- جاك مادن
- ترجمة: أمينة شهاب
- تحرير: أحمد بن عبد الله عبد السبحان
يبلغ عدد اللغات التي يتحدث بها الإنسان في مختَلف بقاع الأرض 7000 تقريبًا. كلٌّ منها تمتاز بأصوات ومفردات وتراكيب لغوية مختلفة. وفي ضوء بحث نُشِر حديثًا، يتبين بوضوح أن كلّ لغة تُشكّل معرفة متحدّثيها.
فمثلًا: السكان الأصليون لمقاطعة “بورمبراو” بأستراليا لا يستخدمون مفاهيم “يمين” و “يسار” لتحديد الاتجاهات، وإنما يستعيضون عن ذلك بذكر موقعهم بالنسبة للشمس. فطبقًا لباحثة الإبستمولوجيا ليرا بورودتسكي Lera Boroditsky فإن حوالي ثلث لغات العالم تصف المكان بهذه المفاهيم الثابتة بدلًا من المتغيرات، حيث أشارت Boroditsky إلى أنه:
“نتيجة لذاك المران اللغوي المثابر، فإن متحدثي تلك اللغات بارعون في ضبط وجهتهم ومواصلة السير أينما كانوا حتى في الأماكن غير المألوفة لهم”.
بينما نجد في روسيا أنهم لا يصفون لون السماء بالزرقة بطريقتنا نحن – بالإنجليزية – على الأقل؛ لماذا؟ لأن في اللغة الروسية لا توجد مفردة واحدة للون الأزرق، وإنما نجد مفردة للون الأزرق الفاتح “goluboy” وللأزرق الداكن “siniy” مما يجعلهم يفرقون بين لونين مختلفين.
وأيضًا نجد أن متحدثي لغة الزوني (لغة قبيلة هندية) لا يتسنى لهم التفرقة بين اللون البرتقالي والأصفر، لماذا؟ لأنه لا فرق بينهما في لغة الزوني.
تأثير اللغة لا يقتصر على كيفية رؤيتنا للعالم، ولكن يتعدى ذلك إلى طريقة فهمنا له. عالم السلوك الاقتصادي كيث تشن Keith Chen على سبيل المثال، صبّ اهتمامه على المقارنة بين أنماط تفكير متحدثي اللغات المتضمنة لزمن المستقبل وغير المتضمنة له. اللغات المتضمنة لزمن المتسقبل مثل الإنجليزية، تُميّز بين أزمنة الماضي والحاضر والمستقبل، بينما اللغات التي ليس فيها فعلٌ لزمن المستقبل مثل الصينية، تستعمل نفسَ العبارات لوصف أحداث الأمس واليوم والغد.
استخلص تشن Chen من ذلك أنه إذا ما كنت تتحدث بلغة تستعمل أو لا تستعمل زمن المستقبل له تبعات لا يمكن التغاضي عنها على موقفك حيال المستقبل. وبناءً لمقال TED يمكن تلخيص بحثه كالتالي:
إن متحدثي اللغات غير المتضمنة لزمن المستقبل يقرون بادخارهم في أي عام بنسبة أكثر بـ 30% من متحدثي اللغات الأخرى. وهذا يسفر عن زيادة المدخرات بنسبة 25% قبل التقاعد، مع افتراض ثبات الدخل، وتفسير تشن لذلك هو أنه عندما نتحدث عن المستقبل على أنه مغاير بدرجة كبيرة للحاضر، فإنه يبدو بعيدًا جدًّا، فتقل همتنا لادخار المال الموجود الآن لصالح رفاهٍ مادي في مستقبل بعيد الأمد.
ومن ذلك يبدو أن اللغات التي نتحدث بها تنسج كل أفعالنا: بداية من تناولنا لخبراتنا ونهاية بسلوكنا. والسؤال هو لماذا؟ لماذا يمكن للغة – وهي في ظاهرها شيء اعتباطي مكون من أصوات ورموز لا تمت للمعنى بصلة عند غير أهلها – أن تؤثر تأثيرًا عميقًا على كيفية تعاطينا مع العالم؟
كيفية تعاطي الكائنات المختلفة مع الواقع
في علم السلوك الحيواني تشير الكلمة الألمانية umwelt (تمحور العالم حول النفس، أومركزية النفس بالنسبة للعالم) إلى كيفية تعاطي الكائنات المختلفة مع الواقع. فطريقة الخفاش مثلًا تختلف تمامًا عن طريقة الشمبانزي. فمن ناحية نجد أن الكائنات الليلية ذات الأجنحة تستعيض عن الرؤية المباشرة بإرسال موجات صوتية عالية التردد ثم تستقبل ارتدادها فتتبين طريقَها. ومن ناحية أخرى يوجد إنسان الغاب، وطريقة تعاطيه مع العالم تشبه إلى حد كبير طريقتنا، فتراكيب مخ الشمبانزي وحواسه، من سمع وبصر وشمّ ولمس تشبه إلى حد كبير نظيرتها لدى الإنسان.
لم تتكون طريقةُ تعاطيك للواقع من الإدراك الحسي وحسب، بل من مفاهيمك حيال العالم أيضًا، هي مفاهيم اكتسبتها من الثقافة. وبالطبع الرؤى الثقافية للسلالات المختلفة أدت إلى معطيات حتمية، كالتالي:
لكل من الحوت القاتل والدلفين لغات وأدوات مختلفة… قرد الكبوشي في أمريكا الوسطى والشمالية له 13 عادة اجتماعية مختلفة، بينما شعوب إنسان الغاب تتنوع لغتها وأدواتها وأعشاشها وباقي متعلقاتها. الأمثلة من ثقافة الشمبانزي تبدأ من عاداتهم الاجتماعية مثل الطريقة التي يمسكون بها أيديهم في العرس، حتى تصل إلى كيفية تزاوجهم، مرورًا بنوعية الأدوات المستخدمة لتكسير البندق.
ولهذا فإن طريقة تعاطي تلكم الكائنات من حيتان ودلافين وقردة ليست محكومة بالكيمياء فقط، ولكن أيضًا بالثقافة، لذلك كما تشكل الثقافةُ طريقةَ تعاطي الحيوانات مع الواقع، فإنها بشكل أساسي حتمي تشكلها أيضا لدى الإنسان، فاستخدامنا للغات متطورة يفتح أفقا لمشاركة مفاهيم أقيم، كما أوضح معهد Jane Goodall:
“يعتقد الكثيرون أن حيوانات الشمبانزي لم تطور ثقافة تحاكي ثقافة البشر لافتقارهم إلى لغة متطورة”.[1]
الصخب الذي نصنعه، التعابير التي نرسمها، الرموز التي نستخدمها، جميع ما نتشارك فهمه حيال بعضنا البعض يعزز البناء المفاهيمي الناسج لواقعنا. لهذا السبب فإن للغة تأثيرًا مؤسسًا لوعينا المعرفي: سياق طرق تعاطينا الفردية مع الواقع يتبلور كلية من خلال الثقافة التي ننتمي إليها وللغة تواصلنا.
العوالم المعرفية من حولنا
تعقيبًا على كثرة اللغات حول العالم، أوضحت بورودتسكي Boroditsky أنه: يكمن جمال التنوع اللغوي في إبرازه لمدى إبداع ومرونة العقل البشري، فالعقل البشري لم يبتكر عالمـًا معرفيًّا واحدًا، بل 7000!
فكرة أننا ابتكرنا عوالم المعرفة من حولنا قوية، وتبعث في النفس القوة. في اللغات يمكن لمفردة متخصصة أن تمنحك مجموعة مفاهيمية عميقة مفصلة تثري فهمك لموضوع ما. فمثلًا لكل من المهندس والرسام طريقته في وصف الجسر، ولكل من عازف الكمان وقارع الطبول طريقته لسماع الموسيقى، ولكل من الطاهي والمتذوق الناقد طريقته لوصف الطعام.
بافتراضنا أن كل لغة هي عالم معرفي، فإن مجرات من المفردات داخل هذا العالم هي اهتماماتنا وتخصصاتنا، ومجرات أخرى بانتظارنا لاستكشافها.
اللغة شيء غريب ورائع، تضعنا في سياقها وتمكننا من مشاركة خبراتنا، كما نوسع آفاق عوالمنا المعرفية بزيادة مخزوننا اللغوي، ومن ثم يرتقي فهمنا للعالم ولبعضنا البعض ولأنفسنا. لذا ما أنت فاعل لو كانت طريقة تعاطيك مع العالم بيدك، وكيف ستشكلها؟
[1] – هذه وجهة نظر الكاتب، ولا تعبر بالضرورة عن رأي المنصة. -الإشراف.