- ديانا ليم، چيفري دي ليو
- ترجمة: أحمد زايد
تعمل الخلايا المتخصصة في الدماغ والجهاز العصبي -والتي تسمى الخلايا العصبية- معًا لإنتاج كل أفكارنا وسلوكياتنا.[1] لفهم كيف يتحكم الدماغ في السلوك، نحتاج إلى فهم كيفية تواصل الخلايا العصبية. دماغ الإنسان معقد للغاية، لكن العديد من خصائص دماغ الإنسان تشبه تلك الخاصة بالحيوانات الأخرى. هذا يعني أن علماء الأعصاب (العلماء الذين يدرسون الدماغ والجهاز العصبي) يمكنهم استخدام الحيوانات البسيطة لاكتشاف أشياء جديدة عن الدماغ البشري. هذه هي الطريقة التي تم بها اكتشاف الاتصال العصبي بين الخلايا العصبية.
كيف تتواصل الخلايا العصبية مع بعضها البعض؟
تتواصل الخلايا العصبية باستخدام مزيج من النشاط الكهربائي والكيميائي. اكتشف العلماء الأوائل ذلك من خلال الملاحظات والتجارب الذكية. في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، كان العالم الإيطالي لويجي جالفاني يسير في أحد الأسواق خلال عاصفة رعدية. رأى بعض أرجل الضفادع للبيع ولاحظ أنها ترتعش. افترض أن كهرباء العاصفة تنشط أعصاب أرجل الضفادع. قرر اختبار هذه الفرضية في مختبره. استخدم جالفاني شيئًا يسمح للتيار الكهربائي بالتدفق، يسمى القطب الكهربائي، لتمرير تيار كهربائي إلى عصب الضفدع. تسبب هذا في ارتعاش ساق الضفدع. كانت هذه أول دراسة تحفيز كهربائي في علم الأعصاب. من هذا الاكتشاف، خلص جالفاني إلى أن الخلايا العصبية يمكن أن تستخدم الإشارات الكهربائية لتمرير المعلومات. من المهم معرفة ذلك! الآن بعد أن عرفنا كيف تتحدث الخلايا العصبية مع بعضها البعض، يمكننا البدء في التحدث بلغتهم. يمكننا استخدام الإشارات الكهربائية لتشغيل بعض الخلايا العصبية، ومعرفة ما سيحدث بعد ذلك. هذا بالضبط ما بدأ العلماء بفعله.
لم يتم استخدام التحفيز الكهربائي حتى الثلاثينيات من القرن الماضي لرسم خريطة للدماغ البشري. كان الدكتور وايلدر بنفيلد، جراح الدماغ، يعمل مع مرضى الصرع. يسبب الصرع إشارات كهربائية غير طبيعية في الدماغ ويمكن أن يكون خطيرًا للغاية. في الحالات القصوى، يلزم إجراء جراحة دماغية لوقف الصرع. أراد الدكتور بنفيلد رسم خريطة لأدمغة مرضاه لمعرفة أجزاء الدماغ الأكثر أهمية. سيساعده ذلك في معرفة مناطق الدماغ التي لا يجب أن يعمل عليها. لرسم خريطة للدماغ، استخدم التحفيز الكهربائي، تمامًا كما استخدم جالفاني. قام بغرس قطب كهربائي صغير في مناطق (الحركة) من الدماغ. ثم أرسل إشارة كهربائية صغيرة ولاحظ حركات المريض. تسبب التحفيز في منطقة واحدة من الدماغ في حدوث ارتعاش في الإصبع، بينما تسبب التحفيز في منطقة مختلفة قليلاً من الدماغ في حدوث ارتعاش في القدم. أدى ذلك إلى إدراك الدكتور بنفيلد أن مناطق معينة من الدماغ تتحكم في مناطق محددة جدًا من الجسم. لاحظ الدكتور بنفيلد أن موقع المناطق الحركية في الدماغ كان متشابهًا في جميع مرضاه. قام بإنشاء الرسوم البيانية لنتائجه، والتي أعطتنا أول خريطة وظيفية للمناطق الحركية في الدماغ البشري. لا تزال الخرائط الوظيفية للدكتور بنفيلد مستخدمة حتى اليوم.
منذ ثلاثينيات القرن الماضي، تغيرت تجارب تحفيز الدماغ. صحيح أن دراسات التحفيز الكهربائي لها بعض العيوب؛ حيث تتمثل إحدى المشكلات في أن الدماغ قد يتضرر عند إدخال قطب كهربائي. مشكلة أخرى هي أن التحفيز الكهربائي ينشط الأنسجة بطريقة عامة للغاية وغير انتقائية. يشبه التحفيز الكهربائي استخدام بلدوزر في عمل يمكن تأديته من خلال مجرفة فقط، فالبلدوزر فعال، لكنه ليس الاداة المناسبة. في عام 2005، تم إنشاء تقنية جديدة للسماح بتحفيز الدماغ بشكل أكثر دقة. هذه التقنية تسمى علم البصريات الوراثي.
ما هو علم البصريات الوراثي؟
علم البصريات الوراثي هو طريقة للتحكم في نشاط الخلايا العصبية باستخدام الضوء والهندسة الوراثية. الهندسة الوراثية هي عملية يقوم فيها العلماء بتغيير المعلومات في الشفرة الجينية للكائن الحي. في دراسات علم البصريات الوراثي، يأخذ العلماء الكود الجيني للخلايا العصبية التي يريدون دراستها ويضيفون إليه كوداً جديداً. تسمح الرموز (الأكواد) الجديدة لهذه الخلايا العصبية بإنتاج بروتينات خاصة، تسمى الأوبسينات (Opsins)، تستجيب للضوء. توجد الأوبسينات بشكل طبيعي واكتشفت لأول مرة في الطحالب، التي تستخدم هذه البروتينات لمساعدتها على التحرك نحو الضوء. ولكن كيف يصل أوبسين إلى الخلايا العصبية؟ هذا يتطلب بعض التقنيات المختبرية المتخصصة. لننظر إلى الفأر كمثال لدينا. للحصول على أوبسين في الخلايا العصبية للفأر، يجب إدخال الشفرة الجينية للأوبسين بعناية في الشفرة الجينية للخلايا العصبية في الفأر. إذا تم ذلك بشكل صحيح، يجب أن يكون لكل خلية عصبية في الفأر الآن أوبسين. لأننا نفهم الكثير عن الشفرة الجينية للفأر، يمكننا اختيار مكان وضع الأوبسين. يمكننا إدخال الكود الذي ينتج الأوبسين في نوع معين من الخلايا العصبية، أو في مكان محدد في الدماغ. يمكننا أن نختار بالضبط الخلايا العصبية التي نريد السيطرة عليها.
في علم الأعصاب، يُطلق على الأوبسين الأكثر شيوعًا اسم تشانيل رودوبسين-2 أو اختصاراً (ChR2). يأتي هذا الأوبسين من الطحالب الخضراء. يتم تنشيط (ChR2) بواسطة الضوء الأزرق، مما يعني أنه لا يعمل إلا عندما يتم تسليط الضوء الأزرق عليه ولا يستجيب لأنواع الضوء الأخرى. عندما يتم إدخال (ChR2) في الخلايا العصبية، فهذا يعني أنه يمكن تشغيل الخلايا العصبية بالضوء الأزرق. لن تعمل الخلايا العصبية مع (ChR2) إلا عند تسليط الضوء الأزرق عليها. يمنحنا هذا تحكمًا دقيقًا في توقيت نشاط الخلية العصبية. عادة، لا تتأثر الخلايا العصبية العادية بالضوء الأزرق، لذلك فقط الخلايا العصبية التي تحتوي على (ChR2) سوف تتأثر بالضوء الأزرق.
التحفيز البصري الوراثي أكثر تحديدًا من التحفيز الكهربائي
مثلما يوجد العديد من الطرق في المدينة، هناك العديد من المسارات في المخ. إذا أردنا معرفة كيفية اتصال النقطة “أ” بالنقطة “ب” في المدينة، فيمكننا ببساطة إلقاء نظرة على جميع الطرق ورسم خريطة طريق. هذا نوع من الخرائط الهندسية تساعدنا على فهم كيفية إنشاء الطرق. ولكن، عادة ما توجد طرق عديدة للانتقال من النقطة “أ” إلى النقطة “ب”، فكيف نعرف الطريقة الأكثر شيوعًا؟ لمعرفة ذلك، نحتاج إلى إلقاء نظرة على السيارات التي تسير على الطرق أثناء انتقالها من النقطة أ إلى النقطة ب. هذه خريطة وظيفية: فهي تساعدنا على فهم كيف يتم استخدام الطرق. الخلايا العصبية في الدماغ مثل الطرق، والإشارات التي تنتقل من الخلايا العصبية إلى الخلايا العصبية الأخرى مثل السيارات. عادةً ما يكون الدماغ نشطًا للغاية وهناك الكثير من السيارات على الطرق في جميع الأوقات. في جميع أنحاء خريطة الدماغ، تبدأ وتنتهي رحلات السيارات في أوقات مختلفة. نظرًا لوجود نشاط كبير جدًا، لا يمكننا رؤية أي أنماط أو فهم كيفية ارتباط الأشياء ببعضها البعض. لمعرفة الأنماط، سيكون من المفيد أن تكون قادرًا على التحكم في متى وأين تبدأ السيارات رحلتها.
تخيل أن هناك سيارات في كل ممر في مدينتنا. تنتظر هذه السيارات إشارة الانطلاق على الطرق. في دراسة تحفيز كهربائي، يمكننا التحكم في الوقت الذي تبدأ فيه السيارات بالسير، لكن ليس لدينا الكثير من التحكم في السيارات التي ستنطلق على الطرق. مع التحفيز الكهربائي، يكون التحفيز عامًا. سيتم إرسال جميع السيارات القريبة من التحفيز على الطريق. هذا يعني أن هناك الكثير من النشاط الذي يجب اتباعه. في دراسة تحفيز بصري وراثي، يمكننا أن نختار بالضبط السيارات التي نريد إطلاقها على الطريق ومتى. يمكننا اختيار مجموعة من السيارات حسب الموقع (على سبيل المثال، يمكن أن نختار أن تكون جميع السيارات المنطلقة علي الطريق في حي واحد)، أو يمكننا الاختيار حسب نوع السيارة (على سبيل المثال، يمكننا اختيار شاحنات فقط للانطلاق علي الطريق). هذا هو التحفيز الانتقائي. متابعة حركة السيارات أسهل بكثير في هذه الحالة. كما تخبرنا هذه الطريقة بالمزيد عن كيفية عمل سيارات معينة على الطرق.
كيف يتم استخدام علم البصريات الوراثي لتخطيط الدماغ؟
يمكن استخدام علم البصريات بعدة طرق مختلفة لرسم خرائط لدماغ الفأر.
تمامًا كما يمكننا تصغير خريطة طريق لمدينة ما لرؤية الطرق السريعة الرئيسية، أو تكبير الخريطة لرؤية كتلة مدينة واحدة، يمكننا أيضًا تكبير أو تصغير الدماغ. يمكننا تصغير الدماغ لنرى كيف تتصل مناطق كبيرة من الدماغ وتعمل معًا. تعد طريقة تكبير الدماغ طريقة جيدة إذا كنا مهتمين بمعرفة الطريقة التي تنتقل بها المعلومات عبر مسافات طويلة في الدماغ، أو معرفة أي مناطق من الدماغ تتصل ببعضها البعض. على سبيل المثال، تميل المدن الكبرى إلى مرور المزيد من الطرق والطرق السريعة عبرها، لأن الكثير من الناس يسافرون من وإلى هذه المدن. باستخدام علم البصريات الوراثي لتحفيز منطقة دماغية واحدة وتسجيل الاستجابات في مناطق الدماغ الأخرى، يمكننا معرفة مناطق الدماغ المزدحمة مرورياً. هذا مهم لفهم كيفية إنتاج سلوكيات معينة، ولكن قد يكون أيضًا مهمًا لفهم ما يحدث إذا تضرر الدماغ في منطقة معينة (على سبيل المثال، إذا كان هناك حادث في الشارع الرابع، فكيف سيتم إعادة توجيه حركة المرور؟).
يمكننا أيضًا تكبير الدماغ لنرى كيف تتصل الخلايا العصبية الفردية. باستخدام علم البصريات الوراثي، يمكننا التحقيق في كيفية عمل الخلايا العصبية معًا، باستخدام الضوء لتشغيل بعض الخلايا العصبية وتسجيل استجابة الخلايا العصبية الأخرى. هذا العرض التفصيلي مفيد لفهم كيف ومتى تتواصل الخلايا العصبية مع بعضها البعض. قد يكون هذا مفيدًا جدًا في التحقيق في الأمراض التي تعطل الاتصال بين الخلايا العصبية في منطقة معينة، وهو ما يحدث عندما يصاب شخص ما بسكتة دماغية مثلاً.
يخلق رسم الخرائط البصرية الوراثية العديد من الاحتمالات للتحقيق في كيفية عمل الدماغ. مع تحسن تقنيات علم البصريات الوراثي وإنشاء أو اكتشاف المزيد من الأوبسينات، هناك إمكانية لمزيد من التحكم في دراسات تحفيز الدماغ. ربما سنكون قادرين على استخدام العديد من الأوبسينات للتحكم في عدة أنواع مختلفة من الخلايا العصبية في نفس الوقت. نظرًا لأن كل أوبسين يستجيب لنوع معين من الضوء، يمكننا استخدام ضوء مختلف للتحكم في أنواع مختلفة من الخلايا العصبية. في الواقع، تعمل بعض الأوبسينات على إيقاف تشغيل الخلايا العصبية عند وجود النوع الصحيح من الضوء.
في مثالنا لرسم خرائط السيارات في المدينة، يمكننا استخدام إشارات متعددة للتحكم في حركة السيارات. يمكن أن يكون لدينا مجموعة واحدة من السيارات تنطلق على الطريق عندما نعطي إشارة واحدة (على سبيل المثال، ضوء أزرق) ومجموعة أخرى من السيارات تنطلق على الطريق عندما نعطي إشارة مختلفة (على سبيل المثال، ضوء أحمر). باستخدام هذا الإعداد، يمكننا البدء في تجربة هاتين المجموعتين من السيارات: ماذا يحدث إذا انطلقت سيارات الضوء الأحمر أولاً؟ ماذا يحدث إذا انطلقت سيارات الضوء الأزرق أولاً؟ ماذا يحدث إذا انطلقوا في نفس الوقت؟ سيساعدنا هذا على فهم كيفية تفاعل هذه المجموعات المختلفة من السيارات مع بعضها البعض.
إذن كيف يختار العالم أي تقنية أو أي أوبسين يستخدم؟ ستعتمد الإجابة على السؤال الذي يريد العالم استكشافه. سوف يسلط القسم التالي الضوء على بعض الأسئلة التي تم التحقيق فيها باستخدام علم البصريات الوراثي.
أحدث الاكتشافات باستخدام علم البصريات الوراثي
بدأ علماء الدماغ في استخدام علم البصريات الوراثي في عام 2005. منذ ذلك الحين، تم استخدام طرق علم البصريات الوراثي لدراسة الدماغ من عدة وجهات نظر مختلفة – من اتصال مجموعة من الخلايا العصبية الفردية، إلى التفاعلات بين مناطق الدماغ الكبيرة. استخدمت العديد من الدراسات الأخرى طرق علم البصريات الوراثي للتحقيق في مواضيع وأسئلة مختلفة. بعض الأسئلة الأخيرة هي: أين تقع المنطقة المتعلقة بالخوف في الدماغ؟ كيف يتم حساب المكافأة والعقوبة في مركزي “المكافأة” و”العقوبة” في الدماغ؟ كيف يتم تخزين الذكريات؟ استخدمنا علم البصريات الوراثي في الفئران للتحقيق في كيفية تغير الدماغ بعد السكتة الدماغية. تحدث السكتة الدماغية عندما ينقطع أو ينخفض تدفق الدم إلى منطقة من الدماغ. هذا أمر خطير لأن إمدادات الدم تحمل الأكسجين والعناصر الغذائية الهامة الأخرى التي يحتاجها الدماغ للبقاء على قيد الحياة. إذا استمرت أي منطقة في الدماغ لفترة طويلة بدون أكسجين، فإن الخلايا العصبية في تلك المنطقة ستموت في النهاية. هذا يسبب مشاكل لتلك المنطقة المعينة من الدماغ وأي مناطق دماغية أخرى مرتبطة بها. في دراستنا، أردنا التحقيق في كيفية تأثير سكتة دماغية صغيرة في منطقة واحدة من الدماغ على العديد من مناطق الدماغ الأخرى. للبدء، استخدمنا (ChR2) لمساعدتنا في رسم خريطة وظيفية لدماغ الفأر. قارنا الخرائط بين الحيوانات المصابة بالسكتة الدماغية وحيوانات أخرى غير مصابة. وجدنا أن الخرائط تغيرت مع مرور الوقت. في الأسبوع الأول بعد السكتة الدماغية، كان نشاط الدماغ العام منخفضًا جدًا. والمثير للدهشة أن النشاط كان منخفضًا حتى في منطقة بعيدة عن السكتة الدماغية. بحلول 8 أسابيع بعد السكتة الدماغية، كان نشاط الدماغ العام أعلى، ولكن لم يعد إلى طبيعته. من هذه البيانات، خلصنا إلى أنه حتى السكتة الدماغية الصغيرة يمكن أن يكون لها تأثير كبير على كيفية عمل الدماغ ككل. يمكن أن يساعد فهم ما يحدث للدماغ بعد السكتة الدماغية العلماء على ابتكار علاجات أفضل لمرضى السكتة الدماغية. هذا مجرد مثال واحد على مدى فائدة علم البصريات الوراثي في التحقيق في الأسئلة المتعلقة بالدماغ. من المحتمل أن يستمر علماء الدماغ في استخدام علم البصريات الوراثي لسنوات عديدة قادمة.
[1]– هذه الفرضية المادية الكامنة وراء العديد من بحوث الدماغ، وللمزيد حولها انظر: https://atharah.net/why-the-mind-is-more-than-the-brain/ و https://atharah.net/does-the-key-to-consciousness-lie-within-our-brains/