عام

التعبيرات العاطفية كالحب، ومعانيها المتعددة في اللغات

  • ديانا كوون
  • ترجمة: سارة بن عمر
  • تحرير: المها العصفور

 

يمتلك البشر مجموعةً زاخرةً من الكلمات للتعبير عما يخالجهم من شعور. بعض هذه الكلمات لا يمكن ترجمتها بسهولة بين اللغات، فالألمان مثلا يستعملون كلمة فيلتشميرتس “Weltschmerz” للتعبير عن الشعور بالحزن الذي يتسبب فيه وضع العالم، أما السكان الأصليون لبابوا بغينيا الجديدة يلفظون “أوومبوك” (awumbuk) ليصفوا “الصُّداع الاجتماعي” وما يخلفه من أناس غير متحمسين وفاترين لأيام إثر مغادرة ضيوف مكثوا طوال الليل.

إن بعض العبارات الأخرى التي تبدو مشتركة على الأرجح نحو “خوف” (fear) تُترجم إلى “تاكوت” (takot) بلغة التاغالوغ و”أوتي (ótti) باللغة الآيسلندية. هذه المتشابهات والمختلفات تطرح تساؤلا: هل تعبُر الطريقة التي نختبر بها المشاعر الحدود الثقافية؟

لقد تساءل العلماء طويلاً عما إذا كانت  مشاعر الإنسان تشترك في جذور عالمية أم أنها تتنوع حسب الثقافات. أشارت الأدلة الأولى إلى وجود مجموعة أولية من المشاعر تنبثق منها كل الأحاسيس الأخرى بنفس الطريقة التي تتولد بها كل الدرجات اللونية انطلاقًا من الألوان الأولية. على سبيل المثال، في سنة 1970، أعلن باحثون أن أناسًا يعيشون في مجموعة منعزلة ثقافيًا في بابوا بغينيا الجديدة كانوا قادرين، وبصورة صحيحة، على تحديد التعبيرات العاطفية التي ظهرت في صور التُقِطت لوجوه غربيّة وكان ذلك بمعدلات أعلى من تكون محض صدفة. “لقد اعتُمد ذلك بشكل موسّع كدليل على أن الناس حول العالم باستطاعتهم فهم المشاعر بالطريقة عينها”، هذا ما جاء على لسان “كريستن ليندكويست” (Kristen Lindquist) أستاذة مساعدة في علم النفس والأعصاب بجامعة “كارولاينا الشمالية” في “تشابل هيل”.

ولكن دراسات حديثة اعترضت على هذه الفكرة. إن أعمالًا صادرة من مجالات متنوعة كعلم النفس والأعصاب والإنسان (أنثروبولوجيا) قدمت الدليل على أن الطريقة التي يعبر بها الناس ويختبرون المشاعر يمكن أن تتأثر وبشدة بتنشئتنا الثقافية. ومع ذلك فإن العديد من هذه البحوث يشوبها القصور، بل إن معظمها نظر فقط في المقارنات بين ثقافتين أو ركز على الدول الصناعية الكبرى، وكما قال جوشوا جاكسون (Joshua Jackson) وهو طالب في مرحلة الدكتوراة تخصص علم النفس بتشابل هيل: “إننا لم نملك حقًا الطاقة لاختبار (عالمية المشاعر) بالدرجة الكافية.

للتحري عن مسألة المشاعر المشتركة، اجتمع كل من جاكسون، ليندكويست وزملاؤهم مع باحثين من معهد ماكس بلانك لعلم التاريخ البشري بمدينة يانا في ألمانيا في واحدة من أكبر دراسات التعبيرات العاطفية العابرة للثقافات حتى يومنا هذا. لقد اعتمد هذا العمل، الذي تم نشره الآن في مجلة ساينس (Science)، على  مفردات مأخوذة من 2474 لغة  وقد أفصح عن قدر كبير من التباين في الطريقة التي يُعبّر بها عن المشاعر لُغويا كما أنه أبرز ما تضمنته من بعض القواسم المشتركة. يقول جاكسون “لقد ناقش علماء النفس لمدة طويلة عما إذا كانت المشاعر عالمية أم متغيرة عبر الثقافات وأعتقد أن ما تظهره هذه الورقة البحثية هو أن كلا الجانبين لديه شيء من الأحقية”.

لفحص هذا التقلُّب في التعبيرات العاطفية، استعمل الباحثون أدوات حسابية لخلق قاعدة بيانات ضخمة مما يتفق لفظه ويختلف معناه (colexifications) وهي الحالات التي يكون فيها للكلمة الواحدة عدة معان. من ضمن الأمثة نجد كلمة “روكا” (ruka) والتي تعني كلاً من اليد والذراع في اللغة الروسية وكلمة “فاني” (funny) التي تعني كلاً من الغريب والمضحك في الإنجليزية. لقد بيّنت تحقيقات سابقة أن الكلمات غير الشعورية التي تتفق في اللفظ وتختلف في المعنى تميل إلى أن تكون لديها خصائص مشتركة فكلمات تصف “بحر” و “ماء” تكون أكثر احتمالاً لتقترن ببعض من تلك الكلمات التي تصف “شمس” و”ماء” وهذا ما يشير إلى أن متحدثي اللغة يدركون أوجه تشابه بينها.

ثم قام الفريق باستخدام قاعدة بياناته لإنشاء شبكات من الكلمات المتفقة في اللفظ والمختلفة في المعنى بين 20 أسرة من اللغات (هي مجموعة من اللغات التي تشترك في السلف أو الأصل الذي تنحدر منه) لمقارنة المعجم المرتبط بالمشاعر عالميّا. لقد كشف ذلك عن اختلافات كبيرة في كيفية تصوّر المشاعر عبر الثقافات وذلك من خلال اعتماد مصطلحات أكثر تنوعًا بثلاث مرات من تلك التي تصف الألوان. على سبيل المثال، في بعض اللغات، نجد كلمات تفيد “التعجّب” (surprise) تتجه نحو التجمع مع مثيلاتها التي تفيد “الخوف”(fear)، بينما في لغات أخرى اقترن نفس المفهوم بحالات أكثر إبهاجًا مثل السعادة happiness). وبمزيد من التحليل وجد الباحثون أيضا أن هذا التنوع كان يعتمد جزئيًا على القرب الجغرافي للأسر اللغوية إذ كلما كانت أقرب كلما تقاسمت أكثر مشتركات لفظية. تقول ليندكويست :”إن هذا يشير إلى أي مدى يُرجّح أن يكون للثقافات اتصالًا تاريخيًا سواءً عن طريق التجارة أو الهجرة أو الغزو والتي سمحت لهذه الثقافات بالتفاعل وربما بنقل وباستعارة مفاهيم من بعضها البعض.”

من جهة أخرى، وجد الباحثون أيضا بعض أوجه التشابه الضمنية، إذ تميل الأسر اللغوية لتمييز المشاعر بناء على التكافؤ (أي إذا ما كانت مبهجة أو مزعجة) والتحفيز (أي مستوى الحماس الذي تثيره) ومن الأمثلة على ذلك نجد الكلمات التي تعبّر عن الفرح من المستبعد أن تتجمع مع تلك التي تعبر عن الندم. ومع ذلك توجد استثناء ات ففي بعض اللغات الأسترونيسية* (Austronesian languages)

 يقترن مفهوم الحب والذي عادة ما يكون شعورا إيجابيا بمفهوم الشفقة الذي يكون في العادة سلبيا.

يقول ويليام كروفت (William Croft)، أستاذ لسانيات في جامعة نيو مكسيكو والذي لم يشارك في هذا العمل:” هذه دراسة مهمة وربما هي المرة الأولى التي يتم فيها تحليل لمعاني الكلمات بهذا المستوى”. كما يضيف كروفت بأن من بين الأشياء المبتكرة في هذا المشروع هو ما تبرزه النتائج من أنماط عالمية وكذلك خاصة بالثقافات في آن واحد، ولكنه يشير مع ذلك إلى أنه سيكون من المهم مزيد النظر في العناصر الثقافية الكامنة نظرًا لأن البعض من هذه الأسر اللغوية يغطي عددًا كبيرًا من اللغات الممتدة على مساحة جغرافية واسعة.

تقول أسيفة ماجد (Asifa Majid) ، أستاذة علم النفس في جامعة يورك بإنجلترا أن هناك قصورًا آخر يعتري الدراسة ويكمن في طبيعة عدم الكمال الذي تتسم به الترجمات. هذه الحالة تبرز خصوصًا عندما يتعلق الأمر بكلمات يُقصد بها المشاعر والتي قد يكون من الصعب التعبير عنها في كلمات، كل ما يستطيعه اللغويون هو ترجمات تقريبية لمثل هذه المصطلحات أثناء توثيقهم لقائمات الكلمات التي يتم نشرها.  كما أضافت أسيفة أنه ومع ذلك فهذه النتائج تطرح سؤالًا مذهلاً حول تنوع الشعور الإنساني عبر الثقافات .

“أين نجد التنوع؟ هل هو في اللغة فقط أم أنه يعكس أيضا أمرًا أكثر عمقًا حول الكيفية التي يختبر بها الناس المشاعر؟”


*هي أسرة لغوية يُتحدث بها على نطاق واسع في كلٍ من التايوان وشبه جزيرة الملايو وجنوب شرق آسيا ومدغشقر وفي جزر المحيط الهادي.

المصدر: scientific american

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى