهمة في حل مشكلة ضعف التعلق القلبي بالله تعالى، أقف مع القارئ الكريم بضع وقفات… مع بعض “صفات الله تعالى” والتي يكثر ورودها في مختلف الأذكار، سواء وردت بالتصريح أو بالتضمن في أسماء الله تعالى.
أولًا/ صفة الربوبية:
كان من نهج أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أن يكثروا سؤالَ الله تعالى باسم “الرب” جل جلاله، وما ذاك إلا لأن الله تعالى هو المرّبي خلقه بنعمه، والمربي إياهم بصفة خاصة [4]، وهو المتصف بالربوبية المطلقة، فلا يطلق اسم “الرب” مطلقا إلا عليه، أما غيره من المربّين فلا يطلق عليه لقب الرب إلا مقيدا.
وقد وردت هذه الصفة في مواضع عديدة من الكتاب والسنة، فوردت مطلقة، ومقيدة بـ(رب العالمين) و (رب المشرقين) [5] و (رب السماوات والأرض) و (رب العرش العظيم). والربوبية من الصفات التي نشأ عنها الخلق والأمر والثواب والعقاب [6]، فكثر استحضارها في الذكر النبوي، كما في ذكر الإيواء إلى الفراش، وفي دعاء الكرب، وذكر العودة من السفر، وغيرها. وكما كان صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول: ”رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي كُلِّهِ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي..“ [رواه البخاري (6398)]. وكثرة الاستحضار النبوي لهذا الاسم تدل على اختصاص اسم الرب بمعانٍ عظيمة كريمة يتضمنها الاسم الكريم أو يستلزمها [7]، وهذا مُشعر بأهمية استحضارنا اتصاف الله بها عند الدعاء به، واستحضار أن لا شيء يخرج عن ربوبيته، وأن كل مَن في السماوات والأرض عبد له في قبضته وتحت قهره.
كل من تعبد الله وتوجه إليه متذللًا داعيًا أو ذاكرًا له باسمه (الرب) فعليه بالمقام الأول أن يستحضر أن الله تعالى هو سيده الذي يربيه، فيعلم كم من النعم والأفضال من المربِّي على المتربّى لديه؟ وكم من الحقوق الواجبة له على آلائه؟ ويعلم أن من كمال اعترافه بربوبيته أن يسعى ما استطاع للقيام بحق ألوهيته.
ثانيًا/ صفة الألوهية:
الإيمان باتصاف الله تعالى بالألوهية مبني على الإيمان باتصافه تعالى بالربوبية، فمَن آمن أن الله أوجده ورباه بالنعم لزمه أن يتجه إليه بالعبادة[8] والألوهية صفة ذاتية دلّ عليها الكتاب والسنة وثبتت كذلك من اسَمي “الله” و “الإله” [9].
لفظ الجلالة “الله” هو اسم دال على جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى؛ وهو دال على إلهيته المتضمنة لثبوت صفات الإلهية له مع نفي أضدادها عنه، ومعنى اسم “الله” أي: المألوه المعبود الذي تألهه الخلائق محبة وتعظيما وخضوعا وفزعا إليه عند الحوائج [10]، فمعاني الألوهية دل عليها أولَ ما دل؛ لفظ الجلالة.
ومن خصائص هذا الاسم الذي تضمن جميع الصفات عموما، وصفة الألوهية خصوصا أنه الاسم الذي اقترنت به عامة الأذكار المأثورة، فالتهليل والتكبير والتحميد والتسبيح والحوقلة والحسبلة والاسترجاع والبسملة وغيرها من الأذكار مقترنة بهذا الاسم غير منفكّة عنه [11]. فتأمل كيف لو استشعرنا عظمة هذا الاسم وما تضمنه من صفات ومعاني؛ كم من التعلق القلبي الحقيقي الذي سيتحقق عند الذكر؟!
وكل ذكر أو دعاء فيه سؤال الله ومناجاته بــ”اللهم” ففيه إثبات للألوهية، كما في ذكره قبل نومه عليه الصلاة والسلام، ودعائه عند قيامه للتهجد، ودعائه دُبر الصلاة، وفي مفتتح الاستخارة، وغيرها من المواطن. وقد قال الصدِّيق -رضي الله عنه- للنبي صلى الله عليه وسلم: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي. فقَالَ له عليه الصلاة والسلام:”قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ“ [رواه البخاري (6326)]. وغير هذا كثير في دعائه عليه الصلاة والسلام.
والسؤال بـ(اللهم) سؤال من يسأل ربه في كل حاجة وكل حال، إيذانا بجمع أسمائه تعالى وصفاته، فالدعاء بها تقديره “أدعو الله الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى بأسمائه وصفاته…” فأتى بالميم المؤذنة بالجمع في آخر هذا الاسم إيذانا بسؤاله تعالى بأسمائه كلها [12]. فالسؤال بها مناسب لجميع الأحوال ولطلب جميع الحاجات، والسيرة القولية والعملية للنبي صلى الله عليه وسلم تدلنا على ذلك، وتنوع أذكار اليوم والليلة التي وردت فيها “اللهم” دليل على ذلك.
ثالثًا/ صفة العظمة:
من صفة الرب سبحانه أنه عظيم، جلّ عن حدود العقول، حتى لا تتصوّر الإحاطة بكُنهه وحقيقته، فهو تعالى عظيم له كل وصف ومعنى يُوجب التعظيم، فلا يقدر مخلوق أن يثني عليه كما ينبغي له [13]، فحين يستحضر الداعي الذاكر لربه أنه لا يحيط أن يثني عليه؛ ينكسر قلبه لله جلّ وعلا؛ وهذا أدعى في قَبول ذكره واستجابة دعائه. ولعل هذا من أسرار اقتران اسم الله العظيم بلفظة التنزيه “سبحان” في مواطن كثيرة، كما يتضح في آيات التسبيح في القرآن الكريم، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: ”كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ” [رواه البخاري (6406)]. فالتنزيه عن كل نقص يناسب ذي العظمة، وهي القوة والكبرياء ونحوها من الصفات [14].
رابعًا/ صفة المغفرة:
مغفرة الله تعني ستره الذنوب ومحوها، وهي تنال مَن شاء الله أن تناله بفضله وجوده. ومما ينبغي أن يتفطن له الداعي باسم الله الغفور أن يعلم أنه كلما كان توحيده أعظم كانت مغفرة الله له أتم [15]، فكلما عَبَدَ الله وحده معظما له وحده ومنقادا إليه دون ما سواه، كان نصيبه من نيل مغفرة الله أكثر. ولأنه صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالله عز وجل، وبعظيم فضله وكريم صفاته، كان يقسم بالله فيقول: ”وَاللَّهِ إِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً“ [رواه البخاري (6307)].
وفي الأدعية المأثورة من أساليب طلب المغفرة كثير… لـمَن تأمل! وما أكثر الأحاديث التي تحثّ على أفضلية الاستغفار! وما أكثر الأدعية النبوية التي فيها استغفار! ومن أشهرها سيد الاستغفار: “.. اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَليَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي، فاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ“ [رواه البخاري (6306)]. فتأمل كم في هذا الدعاء من الإقرار بربوبية الله وألوهيته، والتقرب إليه بالتذلل والعبودية، وطلب المغفرة ممن اتصف بها، ما استحق معه التسمية بـ(سيد الاستغفار) [16].
وكثيرا ما يقرن تعالى بين اسمَيه (الغفور) و (الرحيم) فتجد في كثير من الأدعية والأذكار اقترانهما؛ لما في دلالتهما من معنى متشابه، فمن معاني سؤال الله المغفرة: طلب الزحزحة عن ناره، ومن معاني سؤاله الرحمة: طلب دخول جنته [17]. فمن عرف معنى الصفتين؛ تعلق قلبه بالله أكثر حين يذكر الغفور الرحيم، وحين يدعو لنفسه ولغيره بالمغفرة والرحمة.
وهكذا في سائر الأدعية والأذكار المأثورة… يجد فيها مُرددها الكثير من أسماء الله وصفاته؛ لترشده -إن تفكّر فيما ردد- إلى أن من مقاصد كثرة ورود أسماء الله وصفاته: هو تعليق القلب بالله عز وجل وحده.
وإذا أردتَ زيادة إيضاح لما أريد قوله.. “فانظر إلى ذِكْرِ مَن قلبُه ملآن بمحبتك، وذِكْرِ مَن هو مُعرِض عنك، غافلٌ ساهٍ، مشغولٌ بغيرك، قد انجذبت دواعي قلبه إلى محبة غيرِك وإيثارِه عليك، هل يكونُ ذِكْرُهُما لكَ واحدًا؟” [18].
[1] انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، تعليق: مصطفى شيخ مصطفى: ص238.
[2] انظر: مدارج السالكين: ص683. وتفسير السعدي، ت: سعد الصميل (1/111).
[3] القول السديد شرح كتاب التوحيد، للسعدي: ص162-163.
[4] انظر: تفسير السعدي: (1/32). وانظر: فقه الأسماء الحسنى، لعبدالرزاق البدر: ص99.
[5] انظر: صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة، لعلوي السقاف: ص188.
[6] انظر: مدارج السالكين، ت: محمد الفقي: (1/34). وانظر: شرح أسماء الله تعالى الحسنى وصفاته الواردة في الكتب الستة، لحصة الصغير: ص124-125.
[7] انظر: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها، لعبدالعزيز الجليل: ص90-91.
[8] انظر: القول السديد شرح كتاب التوحيد: ص12-13.
[9] انظر: صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة: ص70.
[10] انظر: شرح أسماء الله تعالى الحسنى وصفاته الواردة في الكتب الستة: ص41.
[11] فقه الأسماء الحسنى: ص93.
[12] انظر: شرح ابن القيم لأسماء الله الحسنى، لعمر الأشقر: ص34، وأحاله إلى: بدائع التفسير (1/491-493).
[13] انظر: شرح حصن المسلم من أذكار الكتاب والسنة، لمجدي عبدالوهاب: ص213. وشرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة، لسعيد القحطاني: ص82.
[14] انظر: شرح العقيدة الواسطية، لابن عثيمين: (1/154) دار ابن الجوزي. وانظر: شرح ابن القيم لأسماء الله الحسنى: ص91، وعزاه إلى: بدائع الفوائد (2/152) دار الخير.
[15] انظر: مدراج السالكين: ص237.
[16] انظر: التداوي بالاستغفار، حسن أحمد حسن همام: ص27-30.
[17] انظر: فتح الباري، لابن حجر (12/416) دار الفكر. وانظر: شرح العقيدة الواسطية: (1/306،224).
[18] مدارج السالكين: ص239.