- زاريا جورفيت
- ترجمة: أريج أحمد
- تحرير: سارة بن حميد
مُنذُ آلاف السنين ينامون الناس في فترتين إحداها في المساء والأخرى في الصباح؛ لكن لماذا؟ وكيف اندثرت هذه العادة؟
الساعة ١١:٠٠ مساءً من تاريخ ١٣ ابريل ١٦٩٩م في قريةٍ صغيرة شمال انجلترا استيقظتا جين روث، ووالدتها من غفوةٍ قصيرة، وقد نظرت جين التي تبلغ من العمر تسع سنوات إلى ظلال المساء المتقلّبة. نهضت السيدة روث، وذهبت بجانب المدفأة في منزلهم المتواضع، وبدأت تدخن الغليون؛ فإذ برجلين قريبين من النافذة همّوا بمناداتها، وأمروها بالاستعداد؛ للذهاب معهم.
أوضحت جين لاحقًا لقاعة المحكمة أنّ والدتها كانت تتوقّع الزوّار؛ فذهبت معهم باختيارها، ولكنّها قد همست لابنتها: “لا ترحلي من المنزل، وسأعود في الصباح” ربما كان لدى السيدة روث بعض المهام الليليّة؛ لإكمالها، أو كانت في ورطة وأدركت أن مغادرة المنزل قد تكون مخاطرة! لم تفِ -في كلتا الحالتين- والدة جين بوعدها للعودة إلى المنزل؛ فقد قُتلت السيدة روث بوحشيّة في تلك الليلة، وعُثِرَ على جثتها في الأيام التالية، وبقيت أوراق الجريمة مفتوحة، والقضية مجمّدة بلا حلٍ أبدا.
بعد ما يقارب 300 عام أيّ في أوائل التسعينات دخلَ المؤرخ روجر إكيرش عبر المدخل المقوَّس إلى مكتب السِّجل العام في لندن، وهو مبنى بطراز قوطي مهيب يحوي بداخله الأرشيف الوطني للمملكة المتحدة من عام 1838م إلى عام 2003م. هناك…بينَ صفوف قديمة لا نهاية لها من أوراق الرّق المنشورة، والمخطوطات المسطورة كانَ إكيرش يبحث عن كتاب في تاريخ الليل، ويفتّش في السِّجلات المُمتدّة بين العصور الوسطى المبكرة، والثورة الصناعيّة؛ لأنه يخشى كتابة فصل النوم لاعتقاده بأنه ليس مجرد ضرورة عالمية؛ بل هو ثابت بيولوجي، ولذا كان يراوده شعورًا بأنه قد يجد شيئًا جديدًا نافعًا لكتابته؛ فإذ به يكتشف شهادة جين، وقد بدت له غريبة! وأيقن بأن شهادات المحكمة مفيدة فائدة مدهشة. يقول أ. إكيرش في جامعة (فرجينيا تك) بالولايات المتحدة: “إنَّ شهادات المحكمة مصدرًا رائعًا؛ للمؤرخين الاجتماعيين حيث يعلّقون على أنشطة في كثيرٍ من الأحيان لا علاقة لها بالجريمة نفسها” وأثناء قراءته لشهادة جين الإجرامية، بدا له أنَّ هناك كلمتين تحملان صدى؛ لتفاصيل محيّرة للحياة في القرن السابع عشر خصوصًا، والتي لم يسبق لهما مثيل؛ “النوم الأوّل!”
“يمكنني الاستشهاد بالوثيقة الأصليّة حرفيًا تقريبًا”؛ كما يقول إكيرش، الذي بدا ابتهاجه في اكتشافه واضحًا حتى بعد عقود.
تصف جين في شهادتها كيف استيقظت هي ووالدتها من نومهما الأوّل قبل مجيء الرجال إلى منزلهم. لا يوجد توضيح أكثر من ذكر النوم المُتقطِّع على أنه كانَ واقعًا، كما لو كانَ غيرَ ملحوظٍ على الإطلاق! يقول إكيرش: “تحدّثتْ عنه كأنه أمر طبيعي تمامًا”
النوم الأوّل يفترض وجود نومًا ثانيًا -أيّ ليلة مقسّمة إلى نصفين-؛ فهل كان هذا مجرد عادة عائلية أم شيئًا أكثر من ذلك؟
الوجود المطلق
بحث إكيرش في الأرشيف خلال الأشهر التالية؛ فوجد العديد من الإشارات إلى هذه الظاهرة الغامضة للنوم المزدوج أو “النوم ثنائي الطور” كما سمّاه. بعض الحالات كانت عاديّة نوعًا ما؛ كحالة الحائك جون كوكبورن الذي أسقطها ببساطة في شهادته بالمصادفة، والبعض الآخر كان أكثر قتامة؛ مثل لوك أتكينسون عضو إدارة يوركشاير الشرقية؛ فقد تمكّن من ارتكاب ذاتَ ليلة جريمة قتل في الصباح الباكر بين نومه الأوّل والثاني، وغالبًا -وفقًا لزوجته- فقد كان يستخدم الوقت للتردد على منازل الآخرين؛ للقيام بأعمال شريرة. ثم وسّع إكيرش بحثه ليشمل قواعد البيانات على الانترنت؛ للسِّجلات المكتوبة الأخرى؛ فسرعان ما اتّضح بأن الظاهرة كانت أكثر انتشارًا، وتطبيعًا ممّا كان يتخيّله سابقًا.
في البداية، ذُكِرَ النوم الأوّل في أحد أشهر أعمال الأدب في العصور الوسطى، وهو كتاب: “حكايات كانتربري” لجيفري تشوسر، كُتِبَ بين عاميّ 1387-1400 وقُدِّمَ في منافسة لسرد القصص بين مجموعة من المهاجرين. كما ورد ذكره في كتاب: “Beware the Cat” للشاعر وليام بالدوين، وهو ساخر في نوعه، يتحدّث عن رجل يتعلّم فهم لغة مجموعة من القطط الخارقة، ويعتبره البعض أوّل رواية على الإطلاق، وكانت تلك البداية؛ فقد وجد إكيرش العديد من الإشارات التي تؤدي إلى نظام النوم مرَّتين في كل هيئة يمكن تصوّرها، مئات الرسائل والمذكَّرات، والكتب المدرسيّة الطبيّة والكتابات الفلسفيّة ومقالات الصحف والمسرحيّات.
وقد تحوّلت هذه الممارسة إلى قصائد؛ كقصائد العجوز روبن من البرتغال: “وعند استيقاظك من نومك الأوّل، يجب تناول مشروبًا ساخنًا، وعند استيقاظك من نومك التالي، سترى أحزانك تتلاشى…”
لم يكن “النوم ثنائي الطور” حالة فريدة في إنجلترا؛ بل كانَ يُمارس على نطاق واسع في أنحاء العالم ما قبل الثورة الصناعيّة؛ ففي فرنسا يُسمّى النوم الأول: (بريمر سومو) وفي ايطاليا: (برايمو سونو) وقد وجد إكيرش دليلًا على هذه العادة في مناطق بعيدة مثل أفريقيا، وجنوب شرق آسيا واستراليا وامريكا الجنوبيّة والشرق الأوسط.
وصف ريو دي جانيرو في البرازيل عام 1555م في أحد التقارير الاستعماريّة؛ كيف كان شعب توبينامبا يتناول العشاء بعد نومهم الأوّل، بينما أوضح تقرير آخر في القرن التاسع عشر في عاصمة عمان مسقط؛ بأن السكّان المحليين يغادرون أعمالهم؛ لأجل نومهم الأوّل قبل السّاعة العاشرة مساءً.
بدأ إكيرش يزعم بأن أسلوب النوم المقسّم نصفين؛ كانَ رائجًا بين الناس لآلاف السنين، وهو تقليد قديم ورثناه عن أسلافنا في عصور ما قبل التاريخ، يعود أوّل سجل عَثرَ عليه إكيرش للقرن الثامن قبل الميلاد في الملحمة اليونانية “الأوديسة” المكوَّنة من 12109 سطرًا، وفي حينٍ آخر تعود الشواهد لوجوده إلى أوائل القرن العشرين قبل أن يندثر بطريقة ما في طيّ النسيان.
كيف طبّق الناس هذا الأسلوب؟ ولماذا طُبِّقَ؟ وكيف يمكن لشيءٍ كان يومًا ما طبيعيًا أن يُنسى تمامًا؟
لحظة إضافية
كانت تمضي ليلة النوم في القرن السابع عشر هكذا:
من السّاعة التاسعة إلى الحادية عشر مساءً يبدأ المحظوظون بالتدافع استعدادًا للنوم لبضع ساعات على مراتب محشوة بالقش أو الخِرَق، وقد تحتوي على ريش للأثرياء.
(في الجزء السفلي من السلم الاجتماعي، يتوجّب على الناس الاكتفاء بالجلوس على أرضية منثور عليها بعض من نبات الخلنج، وربما أسوأ من ذلك؛ على أرضية خالية، وربما بدون غطاء)
آنذاك كانَ معظم الناس ينامون جماعيًّا، وغالبًا ما يلتفّ حولهم مجموعة متنوّعة من البق والبراغيث والقمل، وأفراد الأسرة والأصدقاء والخدم والغرباء إذا كانوا على طريق سفر.
وللابتعاد عن أي إحراج؛ فقد سنّوا لهم قواعد صارمة تتضمن التالي:
تجنّب الاتصال الجسدي، والحركة المفرطة، وتحديد أوضاع معيّنة للنوم، مثل أن يضطجعن النساء على جانب واحد من السرير في جهةٍ أقرب للحائط، ويليهما الأم والأب، ثم الأطفال -الذكور- من الأكبر سنًّا للأصغر، ثم الأفراد خارج الأسرة؛ فيبدأ الناس بالاستيقاظ بعد عدّة ساعات من النوم الأوّل، وعادةً ما يستمر الاستيقاظ من السّاعة الحادية عشر مساءً إلى الواحدة صباحًا؛ اعتمادًا على الوقت الذي خلدوا فيه إلى النوم.
الاستيقاظ لا يكون بسبب إحداث ضوضاء، أو اضطرابات أخرى، وليس بأي نوع من المُنبّهات؛ فقد اُخترِعت عام 1787م بواسطة رجل امريكي إثر حاجته؛ للاستيقاظ في وقت مُحدَّد لبيع السّاعات، وبعيدًا عن هذا؛ فقد كان الاستيقاظ طبيعيًّا كما يحدث كل صباح.
كانت تُعرف فترة اليقظة التي تليها؛ باسم “السّاعة” ومدتها مُجدية للإنجاز! يقول إكيرش: “تصف السِّجلات كيف يفعل الناس أي شيء، وكل شيء تقريبًا بعد استيقاظهم من نومهم الأوّل”
في ليلةٍ يتوهج بها نور القمر، وتتلألأ النجوم، بإشعال مصابيح الزيت، وضياء شموع مصنوعة من نبات الأسل يميل الناس لفعل المهام العاديّة، مثل: إضافة الخشب إلى النار، تناول الأدوية، أو التبوّل -غالبًا في النار نفسها-
وأمّا الفلاحين فاستيقاظهم يُنبئ عن العودة إلى العمل بجديّة أكثر وجهد أكبر، سواءً كان ينطوي على المغامرة؛ للتحقّق من حيوانات المزرعة أو القيام بأعمال منزلية، مثل: ترقيع القماش، تمشيط الصوف، نزع العشب؛ لحرقه. صادفَ إكيرش في بحثه إحدى الخادمات بينَ منتصف الليل والسّاعة الثانية صباحًا وهي تخمر مجموعة من الجعة؛ لصاحب عملها، وقد انتهز المجرمون الفُرصة بطبيعة الحال؛ فانقضوا عليهم، وأثاروا المشاكل مثل القاتل في يوركشاير. كما أن فترة “السّاعة” مناسبة لممارسة الدِّين فبالنسبة للمسيحيين يمارسون صلوات مُحدَّدة لهذا الوقت تمامًا، ويجب إتقانها على أكمل وجه، وقد وصفها أحد الأباء بأنها السّاعة المُثمرة -بعد انتهاء العشاء، وإنجاز العمل- “لن يبحث عنك أحد إلّا الله” وفي الوقت نفسه؛ يستغل الذين لديهم نزعة فلسفيّة فترة “السّاعة” كلحظة هادئة للتأمّل في الحياة، والإتيان بأفكارٍ جديدة.
في أواخر القرن الثامن عشر اخترع تاجر من لندن جهازًا خاصًّا؛ لاستذكار جميع أفكارك، وخواطرك الليليّة “التذكار الليلي” يتكوّن من وسادة مغلّفة ورقيًّا مع فتحة أفقية يمكن استخدمها دليلًا للكتابة. والأهم من هذا كلّه، أن فترة “السّاعة” تحمل بين طيّاتها فائدة؛ للتواصل الاجتماعي، والحميمي كما يشرح إكيرش في كتابه “عند نهاية اليوم: تاريخ الليل” غالبًا كانَ الناس يمكثون في الفراش؛ ويتجاذبون أطراف الحديث، كما يتشاركون الرفاق خلال ساعات الشفق المحادثات غير الرسميّة والعارضة التي كان صعبًا تبادلها خلال ساعات النهار.
وبالنسبة للمتزوِّجين الذين تمكّنوا من اجتياز لوجستيات مشاركة السرير؛ فهذه الفترة مناسبة للخلوة بين الزوجين بعد قضاء يوم طويل من العمل يدويًّا؛ فيخلصهم النوم الأوّل من التعب والإرهاق، ويعتقدون بأن الفترة التالية وقت جيّد لأن يُرزَقوا بالعديد من الأطفال، وبمجرد استيقاظ الناس لبضع ساعات، يعودون عادةً إلى الفراش. هذه الخطوة كانت تُعتبر نومًا “صباحيًّا” وقد تستمر حتى الفجر، وما بعده. كحال اليوم تمامًا، يستيقظ الناس اعتمادًا على الوقت الذي ذهبوا فيه إلى الفراش.
اعتياد قديم
وفقًا لإكيرش؛ فقد كانَ هناك إشارات عن رواج عادة النوم فترتين في العصر الكلاسيكي ممّا يؤكد انتشاره، وقد أُسقِطت عرضًا في أعمال شخصيّات بارزة مثل كاتب السيرة اليونانية بلوتارخ من القرن الأول الميلادي، والمسافر اليوناني بوسانياس من القرن الثاني الميلادي، والمؤرخ الروماني ليفي، والشاعر الروماني فيرجيل.
لاحقًا، اعتنق المسيحيون هذه العادة ورأوا السّاعة فرصة؛ لتلاوة المزامير، والاعترافات، وفي القرن السادس الميلادي، طلب القديس بنديكتوس أن يوقظ الرهبان في منتصف الليل؛ لممارسة هذه الأنشطة، ثم انتشرت الفكرة في جميع أنحاء أوروبا، وبدأت تنتقل تدريجًا إلى الجماهير.
لكن، ليس البشر هم الذين اكتشفوا فوائد تجزيء النوم فقط؛ فهو منتشر في عالم الحيوانات! حيث يستريح العديد منهم في فترتين، أو فترات منفصلة؛ ممّا يساعدهم بالحفاظ على نشاطهم في الأوقات الأكثر نفعًا في اليوم؛ كالذي يمكنهم إيجاد فيه بعض الطعام بلا أن ينتهي المطاف بهم وجبة خفيفة.
كما أن إحدى الأمثلة هو: ليمور حلقي الذيل المنتمي إلى رئيسيات مدغشقر الشهيرة بعيونها الحمراء المخيفة، وذيولها المُخطَّطة بالأبيض والأسود. لها أنماط نوم متشابهة ملحوظة مع البشر ما قبل الثورة الصناعيّة، تُسمّى (كاثيمرال) ممّا يعني أنها مستيقظة في الليل، وأثناء النهار.
يقول ديفيد سامسون، مدير مختبر النوم والتطور البشري في جامعة تورنتو ميسيسوجا، كندا: “هناك مساحات واسعة في التباين بين الرئيسيات، من حيث توزيع نشاطها على مدار ٢٤ ساعة” وإذا كان النوم المزدوج أمرًا طبيعيًا لبعض الليمور، يتساءل سامسون: “هل يمكن أن تكون هذه الطريقة هي التي تطورنا بها للنوم أيضًا؟”
لطالما كان إكيرش يخفي نفس التساؤل…وعلى مدى عقود، لم يكن هناك شيئًا ملموسًا؛ لإثبات ذلك، أو تسليط الضوء على سبب اختفائه، وبالعودة إلى عام 1995م في وقت متأخر من إحدى الليالي كان إكيرش يقرأ على الانترنت مقالًا في صحيفة نيويورك تايمز حول تجربة النوم قبل بضع سنوات.
إذ أجرى توماس وير عالم النوم من المعهد الوطني للصحة العقلية بحثًا شارك فيه 15 رجلاً؛ لمراقبة أنماط نومهم الطبيعيّة، وبعد مضيّ أسبوع حُرموا من الإضاءة الاصطناعية في الليل؛ لتقصير ساعات “ضوء النهار” -سواء كان طبيعيًا أو كهربائيًا- من 16 ساعة المعتادة إلى 10 ساعات فقط، وكانوا محتجزين في غرفة نوم بدون أضواء ولا نوافذ، ومغلقة كاملًا بسوادها المخملي، ولم يُسمح لهم بتشغيل الموسيقى، أو ممارسة الرياضة؛ بل كانوا يُدفَعونَ إلى الراحة والنوم دفعًا.
في بداية التجربة، كان لدى جميع الرجال عادات ليليّة طبيعيّة؛ فقد ناموا في وردية واحدة استمرت لوقت متأخر من المساء حتى الصباح، ثم حدث شيئًا لا يكاد يُصدّق! بعد أربعة أسابيع من الأيّام المكوّنة من ١٠ ساعات، تغيّرت أنماط نومهم فصاروا لا ينامون لفترة واحدة؛ بل في نصفين بنفس الطول تقريبًا. كانت تتخلّلها مدّة استيقاظ من ساعة إلى ثلاث ساعات. أظهرت قياسات هرمون النوم “الميلاتونين” أن إيقاعهم اليومي قد تكيّف أيضًا؛ لذا فقد تغيّر نومهم على المستوى البيولوجي.
أعاد وير اختراع النوم ثنائي الطور. يقول إكيرش: “بعد حفل زفافي وولادة أطفالي؛ فالقراءة عن التجرِبة كانت من أكثر اللحظات المثيرة في حياتي!” وعندما أرسل بريدًا إلكترونيًا إلى وير؛ ليشرح التطابق الاستثنائي بين بحثه التاريخي والدراسة العلمية قال: “أعتقد أستطيع اخبارك بأنه كان مبهجًا بقدر ما كنت” في الآونة الأخيرة، دعمت أبحاث سامسون هذه النتائج مع تطور شيّق!
في عام 2015م جنَّد سامسون متطوعين محلّيين من مجتمع مانادينا البعيد في شمال شرق مدغشقر؛ لإجراء دراسة تعاونيّة مع عدد من الجامعات، في قرية كبيرة تعود لحديقة وطنيّة ولا توجد بنية تحتيّة للكهرباء؛ لذا فإن الليالي مظلمة تقريبًا كما كانت لآلاف السنين. طُلب من المتعاونين، ومعظمهم من المزارعين، ارتداء “مقياس النشاط” -وهو جهاز متطور؛ لاستشعار النشاط- يمكن استخدامه لتتبع دورات النوم، وأنماط نومهم لمدة 10 أيام.
يقول سامسون: “اكتشفنا بأن الأشخاص الذين ليس لديهم إضاءة اصطناعية تبدأ مدّة نشاطهم بعد منتصف الليل مباشرةً حتى السّاعة الواحدة إلى الواحدة والنصف صباحًا فيرهقهم الخمول، ويخلدون إلى النوم حتّى يستيقظوا في الساعة السادسة صباحًا، ويتزامن ذلك مع شروق الشمس” وكما اتَّضح، لم يختفِ النوم ثنائي الطور تمامًا؛ فاليوم هو متواجد في أنحاء العالم.
ضغط اجتماعي جديد
بالتعاون والمشاركة أعطى هذا البحث إكيرش التفسير الذي كان يتوق لمعرفته عن تخلّي بعض البشر عن نظام النوم الثنائي بدءًا من أوائل القرن التاسع عشر؛ كحال التحوّلات الأخيرة في سلوكنا مثل الميل للاعتماد على وقت السّاعة، وكانت الإجابة: الثورة الصناعيّة.
يقول إكيرش: “أصبحت الإضاءة الاصطناعيّة أكثر انتشارًا وقوّة؛ فقد كانَ أوّلًا إضاءة من الغاز قُدِّمت لأوّل مرَّة في لندن، ثم الإضاءة الكهربائيّة في نهاية القرن، وإضافةً على تغيير إيقاعات الناس اليوميّة: فإن الإضاءة الاصطناعيّة سمحت للناس الاستيقاظ حتّى وقت متأخر” ومع أنَّ الناس هجروا النوم عند السّاعة التاسعة مساءً؛ إلّا أنهم ما زالوا مضطرّين للاستيقاظ في نفس الوقت صباحًا، وبالتالي اقتُطِع وقت من راحتهم. لكن إكيرش يعتقد بأن هذا منح نومهم عمقًا؛ لأنه أصبح مركّزًا، وبالإضافة إلى تغيير الإيقاعات اليومية للسكان؛ فقد أدّت الإضاءة الاصطناعيّة إلى إطالة النوم الأوّل وتقصير النوم الثاني. يقول إكيرش: “لقد تمكّنتُ من تتبع هذا عقدًا بعد عقد على مدار القرن التاسع عشر”
ومن المثير للاهتمام أنَّ دراسة سامسون في مدغشقر تضمّنت جزءًا ثانيًا، حيث أُعطِيَ نصف المشاركين أضواء اصطناعيّة لمدّة أسبوع؛ لمعرفة إذا كانَ هناك أختلاف، وقد وجد الباحثون بأنه لم يكن لها تأثير على أنماط نومهم المُجزأ؛ علمًا بأن أسبوعًا قد لا يكون كافيًا للأضواء الاصطناعيّة في إحداث تغييرات كبيرة، ولذا يستمر اللغز…وحتى لو لم تكُن الإضاءة الاصطناعيّة هي المسؤولة؛ فبحلول نهاية القرن العشرين اختفى تمامًا تجزيء النوم لقسّمين تمامًا! لم تغيّر الثورة الصناعية تقنيتنا فحسب؛ بل تغيّرت بيولوجيتنا أيضًا.
قلق جديد
تغيير السلوك هو أحد الآثار الجانبية الرئيسية لكثير من التحوّلات البشرية في عادات النوم؛ فعندما بحثنا بجهدٍ دؤوب عن صلةٍ بين الاستيقاظ المبكر، والإنتاجية؛ فُضِح أولئك الذين يُفرِّطون في النوم! يقول إكيرش: “بالنسبة لي؛ فإن الجانب المُرضي لكل هذا يتعلّق بأولئك الذين يعانون من أرق في منتصف الليل” مُوضِّحًا بأن أنماط نومنا قد تغيّرت اليوم، ويصيبنا الذعر من أيّ استيقاظ في منتصف الليل…ثم يُكمل قائلًا: “لا أقصدُ التقليل من مشكلة اضطرابات النوم،؛ فأنا أعاني منها، وأتناولُ الأدوية لأجلها” ولكنّه يلاحظ على الناس انخفاض مستوى قلقهم حين يخبرهم بأن هذا قد يكون أمرًا طبيعيًا، وقد حدث لآلاف السنين.
ومع ذلك، قبل أن يصدر بحث إكيرش فصلًا عن نظام “باليو” الغذائي، ويبدأ الناس بالتخلّي عن مصابيحهم -أو الأسوأ من ذلك-؛ تقسيم نومهم إلى قسمين باستخدام المنبّهات، وكان حريصًا على تأكيد أن التخلّي عن نظام النوم الثنائي لا يعني بالضرورة أن نوعيّة نومنا اليوم أسوأ.
وعلى الرغم من انتشار مشاكل النوم بعناوين شبه مستمرة؛ فقد جادل إكيرش سابقًا بأن القرن الحادي والعشرين هو العصر الذهبي للنوم من نواحٍ عديدة؛ فهو الوقت الذي نكون فيه -معظمنا- على أسرّتنا بلا خوفٍ ولا قلق من القتل، التجمد حتى الموت، أو التخلّص من القمل… ننام بلا ألم، أو خطر اشتعال حريق، أو وجود غرباء يمكثون بجانبنا.
باختصار، قد لا تكون فترات النوم الفردية طبيعية، ومع ذلك…لا توجد مراتب مريحة فاخرة أو أدوات نظافة حديثة. يقول إكيرش: “حقًّا، لا عودة إلى الوراء؛ لأن الظروف قد تغيّرت” ولذا قد نفقد المحادثات في منتصف الليل، وهلوسة الأحلام، والاكتشافات الفلسفية الليلية على أسرّتنا، ولكننا على الأقل لن نستيقظ بجسدٍ مُمتلئ من لدغات حمراء موجعة.