- كاتارينا زيمر
- ترجمة: إسلام أحمد
- مراجعة: خالد الشايع
- تحرير: ندى بنديسور
ليس غريبا على عالِم التقويم الجيولوجيّ راينر غرون (Rainer Grün) أن يعود بعظام بشريّة عند رجوعه إلى مسقط رأسه أستراليا من رحلاتٍ استكشافيّة في أوروبا أو آسيا. لقد قضت – عظام الفكّ لأشباه البشر في إندونيسيا، وأسنان لـ”إنسان نياندرتال“من إسرائيل، وعظام أصابع بشريّة قديمة اكتُشِفَت في المملكة العربيّة السعوديّة-؛ جميعها ، في مرحلةٍ ما، بعضَ الوقت في معمله بالجامعة الوطنيّة الأستراليّة [في العاصمة كانبيرا][1] قبل إعادتها إلى مَواطِنها. يتخصّص غرون في تطوير طرق للتعرف على عمر تلك العيّنات. وقد حمل معه في 2016م قطعةً ثمينة؛ وهي علبة فضية فيها شريحة من عظامٍ متحجّرة مغطّاة بلفافة فقاقيع (bubble wrap) داخل صندوق.
جاءت هذه القطعة من العظام من جمجمةٍ -ما تزال محفوظة في متحف التاريخ الطبيعيّ في لندن- ذات قوس حاجبي عريض ووجهٍ كبير. بدَت بدائيّة للغاية، لدرجةٍ جعلت عامل المنجم الذي اكتشفها في العام 1921م – في أحد مناجم الرصاص في مدينة كابوِي (Kabwe) بزمبابوي، التي كانت حينها تسمّى رُودِسيا وتتبع للإمبراطوريّة البريطانيّة – يعتقد ابتداءً أنّها عظام غوريلّا. ولكنْ في وقتٍ لاحق من ذلك العام (1921م)، لاحظ آرثر سميث وودوارد – عالِم الأحافير[2] بالمتحف – ما فسّره على أنّه سِمات بشريّة نموذجيّة، كالقِحْف[3] النحيف والكبير نسبيًّا، الأمر الذي دفعه إلى تصنيف العيّنة على أنّها نوعٌ خاصّ من أشباه البشر.
ولكن في ثمانينيّات القرن المنصرم، ألقى كريس سترينغر – عالِم الأحافير البشريّة[4] بالمتحف – نظرةً أخرى على الجمجمة، وصنّفها على أنّها جمجمةُ “إنسان هايدِلبِرغ” (Homo heidelbergensis)، وهو أحد أشباه البشر القُدامَى الذي يُعتقد أنّه من أسلاف البشر. يقول سترينغر إنّه، بناءً على بدائيّتها وبساطتها، خمّن معظم الباحثين أنّه كان فردًا مبكِّرًا عاش قبل حوالي نصف مليون سنة، أيْ قبل 200 ألف سنة من بدءِ ظهور أقدم “إنسان عاقل” (Homo sapiens)، ولكنّ أحدا لم يعلم بالضبط كم عمر تلك الجمجمة. فعلى مدى عقود، لم تكن هناك طريقة للتأريخ يمكنها تحديد عمر الأحفورة دون عمليّة مدمِّرة لها؛ تتمثّل في طحن أجزاء من عظامها من أجل تحليلها. إلّا أنّ غرون كان عازِمًا على إيجاد حلّ.
يُعَدّ غرون أحد علماء التقويم الجيولوجيّ القلائل جدًّا المتمرِّسين في تقنية تعمل بالليزر، يتمّ بها استخراج حبيبات من العظام تكون بالكاد مرئيّة، – إذ تكون أصغر من المسامات الطبيعيّة للعظام – وتصغيرها إلى ذرات، كما يقول. يقترن الليزر بمطياف الكتلة الذي يقيس تركيز نظائر اليورانيوم التي تشهد اضمحلالًا في النشاط الإشعاعيّ، بمعدَّل معيّن بمرور الوقت.
بعد عودته من رحلته للحصول على عيّنة “إنسان هايدِلبِرغ”، تابع غرون قيام أشعّة الليزر بإحداث ثُقبَين صغيرَين في قطعة العظام، واختفت الجُسَيمات في مطياف الكتلة. عند تقييم بيانات المطياف، استطاع معرفة أنّ عمرَ تلك الشريحة من العظام أصغر بكثير ممّا اعتقد سابقًا. وَفقَ ما كتبه هو وسترينغر وآخرون في مجلّة (Nature) في نيسان/أبريل 2020، فإنّ أقصى ما قدّروه لعمر تلك القطعة هو 299 ألف عامٍ، بزيادة أو نقصان 25 ألف عاما. ومعنى هذا أنّ ذلك الفرد في كابوِي لم يكن يعيش قبل زمن مَن يشبهون “الإنسان العاقل” في شمال أفريقيا، وإنّما في حدود الوقت نفسه. تشير نتائج الدراسة، إضافةً إلى دلائل أثريّة (أركيولوجيّة) أخرى، إلى أنّه ربّما لم يكن ”إنسان هايدِلبِرغ“ هو سَلَفُنا، وإنّما جارٌ لأسلافِنا.
ووجوده جنبا إلى جنب مع فئة أخرى من أشباه البشر تُدعَى ”إنسان ناليدي“ (Homo naledi)، يُعتقَد أنّها وُجدت في جنوبيّ القارّة الأفريقيّة في ذلك الوقت، يجعلنا نشك أن أفريقيا كانت مكانًا مزدحمًا. إذ يشيرسترينغر:
“أعتقد أنّ معظمنا، قبل عشر سنوات، كان يظنّ أنّ [سجلّ أحافير] أفريقيا في آخر 300,000 سنة لن يكشف لنا سوى تطوّر ’الإنسان العاقل‘ فحسب؛ وأنّ هذا كلّ ما في جعبته، إذ اختفَت وانقرضَت الأنواع الأخرى. أمّا الآن فنعلم أنّه كان هناك – على الأرجح – ثلاثة أنواع مختلفة من أشباه البشر على مقربة منه”.
وهذا الأمر يشبه الوضع الذي تكشّفت أخباره في أوراسيا، حيث عاش “إنسان نياندرتال” و”إنسان دينيسوفا” (Denisovans) لمئات الآلاف من السنين قبل هجرة “الإنسان العاقل” إلى خارج أفريقيا، بل تزاوَج في أوقاتٍ مع مجموعاتٍ أخرى من أشباه البشر.
مع ذلك، تظلّ الحكاية الإفريقيّة غامضة، إذ لم يستطع الباحثون إعادة تشكيل التاريخ البشريّ بتفاصيل حيّة، ويُعزَى ذلك جزئيًّا إلى ندرة وجود أحافير لأشباه البشر في أفريقيا، تقدِّم معلومات عن نشأة نوعنا البشريّ وتعايُشه مع أنواع أخرى. نتيجةً لذلك، تستمرّ اكتشافات من عيّنة جمجمة كابوِي في إثارةِ أسئلةٍ أكثرَ من تقديمِها إجابات. إذا لم يكن “إنسان هايدِلبِرغ” أحد أسلافنا القريبين، فمَن؟ وإذا كان نوعنا البشريّ قد تقاطع زمنيًّا مع “إنسان هايدِلبِرغ”، فما دوره في تاريخنا التطوّريّ؟
في السنوات الأخيرة، توافرت أدوات مفيدة وجديدة للمجال الذي ظلّ تقليديًّا يعتمد على اكتشافات الأحافير؛ وتلك الأدوات هي علم الجينوم (genomics)[5]، وتقنيات الحمض النوويّ القديم. وقد بدأ الباحثون في التنقيب عن التطوّرات المبكّرة لنوعنا البشريّ، مسلّحين بهذا المزيج من المناهج، ومُلمِحِين إلى ماضٍ أكثر تعقيدًا بكثير ممّا كان يُعتقَد سابقًا؛ ماضٍ غني بالتنوّع والهجرة، بل ربّما التزاوُج مع أنواعٍ أخرى من أشباه البشر في أفريقيا.
تقول إليانور سْكِرّي، عالِمة الآثار في معهد ماكس بلانك لعلوم التاريخ البشريّ في مدينة ينا الألمانيّة:
“لتجميع أبعاد تلك القصّة معًا، فنحن بحاجة إلى معلوماتٍ من عدّة حقول دراسيّة مختلفة؛ إذ لا يستطيع حقلٌ بمفرده أنْ يُقدِّم جميع الإجابات – لا علم الوراثة ولا علم الآثار ولا الأحافير قادرون على ذلك، لأنّ كلّ تلك المجالات تواجه تحدّياتٍ ولديها مواطن قصور”.
سجلّ أحفوريّ متناثر
تتفكّك العِظام بسهولة في كثيرٍ من أنحاء القارّة الأفريقيّة: في تربة الغابات الحمضيّة أو المناطق الجافّة المكشوفة للشمس. إضافةً إلى ذلك، لم تُستكشَف القارّة إلى حدٍّ كبير من قِبَل علماء الآثار. وتشير خادي نيانغ، من جامعة شيخ أنتا ديوب السنغاليّة [أو جامعة داكار]، إلى أنّه بَينما كان هناك إرثٌ طويل من الأبحاث الأثريّة المهنيّة في مناطق شمال غربيّ أفريقيا والأراضي التي كانت تحتلّها بريطانيا في شرقيّ وجنوبيّ القارّة الأفريقيّة، لم يٌنقِّب سوى عدد قليل من الباحثين عن الأحافير في مناطق أخرى [من القارّة]. وهذا هو الحال على وجه الخصوص في الأجزاء الغربيّة والوُسطى من القارّة، حيث ظروف الحفظ والحماية أيضًا سيّئة، وتصعُب عمليّات التنقيب في بعض الأوقات بسبب حالة انعدام الاستقرار السياسيّ. وتضيف جِسيكا تومبسون، عالِمة الأنثروبولوجيا بجامعة ييل [الأمريكيّة]، “ربّما نفتقد بعض الأجزاء شديدة الأهمّيّة من القصّة”.
ما توضّحه أحافير أشباه البشر الأفريقيّة هو مدى عمق جذور البشريّة في تلك القارّة. فقد اكتشف الباحثون بعضَ الأحافير الأكثر وفرةً في الرواسب، يتراوح عمرُها بين 3.5 ملايين إلى 3.2 ملايين عام. ويبدو أنّ تلك الفترة كانت ذروة انتشار “القِرَدَة الجنوبيّة” (Australopithecus)، وهي قِرَدَة كانت تمشي مُنتصِبةً [على رِجلَين]، ويُعتقد أنّها كانت تستخدم أدواتٍ حجريّة، ولكنّها مع ذلك ظلّت تتسلّق الأشجار وتمتلك أدمغة صغيرة نسبيًّا. يُعتقَد أنّ جنسَنا البشرانيّ (Homo) قد ظهر من نوعٍ من القِرَدَة الانتقاليّة منذ مليونَي و800 ألف عامٍ كعشيرةٍ من أشباه البشر بأسنان مميَّزة، وربّما تكيّفت مع حمية غذائيّة انتقائيّة أتاحت لها النموّ والازدهار في نطاقٍ واسع من المَواطِن. غير أنّ هناك رواسب قليلًا – ناهيك عن الأحافير – التي خُلِّفت من ذلك الزمن؛ الأمر الذي يجعل نشأةَ جنسِنا إحدى أكثر الفترات التي لم يتمّ فهمها جيّدًا في قصّة تطوّرنا، كما تُشير تومپسون.
يُظهِر سجلّ الأحافير مزيدًا من الأسرار عن الوقت الذي أعقَبَ ظهورَ البشرانيّين (Homo) بفترة وجيزة، الأمر الذي يكشف تنوّعًا في الأنواع البشرانيّة المختلفة في أفريقيا، ويبدو أنّ “الإنسان المُنتصِب” (Homo erectus) استمرّ خلال ذلك الوقتِ المدّةَ الأطول. ظهر “الإنسان المُنتصِب” بشكلٍ مفاجئ في السجلّ الأحفوريّ المحدود لأفريقيا منذ حوالي مليونَي عامٍ، واستمرّ في القارّة مدّةَ مليون عام تقريبًا. وقد كان الأوّل من بين أشباه البشر؛ الذي أظهر دلائل على أنّه عاش في تكتّلات اجتماعيّة، تشبه تجمّعاتنا البشريّة، واستخدم النار، ويُعتقَد أنّه من أسلاف البشر. ولكنْ من غير الواضح إطلاقًا متى وكيف ظهَر “الإنسان العاقل”، ولكنّ ما يبدو هو أنّنا لم نكن وحدنا؛ فالأحافير تُشير إلى أنّ أنواعًا عدّة من أشباه البشر – كالتي تمثّلها جمجمة كابوِي – قد عاشت في القارّة خلال الوقت الذي ظهر فيه نوعُنا. يعتقد أيضًا أنّ أحد أشباه البشر ذو الدماغ الصغير نسبيًّا، وهو “إنسان ناليدي”، قد عاش في جنوبيّ القارّة الأفريقيّة منذ حوالي 300 ألف عام. وقد عُثر في كهفٍ مغربيّ، يُدعَى جبل إيغود، على هياكل عظميّة عمرها 300 ألف عامٍ أيضًا، تحمل شيئًا من السِّمات الأولى “للإنسان العاقِل”. لكن، كما يُشير سترينغر، لا يُعرَف حتّى الآن كم عاشت تلك الأنواع المختلفة من أشباه البشر، أو ما إذا كانت بينها سمات جسديّة مشتركة، وربّما حملت مورِّثات (جينات) مشتركة، أو إنْ كانت هناك أنواعٌ أخرى.
قبل حوالي 160 ألف عام، بدأت مجموعة السمات الجسديّة التي تميّزنا اليوم – من قَبيل الدماغ الكرويّ والذقن المدبَّب – في الظهور لدى مجموعات أشباه البشر القُدامَى، التي تمثّلها الأحافير المُكتشَفة في أنحاء أفريقيا. لاحقًا، ربّما في عدّة مناسبات، اجتازَ بعضُ هؤلاء البشر المعاصِرين الشريط البرّي الضئيل الذي يربط بين أفريقيا وأوراسيا. في تلك القارّة الجديدة [أوراسيا]، التقوا أخيرًا بـ”إنسان نياندرتال”و”إنسان دينيسوفا”، الذين يُعتقَد أنّهم الناتج التطوّريّ عن هجرات مبكّرة لأشباه البشر من القارّة [الأفريقيّة]، تمامًا كنوعي أشباه البشر الآخرين بحجم هوبيت (hobbit-size)[6] اللذَين عُثِر عليهما في الجزر الآسيويّة الجنوب-شرقيّة. تقول تومپسون:
“كانت أفريقيا تشبه صنبورًا مفتوحًا، وكان أشباه البشر ينسابون منه طوال الوقت”.
عزّزت الاكتشافات الأحفوريّة على مرّ السنين، بثبات، فكرةً راسخة منذ أمد طويل تقول إنّ البشر المعاصِرين تشريحيًّا قد ظهَروا في أفريقيا. افترَضَ نموذج “الخروج من أفريقيا” هذا، الذي اقترحه علماء الأنثروپولوجيا في أواخر القرن العشرين الميلاديّ، أنّ جميع البشر ذوي الأصول الأوراسيّة ينحدرون من سلفٍ أفريقيّ واحد، انتشرَ لاحقًا في أرجاء العالم، وأزاحَ جميع أشباه البشر الآخرين. على العكس من ذلك، يتصوّر نموذج “التعدّديّة الإقليميّة” (multi-regionalism) المقابل أنّه كان هناك العديد من المجموعات السكّانيّة البشريّة الفرعيّة – نشأت من سلالات إقليميّة لنوعٍ من الأسلاف كـ”الإنسان المُنتصِب” – في أرجاء أوروبا وآسيا وأفريقيا، وأنّها تطوّرت معًا عبر امتزاجٍ متواصل، لتشكّل المجموعات البشريّة المعاصِرة.
بَينما دعمت الأحافيرُ النظريّةَ السابقة، كان ظهور البحث الجينيّ هو ما أوضَحَ بلا لُبسٍ أنّ المجموعات البشريّة خارج أفريقيا انحدرَت من مجموعة سكّانيّة واحدة في أفريقيا. ولكن؛ كان للقصّة منعطَف: في دراستين مهمّتَين نُشِرتا في العام 2014، قارن الباحثون بين الحمض النوويّ القديم المستخرَج من عظام “إنسان نياندرتال” بالحمض النوويّ لأناسٍ من الحاضر، ووجدوا أنّ 2٪ من الجينوم الأوروبي العادي له أصول في “إنسان نياندرتال”. لذا فإنّ نوعنا البشريّ قد نشأ في أفريقيا، ولكنّه تزاوَج مع أشباه بشر آخرين خارجها.
ألقت تلك النتائج، وكثيرٌ غيرها منذ ذلك الحين، الضوءَ على قوّة علم الوراثة في حلّ الإشكاليّات الدائرة حول أصل الإنسان، التي لا تستطيع الأحافير وحدها حلّها. وتجري اليوم تحقيقات في جينوم الأفارقة الأحياء للإسهام في سدّ الثغرات الموجودة في السجلّ الأحفوريّ للقارّة. تقول سيرينا توتشي، أستاذة علم الأحياء التطوّريّ بجامعة ييل Yale الأميركيّة:
[مثل تلك الدراسات] تقدِّم رؤىً مهمّة حقًّا حول تاريخنا كسكّان للعالم وأصولنا الأفريقيّة. فقد بدأنا نتعرّف على العمليّات التي وقعت في وقتٍ مبكّرٍ جدًّا من تاريخنا التطوّريّ ونفهمها”.
أشباح أشباه البشر
كذلك أوائلُ التحقيقات في أسلافنا وراثيًّا (جينيًّا)، المُستقاة من قطع صغيرة من الموادّ الوراثيّة (جينيّة) قد اعتبرَت أفريقيا مهدًا للإنسانيّة. فقد قارنت دراسة منشورة على نطاقٍ واسع في العام 1987م بين نُتَفٍ من مورِّث الميتوكوندريا (mitochondrial gene) جُمِعَت من 147 شخصًا عبر العالم، وخلصَت الدراسة إلى أنّ الأفارقة لديهم أعلى نسبة تنوّع في الميتوكوندريا، الأمر الذي يشير إلى أنّ نوعنا البشريّ نشأ في أفريقيا وقضى معظم تاريخه التطوّريّ فيها. على وجه التحديد، أرجَعَ مؤلّفو الدراسة جميعَ أشكال التنوّع في المُتقدِّرة البشريّة إلى امرأةٍ متخيَّلة واحدة عاشت في شرقيّ أفريقيا منذ مئات الآلاف من السنين، تحدّث عنها الإعلام كثيرًا باسم “حوّاء الميتوكوندرية” (mitochondrial Eve). بَينما قدَّرَت دراساتٌ لاحقة أنّ السلف المشترك الأحدث للتبايُن الحديث في الصبغيّ Y (الذي أُطلِق عليه “آدم الصبغيّ Y”) يمكن أيضا إرجاعُ أصله إلى أفريقيا.
برهنت الدراسات اللاحقة للحمض النوويّ صحّة كون مسقط رأس البشريّة هو أفريقيا، وصقلت معارفنا حول المشهد الوراثيّ البشريّ. وأشارت عدّة دراسات للتبايُن الوراثيّ (الجينيّ) بين أفراد مجموعتَي الخويخوئيّين (Khoe) وشعبِ سان (San) في العصر الراهن – وهما مجموعتان من السكّان الأصليّين في جنوبيّ القارّة الأفريقيّة تُعرَفان بلغات الطقطقة –، إلى أنّ هاتَين الجماعتَين البشريّتَين تمثّلان السلالة الأكثر تنوّعًا – من الناحية الوراثيّة (الجينيّة) – لنوعنا البشريّ. يُعرَف هذان الشعبان معًا باسم خويسان، ويُعتقَد أنّ هذه الجماعة البشريّة قد انفصلَت عن السكّان الآخرين منذ حوالي 200 ألف عام إلى 350 ألف عام، وهو ما يجعلهم أقدم مجموعة من البشر المعاصِرين افتراقاً. فيما يمثّل غير الأفارقة مجموعة فرعيّة مختزَلة للتنوّع الكائن في القارّة الأفريقيّة، ومن الراجح أنْ تعود أصول معظمهم إلى مجرّد فئة سكّانيّة واحدة صغيرة – ربّما لا تزيد عن أكثر من بضعة آلاف فرد – ، تجرأت على الخروج من القارّة فيما بين 60 ألف عام إلى 70 عام مضت.
يرى بعض العلماء أنّ هذا التنوّعَ الاستثنائيّ في أوساط شعب خويسان؛ دليلٌ على أنّ نوعنا البشريّ قد ظهر في جنوبيّ القارّة الأفريقيّة. وإلى جانب بعض الأدلّة الأثريّة (الأركيولوجيّة) المكتشَفة في المنطقة، يمثّل هذا الأمر تحدّيًا للفكرة الراسخة القديمة التي تقول بأنّ أصل البشريّة هو شرقيّ القارّة الأفريقيّة، وهي الفكرة التي قامت على حقيقة أنّ كثيرًا من الأحافير الأولى لأشباه البشر وُجدَت هناك. مع ذلك، عادةً ما تُنتقَد محاولة تعيين موقع دقيق لأصول نوعنا البشريّ من تحليل الحمض النوويّ لسببٍ بسيط هو أنّ الناس ينتقِلون من مكانٍ إلى آخر؛ وليس معروفًا إنْ كان الناس الذين يعيشون في مكانٍ ما اليوم قد عاشوا فيه منذ مئات أو آلاف السنين. في الواقع صاغ بعضُ الباحثين، ومنهم سْكِرّي وسترينغر وتومپسون، نظريّةً جديدة تمامًا حول أصول البشر، مفادُها أنّ الإنسان المعاصِر – من الناحية التشريحيّة – لم يظهر من موضعٍ واحد، وإنّما نشأ تدريجيًّا من شبكةٍ من السكّان المترابطين الذين انتشروا في أرجاء أفريقيا؛ في فورةٍ قارّيّة من تشارُك وتقاسُم المورِّثات (الجينات)، ربّما شاركت فيه سلالات أشباه البشر فضلًا عن سلالتنا. تقول نيانغ: ”إنّها طريقة جيّدة لتفسير البيانات التي بحوزتنا الآن“.
يهتمّ الباحثون أيضًا – بالإضافة إلى اهتمامهم بموقع نشأتنا- بكيفيّة ذلك: أيُّ المورِّثات منحنا ميزةً انتقائيّة للبقاء في بيئاتٍ معيّنة؟ وأيُّ أسلافنا أسهمَ في تركيبة الجينوم لدينا؟ لسوء الحظّ فإنّ تمثيل الحمض النوويّ الأفريقيّ الحديث منخفض بشدّة في الأبحاث الوراثيّة (الجينيّة)، الأمر الذي يجعل هذه الأسئلة عصيّة بشكلٍ خاص على الجواب. فمعظم تسلسلات الجينوم من أصول أوروبيّة، مع نسبة أقلّ من 2٪ من أصولٍ أفريقيّة. يُضاف إلى هذه الندرة في الجينوم الأفريقيّ، حقيقةُ أنّ السِّقالة الوراثيّة (الجينيّة) الكامنة خلف بعض السمات التي دُرِست بشكل متكرّر – كتصبُّغ الجلد –، تبدو أكثر تعقيدًا بكثير في الأفارقة ممّا هي عليه في غيرهم من المجموعات السكّانيّة، كما تُشير برينا هين، المتخصّصة في علم الوراثة السكّانيّة بجامعة كاليفورنيا (داڤيس)؛ مضيفة:
“المورِّثات الاثنتا عشر إلى الخمسة عشر [الخاصّة بتصبُّغ الجلد] التي يُشير الباحثون إلى وجودها في سكّان أوراسيا لا تفسّر سوى 25٪ من التبايُن لدى الأفارقة”.
يَزيد تاريخُ سكّان أفريقيا الأمورَ تعقيدًا؛ فقد دفعَت الهجراتُ الواسعة النطاق الناسَ جِيئةً وذهابًا عبر القارّة لآلاف السنين. أمّا شعوب أوراسيا فهاجرَت أيضًا عودةً إلى أفريقيا. وحيثما انتقل الناس، تبادَلوا المورِّثات (الجينات) مع السكّان المحلّيّين، فاختلطَت أنماط النسب على نطاق الجينوم الإفريقيّ. وكما تشير سارة تيشكوف أستاذة علوم الوراثة بجامعة بنسلڤانيا الأميركيّة، فإن هذا الاضطراب في بنى المجتمعات القديمة يمثّل إحدى أكبر التحدّيات عند محاولة استخلاص التاريخ القديم من الجينوم الحديث. وتضيف:
“قد يجعل الأمر معقّدًا جدًّا لتمييز ذلك التاريخ الأقدم مع وجود هذه الموجة الأحدث من التدفّق الوراثيّ (الجينيّ) التي تعبث بعمليّة النمذجة التي يقوم بها المرء [أثناء البحث]”.
غير أنّ علماء الوراثة استطاعوا، مع ذلك، استخلاص بعض الإشارات عن ماضينا السحيق، باستخدام النماذج الحاسوبيّة التي تلتمس كشف أيِّ نوعٍ من العمليّات التطوّريّة – كالطفرات والانتخاب والتزاوُج مع الجماعات البشريّة الأخرى – تشرح بشكلٍ أفضل نمطَ التبايُن القائم في الجينوم الحديث. أحد الاكتشافات المثيرة من تلك الدراسات، هو دليل محتمَل على الاختلاط مع مجموعات من البشر المعاصِرين التي انقرضَت ولم تعد الآن معروفة، ومع أشباه البشر الآخرين: ”أشباح“ من السكّان الذين خلّفوا – تمامًا مثل “إنسان نياندرتال” – آثارَهم في الجينوم المعاصِر. في تحليلٍ لـ 15 جينومًا متسلسِلًا، درسَت مجموعة تيشكوف مصادر التبايُن الوراثيّ (الجينيّ) في ثلاث جماعات أفريقيّة قائمة على الصيد وجمع الثمار. أشارت نماذج الفريق إلى أنّ التزاوُج مع نوعٍ من أشباه البشر القُدامَى – الذين بَدَا أنّهم مختلفين عن البشر المعاصِرين، تمامًا كاختلاف ”إنسان نياندرتال“ عنهم – كان هو الأصل الأرجح لمجموعةٍ من التسلسلات غير العاديّة التي وجدوها. تقول تيشكوف:
“باختصار، يكون النموذجُ الذي يشمل ”أشباحًا“ من السكّان دائمًا أفضل [ملاءَمةً للبيانات]”.
كشفت حفنة من الدراسات المماثلة أيضًا عن آثارٍ لأشباحٍ أشباه البشر في الجينوم الأفريقيّ الحديث، تصل أحيانًا [تلك الآثار] إلى ما يقرب من 10 إلى 20٪ من التبايُن الوراثيّ [الجينيّ]. وتشير بعضُ الأبحاث إلى أنّ الاختلاط وقَعَ بعد أنْ غادر أسلافُ الأوراسيّين المعاصِرين القارّةَ الأفريقيّة، مشيرِةً إلى أنّ أنواعًا أخرى من أشباه البشر ربّما تواجَدت إلى جانب ”الإنسان العاقل“ في أفريقيا إلى وقتٍ قريبٍ جدًّا. تقول هينّ، التي لم تُشارِك في تلك الدراسات:
“في الحقيقة هذا مُقنِع جدًّا. 10٪ من الجينوم! سأجد صعوبة في استحضار عمليّة واحدة أخرى يمكنها شرح إشارة من هذا القَبيل”.
في نهاية المطاف، يحتاج الباحثون إلى عيّناتٍ من الحمض النوويّ لأشباه البشر القُدامَى، لإثبات ما إذ كانت الأنواع الأفريقيّة القديمة قد ساهمت بالفعل في التبايُن الوراثيّ (الجينيّ) المعاصِر. إذ بَينما استطاع العلماء التغلّبَ على بعض العقبات التقنيّة للأحافير البشريّة في أفريقيا، المتمثّلة في تحديد تسلسُل الحمض النوويّ القديم المتدهور للغاية، فإنّ أقدم حمض نوويّ بشريّ عُثِر عليه في القارّة لا يتعدى عمره 15 ألف عام، وهو عمرٌ ضئيل للغاية مقارنةً بـ 400 ألف عامٍ؛ هي عمر الحمض النوويّ لأشباه البشر الذين عُثِر عليهم في كهفٍ إسپانيّ، في درجات حرارة مستقرّة و باردة نسبيًّا. وتشير تيسّا كامبيل، المتخصّصة في الأحماض النوويّة القديمة بمتاحف إيزيكو في جنوب أفريقيا، إلى أنّ علماءَ الآثار لا يملكون سوى أنْ يحلموا بالعثور على حمضٍ نوويّ غير مصابٍ بأذىً، يكون بهذا القِدَم في القارّة الأفريقيّة؛ مُضيفةً:
إنّه “لا أحدَ يرغب في قولِ [إنّ هذا غير ممكن] أبدًا، ولكنّه [في الواقع] مستبعَد جدًّا”.
ولأنّه من غير المرجَّح أنْ يعيش الحمض النوويّ مدّةً طويلة في الأجواء الأفريقيّة، لَطالَما أحجَمَ الباحثون عن التنقيب في الأحافير التي عثروا عليها لأشباه البشر في أفريقيا، خوفًا من تدميرها. إلّا أنّ هناك جهودًا ما تزال تُبذل اليوم لدراسة الحمض النوويّ القديم لأحافير عمرها أصغر من “الإنسان العاقل”؛ لحلّ ألغاز أخرى حول التاريخ الإنسانيّ في القارّة، كما تُشير توتشي بقولها: إنّ “هذا بالتأكيد عهدٌ جديد في علم الجينوم الأفريقيّ”.
تنقيب قارّة يشكّ عددٌ من الباحثين في أنّ ”الإنسان العاقل“ (Homo sapiens) قد ظهر في مكانٍ واحد من القارّة الأفريقيّة، معتقدِين أنّه ظهر في أرجاء القارّة كافّةً، فنشأ من شبكةٍ من مجموعاتٍ مترابطة من أشباه البشر. ولكنْ على مدى عقودٍ حدّد علماءُ الآثار شرقيّ القارّة وجنوبيّها كمواضع هامّة لتطوّر أشباه البشر وكمسقط رأسٍ مفترض لجنسنا البشريّ. ربّما كان هذا على الأرجح لأنّ الأحافير – ومنها اكتشافات مهمّة أحدثَت تحوّلات في فهمنا للتطوّر البشريّ – عُثِر عليها في هذه المناطق. |
كابوِي، زامبيا، 1921م
جمجمة كابوِي، منذ 300 ألف عام تسمّى أيضًا ”جمجمة بروكِن هيلّ“، وتُعتبَر هذه العيّنة تمثيلًا ونموذجًا لـ”إنسان هايدِلبرغ“ (Homo heidelbergensis). |
بالقرب من آسفي، المغرب، 1961م
بقايا بشريّة في جبل إيغود، منذ 315 ألف عام
ربّما تمثّل شفرات الصوّان والهياكل العظميّة التي تشبه هياكل ”الإنسان العاقل“ (Homo sapiens)، المُكتشَفة في كهف جبل إيغود المغربيّ، أقدَم القطع الأثريّة لذلك ”الإنسان العاقل“. ولدى هذه الهياكل العظميّة سِمات حديثة، كالجمجمة المستديرة وأسنان ووَجه يشبهون أسنان الإنسان الحديث ووَجهَه. |
حديقة أومو الوطنيّة، إثيوپيا، 1967-1974م
بقايا أومو كيبيش، منذ 195 ألف عام
قطع من عظام جمجمتَين، وأربعة فكوك، وقطعة من عظام الساق، وبضع مئات من الأسنان، وبعض العظام الأخرى التي عُثِر عليها في موقع أثريّ في إثيوپيا، وصُنِّفَت تشريحيًّا على أنّها من نوع ”الإنسان العاقل“ (Homo sapiens). |
منطقة عَفَر، إثيوپيا، 1974م
”لوسي“، منذ 3 ملايين و200 ألف عام
تُعَدّ لوسي – وهي بقايا الهيكل العظميّ لأنثى القرد الجنوبيّ العَفَرِيّ (Australopithecus afarensis) – إحدى أشهر أحافير أشباه البشر. وتُشير دراسات إلى أنّها كانت تقطن الأشجار وبإمكانها المشي في وضعٍ مستقيم، الأمر الذي وفر نقطة انطلاق تطوّريّة مهمّة من قِرَدَة بدائيّة إلى الإنسان المعاصِر. |
بحيرة توركانا، كينيا، 1984م
”فتى توركانا“، منذ مليونَي عام
هيكل عظميّ شبه كامل لطفل من العهود القديمة من فئة ”الإنسان المُنتصِب“ (Homo erectus)، عُثِر عليه بالقرب من بحيرة توركانا في كينيا؛ ويمدّنا بلمحة نادرة عن مدى سرعة وصول هذا النوع إلى البلوغ، ومدى الشبه بين هيكلهم العظميّ وهيكلنا اليوم. |
كهف رايزنغ ستار، جنوب أفريقيا، 2013م
إنسان ناليدي، منذ 236 ألف إلى 335 ألف عام
في العامَين 2013م و2014م، عثَرَ مستكشفو الكهوف على هيكلَين عظميَّين لِبالغَين وصبيٍّ من نوعٍ يُعتقد أنّه نوعٌ جديد، يُدعَى ”إنسان ناليدي“ (Homo naledi). يُشِير دماغه الصغير وأكتافه التي تشبه القِرَدَة – ممّا يَشِي بأنّه كان ماهرًا في التسلّق – إلى أنّه ربما كان سلالة تطوّريّة فرعيّة انقرضَت. |
منطقة عَفَر، إثيوپيا، 2013م
عظام الفكّ لإنسان بالغ، منذ مليونَي و800 ألف عام
قطعة من عظام الفكّ السفليّ تمثّل أقدم أثر معروف من جنس البشرانيّين، على الرغم من أنّ النوع الذي ينتمي إليه صاحبُ الفكّ ما يزال لغزًا. |
التنقيب عن العظام من أجل فحص الحمض النوويّ القديم
في العام 2015م، استطاع فريقٌ دَوليّ من الباحثين الحصولَ على أوّل حمضٍ نوويّ قديم في أفريقيا: جينوم موتا Mota، وهو رجلٌ خلّف آثارًا في كهفٍ إثيوپيّ عمرُها اليوم 4500 عام. خلال الأعوام الخمسة التي تلت هذه الدراسة، نشر الباحثون ما يقرب من 100 سلسلة بشريّة قديمة كاملة أو جزئيّة من أفريقيا. ساعدت هذه الجينومات العلماءَ في الوصول إلى فهمٍ أفضل للآثار الفوضويّة الناجمة عن أحداث الهجرة المتأخّرة التي تصعّب من دراسة الجينوم المعاصِر لحدودٍ بعيدة.
على سبيل المثال، كشَفَ الحمضُ النوويّ للموتوكوندوريا المستقى من جماجم سبعة أشخاص عاشوا قبل حوالي 15 ألفَ عام، في المغرب اليوم، أنّهم كانوا على صلة وثيقة بالنَّطُوفيّين، وهم جماعة بدائيّة من جامعي الثمار والصيّادين سكنوا بلادَ الشرق الأدنى،[7] وعلى صلة وثيقة بأناسٍ عاشوا جنوبيّ الصحراء الكبرى. يشير هذا الكشف إلى وجود روابط بعيدة المدى بين شمال أفريقيا، والشرق الأدنى، والقارّة الأفريقيّة جنوبيّ الصحراء الكبرى، قبل بزوغ فجر الزراعة.
ساعدت تحاليل الحمض النوويّ القديم أيضًا الباحثين في فهم كيفيّة تأثير الهجرات القديمة على جينوم الناس اليوم. إحدى تلك الهجرات هي توسّع بانتو، الذي نشَر الممارَسات الزراعيّة لغربيّ أفريقيا عبرَ القارّة، في الفترة الممتدّة بين 5 آلاف عام إلى ألفٍ عامٍ مضت. من خلال مقارنة الحمض النوويّ الموجود في بقايا جامعي الثمار والصيّادين القُدامَى في جنوبيّ القارّة الأفريقيّة مع شعب خويسان اليوم، وجَدَت كارينا شليبوش، المتخصّصة في علم الأحياء التطوّريّ بجامعة أوبسالا السويديّة، مع زملائها أنّ بعضَ جماعات شعب خويسان تحمل الحمضَ النوويّ الذي جلبه المُزارِعون القُدامَى معهم. ووجد الباحثون أنّهم يحملون أيضًا بصمات أسلاف أوراسيّين مختلطة وصلت إلى شمال أفريقيا عبر رحلات الهجرة المبكّرة العائدة إلى القارّة، ثمّ انتقلت أخيرًا إلى أقصى جنوب القارّة مع انتقال مهاجِرين آخرين إلى الجنوب.
قدّمَت مثل هذه الدراسات رؤىً ثاقبة حول الاختلافات العميقة التي وقعت في التركيبة السكّانيّة البشريّة قبل وقتٍ طويل من هجرات المُزارِعين والرعاة. نظَمَت ماري برِندِرغاست، عالِمة الأنثروبولوجيا بفرع جامعة سانت لويس الأميركيّة في مدريد، وزملاؤها مؤخّرًا تسلسُلا لأوّل حمض نوويّ قديم من غربيّ أفريقيا، المستخرجَة مادّته من بقايا أطفال دُفِنوا في مأوىً حجريّ في الكاميرون. أتاحَت مقارنة الأحماض النوويّة التي يصل عمرُها إلى 3 آلاف و8 آلاف عام بالجينوم القديم الذي جُمِع من أماكن أخرى، وبجينوم البشر المعاصِرين أيضًا، للباحثين القيامَ بإعادة تشكيل بعض الفروع القديمة للشجرة التطوّريّة لنوعنا البشريّ. إضافةً إلى الانقسام العميق بين جماعات خويسان وبقيّة سكّان أفريقيا، الذين انحدر منهم غير الأفارقة أيضًا، أشار نموذجهم أيضًا إلى سلالتَين رئيستَين أخرَيَتين انفصلتا بنفس القدر، وتباعدَتا بعضُهما عن بعض منذ أكثر من 200 ألف عام. تُعتبَر إحدى السلالتَين من أسلاف جماعات من الصيّادين وجامعي الثمار، تُعرَف باسم “أكا”(Aka) و”مبيوتي”(Mbuti)، بَينما الثانية كانت في السابق تُعَدّ سلالة “أشباح” غير معروفة، ومصيرها غامض. تقول برِندِرغاست:
“هناك تلك البنية السكّانيّة شديدة العمق، مع فروع متنوِّعة ومتمايزة للشجرة الإنسانيّة خلال العصر الجليديّ في أفريقيا، ولكنّا ما زلنا لم نقدِّرها حقًّا حتّى الآن”.
وحده الزمن يمكن أن يحدّد ما إذا كانت الترسانة التقنيّة المتاحة اليوم لدى الباحثين تكفي لفكّ ألغاز قصّة التطوّر البشريّ كاملةً. فربّما ستساعد التقنياتُ الجديدة – من قَبيل علم الپروتينات القديمة (paleoproteomics)، وهو حقل معرفيّ وليد يسعى إلى إعادة بناء سلسلة الأسلاف من البروتينات المتحجّرة في الأحافير، إذ البروتينات أكثر ديمومةً من الحمض النوويّ – الباحثين على “العودة بالزمن إلى الوراء أكثر”، كما تُشير ريبيكا أكيرمان، عالِمةُ الأنثروبولوجيا الحيويّة بجامعة كيب تاون [في جنوب أفريقيا].
الأمر الواضح تمامًا بالفعل هو أنّ التطوّر البشريّ كان أكثر تعقيدًا بكثير ممّا قدَّرَ وخمّن علماءُ الأنثروبولوجيا؛ فإنّه لم يكن مجرد عمليّةً مبسَّطة من تطوّر مُطّرِد ”للقِرَدَة الجنوبيّة“ (Australopithecus) لتصبح الإنسان المعاصِر، وإنّما هي رحلة فوضويّة وعشوائيّة شملت تداخُلات من أسلافٍ متشابكين لكثيرٍ من الجماعات، بعضُها لم يُكتشَف أبدًا إلّا عبر الآثار الجينيّة التي خلّفوها في الجينوم القديم والحديث. تقول شليبوش:
“لدينا تاريخٌ طويل. حدثت أمورٌ كثيرة، وأسهَمَ كثيرٌ من الأسلاف في الجينوم الموجود لدينا اليوم. لن تكون هذه قصّة بسيطة”.
إزالة الصبغة الاستعماريّة عن دراسات التطوّر البشريّ
يُعَدّ شعبُ سان (San) في جنوبيّ القارّة الأفريقيّة أحدَ أكثر جماعات السكّان الأصليّين التي دُرِسَت دراسةً مكثّفة في العالَم؛ فلَطالَما أبهرت الأنثروبولوجيّين لغةُ الطقطقة لديهم ونمطُ حياتهم القائم على الصيد وجمع الثمار. وقد جعلهم قِدَم سلالتهم الوراثيّة (الجينيّة) كنزًا دفينًا لعلماء الوراثة الذين يدرسون التاريخ التطوّريّ البشريّ.
غير أنّ الدراسات التي أُجرِيَت على نمط حياة شعب سان وجينومهم لم تكن تتمّ بصورة أخلاقيّة دائمًا. فعلى سبيل المثال، يُشير إليهم العلماء أحيانًا باسم “بُوشْمن”bushmen (أيْ “رجال الأدغال”)، وهو لفظ ازدرائيّ مُهين يرتبط بالباحثين في الحقبة الاستعماريّة، حين استخدموا جماعات السكّان الأصليّين الحديثة، واعتبروها نماذجَ لأسلاف البشر البدائيّين، والتقطوا صورًا للأطفال والأمّهاتُ يُرضِعْنهم دون إذنٍ بذلك. وفي تصريحٍ لمجلّة (Science) في عام 2007م، قالت ليانا سنايدرز، رئيسة مجلس شعب سان بجنوب أفريقيا، ومقرّه مدينة أبينغتون”:
“لا نقول إنّ الجميع سيّئون؛ ولكنْ هناك تلك القلّة التي لا تحترم شعبَ سان”.
وقد ظهر السلوك الأخلاقيّ على ساحة البحث العلميّ في الجينوم في العام 2010م، في أعقاب تحليلٍ رفيع المستوى لجينوم شعب سان، نُشِر في مجلّة Nature، ولم يستأذِن مؤلّفو البحث المنشور قادةَ شعب سان لإجراء الدراسة، إضافةً إلى غير ذلك من التجاوُزات الأخرى.
تعرّضت جميع المجالات المعرفيّة التي تدرس التطوّر البشريّ في أفريقيا، في بعض الأوقات، للانتقاد بسبب طبيعتها الاستخلاصيّة. ولَطالَما كان البحث الآثاريّ (الأركيولوجيّ) – وهو مجال كانت الدول الاستعماريّة الأوروبيّة رائدةً فيه – مدفوعًا بعددٍ من الباحثين الغربيّين الذين ينقّبون عن أحافير في أفريقيا لدراستها، وكانوا أحيانًا يأخذونها خارجَ القارّة من أجل ذلك الغرض. بعض أحافير أشباه البشر ما تزال خارجَ موطِنها، من قَبيل جمجمة كابوِي، وهي عيّنة شهيرة لـ”إنسان هايدِلبرغ“ (Homo heidelbergensis)، ما تزال في “متحف التاريخ الطبيعيّ” في لندن، على الرغم من الطلبات المتكرّرة التي تقدّمت بها زامبيا لاستعادتها. ووفقًا لبيان صحفيّ في نيسان/أبريل 2020م، تواصَل المتحف مع السلطات الزامبيّة لبدء مناقشة إمكانيّة إعادة الجمجمة، وذلك بعد الوصول إلى اتّفاق بين المملكة المتّحدة وزامبيا لإيجاد حلّ لتلك المسألة.
ودعا بعضُ العلماء إلى إصدار لوائح لحماية مجموعات الأحافير من إجراء أبحاث الحمض النوويّ القديم عليها، وذلك لأنّ تلك الأبحاث تُخضِع أحافير أشباه البشر الأفريقيّة لعمليّات مدمِّرة من أجل استخراج واستخلاص الحمض النوويّ منها. وتُشير ماري برِندِرغاست، عالِمة الأنثروبولوجيا بفرع جامعة سانت لويس الأميركيّة في مدريد، إلى أنّ:
“المتاحف الأفريقيّة تقوم [الآن] بدورٍ رائد للتأكّد من أنّ هذه [الأبحاث] تتمّ من خلال التعاون وتخضع للتنظيم”
فيما يعمل علماء الوراثة (الجينات) على تطوير تقنيات جديدة أقلّ تدميرًا من أجل إجراء تحاليل الحمض النوويّ القديم.
من جانبهم، قام شعب سان بإصدار ميثاق لقواعد البحث العلميّ في العام 2017م يُلزِم الباحثين، على سبيل المثال، باحترام مجتمعاتِهم المحلّيّة والسماح لهم بالتعليق على النتائج التي يَصِلون إليها قبل نشرِها، لتجنّب التفسيرات الازدرائيّة المُهينة. ويطلب الميثاق من الباحثين أيضًا تعويضَ المجتمع المحلّيّ مقابلَ تعاونه، من خلال دعم ماليّ أو تقديم وسائل معرفيّة أو فرص عمل، على سبيل المثال.
ودعا عددٌ من العلماء إلى أنْ يكونَ هناك دورٌ أكبر للعلماء الأفارقة في إجراء أبحاث التطوّر البشريّ. ولتحقيق هذا، فإنّ وكالات ومؤسّسات التمويل الغربيّة مُلزَمة بدعم الجهود الأفريقيّة لتحسين وتطوير البنية التحتيّة الأثريّة في البلدان الأفريقيّة، وذلك لكي “[يستطيع] الجيل القادم من العلماء والباحثين الأفارقة قيادة الأبحاث التي تُجرَى في مناطقهم ومجالاتهم”، وَفق ما ذكرت إليانور سْكِرّي، عالِمة الآثار في معهد ماكس بلانك لعلوم التاريخ البشريّ في مدينة “ينا” الألمانيّة.
وعلى الفرق البحثيّة الأجنبيّة أنْ تقومَ بتعزيز تعاون أقوى مع الباحثين الأفارقة، لا مجرّد السعي إلى الحصول على مساعدتهم في التنقيب عن الأحافير. وهو ما كان عليه الحال في بعض الأحيان، وَفقَ ما أشارت إليه ريبيكا أكيرمان، عالِمة الأنثروبولوجيا الحيويّة بجامعة كيب تاون [في جنوب أفريقيا]. وتُشير أيضا إلى أنّ المجموعات البحثيّة صارت أكثر تنوّعًا، ولكنّ العمليّة الانتقاليّة بطيئة؛ مُضيفةً:”أرى تغييرًا، ولكنّه ليس على قدر ما أطمح إليه من سرعة”.
[1] ما بين المعقوفتين من إضافة المترجم
[2] علم الأحافير/الأحفوريّات/الأحياء القديمة/المستحاثّات paleontology – أحد فروع علم الجيولوجيا، ويتناول عصور ما قبل التاريخ وتطوّر الكائنات التي عاشت على ظهر الأرض والتفاعلات بينها. [المترجِم]
[3] جاء في لسان العرب: ”القِحْفُ، العَظْمُ الذي فوقَ الدِّماغ من الجُمْجُمة“؛ فهذا تمامًا ما يسمّونه بالإنجليزيّة braincase. [المترجِم]
[4] علم الأحافير البشريّة أو علم مستحاثّات البشرpaleoanthropology – يُحاوِل فهْمَ التطوّر المبكّر ”للإنسان العاقل“ (Homo sapiens) تشريحيًّا؛ وهو دمج بين علم الأحافير وعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا). [المترجِم]
[5] علم الجينوم genomics – العلم الذي يدرس تركيبة الجينوم genome (مجموعة الجينات/المورِّثات). [المترجِم]
[6] هوبيت Hobbit – عِرقٌأسطوريّ من أشباه البشر قِصار القامة. كتب عنهم جون رونالد تولكين روايةً بنفس الاسم، وذكرهم في ثلاثيّته ذائعة الصيت سيّد الخواتمThe Lord of the Rings. [المترجِم]
[7] يُقصَد بالشرق الأدنى بلادُ الشام في عمومها، فقد انتشر النَّطُوفيّون في بلاد الشام، وإنْ انتسبوا في الأصل إلى وادي النَّطوف، شمال غربيّ القدس المحتلّة؛ وهو غير سهل البَطوف الشهير في الجليل المحتلّ. [المترجِم]